قيل قديما، أن الرجل هو الأثر، فبعض الأسماء يتجاوز مساحة دورها الإنساني سردية وجودها الذاتي، لتغدو مساهمًا فعالًا في السردية العامة لشعوبها. وبل تغدو بعد زمن أسطورة تأسيس. ومن أهم هذه الأسماء أحمد خاني؛ أحد صناع الهوية والسردية التاريخية التي جمعت الكرد تحت مظلة إنسانية ووجدانية واحدة. أحمد خاني دليل على أن ما تصنعه الإمبراطوريات والدول القومية، يمكن أن عكس آثارها السلبية بل ووقفها بصلابة الأفكار، وإيمان الرجال بعدالة القضية وضرورة الوصول. فمن هو أحمد خاني؟
في مدينة بيازيد ولد طفل عادي سيغدو بعد زمن رجلا غير عاديا بالمرة، هو أحمد خاني. ولد كغيره من أبناء الفقراء، حتى ان أحدا لم يبالي به فيدون يوم مولده، مما أدى الى اختلاف كبير من قبل من جاء بعده في تحديد ذلك اليوم الذي شهد ولادة الطفل الذي سوف يغدو شاعرا كبيراً، وعبقريا فذا وصوتا من أصوات الحق ينادي بحرية شعبه. ولكن ما اتفق عليه المؤرخون هو 1650. تحتضن قصة حياته تعدداً في الآراء حول أصله ونسبه، ما بين أصداء تنسبه إلى عشيرة “خانيان” العريقة، التي أزهرت في ربوع منطقة بوتان قبل أن تشد الرحال شمالاً، لتستقر أخيراً عند أطراف مدينة بايزيد، وأخرى تؤكد أن ميلاده كان في قرية “خاني”، تلك البقعة النابضة بالحياة قرب “جوله ميرك”)هكاري( في شمال كردستان العريقة التركية حالياً.
أحمد خاني، الذي أبحر في عالم الشعر والأدب، صاحب الملحمة الخالدة “مم وزين”، التي نقشت في القلوب قصة حب أزلية تخطت حدود الزمان والمكان، وأول قاموس كردي عربي مضيئاً بذلك مشعل العلم والمعرفة في دروب الأدب الكردي. لم تكن أعماله مجرد نصوص، بل كانت رسائل تحمل بين طياتها عمق الفكر وجمال اللغة التي تنبض بالحياة، وتشع بالحكمة. في حياة أحمد خاني، نجد تجسيداً للشاعر الذي تغنى بحب وطنه، وعكس في أشعاره تاريخاً وثقافةً غنية، وأثرى الأدب الكردي بأعمال تعد منارات تهدي الأجيال. رحلته الأدبية، التي امتدت عبر القرون، لا تزال تلهم المثقفين والأدباء، وتركت بصمة لا تُمحى في الذاكرة الثقافية للشعب الكردي والعالم.
أحمد خاني، بشاعريته وعمق فكره، يمثل قمة الإبداع الأدبي، حيث تتلاقى الأصالة والمعاصرة في سيمفونية عذبة، تروي قصة رجل جعل من الكلمات جسوراً نحو الأفق، ومن الأحلام ضياء ينير دروب المستقبل. كان مثالاً للمفكر الثاقب والشاعر الحالم الذي عانق بأفكاره السماء، وبقلمه، خط مسارات جديدة في الأدب الكردي، مؤسساً بذلك إرثاً خالداً يظل مصدر إلهام لا ينضب. لم يكن مجرد شاعر ينثر الكلمات بل كان رسولاً لثقافة وهوية شعب مدافعاً عن اللغة الكردية ومعززاً لمكانتها بين اللغات. في كل قصيدة وفي كل مقطوعة، كان ينقل بعمق مشاعر الحب والفقد، ويعكس تجارب الحياة والإنسانية بكل تعقيداتها. لقد كان فناناً حقيقياً يستلهم من الطبيعة والحياة، ويحول هذه الإسهامات إلى أعمال أدبية تحاكي الروح وتتحدث إلى القلب.
وكغيره من أبناء عصره، تلقى خاني علومه الابتدائية في الكتاتيب والجوامع، على أيدي شيوخ زمانه. ثم في المدارس التي كانت متوفرة أنداك في المدن الكبيرة، مثل تبريز وبدليس، حيث ظهرت فيه علائم النبوغ مبكرة، وهو لم يتجاوز الربيع الرابع عشر من عمره. وسعيا وراء المزيد من العلم، زار مدنا كثيرة، وتجول فيها، وأقام في مرابعها ردحا من الزمن، مثل الآستانة-استانبول- ودمشق. كما زار مصر أيضا، فاطلع على علوم عصره وتلقفها. فجمع بين الأدب ولا سيما الشعر، وبين الفقه والتصوف، فذاعت شهرته مقرونة بالثقافة الواسعة والمعرفة العميقة في الأمور الأدبية والفلسفية والدينية.
في هذه الفترة من التاريخ كانت كردستان ملعبا من ملاعب الصراع بين الدولة العثمانية، والدولة الصفوية، اللتين قسمتاها بينهما إثر معركة جالديران الشهيرة 1514 م، وراحت كل منهما تحاول أن تضم اليها الإمارات الكردية. فكانت الدماء الكردية تراق انهارا على الرغم من انه لم يكن للكرد في كل ذلك أي شأن وطني أو إنساني، بل كانت الخسارة تحصدهم من الطرفين في كلتا الحالتين. وكان خاني يتأمل هذا الوضع المتردي ويقلبه على كل اوجهه، عسى أن يجد فيه بعضا مما يستحق أن تراق، من أجل الوصول إليه، هذه الدماء ولكن أنى له ذلك!! ليس في كل ذلك شيء مما يخص الكرد في أمور حياتهم، بل عليهم الطامة، وضياع البلاد. ولعل ذلك الواقع المر، وتفاعله معه وانفعاله به، كان من أهم عوامل تكوينه الفكري.
