أزمات الشرق الأوسط ومستقبل المشهد الإقليمي
تحليل: د. رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية
توطئة
تتبع الولايات المتحدة الأميركية دائماً خطوات إستراتيجيةً معقّدة ومتشعبة، تهدف للحفاظ على نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، من خلال خلق أو دعم قوى متنافسة فيما بينها، من أجل أن تبقى ضابط إيقاع وحيد، إذ تُعدّ هذه الإستراتيجية جزءاً من سياسة الولايات المتحدة التاريخية في المنطقة، وكان أبرز المنظّرين والداعين لها وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، هذه السياسة التي تمتد لعقود، وتظهر في شتَّى أبعاد العلاقات السياسية والعسكرية والإقتصادية، تهدف بمجملها إلى إبقاء دول المنطقة في حالة توازن لكن غير مستقر، بحيث تظل واشنطن اللاَّعب الأساسي الذي يحدد مسارات الأحداث، ويضمن إستمرار نفوذها فيها.
فالمستقبل الذي ينتظر منطقة الشرق الأوسط، مرتبط بمصير التسويات السياسية المطروحة، لملفات سوريا ولبنان وليبيا واليمن والسودان، وبالطبع فلسطين وشعبها، وطبيعة الترتيبات الإقليمية والدولية في دول المشرق والعراق، وقدرة التكتلات العربية والقومية، على لعب دور فاعل على الصعيد الإقليمي، وصعود اليمين الأميركي والأوروبي، وأثره على العلاقات مع الشرق الأوسط، وإتجاه المنطقة في ظلِّ الصراعات الإقليمية الراهنة، وتدخُّل القوى الخارجية الدائم، بسبب الربط الكولونيالي لزعامات هذه الدول، بالمتروبول الإستعماري العالمي النيوليبرالي الناهب لثروات الشعوب، والمنفِّذ لعمليات تطويعها والتسلُّط عليها.
وهنا يقول المفكر والمناضل الأممي “عبدالله أوجالان” في إستعراض شروحاته لتاريخ المدنية وفكرة الدولة القومية: “بأن أساس تكتل جميع الأمراض الإجتماعية وقضاياها المجتمعية التي شهدتها المدنية، يعود الى قوة السلطة وإستثمارها لقمع المجتمع وإستغلاله بصورة خاصة، وممَّا يزيد في الغموض من أجل جلاء الأزمات التي تعترض تطوير الدول ونموها، هو الغموض عبر إتخاذ أنموذج الدولة القومية ذات الحزب الواحد، في ظل الإشتراكية المشيدة مثالاً، والبنية الشائكة على إنكار حق الأقليات، تحت ستار الإتهام بجرم الإنفصالية وتجزئة البلاد، وهو غشٌّ متعمد وتزييفي يمارَس ويزيد من الغموض، إذ أن الأحزاب في هذه الدول القومية، أدت دورها كوسيلة للإستيلاء على سلطة الدولة القومية، أو نقل السلطة الى المجتمع وتأمين شرعيتها.(1)
حروب الشرق الأوسط وأثارها الإستراتيجية
لن نذهب عميقاً في تاريخ صراع الشرق الأوسط، فقد عرفت المنطقة منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، سلسلة من خمس موجات من الحروب، بدأت بما يمكن تسميته بالحروب الإقليمية التقليدية، بين إسرائيل والدول العربية غيَّرت المشهد الإستراتيجي للمنطقة، وأظهرت فجوة القوة العسكرية، بين القوى الرئيسية للصراع، المتمثِّلة في التفوُّق العسكري الإسرائيلي، وتحييد مصر عن الصراع العربي الإسرائيلي، وبدء الخلافات في النظام العربي الرسمي ودول الطوق، مع توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978، وهذا كان بداية لبحر من التراجعات لإحتمالات الصدام المسلح، بين الجيوش العربية الكلاسيكية والجيش الإسرائيلي، والتعويض بمقاربة السلام مع إسرائيل، والتسليم بالوضع القائم.
إن عملية ستاتيكو تجميد الحروب التقليدية بين العرب وإسرائيل، أدى إلى ظهور الموجة الثانية من الصراع القائم، على حرب الجماعات العسكرية من غير الدول ضد الجيوش التقليدية، في مقدمة هذه الجماعات منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها، التي قاتلت إسرائيل في جنوب لبنان، والقوات المسلَّحة للكرد في العراق وتركيا، ومجاهدي خلق في إيران، وقد إستمرت هذه الموجة، بواسطة تجديد قواها من الجماعات العسكرية المسلَّحة، مع ظهور جماعة حزب الله في لبنان، لإخراج الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، ثم حركة حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، التي عوَّضت عن الإيديولوجية القومية العربية، بالإيديولوجيا الدينية الإسلامية.
الى أن أتت حرب ما يسمّى بمرحلة ما بعد داعش، التي ركَّزت على عمليات التفكيك والضغط، على جماعات الإسلام السياسي من أجل تبنِّي العمل العسكري المسلَّح، لتعويض داعش والجماعات الراديكالية المسلحة، وتغذية الصراع بين الجيوش العربية وجماعات الإسلام السياسي، ونتيجة لمجموعة من التطورات في طرق المذاهب العسكرية، والبنية الإقتصادية والسياسية في النظام الدولي، ظهرت موجة من الحرب الدولية في المنطقة، بدأت بعاصفة الصحراء عام 1991، وإنتهت بالغزو الأمريكي_البريطاني للعراق عام 2003، جرت بين القوى العظمى والدول الضعيفة، من أجل تغيير طبيعة المشهد الإستراتيجي الإقليمي بشكل جذري، وقد تميَّزت بثورة المعلومات في الشؤون العسكرية، وهيمنة الأحادية القطبية على التوازن الإستراتيجي الدولي، وأدَّت لإختفاء القوة العسكرية العراقية من التوازن الإقليمي، وزيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، مع تراجع الدور المصري والجامعة العربية، وإنتشار نفوذ الجماعات الإسلامية الراديكالية المسلحة.
بعد ذلك، كان هناك نوع من الحروب في الشرق الأوسط، سمِّيت بالحرب العالمية على الإرهاب، كنتيجة لضرب تنظيم القاعدة لقلب أميركا في 11 سبتمبر ايلول 2001، وظهور دور الجماعات المسلحة، كتنظيم القاعدة في عدد من البؤر الجيوستراتيجية الجديدة، وكانت أكثرها بروزاً ظهور تنظيم الدولة الإسلامية(داعش)، وسيطرته على مناطق واسعة من سوريا والعراق في عام 2014، الذي قوبل بتشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة عام 2014، حيث خلَّفت ندوباً وآثاراً إستراتيجية، بسبب تمزيق بنية المجتمعات السوسيولوجية، وأقحمت الطوائف الدينية والإثنيات في الحرب، مما وضع مفهوم الدولة القومية، محل تساؤل حرج، والعودة بالدولة العربية الوطنية إلى المربع الأول لعام 1945.
أما المرحلة الأخيرة فهي مرحلة حرب ما بعد داعش، التي ركَّزت على تفكيك وإتقان عمليات الضغط على جماعات الإسلام السياسي، لتهيئة المسرح العسكري، وتغذية الصراع بين الجيوش العربية وجماعات الإسلام السياسي، وغسل جيل جديد من الجماعات الرافضة لأفكار الديمقراطية والتعددية، والمتبنِّية للعمل المسلح ضد القوى المسلحة الوطنية، وهي الوضعية التي أنهكت موارد الدول، وأدَّت في نهاية المطاف إلى تفكيك ما تبقى من الدول القٌطْرية، هذا الصراع والتفكيك بواسطة الفكر الديني المتشدد، رفض عمل الأحزاب، وركَّز على فتاوى تصنيف الناس داخل المجتمع الواحد، على أساس أحكام العقيدة، في البدعة والسُّنة، والتشكيك في كل عقائد وأفكار كل من يخالفهم في التفكير والعقيدة والدين.
البعد التاريخي للصراع في الشرق الأوسط
تزايد الإهتمام الأميركي بالشرق الأوسط منذ بدايات القرن العشرين، وبشكل كبير بعد الحرب العالمية الثانية، حين أصبحت المنطقة محوراً رئيسياً في الصراع الجيوسياسي خلال الحرب الباردة، بين أميركا والإتحاد السوفياتي السابق والمنظومة الإشتراكية، ومع الطفرة النفطية، إزدادت أهمية الشرق الأوسط إقتصادياً وإستراتيجياً، أدركت حينها واشنطن أن عملية بقائها قوة عظمى على مستوى العالم، تتطلَّب سيطرة ونفوذاً كبيرين في هذه المنطقة الحيوية الغنية بالموارد.
لكن سياسة واشنطن واجهتها مشكلة، تتعلق بتعدُّد القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، حيث تتنوع الدول والقوى الإقليمية بتوجهاتها وأيديولوجياتها، ولذلك عمَلت على إبتكار الحل من خلال إيجاد توازنات بين هذه القوى المختلفة، فدعمت بعضها ضد البعض الآخر بما يحقق مصالحها، لتصبح الولايات المتحدة القوة الأكبر المسيطرة، التي يمكنها التدخّل لضبط الإيقاع، إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة، ولتحقيق هذا الهدف، إعتمدت الولايات المتحدة منهج سياسة التباعد بين الدول وبين أبناء الشعب الواحد، مستفيدة من حال الإهتراء الحاصل في النظم السياسية لبلدان الشرق الأوسط، وكذلك من حال التفكُّك الإجتماعي البنيوي، والتخلُّف الإقتصادي والتصنيعي التنموي، فعزَّزت سياسة تحفيز التنافس بين الدول والقوى الإقليمية، لضمان عدم تكوين تكتل موحّد، يهدّد مصالحها، من خلال سياقات ومحطات تاريخية وأحداث كبرى، كان أولها الحرب العراقية_الإيرانية عام 1980، التي أرادت فيها الولايات المتحدة إشغال النظام العراقي برئاسة صدام حسين آنذاك في ثمانينيات القرن العشرين، لإضعاف الثورة الإسلامية في إيران، والتي كانت برْعماً وقيد الإنشاء حينها، إعتبرتها واشنطن أنها شكَّلت “تهديداً واضحاً للمصالح الغربية في المنطقة”، لكن الولايات المتحدة هدفت إلى إبقاء العراق وإيران في حالة صراع، حتى لا تبرز أي منهما كقوة إقليمية كبيرة، يمكن أن تهدّد إستقرار المنطقة حسب الرؤية الأميركية، وتقوم بعملية الإحتواء المزدوج كنظرية في العلاقات الدولية، ربما أثبتت فعاليتها لثماني سنوات من عمر تلك الحرب، ورغم الدعم الأميركي الواضح للعراق، عَمَدت واشنطن الى تزويد إيران بأسلحة نوعية فيما أصبح عُرف بــ”إيران غيت”، في تأكيد للتوجُّه الأميركي.
كذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية، وبما تمتلكه من إرث لعلاقات إستراتيجية وتاريخية، كحليفٍ ً أساسي مع المملكة العربية السعودية، إستدركت أهمية الحفاظ على توازن القوى بين السعودية وإيران، الدولتين الكبيرتين في المنطقة،على إعتبار أن أي تصاعد للنفوذ بينهما، بشكل كبير يخرج عن السيطرة، بسبب تعزيز المنطق المذهبي والإستقطاب الطائفي مؤخراً، قد يؤدي إلى تغيّرات غير متوقعة في ترتيب النظام الإقليمي، فتدعم الولايات المتحدة السعودية عسكرياً وإقتصادياً بشكل مباشر، لكنها في الوقت نفسه تتجنّب التصعيد المباشر ضدَّ إيران، ممَّا يضمن إستمرار حالة التوتر التي تخدم مصالحها، وكانت فترة حكم شاه إيران، شاهد بارز عن توجُّهات الإدارات الأميركية المتعاقبة، حيث لعبت إيران دور شرطي الخليج بتحالفها مع الولايات المتحدة.
ومن أجل إستكمال هيمنتها إعتمدت الولايات المتحدة الأميركية، مع إندلاع الثورات في عدة دول عربية عام 2011، نهجاً مغايراً، فدعمت بشكل غير مباشر جماعات مختلفة راديكالية أحيانًا داخل الدولة الواحدة، مثلما حدث في سوريا، فعلى الرغم من معارضتها العلنية لنظام الأسد، تجنّبت الولايات المتحدة دعم معارضة موحّدة، مما أدّى إلى نشوء جماعات متنافسة ومتناحرة داخل سوريا، لإبقاء النزاع تحت السيطرة، وإضعاف قدرة أي طرف في التفوق على الآخر، رغم محاولة روسيا الإستحواذ الكامل على سوريا كخط دفاعي خلفي لأمنها القومي على المتوسط، في حين أتى التهديد من جارتها أوكرانيا وبدفع غربي غير مسبوق، فتعطَّل أي حل أو حوار من أجل مستقبل سوريا كأحد أهم الدول الفاعلة في الإقليم.
لكن المشكلة الأخطر، هي أنه منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، تبنّت الولايات المتحدة دعماً غير محدود لهذه الدولة، وحافظت في الوقت نفسه، على مستوى معيّن من العلاقات مع بعض الدول العربية، مستغلة الصراع العربي_الإسرائيلي، لخلق نوع من التوتُّر المستمر الذي يبرر تدخّلها، ويتيح لها أن تكون الوسيط الرئيسي في أي عملية سلام محتملة، وكان مهندس تلك التوجهات هنري كيسنجر، الذي مارس دوراً سياسياً متقناً في جذب مصر الى المعسكر الغربي آنذاك، وسلْخها من تحالفها مع السوفيات، وفي الوقت عينه، كان له دور مفصلي في دعم إسرائيل، وكان له ما أراد في إتمام صفقة كامب دايفيد.
ومن خلال القراءة والإستعراض التاريخي للأهداف الأميركية وسياسة خلق التنافس، نجد أن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذه الإستراتيجية، إلى تحقيق عدة أهداف تتعلق بضمان التفوق العسكري والإقتصادي لواشنطن، التي تعتبر أن توازن القوى في الشرق الأوسط، يضمن عدم بروز قوى إقليمية قد تهدد المصالح الأمريكية، أو تشكل تحديًا لنفوذها، ولذلك، دعمت بقاء النزاعات بين القوى الإقليمية من أجل عدم تكتلها أو تحالفها ضدها، وكذلك حقَّقت الإستقرار وفق مصالحها، حيث أن حالة ما يمكن تسميته بـــ”الاستقرار غير الثابت” أو التوتر المستمر، هو أفضل خيار للحفاظ على مصالحها، وكلَّما بقيت النزاعات بين القوى المحلية، زادت حاجتها إلى الحليف الأميركي، الذي يتدخّل عند الضرورة للحفاظ على هذا التوازن.
