الثورة والثورة المضادة .. كيف جعلت الحداثة الرأسمالية الشعوب في مواجهة نفسها
تحليل: د. على ثابت صبري

لقد تنوعت وتعددت مفاهيم الثورة، وكذلك تصنيفها وفق سببية انفجارها، فالشائع ما بين عموم الشعوب ارتباط المفهوم بالحالة السياسية ومناقشته وطرحه من خلال المنظور السياسي فيما يتمثل فى اقصاء نظام واحلال نظام آخر. وعلي خطٍ متوازٍ، تجد أن كل ثورة يُقابلها ثورة مضادة، تُحبط آمال الثورة وتقفز على مكتسباتها بشكل مثير، وتعزز الأدوات العميقة المتحكمة بالأساس. وهنا، تقع الحيرة فى دراسة حالة المجتمعات، وكيفية تجذير نظرية كيف يواجه المجتمع نفسه بنفسه؟ وهل بالفعل نجحت الحداثة الرأسمالية فى تعزيز الثورة المضادة فى مجتمعات الشرق الأوسط؟ وما هي الحلول المطروحة لحل هذه الإشكالية؟
وعلى نحو ما تم طرحه، لابد من الغوص داخل غيابات أدوات الحداثة الرأسمالية للسيطرة الحاكمية على شعوب الشرق الأوسط، وعمليات التحويل القسرية للمجتمعات بفرض تلك الأدوات عليها وإحلالها محل أدوات حضارة المنطقة التى أسهمت فى نهضة البشرية جمعاءً، فهيهات بين الحضارة البناءة التشاركية، والحضارة الأنانية الذاتية. وهو ما استطاع المفكر السيد/عبدالله أوجلان طرحه من خلال مشروعه الفكري الرائد مانيفستو الحضارة. حيث أشار أن دراسة تاريخ المنطقة بعيداً عن الستار الفكري المفروض على شعوب الشرق الأوسط، هو العلاج الأهم لمشكلات الشرق الأوسط، لأن عمليات طمس الهوية، ومحو التاريخ، والتخلي عن العادات والتقاليد، ومحالات القضاء على اللغات المحلية لشعوب المنطقة، وتجهيل وتمويع شعوب المنطقة…إلخ، أو بالأحرى، عدم إدراك شعوب المنطقة لــ وعي الحقيقة، هي بالأساس الثورة المضادة التي تواجه المجتمعات في عمليات التغيير على كافة الأصعدة. لذا، سوف نُفد مفهوميّ الثورة والثورة المضادة، وكيف تم تفكيك مجتمعات الشرق الأوسط، وطرح الرؤية الأوجلانية لهذه الإشكالية.
مفهوم الثورة
إن الثورة حدث اجتماعي وظاهرة من مظاهر تطور المجتمع، کما أنها آلية من آليات التغيير التي يلجأ إليها أفراد المجتمع للتعبير عن سخطهم وعدم الرضا عن أوضاع المجتمع، وعدم تمكن الطرق القانونية والدستورية من إحداث عمليات التغيير. وقد عرفت الثورة منذ القدم وأشار إليها الفلاسفة والمفكرون، وقد اختلفت آراؤهم ونظرتهم عن الثورات، وأخذت أنماطًا مختلفة، وتعددت التعريفات التي تناولت الثورة علي حسب الأيدولوجيات التي تناولتها فالثورة تنسب إلى المجال التي تقوم فيه كالثورة الاجتماعية، أو الثورة السياسية، أو قد تنسب إلى الشريحة التي تقوم بها كثورة العمال وثورة الشباب وغيرها.
أما في الأدب السياسي يُشير الاستعمال المعاصر لمفهوم الثورة (REVOLUTION) إلى شقين، يتعلق الشق الأول بنمط التغييرات الكبرى والجذرية التي تحصل في المجتمع نتيجة انتقال السلطة من طبقة اجتماعية إلى أخرى، أو نشوء طبقات جديدة كدلالة على وجود ثورة حقيقية. في حين ينطبق الشق الثاني من الاستعمالات المعاصرة لمصطلح الثورة على التغيير الجزئي -على نطاق صغير- الذي يطال قشرة السلطة السياسية، حيث تتم الإطاحة بالحكام من مناصبهم واستبدالهم بآخرين، دون أن يتبع ذلك تغيير جذري على المستوى الاقتصادي، أو على مستوى منظومة القيم الاجتماعية التي تسود المجتمع.
