مقالات

المصطلحات ودلالاتها

تحليل: د. سحر حسن أحمد

إن البشرية شهدت مؤخراً حدوث طفرة هائلة على كافة المستويات، تسببت في ولادة ملايين المفاهيم والمصطلحات الجديدة، بينما بقيت جذور اللغة محدودة لا تتجاوز بضعة آلاف. هذا التفاوت الكبير أوجد فجوة بين ما يتطلبه العلم من مفاهيم وما تنتجه اللغة من مصطلحات، الأمر الذي استدعى توحيدًا للمبادئ التي توجه استحداث المفاهيم أو تعديلها، ووضع المصطلحات المناسبة لها وتطويرها.

وكما قال الخوارزمى إن المصطلحات هي مفاتيح العلوم وإذا كان أيضاً لكل علم مصطلحاته، فإن قضيه المصطلح تفرض أهميتها؛ حيث لا يُمكن أن يكون هناك علماً له حدوده ومرتكزاته من دون وجود مصطلحات تحدد مجالاته وترسم كلياته وتُفصل جزيئاته وتُميزه عن غيره. فهكذا، بزغ علم المصطلح، الذي يدرس الصلة الوثيقة بين المفاهيم العلمية والمصطلحات اللغوية والاجتماعية التي تُعبر عنها. إنه علم مشترك يجمع بين علوم اللغة والاجتماع والفلسفة والمنطق والتخصصات العلمية، هدفه صياغة مصطلحات تترجم المفاهيم بدقة ووضوح، لتكون جسرًا فاعلاً للتواصل والفهم.


بدايات نشأة المصطلح

تعود نشأة المصطلحات إلى العصور القديمة، حيث نشأت الحاجة إلى إنشاء مفاهيم ومصطلحات تعبر عن الأفكار والأشياء الموجودة في الحياة اليومية. كل حضارة وحقبة زمنية كانت تطوّر مصطلحاتها الخاصة، فتجد أن الحضارات القديمة كالمصرية والسومرية والبابلية واليونانية والميتانية والميدية وضعت مصطلحات لتسهيل التواصل وتوضيح الأفكار.

وفي العصور الوسطى، انتشرت المصطلحات الفلسفية والعلمية مع تطور الفلسفة والعلوم، واستمر تطور المصطلحات مع تقدم الحضارات الإسلامية والغربية، وتوسع المعرفة البشرية، فظهرت مصطلحات متخصصة في العلوم والفنون والأدب.

ومع الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ازدادت الحاجة للمصطلحات الجديدة لتواكب تطور التكنولوجيا والعلوم. وفي العصر الحديث، أصبحت المصطلحات تتطور بوتيرة أسرع، خاصةً في مجالات التقنية والمعلوماتية، حيث تضاف مصطلحات جديدة بشكل مستمر لتعبر عن الابتكارات والمفاهيم الجديدة.

ومن المهم الإشارة إلى المصطلحات كانت تجسد قوة تعبيرية ومعنوية مؤثرة في مراحل التاريخ المختلفة ولذلك كانت السلطات والمجتمعات تحاول الاستفادة منها في كافة المراحل.

لقد نشأت المصطلحات أيضاً لخدمة القرآن الكريم وبيان إعجازه، وكانت بوادر ظهورها في التراث العربي مع بدء ظهور الدراسات الإسلامية التي عُنيت بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والفقه، والتشريع، والسنة النبوية، فأصبح للمُفسر مصطلحاته في علوم القرآن ولدارس الحديث مصطلحاته في علوم الحديث. ومن ثم، قدم لنا علماء العرب قديماً كماً هائلاً من المصطلحات. وقد أسهم انتشار العلوم العقلية في توسيع توظيف  هذه المصطلحات، حيث كان المتكلمون من أوائل الذين اهتموا بالمصطلح لحاجتهم إليه في المحاججة لإثبات صحة معتقداتهم.  

أما علم المصطلح  Terminologieفقد ظهر فى النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي على يد المفكر الألماني كريستيان كوتفريد شوتز (1747- 1832م)، لكنه لم يجد صدى كعلم قائم بذاته إلا في بداية القرن التاسع عشر، حيث اهتم العلماء اللسانيون في جمع قواعده وتوسيع نطاقه عالمياً، وتعريفه بصورة واحدة متفق عليها مستفيدين بست لغات في ذلك العصر مع المفكر شولمان، وهكذا صدر“ بين عـامي (1906م) و(1928م) معجمه المصور للمصطلحات التقنية في ستة عشر مجلداً. وتكمن أهمية هذا المعجـم في اشـتراك مجموعة من الخبراء الدوليين في تصنيفه، وأنه لم يرتب المصطلحات ألفبائياً، وإنما رتبها على أساس المفاهيم والعلاقـات القائمة بينها “. بيد أن الأبحاث المصطلحية لم تأخذ طابعا نسقياً حقيقياً على المستويين النظري والتطبيقي إلا في ”بدايـة العقـد الثالـث من القرن العشرين تحت تأثير أفكار المهندس النمساوي أوكن فوستر Wuster Euge وهذه الأفكـار طورها كل من لوطLotte. S.D  (1950-1898 (- وشابلجين Caplygin. A.S (1942-1869م) وقد اقضـت في مجمـلها ضرورة إعطاء البحث المصطلحي طابعاً أكثر عقلانية، وذلك بتطوير المقدمات النظرية للعمل المصطلحي ومـناهجه، وفي هذا الإطار تم إنجاز تمثل فلسفي لعلم المصطلح يجعله منفتحاً على علم المنطق وعلوم اللغة وعلم الوجود وعلم التصـنيف.