ولذلك عملت واشنطن على تعزيز النفوذ السياسي والإقتصادي لبلادها لإبقاء الحاجة ملحة في الإعتماد عليها، بإتباع نهج وسياسة تتيح الدعم الأميركي المتفاوت لقوى إقليمية مختلفة، وتعزيز النفوذ السياسي والإقتصادي لها أكثر، حيث تعتمد دول المنطقة بشكل كبير على الأسلحة والمساعدات الإقتصادية الأميركية، ما يجعلها أكثر قابلية للتأثر بالسياسات الأميركية، فكلما زاد إعتماد الدول في الشرق الأوسط على الدعم الأميركي لضمان توازنها مع الدول المجاورة، ضمَنت واشنطن بقاء نفوذها وفرض سياساتها في المنطقة، بما يخدم مصالحها الإستراتيجية.
فقد واجهت هذه الإستراتيجية الأميركية لعقود تحدّيات عدة رغم نجاحها، بسبب حالة الإستنزاف المستمرة للموارد والبنية التحتية في دول المنطقة بسبب الحروب، وزيادة الإنقسامات الداخلية، إضافة الى بدء بروز قوى جديدة في الساحة، مثل الصين وروسيا، اللَّتين تحاولان إستغلال هذه التوترات لتعزيز نفوذهما في المنطقة، كما أدّت هذه السياسة، إلى تعقيد العلاقات الأميركية مع بعض حلفائها التقليديين، الذين بدأوا يبحثون عن شركاء جدد، أو نسج إستراتيجيات مستقلة، تخفِّف من إعتمادهم على الولايات المتحدة، كالمملكة العربية السعودية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي.
هذا الإستعراض للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، له أبعاده كونه مرتبط بسياقات إستعمارية ونهب للثروات ولمقدرات الشعوب، وكون منطقة الشرق الأوسط يؤثر فيها الأميركي بشكل قوي ومباشر، وبربط المنطقة ودولها الغنية بنسيج تحالفات إستراتيجية لا يمكن الفكاك منها، وبالتالي موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، هو الأساس في صراع المنطقة، على إعتبار أن واشنطن بيدها الحل والربط فيه، والإعتماد عليها دائم بهذا الشأن، ولذلك فإن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والتي تقوم على خلق قوى متنافسة وإستثمار حالة التوتر لضمان نفوذها، تعكس فهماً عميقاً لأهمية هذه المنطقة على المستويين الإقتصادي والجيوسياسي، ورغم ما قد تبدو عليه هذه الإستراتيجية من نجاح في إبقاء واشنطن القوة المهيمنة، إلّا أنها حملت مخاطر جعلت من مستقبل هذا النفوذ غير مضمون، خاصة مع تزايد الوعي الإقليمي، بضرورة البحث عن حلول أكثر إستدامة، لتحقيق الإستقرار بعيداً عن التدخلات الخارجية، خاصة بعد إنكشاف سياستها أكثر، بالتعامل مع شعوب المنطقة ومستقبل أجيالها، وفي إستدامة الطاقة والموارد والبيئة وغيرها، من سياسات إقتصادية عبثت بها أميركا، عبر مشاريعها الربحية الخالصة، دون إقامة الإعتبار للمنطق الإنساني والحياتي اليومي.
مثلَّث فواعل القوة في الشرق الأوسط
بالحديث عن إشكاليات المصطلح المتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، فهناك ثلاث مكوِّنات يجب التنبُّه لها والتمييز بينها، وتحديد تفاعلاتها: أولها المكوِّن العربي، وثانيها المكون الإقليمي (تركيا وإيران وإسرائيل)، والثالث المكون الدولي الحاضر بأساطيله وترساناته العسكرية المتطورة، ومصالحه في منطقة الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي يُفترض أن يكون المكون العربي كونه الأكبر والحاوي والضامن لبقية المكونات الأخرى، هو الأكثر صلابة وتأثيرًا في صنع مستقبل المنطقة، والأكثر ثقلًا من الناحية الجغرافية والسكانية، إلاَّ أن الكتلة العربية مثَّلت الحلقة الأضعف، مقارنة بمثيلاتها الإقليمية والدولية، وبالذات أمام المحور الروسي_الصيني، والأميركي_ الأوروبي.
عدا عن ذلك، هناك أعداداً كبيرة من دول هذه الكتلة الضعيفة عربياً، تواجه مشكلات حادَّة داخلياً وخارجياً، تظهَّرت عبر بُعدين إثنين: يتمثل البُعد الأول في الأنظمة المستبدة، والبعد الثاني في غياب إشراك الشعوب في القرار، إلى جانب أزمة الهوية ومحاولات إضعاف الدولة الوطنية بطروحات إسلامية أو قومية، فهي أزمات بنيوية، عميقة تتطلب وقتًا طويلًا للتغلَّب عليها، بحال توافرت الإرادة الحقيقية لذلك، وأن العالم العربي ودول الشرق الأوسط فيه بالتحديد، ستبقى الطرف الأضعف، ما لم يتم التوصل الى حلول في النظامين الإقليمي والدولي، كما أن هناك بعض الأطراف الإقليمية الأخرى، كتركيا وإيران، اللّتان تمتلكان مشاريع تتمدد في هذا الفراغ العربي والمشرقي، كذلك المشروع الصهيوني، فهو المشروع الحقيقي للهيمنة الإستعمارية المباشرة، وليس هناك طريقة يمكن التعامل معه بها لحدِّ الآن(2).
إذن فالشرق الأوسط، منطقة وأرضٌ موبوءةٌ، مثقل بالأزماتِ المستمرة، وشعوبَه لم تعشْ في إستقرار وسلام وتنمية مستدامة مشتركة، والأخطر أنَّ هذه الأزمات تضاعفت اليوم، عندمَا نقارن أزماتِ الحاضر بحروب الماضي وميليشياتها، نرى كيف عمَّت الفوضى والأزمات في كل دولة ومدينة وناحية، وصارت أكثر مناطق العالم فوضى وإضطراباً، فإهتزَّ وإضطرب نظام الأمن الإقليمي، حتى تحولَّت نصفِ دول المنطقة الى حال من الفوضى المستمرة. فحال التفاؤل الكبير بمستقبل واعد، الذي عمَّ بعد إستقلال عدد من بلدان الشرق الأوسط والبلاد العربية، سرعان ما تبخَّر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد رحيل البريطانيين والفرنسيين، والذي تحمَّلوا مسؤولية كل أنواع الأزمات، لكن بقيت دولُ المنطقة تعالج مشاكلَها، ومنشغلة بأزمتين فقط في وقت واحد، هي القضية الفلسطينية التي صارت مزمنةً ومستمرة وأزمة أخرى لازمة، ترافقها الى جانبها، منها أزمة حرب لبنان الأهلية، وأخرى كانت تتمثَّل في إقتتال اليساريين في اليمن الجنوبي، وثالثة في فترةٍ لاحقة حرب العراق وإيران، وغزو العراق للكويت ثم غزو العراق وتحلل نظام البعث، وحرب السودان والإقتتال الدائر قبل وحالياً، وتقسيم ليبيا، وسوريا التي تسير بنفس الدرب، ومع كل ذلك، كانت المنطقة الواسعة جغرافياً شبهَ هادئة إلاَّ من أزمةٍ واحدة(فلسطين).
فالأزمات التي بدأت منذ عام 2011، في تونس، ورحَّلت الرئيس بن علي سريعاً وعلى عجالة، لتجنيب البلادَ حمامَ الدماء، أبقت تونسُ إلى اليوم عاجزةً عن الخروج من عنقِ الزجاجة، ومعمَّر القذافي الذي رفضَ التنحِّي وواجَهَ إنتشارَ التمرُّد الواسعِ ضده، سقطتْ دولتُه بالكاملِ بتدخّلٍ من قوات الناتو، وخلف إقتتالاً دائم بين اللِّيبيين على السلطة لا يزال الى اليوم.
اما في مصر، تنحَّى حسني مبارك بعد طول حكم، والمؤسسةُ العسكرية دعمت الشارعَ مرتين، مع الثورة ثم الثورةِ المضادة، وفي سوريا فقدت السلطةُ والنظام سيطرتَهما على معظم البلاد، وبقيَ النظامُ متمترساً في العاصمة، وفي اليمن، تنحَّى علي عبد الله صالح، لتستولي ميليشيا الحوثي على صنعاء، عندما إنشغل الثوار في خلافات بين بعضهم على تفاصيلَ صغيرة، مثل هل يُمنح الرئيس المخلوع الحصانة أم لا، فيما نجت البحرينُ من محاولة التغيير من دوار اللؤلؤة، التي قادَ معظمَها متطرفون محسوبون على إيران، وكذلك فشلت إحتجاجاتُ ساحة الإرادة في الكويت، ومن خارج حزامِ الثورات، إستمرت بلدانٌ تعاني من الفشل أو الفوضى، مثل لبنان والعراق(التي تمَّ وأْد ثورتيهما) والصومال.
فهذه الإنهيارات علَّمت ما تبقى من الدول وزعاماتها دروساً في كيفية التصدي والتحايل على المطالب الشعبية، فالكل كان يحاول أن يستفيد ويقارن بين ثورات دول شرق أوروبا التي بدأت عام 1989، والمقارنة خاطئة هنا، لأن ما حصل في أوروبا الشرقية إنتهى بدومينو من الإنهيارات، وتغيَّرت الأنظمة في عدة دول، وكان ذلك نتيجةً مباشرةً لسقوط النظام الشيوعي في موسكو، فسقطت الأنظمة التي كانت تابعة له، والغرب عموماً، تولَّى أعباءَ حمايتِها ودعمِها وترتيبها، لهذا لم تفشل أو يعتورها حال الفوضى بسبب المظلة الخارجية القوية لها.
أما في العالم العربي والشرق الأوسط، حيث يهيمنُ الإسلاميون واليساريون على الشارع منذ خمسينات القرن الماضي، والقوى القومية واليسارية من البعثيين والقوميين والناصريين والإشتراكيين، الذين سبق وحصلوا على فرصِهم في الحكم، فشلوا فشلاً ذريعاً في مصر والسودان والعراق وسوريا واليمن الجنوبي، وغيرها، وقد تسلَّق هؤلاء من جديد على أكتاف المتظاهرين في عام 2011، وتنازعوا على الحكم في تونس وليبيا وسوريا، وتسبَّبوا في تَكرار النهايات الكارثية في إعادة بناء السلطة، ولذلك فإنه على المستوى الإقليمي، يمكن إحتواء أو التعايش مع أزمة أو أزمتين، لكن إستمرار الحروب والنزاعات العسكرية المتعددة، باتت تشكل خطراً على الجميع، والحقيقة أنَّ الجهود العربية الجماعية غير صادقة في إنهاء هذه الفوضى، لإعتقادهم مع الوقت أنها ستنتهي، فكانت النتيجة خلافَ ذلك، في ظروفٍ سياسية سيئة بدأت تتجاوز حدودها.
كما أن هناك حقيقة لدور خطير لعبته هيمنة القوى الكبرى، والذي تمارسه في الإقليم عبر التحكُّم في مسارات التسوية، أو النزوع نحو إثارة القلاقل في المنطقة، فبالإضافة للدور الإسرائيلي المخرِّب دوماً، هناك دور لكل من تركيا وإيران، في إطار تفاهمات مضمَرة وباطنية بينهما، على تبادل اللَّعب وتقاسم النفوذ، من دون الإعلان عن ذلك في أحيان كثيرة، كون المشْرب أو المنبع الإيديولوجي الديني، الذي ينتمي إليه الفكر السياسي لكِلا البلدين واحد، لكن بطرائق مختلفة في التنفيذ، وهذا هو مَكْمن العلَّة لدى الفكر الإخواني للإيديولوجيتين، القائم على إظهار عكس ما في بواطنهم، حيث نجد المثال الأكبر على ذلك في سوريا والعلاقات الطيِّبة التي تجمع إيران بتركيا، رغم تناقض أجندتيهما كلِّياً في المِلف السوري… من دون أن نُلغي طبعاً قوة وحضور هاتين الدولتين الوازنتين، في أن تلعبا الدور المحوري، لكن وفق قواعد منظمة، لمنع إستخدام الشعوب رهينة سياسات عدوانية خشِنة، مارستها إيران طيلة أربعين عام ولا زالت، واليوم تمارسها تركيا في مقلب إيديولوجي آخر ناعم، تتنقل من منطقة صراع الى آخرى، في حلبات النزاع في الشرق الأوسط وفي محيطها الشرق أوسطي.
فقد عملت إيران منذ بدء الحصار الغربي، على صناعة جيوش متقدمة، كأدوات تنفيذية لسياساتها، ولمنع التدخل المباشر على أراضيها، إذا ما أراد الغرب وأمريكا ذلك، والتفرُّغ لبناء حالة ردعية نووية، تحميها من الإستهداف الخارجي، إذا ما باشرت بتصدير أفكار الثورة الإسلامية الى المحيط العربي، حيث تشكل هذه الأدوات جيوشاً في خط الدفاع الأول والثاني والثالث، تحت عناوين وشعارات إسلامية، منها تحرير بيت المقدس، وإسقاط المشروع الأميركي كشيطان أكبر وإدارة الشر الأميركية، وليس بالضرورة أن تكون دائماً جيوشاً عسكرية في قتال مباشر، فيكفي أن تتعطَّل أي مبادرة سياسية كما هو حاصل في لبنان، رغم غرق البلد في الأمراض والأوبئة والإنهيارات المالية والنقدية والتوترات الإجتماعية، خدمة للمشروع الأكبر، على طاولة تقسيم النفوذ بين طهران وواشنطن، فهذا دليل بات القاصي والداني يعرف مداركه وأبعاده، في رسم معالم السياسة الإقليمية لدول المنطقة العربية.
لا بدَّ من توصيف الوقائع موضوعياً، حيث تعطيل أي تسوية في المنطقة العربية، في سوريا، واليمن، والبحرين، ولبنان والعراق، وفلسطين، وبغضِّ النظر عن الحُجج التي تُساق هنا وهناك، إلاَّ أنه واقع وتدفع شعوب المنطقة العربية ثمنه غالياً، فهذا الأسلوب الخشِن في ممارسة الدور، صار تخريبياً في أحيان كثيرة، نتيجة إنسداد الأفق في التسويات، وعمليات التعطيل المستمرة لمدة نصف قرن، وهذا بدوره كثير وثقيل على شعوب فقيرة معدمة، مقاومة ومناضلة، تريد أن تحيا حياة كريمة وعزيزة، حجزتها عليهم هذه الدول بتركيباتها الدينية المؤدلجة الباطنية، والتي صارت مخيفة في أدائها.
وهنا يأتي الدور التركي، الذي كان عامل إطمئنان في أحيان كثيرة، ليتحوَّل فجأة ونتيجة الكبْت التاريخي المبطَّن، والذي أطَّرته الإيديولوجيا الفكرية المتناغمة مع السياسات الإيرانية، حيث حجزت أنقرة مساحة لها، لرسم خطوط دفاع متقدمة وهجومية، توازي خطوط الدفاع الإيرانية، وإستخدمت إيديولوجيا الفكر الديني، المحمول بالموروث التاريخي، في الإستحضار للمعالم التي رسمتها في العراق، ومدَّت يدها الى دول الخليج، وعبثت في سوريا وليبيا والسودان.