كما أن تعريف الثورة لغوياً، لم يرد عند العرب بالمعنى المتعارف عليه. والتعريف الشائع لهذا المصطلح يقر بأن الثورة عبارة عن حركة؛ قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، أو تمزج بين هذا كله، ترتبط بثلة من الأفراد الذين يثورون ضد وضع معين قصد إحداث تغيير، أو مطالبة بحقوق، أو لإبداء رأي معارض لقوانين أو قرارات لا تعجب المُقْدمين على هذا الفعل. ويتخذ هذا المفهوم تمظهرات متنوعة منها: الخروج، والفتنة، والحراك، والانقلاب، والانتفاضة، والعصيان المدني والاعتصامات.. فهو خروج من وضع إلى وضع مغاير يناقض الوضع السابق (ظلم = عدل، حقوق غائبة = تمتع بالحقوق…)، وتظل الثورة ” أحد طرق انهيار النظم السياسية” فغالبا ما يُختزل مفهومها في الشق السياسي، عبر استبدال أنظمة حاكمة بأخرى بديلة عنها ولها. ويقاس نجاح هذا الفعل بمدى توسعه على مستويات ثلاثة، سياسية، واجتماعية، واقتصادية.
وتستطرد حنة أرندت محددة تاريخ ظهور الكلمة فتقول: ” وعلى هذا، فإن الكلمة استخدمت لأول مرة ليس حين اندلعت ثورة في إنجلترا وتولى كرومويل أول دكتاتورية ثورية، بل على العكس في 1666م بعد الإطاحة بالبرلمان الرديف وبمناسبة إعادة الملكية. وقد استخدمت الكلمة بهذا المعنى بالضبط في عام 1688م حين طردت أسرة ستيوارت ونقلت السلطة الملكية إلى وليام وماري” وهذا مما لم يُعد ثورة بل مجرد استرجاع للملكية وليس ثورة على ملكية أو نظام واستبداله بآخر، بل كان محض استبدال وجوه بأخرى. وهذا ما أكدته حنة أرندت في كتابها “في الثورة”.
كما يرى سلامة موسى أن ثمة ثلاث ثورات رئيسة عدها أنموذجا للثورات، يقول :” ونحن نذكر ثلاث ثورات أو ثلاثة طرز للثورات، اختلفت الطبقات التي قامت بها؛ ففي سنة 1215م ثارت طبقة النبلاء في انجلترا على الملك جون وأجبرته على أن يعترف بحقوق لأفرادها انتفع بها الشعب كله، وفي سنة 1789م ثارت الطبقة المتوسطة في فرنسا على الملك والنبلاء، وحصلت على حقوق لها وللشعب، وكان من هذه الحقوق إلغاء الرق الزراعي؛ أي الاقطاعي” و ” في سنة 1848م ثارت طبقات العمال في كل أوروبا تقريبا، وحصلت على حقوق جديدة لم يكن العمال يعرفونها في العصور السابقة.
ويُمكن قياس المد الثوري بمدى التغيير الحاصل على ثلاث مستويات، سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، وكثيرًا ما يُختزل مصطلح الثورة في شقها السياسي بعملية استبدال طاقم الحكم بآخر. كما لا يقتصر مفهوم الثورة على الجانب السياسي، فقد أصبح من الشائع أن يطلق على أنماط أخرى كالثورة التكنولوجية، أو ثورة الاتصالات، وعلى الرغم من كونها ثورات مادية لكن معيار الثورة ينطبق عليها بدلالة النقلة العميقة التي تحدثها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي للمجتمعات، وهي لا تقل أهمية في تقرير تقدم وازدهار حياة بعض الشعوب. وتنقسم أنماط الثورة إلي:
- ثورة سياسية، يسترد بها الشعب حقه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه، أو من جيش معتد أقام في أرضه دون رضاه.
- ثورة اجتماعية، تتصارع فيها طبقاتها ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد. وتتطلب الأولى لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة وترابطها وتساندها ونكرانها لذاتها في سبيل الوطن كله.
لم ترد كلمة “ثورة” صراحة في القرآن الكريم، ولكن يمكن استنباط معانيها ومفاهيمها من خلال تفسير آيات متعددة تتحدث عن التغيير، والعدل، والمقاومة، والتحرر. فالثورة في جوهرها هي حركة تغيير تطالب بتحقيق العدالة والمساواة، وتسعى إلى تحرير المجتمع من الظلم والاستبداد. نعم لم يرد مصطلح ثورة في السياق القرآني صراحة، بل ورد فى شكل أثاروا وتثير، وارتبطت في بعض المواضع بتعمير وملك الأرض. و على خط متواز، اشار وشدد وحث، على قاعدة مركزية فى ضرورة وحدة الصف لمواجهة الباطل، وفى قواعد فرعية ضرورة التدبر والتأمل، فى إشارة للثورة الفكرية والتى تسهم فى بناء ذهنية حقيقة، كذلك الدعوة لاقرار العدالة والعلم والتعايش السلمي بين الشعوب والقبائل، التراحم، واتقان العمل، وعدم الاسراف ، بالفعل ثورة اجتماعية فعلية. ولاشك ان القرآن الكريم لم يشير الى كلمة ثورة الا فى مواضع معينة وبمعاني معينة، ولكن يحتوي فى مجمله على ثورة شاملة.