وقد تحدثت الروايات عن رحلات خاني التي امتدت إلى الآستانة، وسوريا ومصر، كما سبقت الإشارة، مما يلمح إلى ذلك الفضول العلمي والثقافي الذي دفعه لاستكشاف آفاق جديدة والتفاعل مع تقاليد أدبية متنوعة. هذه الرحلات، لا شك أنها زودته برؤى عميقة وأفكار متجددة، ساهمت في تشكيل وعيه الأدبي والثقافي. ولهذا، ظهرت بوادر موهبته الشعرية في مقتبل عمره، فقبل أن يبلغ الرابعة عشرة من عمره، بدأ ينظم الشعر ببراعة تنم عن نضوج أدبي يفوق سنه. كانت هذه البدايات المبكرة إشارة واضحة إلى أن خاني لم يكن مجرد شاعر، بل كان عبقرية شعرية موهوبة تستشرف مستقبلاً أدبياً باهراً.
وبالعودة لمقولة أن الرجل هو الأثر، فالأثر الباقي في الوجدان الكردي الجمعي هو ملحمته الأشهر والأبقى والأكثر نفوذا في تشكيل الهوية وإعادة بناء التاريخ والفخر الوطني، ملحمة مم وزين. لقد أطلق بحق على ملحمة ميم وزين لأحمد خاني (1650-1707) وصف “الملحمة الوطنية للكرد”. إن أهمية ميم وزين تتجاوز إنجازاته الأدبية، ولا تزال مكانة ميم وزين البارزة في الأدب الكلاسيكي الكردي تثير الجدل. وهذا لا يرجع فقط إلى حقيقة أن النص يقف عند تقاطع الأدب والسياسة، بل وأيضاً إلى مكانة العمل كمعيار متكرر للمثقفين الكرد المهتمين بصياغة سرد وطني. إن إعادة اكتشاف ميم وزين في عصر ما بعد الحرب العالمية الأولى لـ”النهضات” العرقية أو الوطنية ليس من قبيل المصادفة. فمثل معاصريهم، كانت النخب الكردية في أواخر العصر العثماني مهتمة بأفكار تقرير المصير والقومية ونشرت حركة وطنية خاصة بهم لاستعادة وتخيل وبناء هوية جماعية لشعبهم.
إن الكرد لا يشكلون استثناءً للعلاقة المشكوك فيها بين التأريخ وبناء الأمة. فالأمم تحتاج إلى أصول وتقاليد وعمق تاريخي ـ ولم يتردد القوميون في اختراع هذه العناصر. وقد تتبع عدد من العلماء التصورات المتغيرة لرواية مم وزين باعتبارها عملاً أدبياً، وأظهروا كيف احتلت هذه الرواية مكانة مركزية في الوعي الكردي على مدار القرن الماضي. وفي هذا السياق، كان العلماء يقظين ضد محاولات القوميين تجنيد خاني كأداة لبناء الأمة. ولكن هذا الحذر المفيد يعني أن أفكار خاني (على النقيض من تعبيرها الأدبي) لم تحظ بعد باهتمام جدي.
إن مسألة اللغة لم تبرز بشكل واضح وصريح إلا على يد الشاعر والمفكر أحمد خاني. ولهذا أيضاً سبب أساسي وهو أن أحمد خاني كان صاحب مشروع نهضوي تنويري مرتكز على المبادئ القومية. ومن المعروف أن اللغة أهم ركيزة من ركائز نهضة الأمم وهي أهم جامع يمكنه ربط مشاعر شعب في عقد لا ينفرط. لقد كان أحمد خاني واضحاً جداً في طرح فكرته. قالها دون مواربة في مقدمة ملحمته الشعرية مم وزين. قال إنه سيكتب بالكردية ويترك الفارسية وغيرها من اللغات. أكد أنه سيجلو الصدأ عن نحاسه أي لغته الكردية وسيهجر الذهب والفضة أي اللغات الأخرى. لكنه استدرك أن هذا النحاس لن يتحول إلى عملة رائجة ما لم يكن عليها ختم ملك أو سلطان. فهم أحمد خاني أهمية اللغة في إرساء قواعد شخصية مستقلة للكرد فكتب كل مؤلفاته بالكردية. كانت خطوته جبارة حتى أنه سعى إلى ما أسميه (تكريد الإسلام) أي شرح الدين الإسلامي والعقيدة والتفسير باللغة الكردية. فالخاني كان يدرك أهمية الدين في حياة الكرد، ولو قيض لهذا المشروع الرائد أن ينجح لقفزت اللغة الكردية قفزة كبيرة إلى الأمام. برزت الدعوة إلى الاهتمام باللغة الكردية بالموازاة مع الدعوة إلى تحرر الكرد من ربقة الصفويين والعثمانيين. أي أن دعوة الخاني كانت شاملة لجانبها الثقافي والسياسي فلم يهمل هذا ولا ذاك.
لقد عرف خاني أن أية نهضة أدبية في كردستان تتطلب دعماً من المؤسسة الحاكمة وبدون ذلك لا يمكن فعل شيء مؤثر:
فلو كان لنا صاحب ذو لطف وكرم.
كان العلم والفن والأدب والمعرفة، والشعر والغزل والكتاب. محط اهتمامه وقبوله.
لرفعت راية الشعر في أعالي السماء.
وبعثت روح ملى جزيري وأحييت بها علي حريري.
وأبهجت (فقيه طيران) كي يبقى مشدوهاً إلى الأبد.
ولكن ما العمل والسوق كاسدة، وليس من مشترٍ لما يُعْرَضُ من قماش.
خاصة في هذا العصر الذي أصبح فيه كيس النقود محبوبنا جميعاً.
أي من الطمع أصبحت الدنانير والدراهم لنا معشوقات.
فلو قايضت العلم كله بفلس واحد، وعرضت بيع الحكمة مقابل حذاء.
لما قبل أحد أن يجعل جامي سائس خيل له، ولما رضي أحد أن يقبل نظامي خادماً له.
هذه الأبيات الطافحة بالمرارة من مقدمة مم وزين تمثل خيبة أمل المثقفين الكرد الكبيرة بسلطتهم السياسية الغافلة عن تأثر القوة الناعمة سواء في الجبهة الوطنية الداخلية أو على مستوى الجبهات الخارجية في خضم الصراع السياسي.