وقد أخذ علم المصطلح بالتوسع إلى أن بلغ العالمية و أصبح يُدرس في المعاهد العليا والجامعات لما له من ضرورة أدبية وعلمية، فهو يطور اللغة بحسب الحاجة التي تدعو إليها الضرورة لتوليد مصطلح جديد بناء على المجهودات اللغوية، ويتضمن المصطلح طرق لوضعه والتأصيل له، ومن بين هذه الطرق : الاشتقاق والنحت والتعريب والمجاز والترجمة.

ماهية المصطلح

         إن المصطلح هو أساس بناء المعرفة المتخصصة، ويُعد حلقة الوصل بين اللغة والتخصصات العلمية أو التقنية المختلفة، حيث يُسهّل تبادل الأفكار ويُسهم في توحيد الفهم العلمي عبر الثقافات المختلفة. إذاً فالمصطلح أداة لغوية تُعبر عن مفهوم معين وتُستخدم داخل سياق علمي أو تخصصي لتعريف أو وصف ظاهرة أو فكرة بدقة ووضوح. يختلف المصطلح عن الكلمات العادية في أنه يحمل دلالة خاصة ضمن مجاله، ويكون نتاج توافق بين العلماء أو المتخصصين بهدف تسهيل التواصل وتقليل اللبس في تبادل المعلومات. ومن ثم يُمكن أن نعرف المصطلح من خلال اتجاهين الاصطلاحى واللغوى.


أولاً: اصطلاحياً

الاصطلاح هو اتفاق جماعة من المتخصصين على وضع اللفظ المناسب للمعني، فكل هذه التعريفات تصب في مصب واحد وهو اتفاق جماعة من المتخصصين على وضع اللفظ المناسب لمعنى معين، وأن كل علم يختص بمصطلحاته الخاصة فهو اتفاق لغوي بين طائفة مخصوصة على أمر مخصوص في ميدانه الخاص.

يُعرف أبو بكر عبد القاهر الجرجاني ( 1009- 1078م) علم المصطلح على النحو الآتي: ” هو عبارة عن اتفاق قوم على تسمية شيء باسم بعد نقله عن موضعه الأول لمناسبة بينهما أو مشابهتهما في وصف أو غيرها” .

تعني الاصطلاحية “اتفاق جماعة على أمر مخصوص وهذا الاتفاق والتواطؤ أو التصالح إن تم بين جماعة المحدثين تفتق عن مصطلح في الحديث، وإن قام بين جماعة الفقهاء على مسائل في الفقه نتج عنه مصطلح في الفقه، وإن كان بين جماعة من النحاة صنعوا مصطلحاً نحوياً، وقل مثل ذلك في سائر العلوم”.

 الاصطلاح عبارة عن “اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضوعه الأول وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر ، لمناسبة بينهما، قيل : الاصطلاح إخراج الشيء من معنى لغوي إلى معنى آخر، لبيان المواد، و قيل : الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين”

ثانياً: لغوياً

جاء في المعاجم العربية أن أصل كلمة ” مصطلح” مأخوذة من الفعل الثلاثي “صلح” من مادة ( ص ل ح ). كما ورد في لسان العرب لأبن منظور ( 1233- 1312م) ” أن الصلاح ضد الفساد والصلح السلم وقد اصطلحوا واصّلحوا  وتصالحوا وأصالحوا”. أما المعجم الوسيط فيضيف ” صلح ، صلاح ، و صلوحاً : زال عنه الفساد ، أصلح القوم : زال ما بينهم من خلائف وعلى الأمر تعارفوا عليه واتفقوا”. كما يرى أن المصطلح هو ” اتفاق القوم على شيء ما يضعونه بينهم “، بمعنى أن المصطلح هو اتفاق جماعي على معنى معين لكلمة أو تعبير، يتم تداوله بين المتخصصين أو في نطاق محدد من الفهم.

في تعريف آخر نجد مرتضى الزبيدي ( 1732- 1790م) يعرفه في معجمه فيقول: الصلاح: الفساد وأصلحه ضد أفسده وقد أصلح الشيء بعد فساده: أقامه، يُقال وقع بينهما صُلحَ تصالح القوم بينهما وهو السلم بكسر السين المهملة وفتحها، وقوم مصلُوحُ : متصالحون، كأنهم وصفوا بالمصدر، والإصلاح : اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص . وكل هذه التعريفات لكلمة ” مصطلح ” في اللغة العربية ومع تتبع هذه التعريفات في المعجمات العربية التي تم ذكرها والتي لم يتم ذكرها تعطي مفهوم واحد لمادة ( ص ل ح ) الذي لا يتجاوز مفهوم السلم والمصالحة والاتفاق والمواضعة وكل ما هو نقيض للفساد والخلاف.