لا ترد كلمة “ثورة” صراحة في القرآن الكريم، ولكن يمكن استنباط معانيها ومفاهيمها من خلال تفسير آيات متعددة تتحدث عن التغيير، والعدل، والمقاومة، والتحرر. فالثورة في جوهرها هي حركة تغيير تطالب بتحقيق العدالة والمساواة، وتسعى إلى تحرير المجتمع من الظلم والاستبداد.
الثورة المضادة
للثورة المضادة وجهان كما للثورة وجهان، وجه مؤسساتي ووجه نفسي. الوجه المؤسساتي يتعلق بامتلاك مؤسسات حاكمة أو مؤثّرة في المجتمع، بينما يتعلق الجانب النفسي بالصراع على التوقعات والآمال والرؤية والعادات والروح التي أنشأت الثورة أو برزت من خلالها.
تمتلك الثورة المضادة بشكل عام من القدرات المؤسساتية أضعاف ما تمتلكه الثورة، ولذلك يكون لها غالباً اليد العليا في هذا الصراع في حال لم تتمكن الثورة من الاستيلاء على هذه المؤسسات أو تحييدها أو تدميرها، أو إن لم تتمكن من إنشاء مؤسسات موازية قوية. وتشمل المؤسسات التي توظفها الثورة المضادة لصالحها القوى الأمنية وأجهزة الدولة القوية الأخرى والإعلام والقضاء، ويمكن أن يضاف الى ذلك شبكات رجال الأعمال الكبار. ولكن الجانب المؤسساتي لا يكفي لانتصار الثورة المضادة، لأن هذه المؤسسات كانت دائماً موجودة، ولم يكن محض وجودها كافياً لمنع الثورة من الولادة. الثورة المضادة تحتاج إذن إلى القضاء على روح الثورة، وبدون هذا الإنجاز تستشعر الثورة المضادة خطراً دائماً، يهددها من ناحية لم تحتلها بعد، ألا وهي نفسية الإنسان الذي أنتج الثورة.
احتوت فلسفة الثورة المضادة على ثلاثة مفاهيم أساسية وُظّفت كأدوات فكرية مضادة لروح الثورة. هذه المفاهيم تشمل مفهوم القيادة، ومفهوم الجهل، ومفهوم الواقعية. تُشكّل هذه الثلاثية الفكرية ـ القائد، الشعب الجاهل، الواقعية ـ عماداً للثورة المضادة تفوق أهميته أضعاف ما تمتلكه الثورة المضادة من قدرات مؤسساتية. فالثورة المضادة تعلم تمام العلم أن القدرات المؤسساتية الهائلة للنظام القديم لم تمنع الثورة. وهنا تكتشف الثورة المضادة أهمية محاربة الثورة في عقر دارها، أي داخل نفسية الإنسان الذي قام بالثورة. ولذلك لا تأمن الثورة المضادة على نفسها إلا إذا أجهزت على روح الثورة داخل الإنسان. ولذلك تبدو الثورة المضادة أكثر شراسة من النظام القديم، لأنها لا تستطيع أن تتأكد من انتصارها على الروح بقدر يوازي تأكّدها من هيمنتها على مؤسسات السلطة في المجتمع. ففي زمن الثورة المضادة تختبئ الروح، لأن الثورة المضادة تبحث عنها في كل مكان كي تذبحها. ولذلك تلجأ الروح إلى أكثر المخابئ أماناً، فلا تجد أكثر أماناً من الذاكرة: ذاكرة الإنسان الذي تشبّع بروح الثورة في لحظة فاجأته بإمكانية ما لم يكن ممكناً، كأنها لحظة أتت من خارج الوجود المعتاد، ثم دخلت الذاكرة ومارست حياتها تحت الستار، منتظرة نهاية أُخرى لزمن رديء آخر. هناك تلجأ الروح كما يلجأ أهل الثورة إلى المنافي البعيدة، الى أن تعود كروح أقوى وأكثر نضجاً. وهنا يجب أن نتذكر أننا عندما نتكلّم عن “عودة الروح”، فإننا نتكلّم عن شيء مارس وجوده في زمن ما، وربما فاجأ نفسه بوجوده الذي لم يكن في الحسبان. ثم اختبأ في الذاكرة لأنه اكتشف أنه قد وُلد قبل الأوان. ثم عاد بعد أن جهّز بمعرفته الجديدة عالمه لعودته، وأصبح الزمان القادم زمانه.