كانت السياسات التركية هادئة نسبياً، وناعمة في أحيان كثيرة، فصارت سياساتها إندفاعية أكثر في محيطها، بعد أن تلمَّست التطورات المتسارعة في الإقليم، وحمْلة التطبيع المجانية مع إسرائيل، فأرادت أن تحجز لها مقاعد في الصفوف الأمامية، في لعبة تقاسم النفوذ على المنطقة، لتنتقل من خط دفاع عسكري، الى خط الهجوم المتكرِّر، مستخدمة القوة الخشنة في أحايين كثيرة، التي صار لها به فائض كبير، تعجز عن إستيعابهم وإحتوائهم، وبذلك إقتربت أكثر من دور مقلق ومفاجىء، لكن بأسلوب وحوامل إيدولوجية مبْهَمة، لأنَّها سريعة العطب في إنتهاء المفاعيل والدور، حيث يتحقق رسم السياسات الدولية، من خلال القفزات والنقلات السريعة كما تنتهج أنقرة، ولأنَّ المظلة العربية في إحتواء الظواهر النافرة والراديكالية أوسع، وبمقدورها الإحاطة والإستيعاب أكثر، فهذه الظاهرة تاريخياً، غالباً ما أطَّرت وإحْتَوت وحَمَت وظلَّلت، كل المكونات التي إنضوت تحتها، في السياسة والأمن والإقتصاد والإجتماع، حيث مسار وتجربة الرئيس الراحل عبد الناصر، لا زالت حاضرة في الأذهان.
فالكشف المبكِّر لعمليات التطبيع السريع، أظهر حقيقة الدور الإيراني والتركي، وبدَل تراجعه وإعادة حساباته وتموضعه مع الواقع الجديد، والتحوُّلات الخطيرة القادمة على المنطقة العربية وفلسطين، زادت الدولتان من منسوب تعطيلهما لأي مبادرة حل، على طول خطوط الإشتباك، من اليمن الى غزة ومن أضنة الى ليبيا، وهذا معناه في التحليل السياسي، رغبة كل من أنقرة وطهران، عدم ممانعتهما إقامة علاقات تبادلية مع الكيان الصهيوني، لكن الإختلاف هو على طريق الوصول، بل هذا التعنُّت يبدو وكأنَّه سباق محموم، نحو تموضع جديد رسمته أميركا، كمسار قائم على فكرة القبول التطبيعي مع إسرائيل…
والمثال على حال التشوُّه الجاهزة في دول المنطقة كلبنان، فرغم ما أصاب القوى السياسية من تعنُّت ومكابرة من دون الإعتراف بمطالب شعبها، بل أضرَّت بمصالحه عبر الفساد والنَّهب المنظَّم، ولا تعترف بضرورة قيام الإصلاحات السياسية، تسارع الى التفاوض مع إسرائيل، لرسم إتفاق الإطار لتقاسم النفوذ والإستثمارات النفطية والغازية..
فهل هذا هو مبرر الخوض مع الكيان الصهيوني صراع وجود لا صراع حدود…. ؟
الدولة الريعية وإخفاقها
حالات الرفض الرسمي والشعبي للدول والكيانات التي إنبثقت عن سايكس بيكو، وظهور الأحزاب القومية التي تعلّقت بأحلام الوحدة العربية، وتطلَّعت لبناء الدولة العربية الموحدة من المحيط إلى الخليج، ومن ثمّ إستيلاء بعض هذه الأحزاب على السلطة في أكثر من بلد عربي، ومبادرتها للقيام بمشاريع وحدوية، أخْفقت جميعها، ولم يكتب لأي منها النجاح أو الإستمرار.
كذلك، حالات الإخفاق في بناء دولة الوحدة المأمولة، والتي باتت أشبه بعملية هروب إلى الأمام، وإشهارً للإفلاس في مواجهة الواقع ومعطياته، رافقه إخفاق آخر تمثَّل في عجز النُّخب السياسية، عن بناء وترسيخ أسس ومرتكزات الدولة الوطنية، داخل الحدود القطرية التي رسمها سايكس بيكو، وخير دليل على ذلك ما نشهده الآن من إجتياح الولاءات ما قبل الوطنية، ونشوب صراعات حادّة تبعاً لهذه الولاءات، على نحو بتنا نترحّم فيه على الدول والهياكل التي رسمها الإتفاق الإستعماري أوائل القرن العشرين.
كذلك قيام “دولة إسرائيل” وإحتدام الصراع العربي_الصهيوني المفتوح، شكّل عائقاً كبيراً، أمام تنمية ونهوض المجتمعات والدولة في الشرق الأوسط، لتُستكمَل عناصر الفشل والإخفاق والهزائم مسيرتها، التي لحقت بالأنظمة والهياكل الهشّة والضعيفة للدول التي أقامتها، سواء الملكية أم الجمهورية منها، على نحو بات يصحّ فيه القول، بأنه لو لم توجد إسرائيل، لكان العرب بادروا إلى إختراعها، لأنهم بأمسّ الحاجة اليها، كي يعلِّقوا عليها عجزَهم وفشلَهم.
ولا بدَّ من الإشارة كذلك، إلى أن عدم قيام حركة إصلاح ديني داخل الإسلام، تعمل على مواءمة وتكييف النصّ الديني مع معطيات العصر الحديث، قد أثَّر تأثيراً سلبياً في ترميم المجتمعات، ليظهر التعارض والتضاد، بين المرجعية الدينية والفقهية، وبين أسس ومتطلبات بناء الدولة القومية أو الوطنية الحديثة، ويبرز هنا الدور السلبي الذي لعبته على هذا الصعيد، أغلب قوى وحركات الإسلام السياسي، والجماعات المتطرفة الراديكالية التي نبتت على جوانبها، التي لم تُخفِ عداءها لمفهوم الدولة القومية، ولعلمانيتها من أساسه، وإستمرار حنينها وتطلُّعها إلى إحياء دولة الخلافة الراحلة.
إن تاريخ نشوء الدولة القومية الحديثة، كإطار سياسي قانوني، بعد إقرار معاهدة (ويستفاليا) عام1648، التي أنهت الحروب الدينية الطاحنة في أوروبا، بين الكاثوليك والبروتستانت، نلحظ فيه، بأن نشوء وتكوّن هذه الدولة ترافق مع إنفصال ما هو سياسي عن ما هو ديني، وذلك بعد أن تمَّ إضعاف سلطة الكنيسة، ليتحقق الإستقلال النسبي للسلطات التنفيذية والتشريعية والقانونية عن الدين، وعن بعضها البعض في الوقت عينه.
ومن المعروف، أن المجتمعات الأوروبية لم تنتظم في إطار الولاء الوطني لدولها الناشئة، ولم تتبلور فكرة المواطنة كمفهوم مُحدّدٍ للحقوق والواجبات، إلاَّ بعد صراعات وتجاذبات عنيفة داخل المجتمعات الجديدة من جهة، وبين الدول الناشئة، بعضها مع بعضها الآخر من جهة أخرى، وقد ظلّت الولاءات الفردية، أو ما دون الوطنية، قائمة في غير دولة أوروبية، لكنها بقيت الإستثناء وليس القاعدة، وهي لا تقوى في أي حال من الأحوال، على تخريب صيغة الدولة القومية، أو الدولة/ الأمة، التي ترسَّخت وإستقرت.
وعليه، فإن ظهور الدولة الحديثة، جاء كنتيجة لعملية تاريخية، متعرّجة ومعقّدة وطويلة، ولدّتها سلسلة حروب دموية ضارية شهدتها المجتمعات الأوروبية، قبل أن تؤدي إلى إبرام معاهدة السيادة والإستقلال، في حين أن هذه الصيرورة، التي إستغرق تحققها مئات السنين في أوروبا، لم تحصل في البلاد العربية والشرق الأوسط بشكل تصاعدي وتدريجي، صحيحٌ أن ثمة دولاً نشأت وإستقلّت، إلاَّ أنها لم تصل بعد إلى مستوى الدولة الوطنية وفق المفهوم الغربي، لا من حيث الولاء الوطني، ولا من حيث سيادة دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية. فإن ما نشهده اليوم من حروب وصراعات محلية وإقليمية ودولية في بعض دول عالمنا العربي، يبدو في أحد جوانبه وكأنه تكرارٌ وتجربة للحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في القرون السابقة، قبل أن تفضي في محصلتها إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة.(3)
فالمشكلة الأعمق التي تسبّب الحروب الأهلية، والتي عانت وأخفقت فيه عملية بناء الدولة إضافة الى ماذُكر، ولا تزال منه دول عربية وشرق أوسطية عدة، تتلخّص في سياسة الدولة الريعية، التي تنتج بطبيعتها التكوينية ما يمكن تسميته بــ”الأزمات”، فالدولة الريعية، تمتلك شرعية سياسية لأسباب عائلية ووطنية وتاريخية، مرتبطة بطبيعة ومهارة سياسية وصفات قيادية للمؤسسين، كما وتمتلك الدولة الريعية شرعية، بسبب تأسيسها لمرحلة الإستقلال العربي والتخلّص من السيطرة الأجنبية المباشرة، لكن هذه الدولة باتت عبءً على نفسها، وتعاني من مشكلات مزمنة تؤثر في توازنها، وتفتح الباب لحروب أهلية، ولبروز ما يسمَّى الدول الفاشلة.
والدولة الريعية على إختلافها كالدول العربية والشرق أوسطية (ملكية أو جمهورية)، بدأت منذ بدايات هـــذا القــــرن، الدخول في عملية تراجع تدريجي لرأسمالها السياسي وزخمها الأولي، بسبب عجزها عن التعامل السياسي والبنائي، مع واحدة من أصعب مسائل التنمية السياسية، كالقدرة على دمج فئات المجتمع الجديدة، خاصة الشباب والطبقة الوسطى والفئات الشعبية المهمّشة.
ففي الدولة الريعية، لا صوت حقيقي لفقراء الناس ومهمّشيهم، ولا صوت للعامة وللتكوينات الإجتماعية الجديدة، بينما تبقى السيطرة لأصحاب النفوذ السياسي والمالي في أعلى الهرم، إن تراجع هرمية الدولة الريعية العربية وتآكلها، عملية تاريخية تصل اليوم الى مرحلة شبه حاسمة، بسبب ما سُمَّي ثورات الربيع العربي، والثورة المضادة، وما تبع كل هذا من تحديات.
سياسة الريع تعني، أنه من أجل إستيعاب المجتمع في بنيان الدولة، لا بدَّ من توظيف نسبة كبيرة من السكان في القطاعات الحكومية، بما فيها الأمنية والعسكرية والمدنية، بما يفوق كل منطق سياسي وإقتصادي، فالريعية تضخيم للدولة ولوظائفها، وتحويلها بيروقراطية تمتصّ عافية الوطن، وتقوم بإقتناء كل عامل وموظّف، إنها دولة تمتلك شعباً، وليست دولة تمثل شعباً، ولتنجح الدولة الريعية، تستمر في توزيع الأموال والمناصب والفوائد والإمتيازات بشكل عشوائي، لمن تجده متناغماً مع خطابها ورؤيتها، وداعماً لإعلاناتها مهما كانت وقتية وقصيرة الأمد.
وهناك تناقض في مسألة الريعية وجَّب التنبه له، فالدول العربية الفقيرة التي لا تمتلك المال الوفير، تمارس الريعية من خلال سعيها المبالغ به، الى الحصول على مساعدات دائمة من الدول الغنية، وذلك بحجة الإستقرار(الأردن نموذج، ولبنان). في الدول الريعية الفقيرة، تكون نسب القمع والتعسّف أعلى، بسبب عدم قدرة الريع على تغطية كل الأبعاد الإجتماعية والاقتصادية، أما في الدول الريعية الغنية ذات الشرعية التاريخية العائلية، فالوفرة المالية تسمح للريع بعبور الطريق، بينما يقبل المجتمع لفترة من الزمن بقاعدة الرعاية المالية، مقابل التنازل عن المشاركة السياسي، في العقد الإجتماعي المُتاح.
من جهة أخرى، يتحوّل تضخُّم جهاز الدولة نتيجة بيروقراطيتها، الى سعي محموم في بعض الحالات للتخلّص من الزوائد، من خلال بيع أجزاء منها للقطاع الخاص، الذي كثيراً ما يكون الشكل الجديد للدولة الريعية، لهذا، تبيع الدولة مؤسساتها الى المقرّبين والمحسوبين عليها، ما يخلق الأرضية لحالة جديدة من التهميش والعزل في المجتمع وقواعده.
إن إستمرار الأسلوب الريعي رهن ببناء علاقات غير متساوية مع المجتمع، وهذا بدوره يُمهِّد للحروب الأهلية والإستنزاف الأهلي الذي تشهده الدول في المنطقة، فبالنسبة الى الدولة الريعية، المجتمع مكوّن من عائلات وقبائل وطوائف وديانات، لهذا، فالدولة الريعية في فترات، تقرِّب بعض رجال الأعمال، وفي فترة أخرى تهمّشهم وتأتي بمنافسيهم، وفي فترات تقرب القبائل، وإذا بها تهمّشها بعد أن تقترب منها عائلات المدن، وفي فترات تشجّع نقيضهم من العلمانيين الليبراليين، فالدولة الريعية تفعل كل هذا عقداً وراء عقد، بلا أدنى إعتبار لخطورة هذه السياسة على المجتمع.
في الدولة الريعية، يصبح التسلُّق والتماهي مع مشروع الدولة الشكلي، مصدراً للإمتيازات بل وللثراء غير المشروع، ويصبح من الطبيعي أن تتكاثر حالة النفاق العلني والمحاباة المصحوبة بالفساد، الناس تبحث عن الإمتيازات، مقابل ذلك تؤيد كل سياسة بغض النظر عن مدى كارثيّتها على المدى المتوسط، فالناس تتعوَّد على التماهي مع أكثر السياسات ضعفاً، تاركة الدولة لمصيرها، لهذا تحديداً يصعب تحقيق توازن في هذه البلدان بين التنمية والحريات، وبين الحقوق والأمن، وهذه الفلسفة بالتحديد، هي التي تنشئ دولة الولاء على حساب دولة الكفاءة، وتعمّم حالة الجهل على حساب حالة المعرفة، وهذا يعود ليعمّق هشاشة مؤسسات الدولة وضعف إنتاجيتها، مشعلاً سلسلة من الحرائق والحروب في كل مجال، ما يدفع الدولة الريعية الى الإعتماد على الحلول الأمنية والتعبير الغاضب، من أجل إطفاء بعض الحرائق التي تعبّر عن نفسها، من خلال إحتجاجات شعبية وانهيار مؤسسات، وسرقات كبرى وغيرها، إن المفاجآت جزء أساسي من بنية الدولة الريعية.
وتحرص الصيغة الريعية على إهانة من يخالفونها التوجه، بل تصغرهم وتجعل أكثر القوم ركاكة في مقدّم الهجوم والتعبئة، ضد الفئات التي سقطت من رعاية الدولة، سياسة العزل والتصغير والإحتقار، وإمكان سحب بساط المواطنة، تتحوّل الى واحدة من أكثر تعبيرات الدولة الريعية خطورة، وهي بالتالي أحد مكونات الحروب الأهلية الراهنة والقادمة الى الشرق الأوسط، فالفقر ليس أصل المشكلة هنا، بل التهميش والتحقير لتكتلات إجتماعية في ظل أسلوب فوقي في التعامل مع الأفراد وحقوقهم الأساسية، ولذلك فإن الدولة الريعية اليوم هي مشروع للحروب الأهلية في طور التكوين والإنتظار، تلك الحرب قابلة للانفجار عند المنعطفات، فتقريب بعض الفئات مقابل الدعم السياسي، وتحقير من تختلف معهم وتصغيرهم، ذلك كله يعمق الكراهية التي تتحول بدورها الى عصبية منظّمة .