كما أختلف تعريف المصطلح عند العلماء بناءً على مجالات دراستهم وتخصصاتهم، إلا أن هناك نقاطاً مشتركة حول مفهومه الأساسي لعل على رأسها. وجود اتفاق جماعي بين المتخصصين في مجال معين لتعريف المصطلح بكونه اتفاقًا ضمنيًّا أو صريحًا. كذلك دقة المعنى وثباته فيحمل المصطلح معنى دقيقًا وثابتًا في مجاله، يُميزه عن الاستخدامات العامة. وأخيراً يُستخدم المصطلح في سياقات علمية أو تقنية محددة لتوصيل المفاهيم بدقة. ومن تعريفات المصطلح كما يراها العلماء في مجالات متعددة:

  • يرى الجاحظ (776- 868م) المصطلح من منظور لغوي على أنه كلمات أو تعبيرات تتميز بخصائص خاصة تجعلها مختلفة عن اللغة العامة، حيث قال إن “الكلمات تتغير معانيها وتتطور حسب ما يحتاج إليه الناس”، وهو ما يُعبر عن المرونة في المصطلحات وتكيفها مع السياق.
  • تناول الفرابى ( 874- 950م) المصطلحات في سياق الفلسفة، حيث عرف المصطلح بأنه “عبارة عن ألفاظ لها دلالات مخصوصة في مجال معرفي معين”. وهذا التعريف يظهر أهمية الدقة في تحديد المصطلحات، لتكون وسيلة واضحة للتعبير عن الأفكار الفلسفية.
  • علماء المصطلح الحديث (مثل أوجين وولف وويليام ويفر):  عرفوا المصطلح على أنه “الوحدة الأساسية في اللغة التقنية”، حيث يُستخدم لتعريف المفاهيم بطريقة دقيقة وثابتة، ويُعد عنصرًا أساسيًا في التواصل العلمي والتقني.
  • علماء اللسانيات وعلم الدلالة: يعرفونه بأنه “وحدة لغوية تمتلك معنى محددًا في نطاق معين”، ويشددون على أن المصطلحات تختلف عن الكلمات العادية بكونها تملك تعريفًا خاصًا ومعنى تقنيًا أو علميًا، وغالبًا ما تكون مكونة من كلمة أو أكثر، لتعبر عن مفاهيم أو ظواهر علمية محددة.

في ضوء هذه التعريفات، يُمكن القول إن العلماء يرون المصطلح كأداة دقيقة للتواصل العلمي والمعرفي تُساعد في نقل الأفكار والمفاهيم المتخصصة بوضوح وثبات.

أما علماء الاجتماع فينظرون إلى المصطلحات على أنها أدوات أساسية لفهم وتحليل الظواهر الاجتماعية، حيث تُستخدم لتعريف المفاهيم والتعبير عن الأفكار المعقدة في سياقات محددة. وقد اختلف تعريف المصطلح لدى علماء الاجتماع بناءً على المدارس الفكرية التي ينتمون إليها، إلا أنهم يشتركون في بعض الخصائص الأساسية للمصطلحات. من قبيل: أولاً، يجب أن يكون المصطلح دقيقًا وواضحًا لتجنب سوء الفهم. ثانياً، يجب أن يُعبر المصطلح عن جوانب محددة من الحياة الاجتماعية ويساعد في دراستها. ثالثاً، يجب أن تعكس المصطلحات العلاقات بين الأفراد والمجتمع، وتكشف عن القوى والعلاقات التي تُشكل السلوك الاجتماعي.أما عن تعريفات علماء الاجتماع للمصطلح فنجد:

  • يرى إميل دوركهايم Émile Durkheim ( 1858 – 1917م) عالم الاجتماع الفرنسي، أن المصطلحات الاجتماعية يجب أن تكون واضحة ومحددة، حيث استخدم مفهوم “الظاهرة الاجتماعية” كأحد المصطلحات الأساسية لتعريف الجوانب الاجتماعية التي يجب دراستها بشكل مستقل عن الأفراد. بالنسبة له، المصطلح ليس مجرد كلمة، بل وسيلة لفهم التنظيم الاجتماعي والحقائق الموضوعية داخل المجتمع.
  • يرى ماكس فيبرMax Weber  ( 1864- 1920م) أن المصطلحات يجب أن تكون محايدة وقابلة للتطبيق في التحليل العلمي. استخدم مفهوم “النموذج المثالي” لتقديم مصطلحات تمثل أوصافًا مجردة يُمكن استخدامها كأدوات تحليلية لدراسة أنماط سلوك الأفراد داخل المجتمع. بالنسبة له، المصطلح الاجتماعي يتطلب دقة لأنه يُساعد في فهم العلاقات الاجتماعية وتحديد الظواهر الاجتماعية بمنهجية علمية.
  • بيير بورديو Pierre Bourdieu ( 1930- 2002م) يعتبر بورديو المصطلحات أدوات لفهم التفاعل بين الأفراد والهياكل الاجتماعية، حيث استخدم مفاهيم مثل “الحقل” و”رأس المال الثقافي” و”الهابتوس” لتوضيح العلاقات التي تربط الأفراد بالمجتمع، وكيف تؤثر هذه العلاقات في تشكيل الهويات الاجتماعية والتصرفات. بالنسبة له، المصطلحات لا تعبّر فقط عن المفاهيم بل تساعد في كشف القوى الاجتماعية الخفية.
  • هربرت بلومر Herbert Blumer ( 1900- 1978م) من خلال منظوره في التفاعل الرمزي، يرى بلومر أن المصطلحات ضرورية لفهم كيف يتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض ويصيغون المعاني. وفقًا له، المصطلحات ترتبط بالتجربة الفردية وتساهم في بناء المعاني الاجتماعية من خلال التفاعل.
  • أنتوني جيدنز Anthony Giddens ( 1938- 1984م) يرى جيدنز أن المصطلحات تساعد في تحليل الديناميكيات بين الفرد والبنية المجتمعية، واستخدم مفهوم “الثنائية” لوصف تأثير المجتمع على الأفراد والعكس. ويرى أن المصطلح يجب أن يكون ديناميكيًا وقادرًا على تمثيل العلاقات المعقدة بين الأفراد والبنية.