لقد كافحت النخبة الثقافية الكردية في سبيل جعل اللغة الكردية لغة للأدب على الأقل بالرغم من الصعوبات الهائلة التي اعترضت طريقهم وأولها سطوة اللغات المجاورة. فقد كانت اللغات السائدة آنذاك هي أولاً العربية بسبب كونها الوعاء الذي احتضن الحضارة الإسلامية وكانت لغة مقدسة، وثانياً الفارسية وقد فرضت نفسها بعد أن صقلتها أجيال من المبدعين الفرس أثروا تأثيراً بالغاً على أدباء المنطقة الممتدة من الآستانة وحتى الهند. ثم التركية وكانت لغة الحكام المحتلين في كردستان. وهكذا فقد كانت اللغة الكردية تخوض معركة البقاء بأسلحة قليلة وفرسان أقل، فقام جيل من الشعراء ليدونوا أحاسيسهم بلغتهم المهملة ويفتحوا الباب أمام الأجيال اللاحقة وبذلك اجتازت هذه اللغة امتحانها العسير بنجاح فظهرت أشعار الجزري وقصص فقى طيران الشعرية وغزليات علي حريري وتداولها الناس وحفظوها وتغنوا بها في مجالسهم مما ترك أثراً طيباً في النفوس وعزز ثقة المثقفين بهذه اللغة، وقد أشار خاني إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة بالاسم في مقدمة مم وزين وتحسر على أن الأمير لا يتعاطى الأدب ولا يقبل بالمعرفة والعلم وأربابهما في ديوانه ولولا ذلك لأحيا خاني أرواح هؤلاء وأسعدها إلى الأبد.
إن أحمد خاني يصرح بدون مواربة أنه اختار اللغة الكردية قصداً لكي يدون بها مم وزين. وأنه يعرف مسبقاً أن حظوظه قليلة في الرواج فاللغة الكردية نحاس يأتي بها الخاني إلى سوق الذهب والفضة، لكنه يقول إن هذا النحاس أيضاً يتحول إلى عملة بشرط أن تكون عليه سكة أحد الأمراء. أي أن السلطة السياسية هي التي ترفع من قيمة اللغة عبر دعم مشروعاتها وإغداق الأموال على من يقف في خندق الدفاع الأول عنها. لقد أثر أحمد خاني بأفكاره الرائدة هذه على أجيال من الشعراء جاؤوا بعده فحذوا حذوه وكرروا عباراته تقريباً. مثل الشيخ عبد الرحمن آق تبي صاحب روضة النعيم وشقيقه الشاعر خاكي (محمد جان) الذي نظم قصة مجنون ليلى بالكردية وهذان الشاعران جاءا في زمن انهيار الإمارات الكردية المستقلة وكتبا في مقدمتيهما عن جمال اللغة الكردية وضرورة الكتابة بها. إن أفكار أحمد خاني التي وردت في مقدمة مم وزين لا تزال محتفظة براهنيتها وتصلح لزمننا المعاصر إذ أن اللغة الكردية لا تزال تعاني من آفات عديدة ليس أولها قلة الاهتمام بها ولن يكون آخرها انقسام الشعب الكردي بين لهجات مكتوبة عدة تقف حائلاً أمام انصهار الشعب الكردي بكافة طوائفه في كيان متماسك منسجم.
بالإضافة إلى هذه الملحمة المهمة في تاريخ الأدب الکردي، والتي تعتبر بحق إنجيل القومية الکردية، ألف خاني قاموساً صغيراً لتعليم أطفال الکرد اللغة العربية، كذلك وضع مناهج مدرسية تربوية في تعليم عروض الشعر ومبادئ العقيدة الإسلامية، وله ديوان شعري جميل يتضمن قصائد تختلف مواضيعها من الفلسفة إلى التصوف إلى الغزل. ولعل الدعوة إلى الكتابة باللغة القومية من أهم ما جعل خاني مميزاً في تاريخ الأدب الکردي وجعله أباً روحياً للكتابة باللغة الأم وذلك من خلال مقدمته الرائعة للملحمة المذكورة قبل سطور.
مم وزين الملحمة الخالدة
تُعتبر ملحمة “ميم وزين”، وهي قصيدة رومانسية باللغة الكردية الكُرمَنجية كتبها أحمد خاني في عام 1695، من أبرز الأعمال الأدبية الكردية. منذ العصور المبكرة، انتشرت مخطوطاتها بشكل كبير في المدارس الدينية في شمال كردستان. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، تم الاعتراف بها كمُلحمة وطنية كردية. وعلى الرغم من بعض الجهود في ثلاثينيات القرن العشرين في أرمينيا السوفييتية لترويج ملحميات شفوية مثل “زمبيلفروش” لهذه المكانة، لم يتم تحدي مكانة قصيدة خاني بجدية. ولسوء الحظ، لم يواكب هذا الموقف اهتمامًا نقديًا مستداماً. في اللغات العربية والتركية والكردية، تم نشر العديد من الأعمال، لكن قلة منها تتمتع بالدقة التحليلية الكافية؛ ومن أهمها أعمال رسول (2007)، وخزندار (2010)؛ والتعليقات السطرية، التي كتبها جيهاني (2007) ودوستان (2010) ويليدرم (2013). وفي اللغات الغربية، لا تزال الدراسات حول ملحمة خاني قليلة ومتباعدة؛ حيث تركز المناقشات إلى حد كبير على مسألة وجود أو عدم وجود القومية الكردية في العمل، ولكن هذا الانشغال بالقومية وحدها ليس كافياً.