والحقيقة أن خطاب الثورة المضادة هو جزء من مفردات استخدمتها التجارب الثورية الشيوعية المنقرضة في القرن التاسع عشر والعشرين وغابت عن أي تجربة تغيير ناجحة في النصف قرن الأخير من أوربا الشرقية وحتى أمريكا الجنوبية مرورا بتركيا وماليزيا واندونيسيا وتونس وغيرها وكلها صنعت توافقات بين قوى النظام القديم التي لم ترتكب جرائم وبين القوة الجديدة والديمقراطية.
أما عن نماذج الثورات المضادّة في التاريخ تكاد لا تُحصى: ثورة اليعاقبة لإعادة ملكية عائلة ستيوارت إلى الحُكم منذ عام 1688م. الثورات المضادّة للملكيات الأوروبية لإحْباط ثورات 1848 الشعبية. الثورة المضادّة للملكيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر.
ثورة حكومة فيشي المضادّة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى، التي استبدلت شعار الثورة الفرنسية “الحرية، المساواة، الإخاء”، بشعار “العمل، العائلة، الوطن”. وفي إيطاليا، وبعد زحْف جيوش نابليون، نشبت ثورة مضادّة، أهمّها ثورة “سانديسمو”، وهي حركة رِجعية قادَها الكاردينال فابريزيو روفو، سمحت بعودة أسرة البوربون إلى عرش مملكة نابولي. ثم اندلعت ثورة أخرى فِلاحية في شمال إيطاليا، بحفز من أسْرة البوربون والدول البابوية ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب أهلية دامت نحو عشر سنوات.
في روسيا قام “الجيش الأبيض” بثورة مضادّة على الثورة البلشفية في عام 1917، فيما كانت القوات الألمانية تسحق ثورة 1918- 1919 الشعبية. وفي وقت قريب، أي عام 1961، كان المنفيون الكوبيون يشنّون ثورة مضادة عبْر غزْو خليج الخنازير بدعم من القوات الأمريكية لإطاحة حُكم فيديل كاسترو، فيما كان متمرِّدو الكونترا يقومون هم أيضاً بثورة مضادّة لإطاحة النظام السانديني في نيكاراغوا.
وفي الشرق الأوسط، نجد الثورة المضادة في تركيا متجسدة في اتفاقية لوزان والانقلاب على التزامات حرب الاستقلال والاتفاق الكردي-التركي لبناء دولة للشعبين، وكذلك ماحصل مع الثورة الإيرانية في عام 1979 وكذلك مع معظم الثورات والتحركات في الدول العربية، وخاصة في العقود الأخيرة وكذلك في مئة السنة الأخيرة.
مما سبق يتضح أنه تم فرض مصطلحات بعينها، كي تدور مجتمعات الشرق الأوسط فى فلكها، وتصبح لديها هي مقياس التغيير والتطور، وهو ما نجحت فيه أدوات الحداثة الرأسمالية الغربية في فرض واقع منقطع تماماً عن الماضي، راسمةً صورة ضبابية للمستقبل مرهونة بمدي نجاح تلك الأدوات. وهو ما نجح أوجلان في رصده ومعالجته بامتياز لذا، فهو أسير فكره أولاً وقبل كل شيء! وبشكل عام فتاريخ الشرق الأوسط هو تاريخ الثورة المضادة.
الذهنية الضائعة
رغم مركزية الشرق الأوسط وحضارته التي مثلت أول حضارة مركزية في العالم، إلا أن الحداثة الرأسمالية الغربية قامت على انهيار حضارة الشرق الأوسط، لذا، تعرضت ذهنية مجتمعات الشرق الأوسط لضربة في الصميم، وفرضت الطبقية على مكونات المجتمع، وأصبحت هذه الحضارة الطبقية بمثابة ثورة في حد ذاتها ضد المجتمع.