شرعنة المصطلحات:

شرعنة المصطلح أو توثيقه عملية يتم من خلالها قبول وتثبيت استخدام مصطلح جديد ضمن اللغة المتداولة وتوثيقه في المصادر الموثوقة مثل المعاجم والقواميس، وتتم عملية شرعنة المصطلح غالبًا عبر خطوات متسلسلة تشمل:

  1. الاستخدام الواسع: يبدأ المصطلح عادةً في الظهور من خلال الاستخدام العام من قبل الناس في وسائل الإعلام، أو الأوساط العلمية، أو بين المتخصصين في مجال معين. كلما زاد تكرار المصطلح في الكتابات أو المحادثات، زادت احتمالية قبوله.
  2. تحديد المعنى والمفهوم: يجري بعد ذلك تحديد معنى المصطلح بشكل دقيق، وغالبًا يتم تبنيه إذا استطاع بشكل واضح التعبير عن مفهوم جديد أو ملء فراغ لغوي في لغة معينة.
  3. تبني المصطلح في الأوساط الأكاديمية: تُعدّ المصطلحات التي تُعتمد أكاديميًا في البحوث والدراسات أكثر قابلية للقبول، حيث يبدأ الأكاديميون والمختصون باستخدامه والترويج له في مجالهم.
  4. إدخال المصطلح في المعاجم والقواميس: عند تأكيد استخدامه في السياقات المتعددة وتوضيح معناه، يتم توثيق المصطلح في المعاجم اللغوية والقواميس المتخصصة، وفق رأي المجامع اللغوية والعلمية. وهذا يشكل خطوة رسمية لشرعنة المصطلح واعتباره جزءًا من اللغة.
  5. القبول المجتمعي العام: يأتي هنا دور القبول المجتمعي، حيث يبدأ المصطلح بالانتشار ويصبح مقبولاً على نطاق واسع في المجتمع.
  6. التأصيل القانوني لبعض المصطلحات، فهناك مصطلحات تحتاج إلى اعتمادها من قبل لجان علمية ومختصة.

وتسهم وسائل الإعلام الحديثة والتواصل الاجتماعي في تسريع هذه العملية، حيث يصبح تبني المصطلحات الجديدة أكثر سرعة مما كان عليه في السابق، مما يعكس تأثير التطور التقني على تطور اللغة.

تتجلى أهمية تعريف المصطلحات في العصر الحديث في كونها أداة تستخدمها الإمبريالية العالمية لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية. فالمصطلحات ليست مجرد كلمات، بل هي مفاهيم، لا بل مفاتيح، تحمل في طياتها دلالات وأيديولوجيات تُسهم في تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي. كما أن هذا الاستخدام الانتقائي للمصطلحات يُساعد القوى الإمبريالية على تعزيز سلطتها، حيث تُعيد صياغة المعاني لتُناسب مصالحها، مما يؤدي إلى فرض هيمنة هذه الدول.

من هذا المنطلق، تأتي رؤية المفكر عبد الله أوجلان – صاحب مشروع الأمة الديمقراطية – الذي قدّم قراءة ناقدة لهذه الهيمنة من خلال إعادة صياغة معاني المصطلحات الأساسية، وفي هذا السياق، يطرح أوجلان رؤى عميقة حول المعاني المتعلقة بالثقافة واللغة والمدينة والديمقراطية والكونفدرالية ألخ ، بالإضافة إلى مفاهيم السلطة والدولة القومية والجماعة الكومنالية والحداثة الرأسمالية. إذ يؤكد أوجلان على أن الثقافة ليست مجرد تراث تاريخي، بل هي ممارسة حية تعكس الهوية الجماعية. كما يرى أن اللغة هي وسيلة للتواصل والفهم، تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي .إضافة، على ذلك، يعتبر  الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي أسلوب حياة يتطلب مشاركة فعالة من قبل الأفراد في اتخاذ القرارات. من جهته، يربط مفهوم الكونفدرالية بالقدرة على التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة، بعيداً عن الهيمنة التي تُمارسها الدولة القومية.

تتجلى هذه المفاهيم في تعارضها مع الحداثة الرأسمالية، التي غالباً ما تُهمش القيم الثقافية والديمقراطية لصالح التراكم الرأسمالي والهيمنة الاقتصادية. إذ يسعى أوجلان إلى إعادة تعريف هذه المصطلحات بما يتماشى مع رؤية شاملة للعدالة والمساواة، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية. وبذلك، يتمكن من تقديم بديل يتجاوز القوالب التقليدية التي تفرضها الدول الكبرى، داعياً إلى بناء مجتمع يقوم على القيم الجماعية والتنوع الثقافي . فاذا لم يتم فهم معاني تلك المصطلحات ولم يتم ممارستها في الحياة بشكل جيد لم يتم إدراك معنى الحياة في فلسفة السيد أوجلان.

  إن إعادة تعريف المصطلحات يؤدي بالضرورة إلى التغيير الثقافي المنشود للوصول إلى حقيقة المجتمعات البشرية التي تتمثل في فكر الأمة الديمقراطية التي فيها التصحيح لكافة المصطلحات وحل لكافة المشاكل فى مجتمعه لا بل فى الشرق الأوسط، وذالك بطرح مفهوم الإدارة الذاتية الديموقراطية للمجتمعات التي تُمارس فيها الحرية بمعناها الإنساني والاجتماعي الصحيح، وتُمارس أيضاً الديموقراطية بمعناها المبسط اليوناني ، حكم الشعب من الشعب وللشعب ، بإسلوب الإدارة المجتمعية الأخلاقية وليس بإسلوب السلطة وهي أيضاً تُصحح معني السياسة بأنها إدارة المجتمع لسد حاجاته وأمنه وتطوره وبقاءه متمثلة الاخلاق الاجتماعية …وهي ليست لصالح فئة أو طبقة من المجتمع تتحكم به وتسيطر على امكاناته وتستعبده فهذه أساليب الدولتية أي سلطة الدولة وليس إدارة المجتمع…. وهكذا بالإدارة الذاتية يتم تصحيح المفاهيم برمتها وإعطاءها معناها الحقيقي ولا يبقى شيء بدون جواب أو حل من الهويات القومية إلى الدينية والأثينية والطبقية والاقتصادية …الخ .