وللتخلّص من الشكل الريعي الذي إقترن بالفساد والإحتكار والإهانة، يتطلّب دولة تقف على مسافة واحدة من كل مواطن، بغضّ النظر عن ماله وطائفته وفكره وموقفه السياسي وجذوره الإجتماعية، يجب تحويل الدول هنا الى طاقة تطوّر المجتمع، وتساعد على بناء تسويات داخلية وطنية، هدفها التعايش في ظل مبادئ التداول على السلطة، وإحترام الحقوق، ودمج القوى المهمّشة والناشئة والجديدة، وهذا يتطلّب إعادة الإعتبار الى مبادئ العدالة الإجتماعية الحقة، وعدم هيمنة الدولة على المجتمع ومفاصله، وفي ظل تحرير الإقتصاد على قواعد عادلة..
فقد لعبت عوامل مختلفة في دفع العالم العربي والمنطقة، إلى دخول عصر العولمة، من دون إستعدادات كافية ومن دون أجندة جماعية أو وطنية، للتعامل مع التحديات والمخاطر الجديدة، ولهذا جاءت العولمة من الخارج، على شكل ضغوط متزايدة ومتعددة الأشكال والأهداف، قلَّصت من هامش الإستقلالية والمبادرة العربية الإقليمية، وصدعت كتل دولها وفاقمت أزمة النظم السياسية وإنفلاش المجتمعات وتصدُّع بنياتها.
وقد تجلَّى هذا التصدُّع، في تراجع مشاريع التكتل والتكامل الخاصة، التي عملت عليها خلال نصف قرن في إطار عمل الجامعة العربية، لصالح مشاريع التكتلات المقترحة من الخارج، وأخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي أطلقته الإدارة الأمريكية، وهو ما ترجم على الأرض بتوسُّع دائرة الحروب الإقليمية والوطنية والأهلية، وإنتشار العنف والإرهاب على أوسع نطاق، وكانت ثمرة ذلك تدويل السياسات الأمنية العربية، القومية والقطرية، والعودة بالمنطقة إلى ما قبل الحقبة الوطنية، مع إعادة نشر القواعد العسكرية، وتوقيع إتفاقيات الحماية والوصاية الخارجية، وفي النهاية حرمان العالم العربي أي إرادة ذاتية أو قرار مستقل.
وبالمثل، قادت الضغوط السياسية، إلى تفريغ النظم الوطنية من محتواها الإجتماعي والسياسي والثقافي، وعمل التفاهم بين النخب الحاكمة والدول الكبرى صاحبة النفوذ منذ سبعينيات القرن الماضي، على ولادة نظم تسلُّطية وأنماط حكم وإدارة، تعمل خارج قواعد السياسة والقانون ومعايير العقلانية الحديثة، وتتعامل مع الموارد الوطنية كما لو كانت ملكاً خاصاً بها، حيث تعمَّم الفساد وأشاع الفوضى الإقتصادية والسياسية والإدارية، وزاد من إنتشار ظواهر الفقر والبطالة والتفكك الاجتماعي، وبموازاة ذلك، حصل تراجع كبير في نظام العلاقات المدنية، فتخلَّت المجتمعات أو كادت عن الرابطة الوطنية لحساب العلاقة الطائفية والعشائرية والعائلية.
وعلى الصعيد الثقافي دفعت الضغوط الداخلية والخارجية، ولا تزال إلى تعميق أزمة الهوية، والتراجع عن سياسة بناء الثقافات الوطنية السابقة، القائمة على تعزيز إطار بناء الكوادر الوطنية وتوطين الحداثة وإستنباتها، في الثقافة والبيئة بين مكونات المجتمع، وإزدادت في المقابل موجة التبعية لأسواق الإنتاج الثقافية الخارجية أو للثقافة الاستهلاكية، وإزدادت بالقدر نفسه معها، هجرة الكفاءات والكوادر الثقافية والعلمية العربية التي تفتقر لأي آفاق في بلدانها الأصلية.
فإعادة تصحيح الوضع في هذه الدول اليوم، لإستعادة المبادرة من قبل المجتمعات، تستدعي بلورة أجندة متكاملة لمواكبة الواقع الدولي والإقليمي المستجد، تأخذ بالإعتبار العمل على تغيير البيئة الجيوسياسية القائمة، وإعادة بناء الدولة وتعريف دورها ووظيفتها الإجتماعية، وتأكيد مبدأ المشاركة بين الدولة والمجتمع المدني بدل المعارضة بينهما. من هنا فإن إصلاح النظم السياسية وبناء إقتصاديات سليمة وذات قدرة إنتاجية حقيقية، وكذلك نشر الديمقراطية،هي شروط أولية للنجاح في تطوير المجتمع المدني وتنشيطه، ودفعه إلى لعب دور إيجابي في إعادة هيكلة المجتمعات وتهيئتها للمساهمة الفعالة، ولا بدَّ من إيلاء أهمية خاصة إلى تطوير الديمقراطية المحلية، وتجديد وسائل عملها، وتقديم الدعم السياسي والقانوني والمالي لمؤسساتها، على طريق تعزيز مكانة المجتمع المدني، والعودة إلى بلورة سياسات ثقافية موحدة، تساعد على طمأنة الهوية، وإعادة بنائها من خلال تثبيت الحداثة وتقليص حجم التبعية في الموارد.
تفاقم أزمات الصراع في الشرق الأوسط
الصراعات الدائرة حالياً في منطقة الشرق الأوسط، توصف بأنها حروب داخلية تنخرط فيها الحكومات المركزية ضد مليشيات وقوى مسلحة من غير الدول، وقد أدَّى طول أمد هذه الصراعات وطابعها العنيف، إلى وجود أزمات إنسانية خطيرة، وتُسلّط العديد من التحليلات الضوء على حالات القتل والإصابات في صفوف المدنيين، وإنتشار الجوع والأمراض بسبب إنهيار نُظم الرعاية الصحية وتفشي سوء التغذية، وموجات النزوح الداخلي، والنتيجة، هي أن عدد الأشخاص الذين يعانون ويموتون بسبب التأثيرات غير المباشرة للحروب في بعض دول الإقليم، ربما يزيد عما يموتون جراء سير العمليات الحربية، والعنف المباشر المرتبط بها، ومع ذلك، لا تزال جهود الإغاثة الإنسانية الدولية والإقليمية في تلك الصراعات والحروب تواجه عقبات، وعلى نحو يهدد بتفاقم الظروف المعيشية والإنسانية بها.
فثمة العديد من الصراعات في الإقليم، تشهد تدهوراً في الأوضاع الإنسانية بها، في ظل إستمرار هذه الصراعات وعدم إيجاد حلول لها، للحد من تداعياتها السلبية، كالحرب اليمنية، وهي واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم بعد الانقلاب الحوثي على الحكومة الشرعية، وما تبعه من تصعيد المليشيا الحوثية هجماتها العسكرية وعرقلتها أي حل سياسي لإنهاء هذا الصراع، إذ أن هناك ما يقدر بنحو 3 ملايين يمني، قد تركوا وطنهم بسبب الصراع، بحسب التقديرات الأممية، بينما يعاني مليونان آخران من التهجير الداخلي، ويزيد من تدهور تلك الأوضاع الكارثية، أن 8 ملايين شخص فقدوا وظائفهم، وأن مليون منزل تم تدميره أثناء الحرب، وفي تقرير صادر عن البنك الدولي، يشير الى أن اليمن، قد يتجه إلى حافة المجاعة، نتيجة تناقص الإنتاج الزراعي، والتدهور الحاد في قيمة العملة المحلية، بسبب إصرار أطراف الصراع على التصعيد وإستهداف الموارد الاقتصادية.
أما الحرب السورية التي إندلعت في العام 2011، والتي تُعد كأحد أعقد الأزمات السياسية والإنسانية في العالم، وتُقدر الأمم المتحدة عدد الأشخاص المشردين داخلياً في سوريا، بنحو 7 ملايين شخص، ويعاني قرابة 13 مليون شخص من عدم الأمن الغذائي. وبفعل النزوح وظروف الحرب السورية، إنخفضت نسبة الطاقم الطبي لتصل إلى 11 طبيباً وممرضاً لكل 100 ألف شخص، ليأتي بعده الصراع السوداني بين الجيش وقوات الدعم السريع، وأدى إلى إعاقة وصول المساعدات الإنسانية، إلى بلد يعاني بالفعل من وطأة التضخُّم، وإرتفاع الديون الأجنبية، وضخامة عدد المواطنين الذين يُعدون في أمس الحاجة إلى المساعدات العاجلة، ناهيك عن الحرب التي شنَّتها وتشنها إسرائيل على كل من غزة ولبنان، وما ستتركه من آثار فظيعة على المستوى الإنساني والمعيشي هي قيد التحقق، وخطر تفكك السلطة ومؤسساتها، ودولة لبنان الذي تزعزعت فيه كل مؤسسات الحكم والإدارة قبل الحرب. فما يجمع هذه الحالات من الحروب، هو إشتداد الأزمة وتعقيدها، مع الخطورة على الوضع الإنساني بصورة مخيفة، مما جعل موجات الهجرة أكبر بكثير مما كان يحصل سابقاً في الأزمات الدولية، وما يعنيه ذلك من ضغط على إقتصاديات هذه الدول،التي تعاني بالفعل مثل غيرها من دول أخرى عديدة في العالم، في ظل تأثرها بتداعيات جائحة “كورونا” والحرب الروسية الأوكرانية.(4)
وهذا مرتبط بدوره بالوضع الإنساني الكارثي في بعض دول الإقليم وتعقيدات إدارته، ولا يمكن أن يتم بمعزل عن فهم طبيعة الصراعات العسكرية الدائرة، فمن جهة، تتسم هذه الصراعات بأنها ذات طابع أهلي، حيث أدَّى إنهيار سلطة الحكومة المركزية، إلى غياب شبه تام للدولة في كثير من المناطق، الأمر الذي يزيد من مأساوية الأوضاع الإنسانية، ويعني ضخامة تكلفة جهود الإغاثة العاجلة، وجهود التنمية، ومن ناحية ثانية هي صراعات ذات بُعد خارجي واضح، وأن بعض القوى الإقليمية والدولية، التي تمد يدها بالمساعدات الإنسانية، قد تكون متَّهمة من قِبل أطراف الصراع بالسعي لتحقيق أجندة سياسية، بفعل إنحيازها لأحد هؤلاء الأطراف، وهو ما يقوِّض مبادئ التجرُّد والحياد التي يُفترض أن تميز العاملين في جهود الإغاثة الإنسانية.
فهناك إخفاقات على مستوى المساعدات، منها ما يحتاج الى تمويل، في عالم تحكمه حسابات القوة والمصالح القومية، لإذ يصعب تصور مانح دولي، لا يميل إلى توظيف المساعدات الإنسانية التي يقدمها لتحقيق أهدافه السياسية، ما يعني التحيُّز لأحد أطراف الصراع الدائر، وبما يؤثِّر بالسَّلب في قبول المجتمعات المحلية لتلك المساعدات، كما أن القوى الغربية ربما لا تستطيع أن تُقدم فعلياً سوى القليل من الأموال، لتمويل جهود الإغاثة الإنسانية في الشرق الأوسط، لعوامل يرتبط بعضها بانشغالها بالحروب الأوكرانية، وجنوب شرق آسيا والإنقلابات الإفريقية، فضلاً عن معاناة بعضها من أزمات اقتصادية.
المعضلات الجيوسياسية وإعادة تشكل إقتصادات المنطقة
هناك ثلاث مؤشرات تُرصد في أساسيات أزمات الشرق الأوسط في الصراع الحالي، منها ما يعود الى الصراع على الحدود، وتأثير النفوذ للدول، والسيطرة التامة على السيادة وتعزيزها، ومن دون الوصول الى إتفاقيات تعيد تنسيق مفهوم العلاقات الدولية لإدارة وتشارك هذا الصراع، فإنه من المرجح أن أزمات المنطقة الملتهبة والمتوترة كالشرق الأوسط، حتماً ستنفجر مجدداً، فاليوم هناك توجُّهات مضاد للعولمة على المستوى الجيوسياسي، بدأ مع مشروع الصين والإتفاقيات الثنائية، وتراجع دور الولايات المتحدة الإقتصادي نسبياً، وفق صيغة ما بعد الأوبامية، فشعبوية ترمب، وصولاً إلى حالة الإرتباك مع بايدن، في ظل تحديات كبيرة طرحتها الأزمة الأوكرانية – الروسية، والعودة الى سياسات ترمب من جديد، وكذلك أسئلة تخصُّ مسألة السيادة والنفوذ والحدود، ومع أزمة غزة المضنية، ولبنان المفكَّك، والتي لا يمكن الخروج من أزمته من دون تصور واضح، فهذه النزعات المقاومة، هي ضمن نسج إطار إيديولوجي من الأفكار والتيارات والمواقف، لبناء مشاريع مستقبلية في المنطقة، لتحويلها إلى منافذ وحلقات وصل بين مناطق وصلات لوجستية، بهذا ومن أجل البدء بتعزيز ممرات إقتصادية آمنة تربط بين القارات، وخصوصاً آسيا وأوروبا، من هنا يمكن فهم هذا الزخم الكبير والتنافس بين تلك المشاريع، وأبرزها الحزام والطريق الصيني، والممر الهندي بين الشرق الأوسط وأوروبا، لكن لا يمكن لهذه المشاريع _ التي هي في الأساس محاولة لتفعيل الحدود والنفوذ_ من أجل بناء شراكات إقتصادية مستدامة، أن تنجح دون صيغة تفاهمية، تتجاوز منطق القطب الأوحد الذي تتفرد به واشنطن لوحدها، أو الهيمنة المبنية على قوتها فحسب، لا سيَّما مع تحوُّلات هائلة وجذرية في مفهوم الحرب، خصوصاً مع عدم تكافؤ الأطراف، وتغليب قضية دفع الثمن، والقدرة على الإنخراط في إدارة حرب طويلة منهكة، ولو لم تكن متكافئة.
فالمسألة الجيوسياسية اليوم عامل إرباك وتوتير في المنطقة، مع حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين، لا سيَّما مع حالة التحشيد لحلفاء الدولتين، ومحاولة واشنطن تحييد الخيارات المتنوعة للدول، أو بمعنى آخر تفعيل السيادة والمصلحة الوطنية، ومنطق السوق والعرض والطلب، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون تجاوز قضايا ومصطلحات، نُقلت من مجال العلاقات الدولية، لكنها لا يمكن أن تكون مؤثرة في المسألة الجيوسياسية، ومنها مسألة التعايش والسلام، أو التعددية والتطبيع، فالتوترات على الحدود، كتحدي أكبر مع دخول مشاريع الممرات الاقتصادية حيّز التنفيذ، قد تساهم في خلق حال من الفوضى، وعدم الإستقرار في المنطقة، إذ أن الحزام والطريق، والممر الاقتصادي، هما إستدعاء لهذه المنافسة الصينية – الأميركية، لكن من خلال الإستثمار في الحدود أكثر من النفوذ، وعلى الأرض أكثر من الديبلوماسية، والتي بدأت تعاني كثيراً على مستوى حيادها وقدرتها على حلِّ النزاعات، في ظل الازدواجية في التعامل، والتحيّز، وكذلك التناقضات، منذ إختبار غزة بعد عملية طوفان الأقصى.