ذلك أن ميم وزين تشكل مثالًا واضحاً للتمكن، أي الاستخدام الجديد للمتحدثات الشفهية في الأدب المكتوب. لتدعيم هذه الحجة، أقترح التركيز على المعتقدات المتعلقة باللغة والحكومة التي يمكن العثور عليها في النص. حتى الآن، غالبًا ما تم التعامل مع المحتوى السياسي لـ ميم وزين من منظور المادية التاريخية، أشهرها من قبل عز الدين رسول (2007) وأمير حسن بور (1992). هنا، أود أن أبدأ من زاوية مختلفة قليلاً، مع التركيز على ما يسمى بأيديولوجيات اللغة، أي الافتراضات الضمنية وغير المنهجية إلى حد كبير حول ماهية اللغة وكيف تعمل اجتماعيًا وسياسيًا.3 يبدو أن مثل هذا النهج واعدًا بشكل خاص عند دراسة ظاهرة القومية الحديثة، التي تربط اتصالًا مركزيًا بين اللغة والسياسة. سأجادل بأن الأيديولوجية اللغوية الناشئة عن ميم وزين تختلف نوعيًا عن تلك الخاصة بالقومية الرومانسية. وبالتالي، فإن أدوات التحليل هذه تسمح لنا أيضًا باستكشاف الافتراضات المتعلقة بـ “الحداثة” الواضحة للمشاعر الوطنية المعبر عنها في ميم وزين. إن صياغة هوية كردية وطموحات كردية قد حيرت العديد من العلماء الذين يفترضون أن الهويات الوطنية والمشاعر القومية هي حديثة التعريف. في الواقع، هناك نموذج واضح في الأدب الفارسي الكلاسيكي لمثل هذا الشعور “الوطني” ما قبل الحديث. أشير بالطبع إلى شاهنامه فيردوسي الشهير، حيث يتم تحفيز الكثير من العمل من خلال مواجهة غير زمنية تقريبًا بين إيران وتوران، أو بين الفرس والترك، والتي يعود تاريخها، وفقًا للكتاب، إلى العلاقة المضطربة بين الأخوين الأسطوريين إراج وتور. ومع ذلك، ستسلط هذه المقالة أيضًا الضوء على بعض الاختلافات المهمة بين أحمد خاني وسلائفه الفارسيين في العصور الوسطى.
أين ومتى جرت أحداث هذه القصة؟
جرت أحداث القصة في عام 1393، في قصر الأمير الكردي، زين الدين، الذي كان يحكم منطقة جزيرة بوتان، المعروفة حالياً بجزرة أو كما يعرفها العرب بجزيرة ابن عمر، الواقعة على ضفاف نهر دجلة، وتقع حالياً ضمن حدود الدولة التركية. كانت جزرة وغيرها من الإمارات الكردية الأخرى، يحكمها أمراء كرد لهم نفوذهم وجيوشهم الخاصة حتى أواسط المرحلة العثمانية إذ بدأت الصراعات على تلك المنطقة الخضراء بين الصفويين والعثمانيين. بطلا القصة هما الأميرة زين، الشقيقة الصغرى لأمير الجزيرة، زين الدين، ومم، الذي كان والده يعمل في ديوان الملك وكان صديقاً مقرباً لابن الوزير، تاج الدين لكنه كان ينحدر من طبقة اجتماعية فقيرة.
بدأت الحكاية بحلم الأميرتين الجميلتين “ستي” وشقيقتها الصغرى “زين”، برؤية فارس الأحلام الذي لا يضاهيه رجل في أنحاء الإمارة، رجل يجعل قلب الأميرة ينبض بالحب والحياة وينتشلها من رتابة القصر وقوانينه وأعرافه الكثيرة. وبينما كان الجميع مشغولاً بترتيبات الاحتفال بعيد نوروز، قررت الأختان المشاركة في العيد بطريقة مختلفة واستغلال العيد لرؤية الفتيان والتقرب منهم، وكان ذلك مستحيلاً لو خرجتا كأميرات، لذا قررتا التنكر بزي الرجال. وفي صباح اليوم التالي، تباطأت زين وستي وتظاهرتا بأنهما ليستا على ما يرام، وما إن خلا القصر من معظم الحراس، حتى خرجتا متنكرتين وقد غطتا وجهيهما بوشاحين لا تظهر منهما سوى الأعين. وتجولتا بين الشبان والفتيان لكنهما لم تعثرا على شخص يليق بحبهما. وأثناء عودتهما حدث أمر غريب وظل لغزاً لأيام وليال قلب حياتهما رأساً على عقب.
في طريق العودة رأتا جاريتين تسيران بخفة ورشاقة نحوهما، وما إن وقفتا وجهاً لوجه أمامهما والتقت الأعين، حتى غابت الجاريتان عن الوعي وسقطتا أرضاً دون أن تجد الأميرتان تفسيراً لذلك. كان وقع تلك النظرات المتبادلة بينهم قوياً، ولكن كان لا بد من الإسراع في العودة إلى القصر قبل وصول الأمير، لذا استبدلت الأختان خاتميهما المرصعين بالألماس مع خاتمي الفتاتين لتهتديا إليهما لاحقاً وتعرفا سر الفتاتين. في الواقع لم تكن الجاريتان سوى شابين وسيمين تنكرا بزي النساء أملا منهما برؤية الأميرتين اللتين ذاع صيتهما في أنحاء الإمارة. كان الأول هو ابن وزير ديوان الملك المعروف بشجاعته وفروسيته، ويدعى تاج الدين، والآخر هو صديقه الصدوق والمحارب المقدام مم، ابن كاتب الديوان، لكنه من طبقة اجتماعية أدنى. وبعد صحوتهما، لم يرَ تاج الدين ومم أحداً حولهما، فظنا أنهما كانا يحلمان، لكنهما سرعان ما رأيا خواتم لا تخصهما في أصبعيهما. كان اسم ستي محفوراً على الخاتم الذي في إصبع تاج الدين، واسم زين في خاتم مم، فعلم الاثنان أن القدر أراد لهما لقاء الأميرتين وأن ما مرا به لم يكن حلماً بل حقيقة. ولكن كيف السبيل للاتصال بالأميرتين؟
لكن سرعان ما تحول فرح الشابين إلى حزن وهم لأنه ما من سبيل للاتصال أو الاقتراب من الأميرتين، وخاصة بالنسبة لمم الذي كان يعي تماماً الفارق الاجتماعي الكبير بينه وبين الأميرة. ولم تكن الأميرتان أفضل حالاً، فقد انعزلتا وحزنتا دون أن تبوحا بأمر الجاريتين اللتين وقعتا مغشياً عليهما، وشعورهما الغريب تجاههما رغم أنهما كانتا فتاتين كما ظنتا. انتبهت العرافة العجوز هيلانة، صاحبة الذكاء والحكمة لأمر الأميرتين وتوسلت إليهما بغية الكشف عن سر عزلتهما وهدوئهما غير المعتاد. باحت الأميرتان بسرهما للعجوز علها تجد لهما تفسيراً، لكن العجوز ضحكت وقالت: “هل رأيتما يوماً زهرة تعجب بزهرة أو بلبلاً يغني فوق عش بلبل آخر، وهل هناك أجمل منكما في هذه المعمورة، لا بد أنكما كنتما تحلمان بذلك أو تتوهمان”. لكن زين أقسمت بأن ذلك لم يكن حلماً ولا سحراً ولا مساً من الجن بل لديهما البرهان وهو الخاتمان. وهنا صدقت العجوز روايتهما عن جمال الفتاتين وقررت مساعدتهما في العثور عليهما. طلبت مهلة تجوب فيها أنحاء الجزيرة وتعود لهما بالخبر اليقين.