 ففي هذا السياق، يُشكل تعريف مصطلحي “الثقافة” و”المدنية” خطوةً أساسية تُسهم في إيضاح طبيعة المجتمع وتوسيع آفاق فهمنا للتحليل الاجتماعي؛ إذ يوفر هذان المصطلحان إطارًا مرجعيًا لفهم السياقات التي تتفاعل فيها القيم، والسلوكيات، والمؤسسات ضمن أي مجتمع. ومن خلال هذا التحديد الأساسي، يُمكن لنا بعد ذلك تناول المصطلحات الأخرى المتعلقة بالتحليل الاجتماعي بشكل أكثر دقة وترتيباً، مما يُسهم في تطوير منهج تحليل الظواهر الاجتماعية بطريقة متكاملة.

 لفهم المجتمع وحركته واقتصاده وسياسته والآلية التي يتحرك بها ومشاكلها وسبُل حلها، لابد من إعادة النظر في المصطلحات والمعاني التي تُعبر عنها ومدى توافقها مع الحقيقة لأن هناك مصطلحات تعطي عكس معانيها اللفظية مثل، الحرية والديمقراطية. ومن أهم الأمور التي تُنير الطريق للمعرفة والوصول إلى الحقيقة هي الثقافة كما أنها تُشكل عامل حقيقى في حال الثقافة المتحجرة أو سبب العداوات في حال الثقافة المعادية للإنسانية والتي تؤدي إلى الإرهاب أو الثقافة المتعصبة القومية أو الدينية أو الطائفية وغيرهم، وتؤدي إلى الإبادات بأشكالها الجسدية والثقافية ؛ ولذالك تحديد مفهوم وموقع الثقافة في المجتمع هي أساس لفهم المصطلحات الاخرى. وعند التعريف الدقيق للثقافة وفهمها ستفتح الطريق لفهم وتدقيق المصطلحات الأخرى . ولذالك لابد من الخوض في تعريفها.


الثقافة  

تظل المعرفة نسبية حال كونها محدودة بالإنسان. ومع ذلك، يبقى جدل حول مدى قدرة الإنسان على فهم الكون بالكامل، فالعقل البشري، وإن كان ممثلًا للكون بحدود معينة، لا يزال محدودًا بتلك الحدود نفسها. فالنتيجة التي يُمكن الوصول إليها هنا هي أن المعرفة نسبية ومرتبطة بالطبيعة الاجتماعية. ولتجاوز أزمات العلم، يجب التركيز على هذه الطبيعة الاجتماعية وتنسيقها بشكل متوازن مع الأبعاد الإنسانية والأخلاقية والجمالية.

تُعدّ الثقافة ظاهرة اجتماعيّة، فهي نتاج أيّ مجتمع ولا تتشكّل كظاهرة فردية، أي أنّها تحتاج إلى وجود مجتمع كامل حتى يستطيع أيّ فرد تشكيل وتطوير ثقافته من خلال تفاعله الاجتماعي مع الآخرين ضمن المجتمع. ولا تُعدّ الثقافة إرثاً بيولوجيّاً يُورَث من الآباء، كما أنّها ليست أمراً يُكتسب بالفطرة، لكنّها موروث اجتماعي، أيّ يتمّ تعلّم السلوكات السائدة في المجتمع من خلال التفاعل والتواصل مع الأفراد الآخرين فيه. وتنتقل الثقافة من جيل إلى آخر من خلال انتقال الصفات الثقافية من الآباء إلى أطفالهم، والذين بدورهم ينقلونها إلى أطفالهم مستقبلاً، وهكذا.

وتختلف الثقافة من مجتمع إلى آخر؛ إذ أنها ليست واحدة في كل المجتمعات، فلكل مجتمع ثقافته الفريدة وطرقه الخاصة التي تُميّزه عن غيره من المجتمعات، كاختلاف العادات والتقاليد، والمعتقدات من مجتمع إلى آخر. ويُمكن اعتبار الثقافة بأنّها ذاكرة العرق البشري، فهي لا تسود في المجتمعات لفترة زمنيّة معينة ثمَّ تُنسى، إنمّا تُعدّ عملية مستمرة تنتقل من جيل إلى آخر مع إمكانيّة إضافة سمات ثقافية جديدة عليها. وتتغيّر من مجتمع إلى آخر ومن جيل إلى آخر عبر الزمن، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ تلك التغيّرات تتمّ بسرعات مختلفة. وتوجد العديد من الأسباب التي تجعل الثقافة مهمة جداً.