كما تعتبر السعودية اليوم برؤيتها الإقتصادية والتنموية 2030 الطموحة، والتي تجاوزت تأثيراتها في البعد الداخلي، بإعتبارها نموذج نجاح وإلهام للمنطقة، أدركت بفضل خبرتها، بعد أن طرحت عبر السنوات الماضية، رؤية تقدمية على مستوى العلاقات الدولية، والوقوف المحايد تجاه كل الأطراف، لكنها على علم أنه في ظلِّ التوترات المستمرة بين إيران وإسرائيل، والتهديدات المماثلة من المشاريع التقويضية الشمولية، لا يمكن أن تنجح هذه المشاريع من دون رؤية شاملة للحل، لا سيما مع حالة التصعيد والأعمال العدائية التي تكثَّفت ما بعد حرب غزة، فالحزام والطريق، لا يمكن أن ينجح مع بقاء المشروع النووي الإيراني، وتفعيل أذرع طهران المسلحة الدائم في المنطقة، كما أنَّ الممر الاقتصادي الذي تقوده الهند، يطرح مسألة السلام مع إسرائيل كأولوية أمنية، وهو ما لا يمكن أن يحدث، دون حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، فمشاريع المستقبل الجيوسياسية المتمثلة في الممرات الإقتصادية، رغم كل ما يحيطه من عمليات التسويق لها من قبل الدول المؤسسة، ستعاني من عقبات أمنية وتعقيدات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، التي تضج بالإضطرابات والتوترات والفوضى، رغم أهميتها الجغرافية والاستراتيجية.
فالصراع في غزة مع إسرائيل ومع لبنان يتسبب في معاناة إنسانية هائلة، وبالإضافة إلى التأثير المباشر لهذا الصراع، فله أيضا عواقب على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ككل، مع تأثر الشعوب والاقتصادات، ويأتي هذا في وقت كان من المتوقع فيه بالفعل، أن يتباطأ النشاط الاقتصادي في المنطقة من 5,6% في عام 2022 إلى 2% في عام 2023.ولا يزال مدى التأثير على المنطقة محاطا بقدر كبير من عدم اليقين، وسيعتمد على مدة الصراع وشدته وإنتشاره وتوسعته، فحدوث صراع واسع النطاق، سيشكل تحدياً اقتصادياُ كببيراً أمام دول المنطقة، ويتوقف إحتواؤه على نجاح الجهود الدولية في منع إمتداد التصعيد إلى المنطقة ككل، والأمر المؤكد، هو أن التنبؤات الموضوعة للإقتصادات الأكثر عرضة للخطر المباشر سيتم تخفيضها، وأن سياسات حماية الإقتصادات من الصدمات والحفاظ على الإستقرار ستكون ضرورية.
ولا شك أن إسرائيل والضفة الغربية وغزة ولبنان وسوريا هي الأشد تضرراً، لكن التأثير الإقتصادي يمتد إلى أبعد بكثير من منطقة القتال، فالبلدان المجاورة وهي مصر والأردن، تعاني بالفعل من تداعيات إقتصادية، في ظل المخاوف بشأن خطر التصعيد، فالسياحة، التي شكَّلت ما بين 35% إلى ما يقرب من 50% من صادرات السلع والخدمات في هذه الاقتصادات في عام 2019، تُعد مصدرا بالغ الأهمية للنقد الأجنبي وتوظيف العمالة، وهناك تداعيات على النمو، ربما ستشهدها الإقتصادات التي تعتمد على السياحة مثل لبنان، حيث إنخفضت معدلات الإشغال الفندقي بمقدار 45 نقطة مئوية في أكتوبر مقارنة بعام مضى.(5)
وكان التأثير على أسواق الطاقة والأسواق المالية محدودا ومؤقتاً، فبعد حدوث طفرة في أسعار النفط في البداية، تراجعت هذه الأسعار، وأصبحت الآن دون مستويات ما قبل الصراع، ممَّا يعكس التغيُّرات في أوضاع الطلب العالمي (حيث لم تحدث أي إضطرابات في إنتاج النفط)، كذلك إنخفضت أسعار الغاز الطبيعي بعد إرتفاع حاد، لكنها لا تزال أعلى بنحو 25% من مستويات ما قبل الصراع.وبالرغم منهذه العوامل، فإن إرتفاع حال “عدم اليقين” بشأن مسار الصراع، يؤدي إلى تآكل ثقة المستهلكين والشركات، كما يؤدي إلى هبوط الإنفاق والإستثمار، وفي غياب وقف دائم لإطلاق النار، وحتى إذا إستمر إحتواء الصراع، فإن “عدم اليقين” قد يؤثر على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ككل، وبالتالي، حيثما كان التأثير محدودا حتى الآن، فقد يتدهور النمو إذا بدأ التردد يؤثر سلباً على قرارات الإستثمار، وقد تكشف الأزمات أيضا مواطن الضعف الأساسية، ما يؤدِّي إلى تفاقم مخاطر التطورات السلبية المحيطة بالآفاق المتوقعة، وقد يؤدي إلى إرتفاع المخاطر عبر تكاليف الإقتراض، وهو ما قد يؤثر سريعاً على الإقتصادات المثْقلة بالديون الأجنبية، أضف الى ذلك، يمكن أن تشهد الدول الهشَّة والمتأثرة بالصراعات في المنطقة، مثل الصومال والسودان واليمن وسوريا والعراق ولبنان، إنخفاضاً في تدفقات المساعدات الضرورية، إذا ما تحول تركيز الجهات المانحة عنها، ولم يتسع نطاق المساعدات الدولية لتلبية الإحتياجات العالمية المتزايدة.
ولربما، قد يكون تصعيد الصراع نقطة تحوُّل في المنطقة، عندها التداعيات تكون واسعة النطاق، وتتجاوز سريعاً حدود بلدان الجوار المباشر، إلى إقتصادات مثل العراق وإيران وسوريا واليمن، وكلَّما طال أمد الصراع، زاد تأثيره على السياحة والتجارة والإسثمار والقنوات المالية الأخرى، وقد تزداد تدفُّقات اللاجئين زيادة كبيرة، ممَّا يزيد من الضغوط الإجتماعية والمالية في البلدان التي تستقبلهم، ليتسبَّب في ضعف طويل الأمد، في منطقة تنتج 35% من صادرات النفط العالمية و14% من صادرات الغاز، فإن تداعيات الإضطرابات المحتملة في الإنتاج تلوح بقوة في الأفق، غير أنه على خلاف الحالات السابقة، فحتى وإن إرتفعت الأسعار بشكل حاد إستجابة للأحداث، يمكن للبلدان المنتجة للنفط، ولا سيَّما بلدان المنطقة، الإستفادة من وفرة الطاقة الفائضة في زيادة الإنتاج بسرعة، مما يساعد على تخفيف التأثير السلبي، ولا شك أن هذه الأزمة سوف تعيد تشكيل مستقبل المنطقة، وحيثما يكون التأثير الاقتصادي حادا، أو تكون المخاطر مرتفعة، فإن الإدارة الحذرة للأزمات، والسياسات الإحترازية ستكون ضرورية على المدى القريب، وقد تكون هذه الأزمة بداية حقبة تتسم بإرتفاع حال “عدم اليقين” في كثير من البلدان، إذا لم تتم معالجتها كما ينبغي.
اليوم تعزَّز موقع الصين، بإعتبارها دولة رائدة عالميًا في تطوير البنية التحتية ودفع عجلة التعاون الإقتصادي، فتوسّعت مبادرة الحزام والطريق لتشمل دولًا في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وإستثمرت بكين أكثر من تريليون دولار في إقتصادات البلدان المنخرطة في هذه المبادرة، وأنفقت الجزء الأكبر من هذه الأموال على البنية التحتية التقليدية، الخاصة بالنقل والمواصلات كالموانئ والطرق والسكك الحديدية ومشاريع الطاقة، وممكن أن يصل تعداد الدول المنضمَّة لمبادرة الحزام والطريق الى 155 دولة، ساعدها في ذلك، بأنها أكبر مستثمر أجنبي في الشرق الأوسط، إذ بلغت قيمة إستثماراتها الجديدة في المنطقة 29.7 مليار دولار، مقارنةً مع إستثمارات الولايات المتحدة البالغة 7 مليارات دولار، بالإضافة الى تنفيذ مشاريع تطوير الموانئ والبنية التحتية في المنطقة بشكلٍ أساسي في مصر وإيران وإسرائيل وسلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكذلك، وقّعت مصر، ودول مجلس التعاون الخليجي، وإسرائيل مع شركات صينية بهدف تطوير البنية التحتية الخاصة بالاتصالات.
أما الإنجاز الرئيس الذي حقّقته الصين والذي يعطي مبادرة الحزام خط سير الأمان والإستقرار، المتماشي مع طموحاتها، فكان إتفاق المصالحة الذي توسّطت في إبرامه بين إيران والسعودية في آذار/مارس 2023، والذي من شأنه تعزيز أمن مشاريع مبادرة الحزام والطريق، ومن ضمنها طرق النقل والبنية التحتية الحيوية، الذي يؤدي الى تخفيف المخاطر الجيوسياسية المُحتمَلة، وتبديد الشكوك القائمة، فضلًا عن تعزيز التعاون في مجال الطاقة، وتنويع الشراكات على إمتداد الممرّات الرئيسة لمبادرة الحزام والطريق، ويقوِّي من أواصر العلاقات مع كلٍّ من طهران والرياض والإنخراط في إرساء الإستقرار في المنطقة، بأن تحظى بأفضلية فريدة على حساب الولايات المتحدة.
أما الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، كأضخم مشروع شراكة ضخم لتطوير البنية التحتية الاقتصادية، لقد وقّعت السعودية والإتحاد الأوروبي والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، مذكرة تفاهم، كشفت عن الخطوط العريضة الأساسية لشبكة النقل، التي تتراوح من الشحن بالسفن وصولًا إلى السكك الحديدية، والتي ستشكّل تكملةً لطرق النقل البحري والبرّي القائمة، فهو يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، من ممرّين مُنفصلَين: الأول هو الممر الشرقي الذي يربط الهند بالخليج، والثاني هو الممر الشمالي الذي يصل الخليج والشرق الأوسط بأوروبا، فضلًا عن مدّ خطوط لنقل الكهرباء، وكابلات لنقل البيانات من أجل تعزيز الإتصال الرقمي، وأنابيب لتصدير الهيدروجين النظيف بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
فالمساعي الأميركية لإنشاء الممر الإقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، هدفت جزئيًا إلى التصدّي لمبادرة الحزام والطريق، التي أتاحت للصين توسيع إمتدادها الإقتصادي والجيوسياسي، ولا سيما في مناطق لطالما تمتّعت فيها الولايات المتحدة بنفوذٍ كبير، كمنطقة الخليج بحكم غناها بموارد الطاقة وموقعها الإستراتيجي، بين البحر الأحمر ومضيق هرمز، وساحة تنافسٍ رئيسة بين واشنطن وبكين، ويتيح مشروع الممر الاقتصادي لواشنطن فرصة مهمّة لإرساء ثقلٍ موازٍي، مقابل نفوذ الصين الإقتصادي المتنامي في المنطقة، مع أن السعودية والإمارات قد لا تشاركانها وجهة النظر هذه، فمن المحتمَل أن يؤدّي إنخراط حلفاء أساسيين للولايات المتحدة، مثل الإتحاد الأوروبي والهند في مشروع الممر الاقتصادي، إلى زيادة التعاون والتنسيق بين هذه البلدان ودول الخليج، ما يسمح لواشنطن بالتصدّي لنفوذ الصين في المنطقة بصورة أكثر فعالية.
هذا التنافس، الذي سيربط مشروع الممر الإقتصادي أيضًا إسرائيل والأردن، ويعجِّل في بناء وترسيم وتفعيل الإتفاقيات الإبراهيمية المُوقّعة بين إسرائيل، وكلٍّ من البحرين والمغرب والسودان والإمارات، من أجل تحقيق تعاون أكبر بين إسرائيل والعالم العربي، ومواصلة السعي إلى تقديم مشروع بقيادة الولايات المتحدة، يشكّل بديلًا لمبادرة الحزام والطريق، وعلى خلاف مبادرة الحزام والطريق التي مضى على إطلاقها عقدٌ من الزمن، لا يزال مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا في مراحله الأولى، حيث مبادرة الحزام والطريق التي تستفيد من مركزية صنع القرار، إذ أن مشروع الممر الإقتصادي قد صُمِّم ليكون أُحادي الإتجاه، بحيث يربط الهند بأوروبا بشكلٍ أساسي، في حين أن مبادرة الحزام والطريق متعدّدة الإتجاهات، ويشمل إتفاقيات وتعاوناً بين دولٍ متعدّدة، تختلف من حيث أنظمتها القانونية وسياساتها وبروتوكولاتها الخاصة بالنقل وقواعدها التنظيمية، ويضمّ مشروع الممر الإقتصادي حوالى عشرين دولة، لكلٍّ منها مجموعة من المصالح والأولويات والعمليات البيروقراطية الخاصة بها، فيما تتمحور مبادرة الحزام والطريق حول الصين، إضافةً إلى ذلك، قد لا تتيح مبادرة الممر الإقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا النطاق نفسه من الفرص التنموية التي تتيحها مبادرة الحزام والطريق.
عوائق وعثرات
لكن ثمّة عوامل عدة تعيق تقدّم مشاريع الممرّات الإقتصادية، في منطقة الشرق الأوسط، فهذه المشاريع لا تنجح في معالجة القضايا المسبِّبة لإنعدام الإستقرار السياسي والتوترات الكامنة في المنطقة، ومن بينها النزاع بين إسرائيل وإيران، أما في ما يتعلّق بمبادرة الحزام والطريق تحديدًا، قد يؤدّي تصعيد الأعمال العدائية بين طهران والرياض إلى تعطيل طرق التجارة، وإثارة حالة من عدم اليقين لعمليات الشحن والنقل، وعلى الرغم من جهود الوساطة التي بذلتها الصين، لإرساء تقارب بين إيران والسعودية، لم يقلّص الإتفاق خطر إندلاع أزمة إقليمية، بسبب برنامج طهران النووي المتواصل، أو إندلاع موجات من العنف بين الفصائل العسكرية التي أنشأتها طهران وتلك الموالية لها في اليمن، فلا شكّ من أن المخاوف الإقتصادية الناجمة عن التوترات الجيوسياسية، قد تؤثّر على القرارات الإستثمارية، والشراكات الإقتصادية المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق، ما قد يتسبّب بتأخير تنفيذ مشاريع البنية التحتية المُخطَّط لها، أو التخلّي عنها.