التقت العجوز هيلانة بحكيم وسردت له الحكاية مدعية أن ولداها التقيا بجاريتين جميلتين وحدث ما حدث عن التقاء نظراتهم مع الولدين. لكن العجوز كان حكيما وخبيرا بمثل تلك الأمور فقال لها، فوالله إن ما تتحدثين عنه ليس إلا علامات العشق والهيام ولا بد أن أصحاب هذه الخواتم عاشقان يعانيان من الهوى، أنصحك بأن تجوبي الجزيرة على هيئة طبيبة روحانية علك تعثرين عليهما. خرجت هيلانة تجوب أنحاء الجزيرة مدعية أنها تشفي الناس من المسّ وأمراض النفس والبدن، وذاع صيتها ووصل الخبر إلى المقربين من تاج الدين وصديقه مم، فاستدعوها لإلقاء نظرة على الشابين المهمومين اليائسين علها تصلح من حالهما ويعودان إلى سابق عهدهما. معنت العجوز في عينيهما في محاولة للتأكد من أن هذين الشابين هما الشخصان اللذان تبحث عنهما، فاستدرجتهما في الحديث أكثر ثم قالت لهما: “إن أشد أنواع الأمراض هي التي تسري من الألحاظ إلى الألحاظ، ثم تستقر في الفؤاد، تسبب رعدة في المشاعر وتسرع من دقات الصدور، وإذا نما وترعرع فهو برق يستعر في الأحشاء، ويشوي الأفئدة من غير جمر، وإذا استقر أكثر، يفتك بسويداء القلب ويجرحه وينزعه من مكانه”.
أخبر الشابان هيلانة بما رأت أعينهما يوم نوروز، وقصة خاتمي الأميرتين اللذين وجداهما في إصبعيهما بعد صحوتهما من غيبوبتهما. تأكدت العجوز أن الجاريتين ليستا سوى هذين الفارسين بعد أن شاهدت خاتم الأميرة ستي. حملها تاج الدين رسالة إلى الأميرة للتعريف عن نفسه وإخبارها بوقوعه في غرامها منذ أن رأى خاتمها في إصبعه. وتعهدت هيلانة أن تكون وسيطاً ومراسلاً بين العاشقين بعد أن رأت صدق مشاعرهما. لم يرضَ مم أن يرسل خاتم زين إليها وقال للعجوز: “أقسم لك بأن هذا الخاتم هو بقية روحي، ومن ذا الذي ينتزع روحه… لا يا سيدتي، أتشفع إليك بناري التي تذيب أحشائي وأقسم لك باسم زين أن تتركيه معي ليواسيني وقولي للأميرة زين، إنه مسكين من عامة الناس، لا يبلغ أن يكون كفؤاً لذوي الإمرة والسلطان، غير أن سهام الحب طائشة لم تفرق يوما بين فؤاد مسكين وأمير، وهو اليوم لا يتطاول إلى مركز ليس أهلاً له، ولكنه يتطلع إلى عطف من شأن الأمراء أن يشمل به عامة الناس، فحسبي أن تسألي فقط عن حالي بين الفينة والأخرى”.
تأثرت العجوز ببلاغة كلامه وصدقه، فتركت الخاتم في يده وحملت رسالة الشابين إلى الأميرتين. وعادت العجوز إلى القصر لتسر بالخبر اليقين للأميرتين. كانت اللحظة التي عادت العجوز إلى تاج الدين ومم، بمثابة لقائهما بالأميرتين اللتين سلبتا قلبيهما، كانت رسالة العجوز بلسماً لقلبيهما الجريحين. بشرتهما العجوز برسالة ستي وزين وحبهما للفارسين وبانتظار لقائهما.
فخرج تاج الدين ومعه إخوته في موكب بهي يليق بالأمير من أجل طلب يد ستي، أما مم، فقد فضلت عائلة تاج الدين تأجيل مفاتحة الأمير ريثما يصبح صهراً له فتكون له مكانة وحظوة عندما يتقدم مم لخطبة زين. كان بكو، حاجب ديوان الأمير، رجلاً خبيثاً ماكراً وفكر بحيلة للتخلص من تاج الدين لأن الأخير كان قد اكتشفه على حقيقته وحث الأمير على عزله واستبداله برجل مخلص يؤتمن على أسرار الديوان. فراح بكو يراقب تاج الدين ويرسم خططاً لخلق فتنة للتخلص من تاج الدين أو طرده من القصر على الأقل. فاكتشف أن صديق تاج الدين يعشق الأميرة زين، وأن تاج الدين يسعى إلى مساعدته للزواج من الأميرة. أخبر الأمير بذلك وقال له بأن تاج الدين يكثر من حلفائه ويخطط للاستيلاء على الإمارة ويورثها لأحفاده في المستقبل، وحتى أنه يخطط لتزويج الأميرة زين وكأنه ولي أمرها.