ونجحت بريطانيا القوة المهيمنة عند تأسيس نظام الحداثة الرأسمالية في تشويه ذهنية مجتمعات الشرق الأوسط، ومن ثم، احكام سيطرتها وهيمنتها على الشرق الأوسط عبر إقرار نظام الدولة القومية، الذي جعل منطقة الشرق الأوسط ملتهبة باستمرار ودون توقف، وجعل شعوب المنطقة التاريخية ومنها الشعب الكردي في مواجهة آليات النظام القومي التي هي بالأساس وضعت من أجل محوه وتدميره واقتلاع جذوره.
وبدأت الحداثة الرأسمالية بالتوغل في مجتمعات الشرق الأوسط من خلال رسم أطر مختلفة لذهنية سلطوية ترتكز على الاستشراقية، لم تكن وليدة الظروف بل تضرب بجذور لعهود التوسع الإغريقي الروماني، مروراً بالحروب الصليبية في العصور الوسطي، إذ مثلت تلك المراحل بقدر أنها حروب عسكرية إلا أنه كان بين أحشائها حروباً فكرية. لكن مع اكتمال نموذج الحداثة الرأسمالية الغربية في العصور الحديثة بدأت عمليات ممنهجه للغزو الفكري، فتحت الباب على مصراعيه أمام أوروبا الغربية لتفوقها على العالم ولا نبالغ، فقد احتكرت تلك الدوائر الأوربية الغربية وعي الحقيقة. ولم يتحقق دخولها وتغلغلها داخل منطقة الشرق الأوسط إلا باحتكارها لوعي الحقيقة. ولا غرو، فإن الاستشراقية هي الهيمنة الذهنية للحضارة الأوروبية الغربية، ومع سيادة الأفكار الاستشراقية، ووقوع النخبويون والمفكرون والمثقفين (القوي الناعمة- عقل الأمة) تحت حاكمية الفكر الاستشراقي الغربي فقد الشرق استقلاله الذهني تدريجياً، أو بالأحرى ضاع تحت تأثير الضربات المتلاحقة والمتتالية من الحداثة الرأسمالية. ولهذا، فالحداثة الرأسمالية هي ذهنية وأسلوب حياة وهي حضارة طبقية حديثة ونزعة دولتية تسعي إلى ضمان استمرارية الاستعمار، ويتواجد في جوهرها تدمير الحياة المجتمعية الديمقراطية، وتعزيز الحياة الفردية، والقضاء على التنشئة الاجتماعية، وهكذا، أصبحت ركيزة أساسية لكل البلايا التي ضربت مجتمعات الشرق الأوسط.
وأسهمت بجلاء نماذج الدول القومية التي تم تأسيسها وفق مؤامرة سايكس بيكو 1916، والمتممة للمشروع الويستفالي[T1] المشوه في ضياع وتشويه ذهنية مجتمعات الشرق الأوسط، وهو ما ينطبق على الحالة الكردية فمع عجز السلالات العثمانية في التعامل مع الحداثة الرأسمالية، قد أفضي لتبني جمعية الاتحاد والترقي لتبني مشاريع القومية وتطويرها في شكل الجمهورية التركية الحديثة، والتى تأسست بشكل واضح ومباشر على الواقع الكردي، وتم تفتيت الكتلة الكردية ودخولها في صراع مرير ومستمر مع الأنظمة القومية في الشرق الأوسط. ومثلما تأثرت مجتمعات الشرق الأوسط بممارسات الحداثة الرأسمالية، تأثر المجتمع الكردي وهو مستهدف رئيس في تلك اللعبة، وتكون بداخله أسس الثورة المضادة.
تبعات اقرار النظام القومي
لقد أسهمت الدول القومية في اقحام الحداثة الرأسمالية بين جنبات كردستان، وتأثرت الطبقة الحاكمة الكردية كثيراً بأدوات وآليات الحداثة الرأسمالية، وليس هذا بغريب، ففى العديد من المجتمعات شُكلت فيها طبقات متواطئة تخدم هذا النظام، وتسهم في حجب وعي الحقيقة عنهم، وتعزز مرتكزات الحداثة الرأسمالية، مكونة ثورة مضادة ضد أي سعي أو أمل تجاه التحرر والانتقال للعيش ضمن مجتمعات ديمقراطية.
بيد أن، الشعب الكردي بثقافته وحضارته اهتم منذ البدء بالتنشئة الاجتماعية، واعتمد أسلوب حياته على المبدأ الديمقراطي المجتمعي، إلا أن الطبقات العليا في المجتمع الكردي ( الأمراء) لعبت دور سيء بعد محاولات فاشلة إزاء الهيكليات المركزية التي عمل على إقرارها العثمانيين والصفويين كان مؤداها التواطؤ، والمساعدة في عملية صهر المجتمع الكردي، وكذلك لعبت الطرق الصوفية نفس دور طبقة الأمراء، وخصوصاً بعد الحصول على الامتيازات، ووصل الأمر إلى أبعد من إجهاض الحركات التحررية الكردية بل التعاون مع من يريد محو الكرد من الوجود. عند هذا اللحظة، برز المشروع الأوجلانى المتكامل في مواجهة الحداثة الرأسمالية.