إذاً فالثقافة هي مجموعة من العادات والتقاليد والمعارف والقيم والمعتقدات والفنون والأساليب التي تميز مجموعة بشرية معينة وتُحدد هويتها. تشمل جميع جوانب الحياة اليومية، بدءًا من اللغة المستخدمة، والعادات الاجتماعية، والممارسات الدينية، وصولًا إلى الفنون والأدب. وتتأثر بعوامل متعددة مثل التاريخ، والبيئة، والتكنولوجيا، وتفاعلات المجتمعات المختلفة. بيد أن للثقافة تعريفات عدة وقد بلغت ما يربوا على 160 تعريفاً مختلفاً. يتميّز مفهوم الثقافة بشموله لأنواع العلم، فهو يُستخدم في مختلف العلوم كعلم اللّسانيّات، وعلم النفس، والإنسانيات، والفلسفة، والاقتصاد وغيرها، لذا يُمكن إيجاد العديد من التعريفات حول هذا المفهوم بحسب الفرع المُستخدَمة به. من هذه التعريفات نجد :

يُعرِّف مالينوفسكي Malinowski (1884- 1942م)  الثقافة على أنّها وسيلة تحسّن من وضع الإنسان، حيث يستطيع مواكبة التغيُّرات الحاصلة في مجتمعه أو بيئته عند تلبية حاجاته الأساسية.

يرى تايلو Taylor ( 1832- 1917م) الثقافة على أنّها نظام متكامل يشتمل على كلٍّ من المعرفة، والفن، والقانون، والعادات والتقاليد، والأخلاق، وغيرها من الأمور التي يكتسبها الإنسان بوصفه أحد أفراد المجتمع.

حاول سايبر   Saper ( 1884- 1939م) وضع مفهوم شامل للثقافة، لذا وضع ثلاثة تعريفات تُكمّل بعضها البعض، الأول: أيّ صفة يتّصف بها الإنسان يكون مصدرها الإرث الاجتماعي. الثانى: مجموعة من الأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر في مجتمع ما بسبب التأييد الاجتماعي لها، ويكون أساسها التراث. الثالث: مجموعة من الأفكار التي تدور حول الحياة والاتجاهات العامة ومظاهر الحضارة التي يتميّز بها شعب ما، وتُكسبه مكانة خاصة في العالم.

عرَّف كلايد كلوكهون  Clyde Kluckhohn ( 1905 -1960م) الثقافة على أنّها إرث اجتماعي وصل إلى الأفراد من المجتمع الذي ينتمون إليه، والذي خلّف أساليب حياة الشعوب التي عاشت في ظلّ ذلك المجتمع، بمعنىً آخر هي المعلومات التي خزنها الشخص في كتبه، أو حتى في ذاكرته.

يرى ليزلي وايت  WHIT( 1900- 1975م) الثقافة على أنّها وسيلة تُساعد الأفراد على تنظيم معتقداتهم، وقيمهم، ومعارفهم، وجميع الأشياء التي تعلّموها في حياتهم، والذي يُشكّل في النهاية أنماط سلوكهم. مكونات الثقافة تتكوّن الثقافة من مجموعة من العناصر الرئيسية، والتي تختلف وتتغيّر من ثقافة إلى أخرى، وتتطوّر بتطوُّر المجتمع.

من الواضح أن الثقافة والمجتمع مترابطان بشكل وثيق، فلا يُمكن وجود ثقافة دون مجتمع يحتضنها، ولا يُمكن للمجتمعات الاستمرار دون ثقافة تنظمها، وإلا تحولت إلى حالة من الفوضى. فعلى سبيل المثال، تعد اللغة العنصر الأساسي للمجتمعات والموروث الثقافي الأهم؛ إذ تتيح التواصل بين الأفراد. بالتالي، فإن أي محاولة لفصل الثقافة عن المجتمع هي محاولة غير مجدية. ومع ذلك، يتعرض كل من الثقافة والمجتمع اليوم لتحديات عديدة، أبرزها العولمة الثقافية، التي أدت إلى تآكل الخصوصيات الثقافية للمجتمعات وتحويل العالم إلى قرية صغيرة، مما يجعل الإنسان يشعر بالاغتراب عن هويته الثقافية، حيث يواجه منظومات ثقافية عالمية تتعارض مع خصوصيته الثقافية. مما أدى لظهور مفهوم “الاستعمار الجديد” الذي يسعى لفرض سيطرة ثقافة المركز كنموذج عالمي، حيث يتم تذويب الخصوصيات الثقافية لصالح ثقافة موحدة فرضت بالقوة. وعلى الرغم من تنبيه علماء الاجتماع كفوكو وهابرماس إلى أن المعرفة مرتبطة بالقوة والمصلحة، إلا أن المثاقفة المستمرة تفضي إلى هيمنة ثقافة المركز وابتلاع ثقافات الأطراف. وتروج مصطلحات مثل “التفاعل الثقافي” و”حوار الحضارات” لنمطية ثقافة المركز كمعيار عالمي. لذلك، يجب على كل مجتمع الحفاظ على خصوصيته الثقافية، واختيار ما يتماشى مع قيمه وأخلاقياته، مع تعزيز الوعي بأهمية حماية الهوية الثقافية من الذوبان في عصر الصراع الثقافي.


الثقافة فى المشروع الأوجلانى

ويرى المفكر عبد الله أوجلان أن الثقافة ليست مجرد مجموعة من العادات والتقاليد، بل هي تعبير جوهري عن الهوية الجماعية للمجتمع، وجوهر المقاومة ضد أشكال الهيمنة الخارجية. ففي سياق مشروعه الفكري والسياسي، يُولي أهمية كبرى للثقافة كوسيلة لتحقيق الاستقلال والتحرر، فهي ليست فقط حافظة لتراث الشعوب، بل أيضًا عامل مؤثر في تكوين إرادتهم الجمعية وقدرتهم على مواجهة التحديات، خاصة في ظل ما يسميه “الحداثة الرأسمالية” التي تسعى إلى صهر الهويات في قالب موحد.