فواقع الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، أحبطت الجهود الأميركية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وبلدان عربية عدّة، إضافة إلى أن بعض الدول تبدي إعتراضًاً على إستبعادها من المشاريع، مثل مصر والعراق وعُمان وتركيا، في حالة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، أو تختار أحيانًا سلوك المسار المختلف بصرف النظر عن مشاركتها في مشروع الممر الاقتصادي ومبادرة الحزام والطريق، كما هو الحال مع السعودية والإمارات،ما يعني أن مشاريع الممرّات الاقتصادية العابرة للقارات، مرورًا بالشرق الأوسط ستبقى مهمة صعبة، سواء تعلّق الأمر بمبادرة الحزام والطريق، أو بالممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
وثمّة عاملٌ حاسم آخر قد يقوّض مشروع الممر الإقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو إستبعاد دول مثل مصر والعراق وعُمان وتركيا، بما تتمتّع كلٌّ منها بموقع استراتيجي، يجعلها مرشّحة مثالية لضمّها إلى مشاريع الممرّات الاقتصادية، إذ دفع إستبعاد تركيا من المشروع كبار مسؤولي البلاد إلى الإدلاء بتصريحات شديدة اللهجة، وهدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده “يمكن أن تبتعد عن الإتحاد الأوروبي”، وأعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن إجراء “محادثات مكثّفة” مع العراق وقطر والإمارات بشأن ممرإ بديل سيُعرف باسم طريق التنمية، يهدف إلى ربط منطقة الخليج بأوروبا، عبر مجموعة من الموانئ والسكك الحديدية والطرق التي تمرّ في العراق وتركيا، وبالتالي إنشاء طريق تجاري بديل لقناة السويس، ومعها تشهد التبادلات التجارية بين كلٍّ من السعودية والإمارات (وهما الدولتان الخليجيتان المشاركتان في مشروع الممر الاقتصادي) وروسيا، على الرغم من غزوها لأوكرانيا، نموًا كبيرًا يشير إلى أن تخلّي هاتَين الدولتَين عن سياساتهما الخارجية الناشئة والمتنوّعة من أجل الولايات المتحدة أمرٌ مستبعد.
الحفاظ على التفوّق الإقتصادي الدائم للولايات المتحدة الأميركية، غالباً ما كان في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، فهو يشكّل هاجس القادة الأميركيين، مع إقتراب الصين من تهديد الزعامة الأميركية، وهو ما يجعل المواجهة وتصاعد التوتّرات مع واشنطن أمراً حتمياً، في ظلّ وصول الرئيس دونالد ترامب مرّة جديدة إلى البيت الأبيض، ومن المؤكّد أن تشكّل منطقة الشرق الأوسط نقطة محورية في هذا التنافس، لأنّ الحرب التجارية بين أكبر إقتصادين في العالم ستؤثّر على أسواق الطاقة، وستزيد المنافسة على النفوذ، وتضع دول الشرق الأوسط أمام تحدّيات صعبة، وهي تسعى إلى التوفيق بين مصالحها.
فقد كان الرئيس المنتخب دونالد ترامب واضحاً في حملته الإنتخابية حين تعهّد بمواجهة الصين، وهو أعدّ العدّة من خلال ترشيحه لمناصب السياسة الخارجية والإستخبارات والأمن القومي، أشخاصاً معروفين في تشدّدهم ناحية السياسة الصينية، وعلى رأسهم المرشّح لقيادة الدبلوماسية الأميركية ماركو روبيو، المعروف بآرائه المتطرّفة والحازمة تجاه الصين في مجلس الشيوخ، علماً أنه خلال ولاية ترامب الأولى، إعتمدت الصين بشكل متزايد على نفط الشرق الأوسط، خصوصاً من السعودية والعراق، لتلبية إحتياجاتها الاقتصادية، في حين قلّلت الولايات المتحدة من إعتمادها على واردات النفط من الشرق الأوسط، بسبب قوة إنتاج النفط الصخريّ، وإستمرّ هذا النهج في عهد الرئيس جو بايدن، الذي فضّل مواجهة الصين من خلال نسج تحالفات دولية، وهو ما سمح للصين بتعميق علاقاتها الاقتصادية مع المنطقة، خصوصاً من خلال عقود الطاقة طويلة الأجل، والإستثمارات في البنية التحتية ضمن مبادرة الحزام والطريق. أما بالنسبة لدول الخليج مثل السعودية، كانت العلاقة مع الصين شريان حياة إقتصادي، ومع ذلك، أثارت هذه العلاقات مخاوف في واشنطن دافعة إيّاها إلى تبنّي موقف صارم تجاه توسّع النفوذ الصيني عالمياً، حيث من المتوقّع أن تزداد حساسيّة واشنطن مع ولاية ترامب الثانية.
ففي ولاية ترمب الأولى، إنتهجت إدارته سياسات تجارية عدوانية ضدّ الصين، أثّرت على الأسواق العالمية، ولم تكن منطقة الشرق الأوسط بمنأى عن هذه التداعيات، إذ فرض الرسوم الجمركية وخلق الردّ الصيني عليها تقلّبات في أسعار الطاقة، أثّرت على إقتصادات البلدان الخليجية والشرق الأوسط التي تعتمد بشكل كبير على النفط. واليوم من المتوقّع أن ينتهج ترامب سياسات مشابهة مع تشدّد أكثر، فهو سيزيد من تشدّد واشنطن تجاه إيران، وهذا حتماً سيفاقم المشهد ويعقده أكثر، كما كان إنسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني في عهد ترامب وفرض عقوبات “الضغط الأقصى” دفعا طهران إلى التقارب مع بكين، ليتم بينهما توقيع شراكة إستراتيجية لمدّة 25 عاماً تضمّنت إستثمارات في قطاع الطاقة الإيراني، معزّزتين العلاقات الاقتصادية والسياسية بينهما.
أما بالنسبة لإيران، فقد كانت الشراكة مع الصين بمنزلة طوق نجاة في مواجهة العقوبات الأميركية الشديدة، لكنّ هذا التقارب قد يشكّل ورقة مساومة إيرانية في أيّ حوار مستقبلي مع واشنطن، من أجل إبرام صفقة حول ملفّها النووي، كذلك والى جانب الطاقة، ستكون للحرب التجارية التكنولوجية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، آثاراً كبيرة على الشرق الأوسط، بعدما حقّقت شركات التكنولوجيا الصينية مثل هواوي تقدّماً كبيراً في المنطقة، فهي ساعدت في بناء شبكات الجيل الخامس والمدن الذكيّة في دول الخليج.
أما على الصعيد العربي، فقد خلق تركيز واشنطن على مواجهة الصين، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وإنكفاؤها عن الشرق الأوسط، فرصاً أمام بكين لتوسيع نفوذها في المنطقة، في الإقتصاد والعسكر، حتى دبلوماسياً من خلال رعايتها لاتّفاق بين إيران والمملكة العربية السعودية، فبرزت علاقات متطورة بين بكين وطهران مع الحفاظ على علاقات قوية مع السعودية والإمارات، وأظهرت مقدرةً على التعامل مع تناقضات المنطقة، في حين إستغلَّت روسيا هذه المنافسة الأميركية_الصينية لتعزيز موقعها في الشرق الأوسط، متحالفة مع الصين في بعض المجالات مع السعي إلى تحقيق أجندتها المستقلّة.
وبالنسبة للعديد من دول الشرق الأوسط، فقد عزّز النهج الأميركي القائم على الصفقات التجارية والتركيز على المصالح الاقتصادية، الحاجة إلى تنويع الشراكات، وإنتهاج إستراتيجية متعدّدة الأقطاب، حيث إنخرطت الدول مع كلتا القوّتين العظميين لتعظيم مكاسبها، لكنّ يمكن لهذه الإستراتيجية أن تواجه تحدّياً كبيراً في عهد ترامب، الذي يرفض مشاركة الصين النفوذ في منطقة تعتبرها واشنطن من مناطق نفوذها، بعدما تحوّلت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين إلى ساحة معركة إستراتيجية في الشرق الأوسط، تسعى القوى الإقليمية إلى التوفيق بين المطالب المتعارضة للقوّتين العظميين. فبينما أعادت الحرب التجارية تشكيل الأسواق العالمية والتحالفات، وجدت دول الشرق الأوسط نفسها تسير على حافة الهاوية، وهي تحاول حماية مصالحها في عالم يزداد إستقطاباً، وهذا المشهد من المتوقّع أن يتكرّر وبشكل أوضح في سياسة ترمب الجديدة.
أخيرًا، قد تتأجّج الخلافات الحدودية بين دول الشرق الأوسط، سواء في حدّ ذاتها أو في إطار نزاع أوسع، كما حصل بين السعودية وقطر خلال الأزمة الدبلوماسية الخليجية بين العامَين 2017 و2021، ولا يزال الخلاف حول السيادة على حقل غاز الدُرّة المتنازع عليه بين إيران والكويت والسعودية ماثلاً، وعاملًا أساسيًا في العداوات الإقليمية، وقد يطرح مشاكل لمشاريع الممرّات الاقتصادية،علاوةً على ذلك، يشكّل النزاع المتواصل منذ عقود بين إيران والإمارات حول ملكية ثلاث جزر في مضيق هرمز، تحديًا آخر طويل الأمد للأمن الإقليمي، ولا تزال الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية وحقول النفط المشتركة بين العراق والكويت مستمرة، على الرغم من الجهود الدولية المبذولة لحلّها. يُضاف إلى ما سبق تاريخٌ من الخلاف بين السعودية والإمارات حول حقل الشيبة النفطي والحدود البحرية.
لهذه الأسباب كلّها، تواجه مشاريع الممرّات الإقتصادية الكثير من العقبات الجيوسياسية المعقّدة، ولا سيما في منطقة حافلة بالاضطرابات مثل الشرق الأوسط، مع أن هذه المشاريع تهدف إلى الربط بين مناطق مختلفة، وتسهيل الحركة الفعّالة للسلع والخدمات والأشخاص، فقد تفرز نتائج عكسية، فالمشاريع التي تمتدّ عبر الأراضي المتنازع عليها أو المناطق الحدودية الحسّاسة، يمكن أن تثير مخاوف بشأن وحدة الأراضي والسيادة، ويُحتمَل أن تؤدي الإختلالات الإقتصادية، أو التفاوت في المنافع المُحقَّقة من هذه المشاريع إلى مفاقمة التوترات القائمة.(6)
ولكي يُكتب النجاح لمشاريع الممرّات الاقتصادية الطموحة، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، لا بدّ من إعطاء إهتمام أكبر لتأثيراتها على الأوضاع الجيوسياسية الإقليمية في المدى الطويل، ويتطلّب تخفيف وطأة الضغوط الجيوسياسية، المرتبطة بمشاريع الممر الإقتصادي، تخطيطًا دقيقًا شاملًاً للجميع، وضمان شفافية العملية، من خلال الجهود الدبلوماسية، فالسعي إلى الحصول على دعم الدول المجاورة والمنظمات الإقليمية، أمرٌ ضروري لإرساء بيئةٍ تشجّع على التعاون والتنمية، وإلّا فإن النزاع سيستمر، سواء بين دول المنطقة، أو بين الولايات المتحدة والصين، وسيؤدي إلى تعقيد الأمور بشكلٍ كبير، نظراً إلى أنها لن تفاقم حدّة الخلافات بين دولٍ محدّدة فحسب، بل ستؤدّي أيضًا إلى بروز تكتّلات نفوذ جديدة ومتنافسة.
ولذلك تعبّر مشاريع الممرّات الاقتصادية، عن عملية إعادة تشكيلٍ للجوانب الجيوسياسية والإقتصادية والإجتماعية، للرأسمالية العالمية في عصرنا هذا، حيث يحتلّ الشرق الأوسط موقعًا جغرافيًا إستراتيجيًا مهمًّا في هذه العملية المتواصلة التركيب، فالولايات المتحدة والصين تسعيان إلى توسيع نطاق تنافسهما العالمي في هذه المنطقة الحيوية والمضطربة والمليئة بالصراعات، وإلى بلورة تصوّر جديد لروابط كانت قائمة في حقبات سابقة، إضطلعت خلالها منطقة الشرق الأوسط بدورٍ مركزي، ومنذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق، تعزّزت أواصر التعاون بين الصين ودول الشرق الأوسط، إذ يُعدّ مشروع الممر الإقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الناشئ، إستجابةً غربية لمبادرة الحزام والطريق، وجزءًاً من التنافس الأميركي الصيني على الأسواق والموارد والنفوذ في المنطقة.
إستراتيجية واشنطن والأمن الجماعي لدول الشرق الأوسط
إن العداء الأمريكي لبعض الأطراف في الدول الشرق أوسطية مثل إيران، وبعض فصائل وتنظيمات الإسلام السياسي، وما تصفه الولايات المتحدة بالإرهاب، ظلّت لسنوات تفرض إلْتزامات وضمانات أمريكية لهؤلاء الحلفاء الإستراتيجيين من ناحية، كما ظلّت تفرض سياسات مواجهة مع من تعتبرهم واشنطن أعداء مؤكدين أو محتملين، فأهمية المنطقة قد تراجعت جزئيًا أمريكياً، بسبب تراجع أولوية النفط العربي بالنسبة للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، بعد أن تحوَّلت إلى دولة مصدرة للنفط، وقد أمْلت التطورات الجديدة، خاصة ضمن تداعيات الحرب الأوكرانية، وما يمثله النفط والغاز العربيين من أسلحة مهمة تريد الولايات المتحدة توظيفها ضد روسيا ولصالح أوروبا، ضرورة إعادة أهمية المنطقة مرة أخرى الى الدرجة الي بات على كل رئيس أميركي القيام بجولات شرق أوسطية في كل مرة، كما فعل الرئيس جو بايدن للقيام بجولة شرق أوسطية وزيارة المملكة العربية السعودية، بعد دعم السعودية لقرار تخفيض إنتاج النفط الصادر عن منظمة أوبك – بلس، الذي اعتبرته واشنطن دعمًا سعوديًا وخليجيًا للسياسة الروسية .
كما أن هناك عاملان آخران أعطيا وزادا من أهمية إقليم الشرق الأوسط بالنسبة للسياسة والمصالح الأمريكية، لكن لم تتنبه لهما إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة الأهمية التي يستحقانها وهما الدخول الصيني القوي إلى الشرق الأوسط، وتوجهات التحالفات الإستراتيجية لبعض الدول الشرق أوسطية نحو روسيا، فإذا كان العامل الأول يلزم الولايات المتحدة بتبني سياسات للمحافظة على مصالحها الإقتصادية وتحالفاتها وشراكاتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، فإن العامل الثاني يلزم الولايات المتحدة بتكثيف تواجدها في الشرق الأوسط، من أجل إستيعاب محاولات التغلغل وتوسيع مناطق النفوذ الصينية والروسية في الإقليم.