رؤي أوجلانية لحل معضلات شعوب الشرق الأوسط في مواجهة الثورات المضادة
أولاً: الثورة الذهنية في الشرق الأوسط
مما لا شك في أن الحداثةُ الرأسماليةُ قد نجحت عن طريقِ مؤسساتِ الجامعةِ المواليةِ للعلمانية، في كسرِ شوكةِ السيادةِ الذهنية، التي أمسَكَت الكنيسةُ بزمامِها طيلةَ العصورِ الوسطى. وجعلَت الإنجازاتِ العلميةَ والفلسفيةَ والفنية، التي أسفرَ عنها عصرُ النهضةِ والإصلاحِ والتنوير، حِكراً عليها بوساطةِ الاحتكارِ الذي طالَ الجامعاتِ عموماً. وبهذا المعنى، يُعَدُّ القرنُ التاسع عشر قرناً حَسَمَت فيه الرأسماليةُ حاكميتَها على العلمِ والفلسفةِ والفن. وفي أواخرِ القرنِ العشرين، برزَت الأزمةُ وتَبَدّت الحلولُ ضمن هذه الحاكمية، التي دامَت قرابةَ قرنَين من الزمن، وذلك بما يتماشى مع الأزمةِ والحلولِ الموجودةِ في البنيةِ العامةِ للنظامِ القائم. حيث كانت الفلسفةُ قد فقدَت أهميتَها القديمةَ حيالَ التقنياتِ العلميةِ المُختَبَرة. وتحوَّلَ العلمُ بذاتِ نفسِه إلى تقنياتِ بحوثٍ لا عدَّ لها ولا حصر. في حين خَسِرَ الفنُّ قيمتَه كمدرسةٍ قائمةٍ بذاتِها بعدَ العصرِ الكلاسيكيّ، فاختُزِلَ إلى سلعةٍ فظةٍ متجسدةٍ في هيئةِ صناعةٍ متكدسة. وفي المحصلة، فجميعُها كانت قد تحوَّلَت إلى أدواتٍ منفعيةٍ بسيطةٍ بيَدِ الرأسماليةِ والدولةِ القوميةِ والصناعوية. وهكذا كانت قد فقدَت جميعاً مهاراتِها ومَهَمّتَها الأساسيةَ في البحثِ عن الحقيقةِ والتعبيرِ عنها. والمقصودُ من أزمةِ العلمِ والفلسفةِ والفنّ، كان خسارةَ تلك المهاراتِ في البحثِ عن الحقيقةِ والتعبيرِ عنها.
حدثت المواجهة المباشرة بين قطاعات الجماهير وآليات الحداثة الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين، فأصبح عام 1968 مرادفاً لأكبر حركة احتجاج عالمية في القرن العشرين، سواء في سان فرانسيسكو أو باريس أو طوكيو أو ساو باولو أو الجزائر أو برلين أو لندن. لقد احتج الشباب حول العالم على الهياكل الاجتماعية السائدة والظلم. وجاءت المواجهة الثانية الأبرز مع انهيار البني الاشتراكية في عام 1990، عند هذا الحد، أُصيب الاحتكاري الذهني للحداثة الرأسمالية بهزة حقيقية، فظهرت العديد من التيارات سُميت بـ ما وراء الحداثة، وقدَّمَ عددٌ كبيرٌ من المفكرين (يتقدمُهم جوردون تشايلد، صموئيل كريمر، وأندريه غوندر فرانك) إسهاماتٍ ثمينةً للثورةِ الفكرية، التي كشَفَت النقابَ عن دورِ الشرقِ الأوسطِ باعتبارِه مهدَ نظامِ المدنيةِ المركزية. وهكذا، حصلَت نهضةٌ فكرية حقيقيةٌ بالتزامنِ مع بسطِ حدودِ الحداثةِ الرأسماليةِ وتطورِ الشرقِ ارتباطاً بنُظُمِ المدنيةِ المركزية. ومن هنا استقي أوجلان أفكاره، حيث كان التأثيرُ المشتركُ لكافةِ هذه المؤثراتِ الفكريةِ الثوريةِ قد أفضى بدءاً من تسعينياتِ القرنِ العشرين إلى ثورةٍ ذهنيةٍ متسارعةٍ في وجهِ الذهنيةِ الليبراليةِ والاستشراقية. وإلى جانب التأثيرِ المحدودِ لتلك الثوراتِ الذهنية، إلا أن الأهم لدي أوجلان تدوينٍ مستقلٍّ لثورةٍ فكريةٍ ولتطورٍ فكريٍّ تدريجيٍّ في آنٍ معاً. إنّ الثورةَ الذهنية، التي تخطَّت الاستشراقيةَ وتخلصَت من تأثيرِ المذاهبِ المركزيةِ واليمينيةِ واليساريةِ اللّيبراليةِ في الشرقِ الأوسط، تتسمُ بعظيمِ الأهمية. وينبغي عدم النسيان أنه يستحيلُ عيشُ أيةِ ثورةٍ مجتمعيةٍ مستدامة، ما لَم تُعَش الثورةُ الذهنية. لذلك يتطلب تصحيح مسار البشرية إعادة نسق الحقيقة بحيث يتم إيلاء المعاني لمنجزات الإنسانية في العلم، ولكن إلى جانب عملية البحث عن الذهنية التي علينا اكتسابها.