وهنا ثارت ثائرة الأمير زين الدين وقال: “كنت أفكر في تزويج زين من مم، ولكن ها أنا أقسم الآن بأنني لن أدع لهذا الزواج سبيلاً حتى لو تقدم إلي بهذا الرجاء خيرة الأمم وسالت الدماء أنهاراً من حولي، فلن يتم هذا الزواج”. لم يفهم أحد سبب رفض الأمير القاطع لمم وهو من خيرة الفرسان، وباتت زين رهينة حجرتها لا تفارق الدموع عينيها، وفقدت رونقها وجمالها الذي كان يضرب به المثل وعزفت عن الكلام وأصابها الوهن وباتت تلقي أشعاراً وتحدث الجدران والطيور والأشجار تبوح لهم بعشقها لمم الذي كتب عليهما الفراق إلى الأبد. أما مم، فخارت قواه، ولم يعد ذلك الفارس المقدام، بل مهلهلاً واهناً يسير على ضفاف نهر دجلة جيئة وإياباً، أو يسير نحو الجبال شارداً، ولم يعد يرى ما يستحق العيش من أجله في الحياة إن لم يحظ برؤية من سلبته قلبه. وبعد شهور من العزلة والوحدة في حجرتها، خرجت زين إلى حديقة القصر تتمشى وحيدة محدثة الأشجار والأزهار والطيور بعد أن خلا القصر من الحاشية التي رافقت الأمير إلى رحلة الصيد وخيم السكون عليه.
وفي تلك الأثناء، كان مم يمشي قريبا من القصر وأصبح داخل أسوار حديقة القصر دون أن يعي ذلك، فقد كان شارد الذهن ومتعباً منذ أن رفض الأمير تزويجه أخته. لاح لزين خيال مم من بعيد.. أهو مم حقاً؟ أم خيال من خيالاتها المعتادة؟ أم معجزة من الله أم هدية السماء؟ راقبته زين عن بعد وهو يسير في الحديقة، كان يتحدث مع نفسه وقد أعياه التعب، فتارة يستند إلى جذع شجرة وتارة يقف أمام الأزهار في صمت وهدوء. وعندما اقترب مم ورأى وجه زين النحيل، سقط أرضاً وسقطت زين بجانبه من هول الحب والمفاجأة. وبعد مدة، استيقظت زين من غيبوبتها ورأت أن مم لا يزال ممدداً دون حراك، وراحت توقظه من غيبوبته برأفة وهدوء. ولأول مرة، بعد ذلك اليوم من لقائهما الأول في زي التنكر في نوروز، ألتقت عينا مم بعيني زين عن قرب، ورأى وجهها الباسم وعينيها السوداوين الدامعتين وشعرها المنسدل على جبينه، ورأسه على ركبتيها، أهو حلم أم شاء القدر أن يمنحه فسحة من الأمل؟ عقد لسانهما الحياء، وظلا ينظران إلى عيني بعضهما البعض لفترة دون التفوه بكلمة، ولم يُسمع في ذلك السكون سوى دقات القلب وخفقان الصدر. ثم نطق مم بأول كلمة وسألها “أأنت قلبي؟ أأنت حقاً زين أم تراني أحلم كعادتي؟”. أخذت زين يده بيدها، وقالت بل أنا هي ونحن في قصرنا، ألا تذكر؟”.
كان صوتها بلسماً لآلام وعذابات ليال وشهور، شعر بقلبه يطير فرحاً لأنه حظي برؤيتها قبل موته، بل كان سخاءً إلهياً لأنه استطاع لأول مرة أن يسمع صوتها ويتحدث معها لساعات طويلة حتى أدركهما الوقت وانسدلت خيوط المساء، ووصل الأمير وحاشيته إلى حديقة القصر دون أن يشعرا بذلك. لم تستطع زين الهرب إلى الداخل، فاختبأت تحت عباءة مم، وجلس مم ولم ينهض عند وصول الأمير قائلاً له: أعتذر عن عدم نهوضي لتحيتك يا مولاي، ربما سمعت أن المرض أعياني فلست أستطيع الوقوف وقد أعياني تعب المشي حتى وجدت نفسي هنا في الحديقة دون أن أعلم أنني في قصركم”. قبل الأمير عذره، وجلس الجميع ليرتاحوا في الحديقة، لكن تاج الدين علم أن هناك أمرا جللاً منع صديقه مم من النهوض، واستدركه بإشارة من عينيه عن السبب، فأراه مم طرفاً من ضفيرة زين من تحت عباءته.
أدرك تاج الدين حجم الكارثة التي تنتظر صديقه، فهرع إلى قصره وأضرم النيران فيه، فعلت الأصوات وركض الجميع لإطفاء النيران، وكانت تلك فرصة ليتباطأ مم في النهوض وتختفي زين عن الأنظار بسرعة. لقد ضحى تاج الدين بقصره لإنقاذ صديقه، ولكن لم تنته المكائد التي كان يحيكها بكو، حاجب الديوان، للإيقاع بمم وتاج الدين. أوغر بكو صدر الأمير ضد الصديقين عندما قال له بأن هناك قصة حب ملتهبة بين الأميرة زين ومم، وأن سيرة عشقهما على جميع ألسنة الإمارة. فطلب منه الأمير البرهان على قوله، فخطرت ببال بكو فتنة جديدة وراح يقول له أن يدعوه لمبارزته في لعبة الشطرنج في قصره بشرط أن يلبي الخاسر طلب الرابح، وأنه سيخطط ليجعل مم يخسر وهو المعروف بمهارته في لعبة الشطرنج. دعا الأمير مم إلى اللعبة وقال له بنبرة متحدية أن يبارزه في اللعبة شريطة أن يلبي الخاسر طلب الرابح مهما كان.
فرح مم بهذه المبارزة وهو يعلم أنه من أمهر لاعبي الشطرنج، لكن بكو وبعد أن بدأت جميع الفتيات يتفرجن على اللعبة من النافذة المطلة على القاعة، طلب من مم أن يجلس في مقعد مقابل النافذة دون أن يدرك أحدهم السبب. وعندما بدأ اللعب وسط حضور كبير، وقعت عينا مم على زين فلم يعد قادراً على التركيز في اللعب بل بالأميرة وابتسامتها من بعيد. فخسر الرهان خمس مرات متتالية، فطلب منه الأمير باعتباره الرابح، أن يحدثه مم عن سر فتاة أحلامه التي تشغل باله. تفاجأ مم بالطلب وصمت دون أن يتفوه بكلمة، ثم أنطقه بكو مستفزاً إياه بقوله: “إنها جارية قبيحة لمحها ذات مرة وربما يخجل من الحديث عنها ووصفها”. أجابه مم سريعاً، ناسياً وجود الأمير: “خسئت، فحبيبتي رفيعة المجد لا يضاهيها البدر، رائعة الجمال لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها، أصيلة النسب لا ينازعها أحد فهي أميرة الجزيرة”.