فإقليم الشرق الأوسط أخذ يشهد تحوُّلات مهمة، بعضها تمثَّل في التحدي الروسي غير المسبوق للولايات المتحدة، بالدخول عسكريًا إلى أوكرانيا عام 2022، والذي شكل من نوع إنقلاب روسي على نظام القطب الواحد، فتزعزعت المكانة الأمريكية عند الحلفاء في الشرق الأوسط، وبعضها الآخر جاء نتيجة تراجع ثقة الحلفاء في وفاء الأمريكيين بإلتزاماتهم الأمنية نحوهم، وتمثَّل ذلك برد الفعل الأمريكي الضعيف على التهديدات التي تعرضت لها مصافي أرامكو النفطية السعودية بسبب القصف الصاروخي من جانب جماعة الحوثيين، ولذلك شهد عام 2022 تمرُّد لعدد من الدول الشرق أوسطية على الزعامة الأمريكية، مثلما فعلت الرياض بإستمرارها دعم قرار منظمة أوبك – بلس، بتخفيض إنتاج النفط بمعدل 2 مليون برميل، ومثلها فعل الإيراني في محادثات الإتفاق النووي وتصعيد تخصيب إيران لليورانيوم كخيار بديل للعودة للاتفاق، ما يعنى أن إيران باتت تفضل أن تصبح دولة حافة نووية، عن أن تعود للاتفاق بالشروط الأمريكية، ثم توجه طهران لتوقيع معاهدة تحالف طويل المدى مع الصين، وتكثيف الشراكة الإستراتيجية مع روسيا، خاصة في الحرب الأوكرانية، وحذت تركيا نفس المسار التمردي وهي حليفة واشنطن في الأطلسي، التي اتجهت إلى مزيد من التعاون مع روسيا، خاصة في ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية، وظهر ذلك واضحًا في التعاون الروسي مع تركيا في سوريا.
هذه التداعيات فرضت نفسها على مخططي السياسة الخارجية الأمريكية، لتجديد مركزية مكانة إقليم الشرق الأوسط في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وقد عبَّرت عن هذا التوجُّه التصحيحي الجديد بوضوح شديد، دراسة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحت عنوان (التعامل مع الوجود الأمني للصين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، التي أعطت أهمية لثلاث قضايا محورية ضمن أجندة مصالحها الاستراتيجية، الأولى، تتعلق بسيطرة الدعوة التي تقول إن الولايات المتحدة باتت تنسحب من إقليم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وطالبت الدراسة بتكذيب هذه الدعوة وتفنيدها بالأفعال وليس بالأقوال فقط، والثانية، تتعلق بالظهور العسكري والأمني للصين في الشرق الأوسط، والثالثة تتعلق بتحول ما سمِّي بالشركاء لحلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة نحو التعاون العسكري مع الصين، كما وحذرت الدراسة من أن دول الشرق الأوسط، سوف تسعى إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين، وأن الوجود الأمني المتزايد للصين في المنطقة، سوف يشكل معضلة للولايات المتحدة في علاقاتها مع شركائها، الأمر الذي يفرض على الولايات المتحدة إعادة تبنِّي سياسات، يكون بمقدورها كسب الحلفاء من جديد وإحتواء أي نفوذ للصين أو روسيا في الشرق الأوسط.
أما لناحية الأمن الجماعي وبعد إرتفاع حدة التوترات في الشرق الأوسط في العام الماضي في أعقاب التعرض لحاملات نفط ومنشآت نفطية سعودية، وإغتيال الولايات المتحدة لقائد عسكري إيراني كبير والرد العسكري الإيراني على ذلك، فقد قام بعض حلفاء واشنطن، من الذين فقدوا الثقة في أن الولايات المتحدة لناحية الحماية العسكرية بإطلاق مبادرات دبلوماسية حذرة حيال إيران.
وبالرغم أن هذه الخطوات الأولية بإتجاه خفض التصعيد مُرحب بها، لكنها لم تكن غير كافية، في ظلِّ غياب قنوات الإتصال الرفيعة بين الجهات الفاعلة في الصراع، وكذلك الآليات التي تقودها الأمم المتحدة لتسوية صراعات بعينها، مثل الصراع الدائر في اليمن، فهي مهمة لكنها غير كافية لتخفيف حدة النزاع في المنطقة كلها، فثمة حاجة لجهود دبلوماسية، سواء لتخفيف حدة التوترات، أو لتحقيق التقدم نحو تسوية الصراعات الإقليمية، وعلى اللعبين الخليجيين، التفكير والعمل أكثر، إطلاق حوار إقليمي شامل، يهدف إلى تخفيض مخاطر نشوب صراع، وذلك بفتح قنوات اتصال جديدة.
الشرق الأوسط اليوم هو في وضع خطر، كما كان دائماً خلال تاريخه الحديث، فأي حادث ولو كان غير مقصدود يمكنه أن يطلق حرباً، إذا لم يتم ضبطها، تؤدي الى مواجهات عنيفة تشارك فيها قوى محلية، وإقليمية وخارجية، وأن فكرة قيام حوار أمني جماعي وشامل هدفه تخفيف حدة التوترات، وهي فكرة موجودة منذ عدة سنوات، لكنها تركزت على منطقة الخليج،. تتمثل في تقديم أفكار ملموسة ودعم دولي لمثل ذلك الحوار، الذي يمكن أن يفتح قنوات جديدة للاتصال،ولتعزيز فرص النجاح، ينبغي أن يبدأ هذا الجهد بتواضع، وأن تطلقه ربما دول الخليج الأصغر بدعم دبلوماسي فعال، من مجموعة من الحكومات الأوروبية وغيرها.
عدا عن الحرب السورية وإطلاق الحرب في اليمن، تسبب العداء بين إيران وأميركا بالكثير من التعقيدات في الإقليم، فصارت هذه التوترات تنذر بسلسلة حروب متواصلة لا تنتهي، رغم التيهان الأميركي والميوعة في التعامل مع ملفات حساسة، تتعلق بالأمن الجماعي للشرق الأوسط والخليج العربي، وقد أدى إنسحاب إدارة ترامب من الإتفاق النووي الإيراني الموقع في العام 2015 وإطلاقه أقسى درجات العقوبات الاقتصادية على طهران،فإشتعلت حوادث عديدة جراء ذلك كالهجمات على سفن الشحن في مضيق هرمز وخليج عُمان في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2019، وإسقاط إيران في 20 حزيران/يونيو طائرة مراقبة مسيّرة أميركية دخلت المجال الجوي الإيراني، وهجوم صاروخي واسع النطاق على منشآت أرامكو النفطية في السعودية في 14 أيلول/سبتمبر، وفي 3 كانون ثاني/ يناير 2020 إغتالت طائرة أميركية مسيرة قاسم سليماني، قائد قوة القدس الإيرانية، وهي وحدة قوات خاصة تابعة للحرس الثوري الإسلامي، وأبو مهدي المهندس، نائب قائد القوات شبه العسكرية المدعومة إيرانياً في العراق، وهجمات انتقامية متوازية في العراق بين مجموعة شبه عسكرية مدعومة إيرانياً على القوات الأميركية في سوريا والعراق، وصولاً الى عملية طوفان الأقصى في غزة والتي جرت الى لبنان حرباً مدمرة على كل الصعد.(7)
أضف لذلك الخصومات بين إيران وحلفائها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، وبين إيران والسعودية، أعطت صبغة للصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، ببد التحول الى حروب أهلية وإلى حروب بالوكالة، فتقاطعت هذه الحروب بشكل متزايد على الأرض، وأنتجت حربان في سورية واليمن، بشكل خاص، تجسدان هذا التوصيف، وأحداثاً أقل عنفاً في العراق ولبنان، بعد إن إتهمت إيران الإنتفاضات الشعبية الساعية إلى تحقيق أهداف محلية، بأنها نتاج للتحريض الأميركي، بينما إعتبرت واشنطن أن هذه الإحتجاجات موجهة بشكل رئيسي ضد إيران، كما أن المفاوضات التي قادتها الأمم المتحدة حققت أحياناً بعض التقدم في إحتواء بعض الصراعات كاليمن، لكنها لم تتمكن من تسوية هذه الصراعات بعد في أماكن كثيرة في سوريا أو السودان أو لبنان، لكن الأسوأ من ذلك، هو أن هذه الخطوط الحمراء تبدو غير واضحة في غياب قنوات تواصل فعالة، وسوء التواصل الذي يزيد من إحتمال حدوث صراعات غير مقصودة، وهي حرب يقول اللاعبون الرئيسيون إنهم لا يسعون إليها، لكن قد يسيرون إليها بأرجلهم وملء إرادتهم.
وعليه، فإن الأزمات الراهنة في الشرق الأوسط تتطلب مقاربة جديدة، تعالج نقاط الضعف في الحلول، وتأخذ بعين الإعتبار التعقيدات المتزايدة للوضع، فالمنطقة قطعت بتحول دراماتيكي منذ الانتفاضات العربية في العام 2011، وأن أي عملية لتخفيف حدة إضطرابها سوف تتطلب تحوُّلاً في النمط التحليلي والتشغيلي لآليتها.ولذلك على الدول الغنية والبعيدة أو الأقل إنخراطاً في الحروب والأعمال العسكري كدول الخليج مثلاً والتي ستكون من أكبر المتضررين في الحروبن عليهم التفكير وإتخاذ مبادرات مشتركة دائمة ومستمرة لتخفيف حدة التوترات، على شكل حوار أمني شامل، يستند إلى مبادئ رئيسية يمكن للجميع أن يحترمها، تركز على مزيج من الهواجس المتعلقة بالقوى الناعمة والصلبة يتشاطرها الجميع، وأن يبدأوا بشكل متواضع، لتنفتح بشكل أكبر قنوات الإتصال التي زادت طبيعتها المحدودة حتى الآن، من مخاطر نشوب صراع بسبب الخطأ في الحسابات، وهذا يمكنه أن يسهم في تخفيف التوترات بين الخصوم اكبار وفي الإقليم.
لكن من المؤكد أن هذه الحوارات الإقليمية تتطلب رعاية ومظلة دولية تتعلق بالولايات المتحدة الاميركية ودورها في المنطقة، لكن طالما ظلت واشنطن عازمة على المضي قدماً في حملتها لممارسة أقصى درجات الضغط على إيران مثلاً او سوريا، فمن غير المرجح أن تدعم أي مبادرة تنطوي على الحوار مع طهران، بإستثناء الحكومات الأوروبية والتي ستتضرر مصالحها الأمنية جراء حدوث مواجهة أوسع، لكن من لا يعتبر دول الخليج بأن سياساتها في المنطقة تشكل تهديداً، يمكن أن تتولى التحضير لحوار إقليمي شامل وأمني ، وغكتساب النجاح من تجربة المفاوضات الناجحة التي أفضت إلى إتفاقات هلسكني في العام 1975 خلال الحرب الباردة.
يمكن أن تطون أرضية للحوار جاهزة الآن، كون المنطقة تمر بأسوأ أوضاعها وهي فرصة لتوليد الحلول حيث أن الأوضاع في الخليج وصلت إلى تلك النقطة، رغم أن تطورات سلبية يمكن أن تحدث لكن لا ينبغي أن تكون سبباً للاستسلام، فحين غنخرطت الولايات المتحدة وإيران في تراشق الإتهامات بشأن الجائحة، فإن بعض دول الخليج إختارت مساراً مختلفاً، وقدمت المساعدة لإيران التي تصارع أزمة صحة عامة، وبسبب أية أحداث غير متوقعة كهذه، فإن أي عملية شاملة ينبغي أن تستمر لمدة طويلة، وأن تكون محصنة من الدسائس والمكائد المرتكزة الأخبار على العاجلة اليومية، وأن تستمر في التحرك لتخفيف تدريجي لحدة التوترات، من خلال الحوار والتوسيع المستمر لقنوات التواصل بصرف النظر عن العقبات المحتملة، والمحتمة فعلياً، فهي أيضاً تجربة يمكن الركون إليها وإعتبارها مرتكزاً للنجاح في تخفيف حدة التوترات الأمنية في الشرق الأوسط.(8)
في الختام…
هناك رغبة أميركية واضحة في إعادة رسم خريطة المنطقة للشرق الأوسط، مستندة على ما بين التقاطع مع إيران والتحالف مع إسرائيل، وعلى الفواعل في الإقليم تسريع الخطى في إعادة ترتيب أوضاعها، على قواعد جديدة تُسعف الدول المنهكة أمنياً وإقتصادياً، وتعطي الأمل لشعوبها في أكثر من خيار وتوجه.
اليوم تتجه الأنظار إلى أسلوب تعاطي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، مع النظام الإيراني في المستقبل القادم لأربع سنوات من ولايته، حيث أن العلاقة بين الطرفين، طوال ولاية ترامب الأولى كانت علاقة متوترة وعدوانية، تخلَّلها تصاعد الإتهامات الأميركية للنظام الايراني بدعم الإرهاب، وتخلَّلها كذلك خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الإتفاق النووي الموقع بين البلدين في العام 2016 من جانب واشنطن، وإنتهت باغتيال قائد الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني في بغداد بأمر مباشر من ترامب نفسه، وإنتهت ولاية الأخير في ذروة التصعيد بين البلدين.
النظام الايراني راهن بشدة على فوز مرشحة الحزب الديموقراطي للرئاسة كاميلا هاريس، لإعتبارات تتعلق بالإدارة الديمقراطية بأنها ستكون أسهل من إدارة ترامب، وكان أسفر ذلك عن توقيع الإتفاق النووي بين البلدين عام 2015، وتمَّ على أثر ذلك تغطية كل تدخلات النظام الإيراني في الحروب المذهبية والهيمنة في المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبالرغم من التصعيد والتوتر في العلاقات بينهما، بعد عملية طوفان الأقصى، بقيت قنوات الإتصال بين واشنطن وطهران مفتوحة على مصراعيها، بشكل مباشر وغير مباشر، وبلغت ذروة التنسيق بينهما في الردود الايرانية المدروسة على إسرائيل، إنتقاما لضرب مقر قنصليتها في دمشق، وكذلك في الرد الإسرائيلي الأخير على إيران، بعد أن وظَّفت طهران كل طاقاتها لتأمين فوز مرشحة الحزب الديموقراطي للرئاسة، وتجنَّبت القيام بأي رد فعل يؤثر سلباً على حظوظها بالفوز.
لكن وبعد فوز ترمب وهو في طريقه لدخول البيت الأبيض، عدنا الى نغمة التبادل في الإتهامات ونبرات التصعيد على حساب دول المنطقة، إذ أعلن مرشد الثورة الاسلامية علي خامنئي، فور الإعلان عن فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الاميركية، بأن الجهاد في لبنان وغزة وفلسطين سيتواصل بقوة، والمقاومة ستنتصر في النهاية، ونوَّه بدور حزب لله، وحركة حماس، في المقاومة ضد إسرائيل، وأكد أن ايران تقف بقوة إلى جانب المقاومة، حتى تحقيق النصر على الكيان الصهيوني، والدفع لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدةالأمريكية معاً. كما أعلن الرئيس ترامب عداءه للنظام الإيراني، ويخطط لإنتهاج سياسة الضغط الأقصى، بتفعيل نظام العقوبات الأميركية ضد طهران، لتقليص مصادر تمويل المنظات والأحزاب الموالية لها بالمنطقة، والتشدُّد في المِلف النووي الايراني.