وتكمن أهمية الثورة الذهنية، في تخطيتها الاستشراقية وتخلصت من تأثير المذاهب المركزية واليمينية واليسارية اللّيبرالية في الشرق الأوسط، تتسم بأهمية كبيرة. ويستحيل عيش أية ثورة مجتمعية مستدامة، ما لم تعش الثورة الذهنية.
ثانياً: استدعاء المجتمع الأخلاقي والسياسي لمواجهة المجتمع الرأسمالي (الثورة المضادة)
هناك علاقة جوهرية بين المجتمع الأخلاقي والسياسي مع الفضيلة والسعادة والصواب والجمال من جهة، ومع الحرية والمساواة والديمقراطية من الجهة الثانية. فالفضيلة والسعادة تُشكلان جوهر الأخلاق. والصواب معني بالحقيقة. فالبحث خارج نطاق المجتمع الأخلاقي والسياسي مجرد عبث، حيث أنه من العجز عدم التحلي بالصفات الأخلاقية والسياسية، حيث يتسبب هذا العجز في ضياع الحقيقة وصعوبة العثور عليها. كذلك فالمجتمع الأخلاقي والسياسي قادر على انتاج وتمكين الحرية والمساواة والديمقراطية بامتياز.
كذلك يطرح أوجلان ركائز المجتمع الأخلاقي السياسي وهما: الكونفدرالية والإدارة الذاتية، أي أنه مجتمع متحرر من هيمنة الدولة القومية أو القوموية المركزية. أما عن تنظيم المجتمع الأخلاقي السياسي يؤكد على ضرورة محورية دور الأخلاق، لأن العقلانية وحدها عاجزة عن صيرورة المجتمع، قد تحقق أشياء كثيرة ولكنها لا تحقق تماسك المجتمع كتجمع إنساني، كما عدد مزايا الأخلاق في: القدرةُ على تَحَمُّلِ الآلام وتلبيةِ متطلباتها، الحدُّ من الرغبات والشهوات والملذات، ربطُ التناسل بالضوابط الاجتماعية بدلاً من القواعد الطبيعية، إصدارُ القرارات إزاء ترجيحِ الامتثالِ أو الإخلالِ بالتقاليد والأعراف والدين والقوانين.
يُسهم المجتمع الأخلاقي السياسي في صورة مغايرة، حيث أن الأخلاق والسياسة هما ركيزة لقراءة تاريخ الشعوب، بعيداً عن الطبقية والاستغلال والقومية والسلطة والمدنية …إلخ. كذلك يمنح الطبيعة الاجتماعية معناها التاريخي والكلي، أما حصر المجتمع في تعريفات: (البدائي، العصري، الإقطاعي، العبودي، الرأسمالي، الاشتراكي، الصناعي، الزراعي، التجاري، المالي، الدولتي، القومي، والمهيمن وغيرها)، فلا تُعَبِّرُ أيٌّ منها عن الماهيةِ المُعَيِّنةِ للطبيعةِ الاجتماعية. بل وتَحجبُ مزاياها، وتُوَلِّدُ نتيجةً متجزئةً مِن المعنى. وهذا ما يُكَوِّنُ جوهرَ المواقفِ النظريةِ والتطبيقاتِ العملية الخاطئةِ بشأنِ المجتمع.