يعتبر أوجلان أن الثقافة يجب أن تكون أصيلة ومتجذرة، وأن تعكس حياة الجماعة الكومنالية، حيث تُبنى الثقافة الحقيقية في المجتمعات على التعاون والمشاركة، لا على السيطرة والقمع. كما يربط بين الثقافة واللغة، مؤكدًا أن اللغة هي حامل رئيسي للذاكرة الجمعية وللقيم الاجتماعية، وأي محاولة لإضعافها هي خطوة نحو تدمير الهوية نفسها. ومن ثم تُعد إبادة ثقافية .

في إطار مشروعه، ينادي أوجلان بضرورة تكوين ثقافة ديمقراطية حرة تتحدى الهيمنة الإمبريالية، وتؤكد على حق الشعوب في الحفاظ على خصوصياتها وتطويرها في إطار “كونفدرالية ديمقراطية” تجمع بين المجتمعات المختلفة دون أن تلغي اختلافاتها. ويُعد هذا الطرح ركيزة أساسية لمفهومه حول بناء مجتمع قائم على قيم التضامن والمساواة، بعيدًا عن التبعية للدولة القومية وأشكال السيطرة الرأسمالية.

ويرى مفكرنا تعريف الثقافة بشكل عام على أنها مجموعة من الأفكار والبُنى التي طوّرها المجتمع البشري عبر التاريخ. وتُعرف البُنى بأنها المؤسسات التي تتغير وتتطور باستمرار، بينما يُمكن تعريف الأفكار على أنها المحتوى الغني والمتنوع لهذه المؤسسات، الذي يرتبط بها بشكل متبادل ومتوازن. ولتوضيح هذا المعنى، يُمكن اعتبار البُنى كالإطار المادي، بينما تمثّل الأفكار مضمون هذا الإطار أو القانون الذي يمنحه الحياة ويُغنيه بالمشاعر والأفكار. وهذا يشبه إلى حد ما مفهومي “الطبيعة” و”الروح” عند الفيلسوف هيغل، حيث أصبحت هذه الأفكار أكثر رسوخًا مع التقدم العلمي اللاحق.

حيث يُركز التعريف الشائع – المحدود- للثقافة غالبًا على اعتبار الثقافة كمعنى ومضمون وإطار أخلاقي ينبض بالحياة. وعند الحديث عن المجتمع، يرى أوجلان أن الثقافة بمعناها الضيق تشمل الأفكار والأخلاق والفن والعلم الخاص بالمجتمع. وعندما يتم دمج المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع هذا المعنى، نصل إلى مفهوم الثقافة العام. لا يُمكن اعتبار المجتمع كيانًا قائمًا بذاته دون وجود بنية مؤسسية ومعنى أساسي له. أما تصور مجتمع يعتمد على المؤسسات أو المعنى وحده فقط ككيان مستقل، فهو مضلل، إذ إن المجتمعات بحاجة إلى مزيج من المعنى والمؤسسات لكي تكتسب هوية.

ومن ثم، لا يُمكن الحديث عن ثقافة أو معنى لمجتمع بعد أن تتفكك مؤسساته، حيث تشبه المؤسسة الكأس الذي يحوي الماء؛ وعند تحطم الكأس، يتشتت الماء ويفقد دوره الأصلي. كذلك المجتمع الذي يفقد جمالياته وقيمه المشتركة يُصبح أشبه بجسد بلا روح. إن المجتمع الذي يفقد عقله الثقافي يشبه جسدًا يتداعى بلا حياة. ولذا، لتحديد هوية ثقافية لأي مجتمع، لابد من توافر بنية مؤسسية وعالم معنوي متكامل. مثال ذلك المجتمع الكردي الذي يُعاني من تفكك مؤسساته وضياع معانيه، مما يجعله عرضة لخطر الإبادة الثقافية.

الثقافة ليست مجرد مجموعة من العادات والتقاليد أو الإنتاجات الفنية والأدبية، بل هي منظومة متكاملة تؤسس لهوية المجتمع وتحدد تفاعلاته، وترتبط بشكل وثيق مع نضاله من أجل الحرية والمساواة. ويرى أوجلان أن الثقافة وسيلة لتفكيك البنى الاجتماعية السلطوية، التي تكرّس الطبقية والهيمنة، وتُسهم في تشكيل ثقافة المقاومة عبر التوعية بالمظالم والقيم التحررية. وبهذا، ينظر إلى الثقافة كأداة مقاومة، لا كنتاج ساكن، مشيرًا إلى أنها تحمل إمكانيات التحرر والمساهمة في بناء مجتمعٍ ديمقراطي تعددي يحترم التنوع والحقوق المتساوية.

ومن ثم فإن عبدالله أوجلان يُقدم تعريفًا مغايرًا تمامًا لمفهوم الثقافة مقارنةً بالتعريفات السائدة وينظر للثقافة على أنها وسيلة مقاومة وتحقيق للذات الجماعية، في حين أن الثقافة التقليدية غالبًا ما تُعرَف بوصفها تراثًا يُحافَظ عليه أو تُعزَّزُ به هوية المجتمع. كما يؤكد على أن الثقافة ليست منفصلة عن السياسة والاجتماع؛ بل هي مرتبطة بشكل جذري بتحدي الذهنية الذكورية، ومواجهة الرأسمالية والهيمنة، مع الدعوة إلى العودة للطبيعة المتوازنة في المجتمع.