فهذه السياسات هي تكملة أو ربما وقوف لمسار في العلاقات بين البلدين، حيث بدأ الحديث جدياً بعد عملية طوفان الأقصى عن اليوم التالي في غزة ولبنان، وعن ضرورة تغيير خريطة الشرق الأوسط، لكن في الواقع لا يُمكن إستخلاص الإستنتاجات وإحتماليتها لما بعد إنتهاء هذه الحرب، دون فهم ظروفها وأبعادها وما هو مطلوب من خلالها إقليمياً ودولياً، وكيف يعمل أو يُفكّر من يتحكّمون فيها.
وضمن سياق المنطق المعتمد، جرت مقارنة _وهي مقارنة غير عبثية_، بين حادثة البرجَين في 11 أيلول 2001 وعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين أول 2023، وهي كذلك ضروريةً لمحاولة فهم الواقع الجديد الذي سيسود المنطقة كلها عند إنتهاء الحرب المتعدّدة الجبهات، التي تخوضها إسرائيل حالياً، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية.
فقد شكلت أحداث 11 أيلول 2001، نقطة تحوّل في سلوك التنظيمات الجهادية السنّية المسلّحة، وتنظيم القاعدة في حينه، بعد أن خرج هذا التنظيم عمّا رُسِم له سابقاً، أو ما هو مسموح له به من دورعند نشوئه، بمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان، في وقت كان فيه الإتحاد السوفياتي السابق، كخصم لدود لواشنطن، يُصنّف نظاماً شيوعياً ملحداً في الإيديولوجيا الدينية والعقائدية الراديكالية للقاعدة ، وشكَّل ذلك فرصةً إستغلّتها واشنطن لتأتي بمن يخوض عنها مواجهةً أكثر سخونةً من حربها الباردة مع موسكو.
وضمن نفس المنطق والمسار، تعتبر عملية طوفان الأقصى، بأنها شكَّلت خروجاً لإيران وأتباعها من الفصائل المسلحة التي تدور في فلكها، عمّا هو مسموح لها به أميركياً، من أدوار في المنطقة العربية وبمواجهة إسرائيل، أو أقلّه تجاوزاً للحدود التي يُمكن معها لإسرائيل ومن خلفها أميركا أن تغضّ النظرعنه، أو تكتفي بردٍّ ضمن حدود المتوقّع، والذيّ كان يُعبّر عنه بقواعد الإشتباك المعمول به أقله منذ العام 2004 ،أي بعد سقوط النظام العراقي، حيث كانت هذه الحروب تخاض مع تل أبيب وفي فلسطين المحتلة، عبر مثلث مشترك إخراجي يخرجه الأميركي والإسرائيلي والإيراني معاً، فيكون الجميع رابح من كل لعبة حربية، تكون مضبوطة الإيقاع والأهداف المستقبلية فيها.
ولذلك، كانت أولى نتائج حادثة البرجَين بروز تقاطع مصالح أميركي – إيراني، على حساب التقاطع الذي كان قائماً بين القاعدة وأميركا، خصوصاً مع إنتهاء صلاحيته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحول القاعدة الى جيش عاطل عن العمل في أفغانستان، ما سمح لها في لحظة 11 ايلول 2001 بنقل ساحة الجهاد الى قلب أميركا وضرب البرجين، وترجم هذا التقاطع بين طهران وواشنطن بشكلٍ واضحٍ، في الحرب التي شنّتها أميركا على العراق، تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل، وإسقاط حكم صدام حسين، البلد العربي الوحيد الذي كان قد دخل بحربٍ مباشرة مع إيران في زمن الولي الفقيه، عُرفت بحرب الخليج الأولى، كما أنه ليس مصادفةً أيضاً، حدوث إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في زمن هذا التقاطع الجديد وهو إغتيال مشروع وليس إغتيال شخص، والذي أنتج تحوّلات تاريخية، تمثّلت بخروج الجيش السوري من لبنان وتوسّع النفوذ الإيراني فيه، حيث يمكن القول، أنه قبل هذا الإغتيال، كان محور الممانعة في لبنان تابعاً وبالكاد يجر نفسه أو يحمل كلفته، لكن بعد هذا الإغتيال، تسلَّمت إيران محرِّك المنطقة في لبنان وسوريا والعراق، وأعطت عجلة القيادة لحزب لله، الذي عرف كيف يُمسك بمعظم مفاصل السلطة في لبنان، وصولاً الى الإستئثار بقرار السلم والحرب في تموز 2006 وفي الحرب الحالية عبر فتح جبهة الإسناد.
إن تقاطع المصالح الأميركية مع المصالح الإيرانية بعد حرب الولايات المتحدة، ومعها قوّات التحالف الدولي بوجه العراق في العام في العام 2003، أدَّى الى سقوط حكم البعث، ونظام الرئيس صدام حسين، ونشأت على أطلالها وتحت وطأة الضربات الأميركية، والتمدّد الإيراني من العراق الى لبنان مروراً بسوريا، تنظيمات سنيّة متشدّدة من داعش وغيرها، كانت كفيلة بإعادة نقل ساحة الجهاد عكسياً من نيويورك الى بغداد والموصل وكربلاء، وغيرها من المدن العراقية، التي سيطرت عليها إيران تحت نيران صواريخ الكروز والتوماهوك الأميركية، وحتى لُبنان وسوريا لم يسلما، لا من تلك التنظيمات الإرهابية، ولا من توسّع النفوذ الإيراني فيهما.
ففي حين شكّلت حادثة 11 أيلول 2001، بدايةً للتقاطع الإيراني الأميركي في المنطقة، فإن حادث 7 أكتوبر 2023، شكّل بداية الخروج منه، أقله من ناحية الموقف الأميركي المتحالف مع إسرائيل كأولوية إستراتيجية، خاصّةً أنه لأول مرّة ظهرت تناقضات حقيقية، بعد عملية طوفان الأقصى بين مصالح هذا التحالف، وبين تمدّد النفوذ الإيراني الذي سمح به ذاك التقاطع.
واشنطن التي كانت تعتبر أن النفوذ الإيراني في المنطقة، هو حاجةً لضمان أمنها عبر إبعاد خطر الجهاد السنيّ عنها، من خلال نشوء نزاعات مذهبية مسلّحة في منطقة الشرق الأوسط، تريحها وتريح معها اسرائيل في ذات الوقت، وبنفس الوقت، من وجهة نظر إيران كانت أميركا وحربها على العراق ضروريةً لها، لتحقيق ما عجزت عنه طوال ثماني سنوات من حربها مع العراق، بإسقاط صدام حسين والسيطرة على العراق، لبسط سيطرتها ونفوذها على المنطقة، بما صار يعرف بــ”تمدد الهلال الشيعي” من إيران الى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، خاصّةً أن ذلك قد زاد بقوة من لعب دور للحوثي في اليمن، وتعزيز مكانة طهران الإقليمية والدولية، مما ساعدها في تحقيق أهدافها السياسية التوسّعية في المنطقة العربية، وتعزيز الدور الأمني، عبر الضغط على أمن دول الخليج العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، وكذلك الضغط العسكري، من خلال زيادة عامل الردع لحماية برنامجها النووي، وتكثيف عملية تصدير الإيديولوجيا للثورة الإسلامية والدينية، وتطوير مصالحها الإقتصادية، للحدّ من عزلتها الدولية، وتأثير العقوبات عليها والسيطرة على طرق الإمداد البرّية، كعامل قوة يُضاف الى تحكّمها بحركة الملاحة البحرية عبر مضيق هرمز، الذي يُشكّل أحد أهم الممرّات البحرية للتجارة العالمية ونقل النفط. فمنطقة الشرق الأوسط كواقع جيوإستراتيجي، هي قلب العالم بما تمتلكه من طاقة ونفط وغاز وسلاسل للتوريد، وبما يتعلق بها من أمن للملاحة البحرية والدولية، تجعل من يقبض عليه، ويستحوذه، وكأنه تحكم بمفاصل العالم كله.
ولذلك فإن عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حماس، المدعومة بشكلٍ معلن ومباشر من إيران، رغم تنصُّل ونفْض طهران يدها منها، شكّلت تخطياً من إيران لحدود الدور المرسوم لها أميركياً، والمقبول به إسرائيلياً في المنطقة، وقد شكّل إغتيال إسرائيل لزعيم حماس إسماعيل هنيّة، الرسالة الأوضح على عدم القبول الإسرائيلي والأميركي بهذا التجاوز، الذي كسر قواعد الإشتباك وأبطل التقاطعات المعمول بها سابقاً كلياً، والتي راهن حزب لله على إستمرار صلاحيتّها أثناء إطلاقه معركة إسناد غزّة، وكان ذلك الإغتيال مؤشراً واضحاً، على إتجاه المنطقة نحو الحرب المفتوحة، اذ أنَّ حصوله داخل الأراضي الإيرانية، وعشية حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، حمل دلالات تصعيدية واضحة أقْحمت إيران لأوّل مرّة في المواجهة المباشرة مع اسرائيل.
فعملية إغتيال هنيّة شكّلت جسّ نبض إسرائيلية لإيران ومعها حزب اللّه، لقياس ردّ فعل كلّ منهما، قبل التصعيد الإسرائيلي في لبنان، من تفجيرات البايجر وصولاً الى إغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر لله، وما بينهما وما بعدهما من إعتداءاتٍ وإغتيالات، حيث أن عجز إيران أو إمتناعها عن الردّ بفعالية، زاد من حماسة نتنياهو للإستمرار في التصعيد، وفتح شهيته، ومعها فتح الباب أمام تحوّلات جوهرية في ميزان القوى الإقليمي، ربما تفرض تغييراً جذرّياً في سلوك إيران، تلك الدولة التي صارت محكومة بالتعاطي بعقلانية مع عملية التطويق والتطويع التي تتعرّض لها اليوم، والتغاضي عن محاولة تطويع أذرعها أو حتى بترها، إذا ما أرادت حماية أولوياتها الإستراتيجية الطويلة الأمد، والمتمثّلة ببرنامجها النووي.
وفي خضم هذه التحولات الكبرى، يُمكن من دون جهد، ملاحظة حصول تبدّل في أدبيات إيران الثابتة منذ الثورة الاسلامية تجاه أميركا، من قبل المرشد السابق الخميني والمرشد الحالي الخامنئي، الذي وصف الشعب الاميركي بالصديق، على لسان الرئيس الإيراني الحالي بزشكيان، والذي تخلّى أيضاً عن شعار إزالة إسرائيل من الوجود مصرّحاً أن إيران ترغب أن يعمّ السلام في المنطقة، لكن تبديل تلك المفردات، لم يترافق حتى الآن مع أي تغيير في السلوك، وقد يكون مردّ ذلك، أن طهران لا تُريد دفع الثمن لإدارة الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن، فهي تبني سياساتها على الإبتزار والرهان، لمعرفة ما سيحمله الرئيس المنتخب دونالد ترامب لها، أو ما سيطلُبه منها ترغيباً أو تهديداً، حتى تتمكّن من معرفة المسارات الآمنة التي ما زالت مفتوحة أمامها ووجهتها أو محطّتها النهائية.
يبقى أنه، ومع تصاعد حدّة الأعمال العسكرية الإسرائيلية وتوسّع رقعتها الجغرافية، من المبكّر إستخلاص أُفق الحرب الدائرة حالياً ونتيجتها النهائية، ولكن ممّا لا شكّ فيه، أن محاولة إيران التنصّل من عملية طوفان الأقصى، وتبرير عدم إنخراطها في الحرب لن تكون كافية، وإذا كان صحيحاً أن إيران تصرّفت دوماً على أنها خارج حلبة الصراع المباشر، لتترك أذرعها تتصرف بحرية، فإنه من الصحيح أيضاً أن الولايات المتّحدة، هي المنظّم الرئيسي لحلبة الصراع في هذه المنطقة، والقادرة على إدارة قواعده، وتحديد هوية اللاعبين فيه، والتحكّم بالجميع، فحالة التفكُّك في المنظومة الإقليمية ستستمر، وأن الجانب الإقتصادي المتفكك لا يقل خطورة عن التفكُّك الإقليمي، وأن أي ترتيبات في المنطقة لا بدَّ وأن ترتبط بالتغييرات التي ستطرأ على النظام الدولي، وأن ما هو مطلوب من مشروع الدولة، يتجاوز معيار البقاء الذي لا يلبي طموحات الشعوب، كما أن النُّخب السياسية والفكرية، مطالَبة بدور أكبر وأكثر فاعلية إزاء الوضع القائم، لأن أحد أسباب الربيع العربي هو إخفاق هذه النُّخب وإفلاسها.
فلم نصل بعد في هذه المنطقة إلى النهاية في عملية التحوُّل الديمقراطي، والمسألة قد تأخذ سنوات، ولكن التغيير أمر حتمي، إذ أن الهند إستطاعت تحقيق التحولً الديمقراطيًّ، فيجب الإستفادة من بروز قوى جديدة في الساحة الإقليمية والدولية، مثل الصين وروسيا، اللَّتين تحاولان إستغلال هذه التوترات، لتعزيز نفوذهما في المنطقة، وهو عقَّد نسبياً من العلاقات الأميركية مع بعض حلفائها التقليديين، الذين بدأوا يبحثون عن شركاء جدد، وإنتهاج إستراتيجيات مستقلة، تخفِّف من إعتمادهم على الولايات المتحدة، كالمملكة العربية السعودية، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، والتحوُّل يحدث بضرورة توفر الإرادة ورسم سياسة إستراتيجية مستقبلية، مع استمرار التوتّرات بين واشنطن وبكين دون أيّ بوادر للتهدئة، تظلّ منطقة الشرق الأوسط ساحة معركة حاسمة، حيث تتقاطع الطاقة والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية في مشهد معقّد ومليء بالمفاجآت.
ربّما مجيء ترامب من جديد، لقيادة الولايات المتحدة، وأسلوبه الواضح في السعي إلى تحقيق مصلحة المواطن الأميركي أوّلاً، قد يساعد في تسريع التسويات وعقد الصفقات، فالصين التي ترى العالم أسواقاً تجارية، والدول العربية التي تنظر دائماً بعين الريبة إتجاه أميركا وتدخّلها في شؤونها الداخلية، قد تجد في ترامب رجلاً عمليّاً مستعدّاً دائماً للتوصّل إلى اتفاق إذا حصل على ما يريد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-عبدالله أوجالان،مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس، الطبعة الثالثة،صفحة 332 و 334.
2-عبد الرحمن الراشد، صحيفة الشرق الأوسط،الخميس, 7 نوفمبر 2024 – 06 جمادي الأول 1446 هـ
3- مهران سالم ،تعثّر بناء الدولة العربية هل النشأة كانت «قسرية»؟لجمعة 18 كانون الأول 2015 – العدد 5585 – صفحة ،
15الموقع الإلكتروني:http://www.almustaqbal.com/v4/article.aspx?Type=NP&ArticleID=687442
5- جون بلودورن, تالين كورنشليان،
7- الرياض/أبو ظبي/طهران/مسقط/الدوحة/بروكسل، 27 نيسان/أبريل 2020