وعند هذا الحد يصبح المجتمع الأخلاقي السياسي جوهر الحضارة الديمقراطية للأسباب الآتية:
- المجتمع أساساً أخلاقي وسياسي.
- يستطيع مواجهة نظم المدنية المتصاعدة (المدينة، الطبقة، الدولة).
- يتنامى بتناغم مع نظام الحضارة الديمقراطية باعتباره تاريخ الطبيعة الاجتماعية.
- هو المجتمع الأكثر حرية، تشاركية بناءة وليست فردية أنانية.
- مجتمع ديمقراطي.
- علي تناقض مع الدولة القومية لدورها في اخفاء وعي الحقيقة.
- لديه القدرة على اقرار السلام مع القوي المختلفة أيديولوجياً في إطار التعايش السلمي والأمن الفكري.
جاءت الرؤي الأوجلانية لمنظور الثورة، منطقية وغير فئوية، بل ثورة شاملة مرتكزة على ذهنية تعود بشعوب المنطقة الى الاخلاق والسياسة، أعمدة المجتمع الأخلاقي السياسي، التي كانت مفعلة قبل غزو الحداثة الرأسمالية الغربية لمنطقة الشرق الأوسط لعبت الحداثة الرأسمالية دور رئيس في الترسيخ والتجذير والتأسيس لما يسمي بالثورة المضادة.
تمثل النجاح في ضرب القواعد الأساسية لمجتمعات المنطقة، واستهدفتها جزئيا وكليا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، ان ارتباط فئة من المجتمع بمصالح مع المنظومة القومية وتغلل هذه الفئة في اوصال الدولة القومية، يخلق مباشرة ثورة مضادة ضد آمال وطموحات المجتمع ككل حفاظا على مصالحهم ومكتسباتهم.
إن فرض تاريخ تم رسمه عبر دوائر المنظومة القومية على مجتمعات الشرق الأوسط، واستقطاب فئة من المجتمع نحو هذا التزييف الواضح، حيث تاريخ شعوب المنطقة لم يبدأ ١٩١٦. يمثل هذا التجهيل ثورة مضادة.
أضف أيضاً تعزيز الفردية الأنانية الاستهلاكية. ونسف قواعد المجتمعية التشاركية البناءة، قامت به الحداثة الرأسمالية عبر مجموعة من الممارسات استهدفت الفرد والأسرة والمجتمع. ولكن، نجح السيد اوجلان (أسير الأسوار)، في رصد مشكلات المنطقة وما أبعد من ذلك، ووصل لنتيجة مفادها أن العصرانية الديمقراطية (الثورة الحقيقية) هي الحل في مواجهة الحداثة الرأسمالية (الثورة المضادة). ومن هنا تأتى ريادة المشروع الفكري والإصلاحي الأوجلانية في حل مشاكل مجتمعات الشرق الأوسط.
أهم المراجع المستخدمة
- عبدالله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديمقراطية، سوسيولوجيا الحرية، ترجمة زاخوا شيار، المجلد الثالث، لبنان 2018.
- عبدالله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديمقراطية، أزمة المدينة وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط، المجلد الرابع، ترجمة زاخوا شيار، لبنان 2018.
- أرندت حنة، 2008، في الثورة، ترجمة عطا الله عبد الله، مراجعة رامز بو رسلان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان.
- سلامة موسى، كتاب الثورات، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012، مصر.
- جميل بايك: حول تأثير الحداثة الرأسمالية على المنطقة وخاصة كردستان، وواقع التنشئة الاجتماعية للشعب الكردي ونموذج الحداثة الديمقراطية للقائد عبد الله أوجلان، مقال لمجلة “حرية المجتمع- Azadî Komelge” التي تنشر في جنوب كردستان باللهجة الصورانية الكردية. https://anfarabic.com
- أحمد شيخو: أهمية الثورة الذهنية في بناء الحياة الحرة في المنطقة، https://alhanews.com
- إبراهيم محمد صادق عامر :التأصيل العملي لطبيعة الثورة وأنواعها ، بحث منشور، مجلة البحوث التجارية، كلية التجارة ، جامعة بورسعيد ، أكتوبر ، 2018، العدد الرابع.
- خالد الميعني : مقدمة في روح الثورات وقوانين حركتها، https://www.ajnet.me
- محمد بامية : ماهي خصائص الثورة المضادة ، https://www.jadaliyya.com
- فاتحة تمرازتي: مفهوم الثورة ، https://political-encyclopedia.org
- الثورة الذهنية فى الشرق الأوسطhttps://pydrojava.org
- عمرو الشوبكي : الثورة المضادة ، https://www.alarabiya.net