وما أن تفوه بذلك، حتى جنى بذلك على نفسه واقتيد إلى السجن، بسبب جرأته وتطاوله في وصف الأميرة أمام الجميع. مكث مم، عاماً في السجن، يقول الشعر في حبيبته للجدران القاتمة، ومرض حتى أكل المرض منه جسده، وظل الأمير رافضاً العفو عنه بعد كل الوساطات التي تدخلت بالأمر. وفي النهاية قرر تاج الدين أن يثور على الأمير وألا يخرج من القصر إلا ومعه صديقه مم السجين حتى لو أدى ذلك إلى نشوب حرب وسفك دماء.
وبعد عام من السجن، قرر الأمير زيارة أخته زين في حجرتها والسؤال عن أحوالها ومن ثم التخطيط لحيلة توقع بصهره تاج الدين، بعد أن وسوس له مرة أخرى الحاجب بكو بقوله أن صهره تاج الدين سيتمرد عليه ويجلس مكانه.
لكنه صدم بما رأت عيناه عندما التقى بزين، كانت مريضة هزيلة شاحبة وتحتضر، ولا تقوى على الكلام إلا بصعوبة، بل كانت تقذف دماً عند السعال. أصاب زين الدين الندم بعد أن رأى حال أخته، وقرر أن يعفو عن مم الذي كان على وشك الموت في سجنه، وفكر في سبب كل ذلك منذ البداية، فندم على ما فعله بمم وأخته. لكن كان الوقت قد تأخر كثيراً وكان مم يعيش ساعاته الأخيرة. كانت زين تحب أخاها رغم كل ما فعل بها، وكانت تدعو له بالخير والأمن والفرح وهي تحتضر. فحملها زين الدين إلى مم سريعا، عسى أن تعود إليها عافيتها برؤية الحبيب وأقسم أن يزوجهما حالما تقوى على المشي وتتعافى.
نظر مم إلى باب السجن، وإذا بزين على الباب، ظن أنها شبح أو خيال، فراح يبتسم لها ويلقي الشعر عليها، كلمات أبكت كل من في القصر، لكنها اقتربت منه وتحدثا بصعوبة بالغة لبضع ساعات حتى فارق مم الحياة بين يديها وهو يبتسم واصفاً نفسه بأسعد إنسان لأن أمنيته في رؤية وجه حبيبته قد تحققت قبل أن يفارق الحياة. خرج تاج الدين ينوح على صديقه ويجوب القصر كالمجنون على فراق توأم روحه، فصادف بكو في طريقه وقد علم بما كان يفتن فأرداه قتيلاً. ولم يتحمل قلب زين المتعب أصلا موت حبيبها وفارقت الحياة في الليلة نفسها، ودفنا معاً في قبرين مجاورين لتخليد قصة حبهما التي نبتت في الأرض وأينعت في السماء، كما دُفن بكو الخوان تحت قدميهما ليلعنه كل من يزور قبر الحبيبين. وبات قبرا الحبيبين الواقعين في جزيرة بوطان مزاراً يقتاده العشاق.
القومية في مم و زين
تمتعت قصة مم و زين بجاذبية فورية كقصة حب مأساوية، والتي تتعمق وتثري من خلال التناقض الذي تقدمه احتفالات نوروز وحفل زفاف ستي وتقي الدين وليلة زفافهما، بالإضافة إلى قصص الصيد والقتال والشجاعة. على مستوى آخر، أشار إليه خاني نفسه صراحة، يمكن قراءة السرد على أنه استعارة للحب البشري والإلهي، أو كما يسميه، الحب “المجازي” والحب “الحرفي” (البيت 2). في مثل هذه القراءة الصوفية المجازية، يمكن قراءة كل حديث عن الحب بين البشر على أنه يشير حقًا إلى مراحل الحب البشري لله. علاوة على ذلك، يقترح خاني أنه على وجه التحديد من خلال البقاء غير مكتمل وغير مكتمل، يمكن تنقية الحب بين البشر وتحويله إلى حب الله.
ومع ذلك، منذ أواخر القرن التاسع عشر فصاعدًا، اكتسبت القراءة القومية العلمانية أهمية، ويبدو أنها أصبحت بالفعل التفسير السائد للملحمة. تفسر هذه القراءة المصير المأساوي للعاشقين على أنه استعارة لعجز الكرد عن الاتحاد وتحرير أنفسهم. يبدو أيضًا أن القراءة القومية العلمانية قد حظيت باهتمام أكبر في الأدب الأكاديمي. كما تلقي المناقشات العديدة حول القومية المزعومة في مم و زين بظلالها على الاهتمام بأبعادها الصوفية، على الرغم من ظهور الأخيرة في جميع أنحاء العمل؛ في الواقع، بشكل أكثر بروزًا من أي إشارات سياسية. ومع ذلك، حتى عند دراسة سياسات العمل، ينبغي عدم التوقف لدى فحص المقدمة الشهيرة أو الديباجة فقط، والسعى لاستكشاف ما تقوله الفصول الأخرى عن الكرد وحكامهم الشرعيين، وعن الحكومة بشكل عام. ويكشف التحليل الأكثر شمولية أن العلاقة بين المشاعر القومية الحديثة، وتصوف العصور الوسطى، الظاهر جليا في العمل، أكثر تعقيدًا مما قد يتخيله المرء للوهلة الأولى. وفي كثير من الحالات، فإن القراءة الصوفية للقصيدة تثير إشكالية أو حتى تتعارض مع رسالتها السياسية.
ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، يعتبر الحب بكل أشكاله وأنواعه موضوعًا رئيسيًا في القصيدة. لذلك، فإنه من المنطقي أيضًا قراءتها باستخدام الأدوات النظرية لتاريخ الجنسانية. كما أن التركيز على الجندر والجنسانية له صلة أيضًا بدراسة القومية الحديثة، التي غالبًا ما تُفهم بمصطلحات جنسية صريحة على أنها حب الوطن، وتتضمن تغييرات نوعية في الهويات الجنسية والعلاقات بين الجنسين. تصور ملحمة مم و زين، عاشقان منحوسان منعوا من الزواج، ثم يضمحلان تدريجيًا ويموتان في النهاية دون استكمال حبهما.
ظلت نسخة خاني لفترة طويلة تحظى بشعبية في دوائر المدرسة (الشمالية) الكردية. وصل إلينا عدد كبير نسبيًا من المخطوطات من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في الواقع، لها مكانة فريدة في الأدب الكردي. لذا، في أواخر القرن التاسع عشر، تمت ترقيتها إلى مرتبة “الملحمة الوطنية” الكردية من قبل القوميين الكرد الذين يعيشون في اسطنبول، مثل أفراد عائلة بدرخان والشاعر الكردي الجنوبي حاجي قادر كويي (حوالي 1817-1897)، وهي المكانة التي تم تعزيزها كذلك من خلال طبعاتها اللاحقة. في الوقت الحاضر، توجد مطبوعات مختلفة من عمل خاني متداولة، سواء في النسخة الأصلية أو في الترجمات الكردية المعاصرة، ناهيك عن الترجمات إلى لغات أخرى. علاوة على ذلك، استمرت أشرطة الكاسيت للنسخ الشفوية لعقود من الزمان في الانتشار سراً إلى حد ما في تركيا؛ في عام 1991، تم إصدار فيلم باللغة التركية بعنوان الكردي “مم و زين”، تلاه مسلسل تلفزيوني كردي عراقي بعنوان “ممي آلان” في عام 2002.
لا شك أن قصة خاني قد ألهمت أجيال عديدة من القراء الكرد، في البداية بشكل أساسي في الدوائر المحافظة، ولكن بشكل متزايد أيضًا في البيئات العلمانية. يقرأ القوميون الكرد على نطاق واسع هذه القصة عن العشاق التعساء كاستعارة للمصير السياسي للكرد. ومع ذلك، وعلى مستوى آخر، يمكن قراءة القصة على أنها استعارة صوفية، حيث يكون الحب بين البشر مجرد “حب مجازي” (عشق مجازي)، والذي يرمز بشكل مجازي إلى الحب الإلهي الحقيقي أو الحرفي (عشق حقيقي). ويبدو أن هذه هي القراءة التي فضلها خاني نفسه؛ إذ كتب أن قصيدته تهدف إلى “إعلان جمال الحب” (ظهور جمال العشق). في مثل هذه القراءة الصوفية، فإن قصة الحب غير المكتمل بين اثنين من البشر ليست استعارة سياسية، ولكنها صورة عاكسة غير كاملة للحب الإلهي الحقيقي. كما أنه يصف تحول الحب البشري إلى حب إلهي كعملية خيميائية: على وجه التحديد لأن الحب بين مم و زين لم يكتمل، ومع ذلك ظل نقيًا، ويمكن تحسينه أو تحويله إلى حب روحي خالص لله. وقد ظلت هذه القراءة سائدة لفترة طويلة في الدوائر التقليدية المحافظة التي نشأت منها.
ولكن بغض النظر عن القراءة التي يفضلها المرء، فمن الواضح أن هذه الأنواع المختلفة من الحب هي محور قصة خاني. وهي تشمل كل من الحب الصوفي للإلهي والحب الدنيوي بين البشر؛ كما أنها تتميز بالحب الروحي والرغبة الجسدية. وبالنظر إلى هذا الوجود شبه الكلي للحب في مم وزين، فمن المنطقي إعادة قراءة القصيدة بمساعدة الأدوات التحليلية لدراسات النوع الاجتماعي المعاصرة وتاريخ الجنسانية. ففي الواقع، تعد ملحمة خاني صريحة بشكل ملحوظ حول جوانب مختلفة من الجنسانية التي يُنظر إليها في المجتمع الكردي في القرن الحادي والعشرين على أنها إحراجات، إن لم تكن من الموضوعات المحرمة، مثل الجنس الصريح والرغبة الجنسية المثلية. وعلى الرغم من أن خاني ينحدر من بيازيد (ضياء الدين اليوم)، وهي منطقة نائية نسبية على الحدود العثمانية الصفوية، إلا أن قصيدته المتنوّعة تعتبر جزءًا لا يتجزأ من تقاليد ثقافية أوسع نطاقًا ومتعددة الجنسيات، انتقلت شفهيًا وكتابيًا. امتدت هذه المنطقة الثقافية، التي بدأنا نفهم مدى تعقيدها تدريجيًا، من البلقان عبر الأناضول وهضبة إيران وصولاً إلى وسط وجنوب آسيا. شملت هذه المنطقة الشعر الفارسي، وكذلك اللغات المحلية العامية بنسبة عالية، وإن كانت متغيرة.
للمزيد يمكن الرجوع إلى
جان دوست: أدباء الكرد الكلاسيكيون ومسألة اللغة .. أحمد الخاني نموذجاً
عدنان بوزان: أحمد خاني صوت كوردستان الخالد
هيفار حسن: عيد الحب “مم وزين” قصة الحب التي أبكت الفقهاء
Mucahit Bilici: Ehmedê Xanî’s Political Philosophy in Mem û Zîn, in Gunes M. Tezcur (ed): Kurds and Yezidis in the Middle East: Shifting Identities, Borders and the Experience of Minority Communities, (IB Taursi, Kurdish Series), 2021
Michiel Leezenberg: Nation, kingship, and language, The ambiguous politics of Ehmedê Xanî’s Mem û Zîn, Kurdish Studies, Society of history and cultural studies, Hong Kong, vol. 7(1), pp 1-20
Michiel Leezenberg: “The Kurds Have Not Made Love Their Aim”: Love, Sexuality, Gender, and Drag in Ehmedê Xanî’s Mem û Zîn, International Journal of Middle East Studies (2022), 54, 705–724