اللغة ( الركيزة الأساسية للثقافة)

تُشكل اللغة الركيزة الأساسية للثقافة فى أى مجتمع، كما تُعد أحد أبرز وأعمق تجليات الوجود الإنساني؛ إذ تتجاوز كونها مجرد وسيلة للتواصل إلى كونها عنصراً حيوياً يُشكّل الهوية الثقافية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات. فكل كلمة تُنطق، وكل جملة تُبنى، تحمل في طياتها تاريخاً وذاكرة جمعية، وتُعبر عن أفكار وعواطف لا حصر لها. إن اللغة ليست مجرد رموز صوتية أو مكتوبة، بل هي كائن حى يعبر عن المشاعر الإنسانية والأفكار، تمثل وسيلة للتعبير عن الرغبات، الآلام، والأحلام. فهى ذاك الجسر الخفي الذي يربط الإنسان بالعالم. وبما أن اللغة تُعتبر كائن حي فهى تنمو وتتطور مع مرور الزمن، وهي تعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تطرأ على المجتمعات

         اللغة هي عبارة عن مجموعة من الرموز والإشارات التي تُشكل إحدى أدوات المعرفة، هذا وتعتبر اللغة إحدى أهم وسائل الاحتكاك والتفاهم والتواصل في شتى ميادين الحياة بين الأفراد في المجتمع، وبدونها يتعذر النشاط المعرفي للأفراد. ترتبط أيّ لغة في العالم بالتفكير ارتباطاً وثيقاً، حيث إن الأفكار البشرية يُمكن صياغتها دوماً عن طريق قالب لغوي حتى في حالة التفكير الداخلي أو الباطني. فاللغة هي القدرة على اكتساب واستخدام نظام معقد للتواصل وخاصة قدرة الإنسان على القيام بذلك، واللغة هي أحد الأمثلة المحددة من هذا النظام، وتسمى الدراسة العلمية للغة بعلم اللغويات.

في سياق أكبر، تعبر اللغة عن الهوية والانتماء؛ فاللغة الأم تعزز الانتماء إلى جماعة معينة وتمنح الفرد شعورًا بالانتماء إلى ثقافة معينة. من جهة أخرى، هناك لغات عالمية قد تُسهم في بناء التواصل الثقافي بين الشعوب وتوسيع آفاق التفاهم، لكنها قد تُشكل تحديات أمام اللغات الأقل انتشارًا التي تسعى للحفاظ على وجودها وتجنب الاندثار.

لم يتفق علماء اللغة على تعريف واحد للغة، ويعود عدم اتفاقهم إلى ارتباط علم اللغة بعلوم عدة، أهمها: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم المنطق، والفلسفة، وغيرها. فكان كل عالم ينظر إلى اللغة من زاوية العلم الذي يعمل في ميدانه. ولعل من أشمل تعريفاتها التعريف القائل” اللغة ظاهرة سيكولوجية – نفسية – اجتماعية ثقافية مكتسبة … تتألف من مجموعة رموز صوتية لغوية، اكتسبت عن طريق الاختبار، معاني مقررة في الذهن، وبهذا النظام الرمزي الصوتي تستطيع جماعة ما أن تتفاهم وتتفاعل “.

وكان علماء العرب هم أول من وضعِوا تعريفات للغة، ولعل تعريف ابن جني( 941- 1002م) نال الشهرة بيْن أكثرِ الباحثين المحدثين لما تضمنه من دقة واتفاق مع التعريفات العلمية الحديثةِ للغة، ولأنه يشمل معظم جوانب التعريف التي عرضها علم اللغة في العصر الحديث . فقد عرفها ابن جني ” باب القول على اللغة وما هي: أما حدها “فإنها أصوات” يعبر بها كل قوم عن أغراضه” ، ورآها دي سوسير (1857- 1913م) أنها “نتاجٌ اجتماعيٌّ لملَكة اللسان ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبنَّاها مجتمعٌ ما؛ ليُساعد أفراده على ممارسة هذه الملَكة، وأوضح ابن الجبّان (884 – 965م) أن الكلام: أصواتٌ قُطِّعَت ضرْبًا من التقطيعِ وألِّفَت ضرْبًا من التأليف، ووُضِعَت للأفهامِ، وأما المحفوظُ والمكتوبُ فلن يُدعى كلامًا إلا مجازًا، وفي ذلِك خلافٌ بين الناس”. ورأى فخر الدين الرازي (1150- 1210م) تحـت باب الكـلام في اللغات ” أعلم أن لفظة الكلام عند المحققين تُقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة  والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني فقال أبوالحسين الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها وربما زيد فيه فقيل إذا صدر عن قادر واحد. وقال عنها ابن خلدون “(1332- 1406م) أعلم أن اللغة في المتعارف عليه هي عبارة عن المُتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، فلا بد أن تصير مَلَكَةً مُقررةً في العضو الفاعِل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمةٍ بحسب اصطلاحِهِم.

أما تعريفها عند المحدثين فنجدها تدور معظم التعريفات على محورين أساسيين ألا وهما، الأول طبيعة اللغة وهي كونها أصوات والثانى ، وظيفة اللغة، وهي كونها تستخدم للإبلاغ والتواصل والتعبير عن الأفكار. ويفصلُ بعض الدراسين في تحليل الجوانب التي تدور حولها تلك التعريفات، ويجعلها أربعة، ويُضيف إلى المحورين السابقين أن اللغة ظاهرة اجتماعية وليست فردية، وأن دلالة اللغة على المعاني عُرفية وليست منطقية.

وجاء تعريف مصطلح “اللغة” فى العصر الحديث عند العلماء بناءً على مجالات البحث المختلفة، مثل اللغويات، الفلسفة، والعلوم الاجتماعية. ومن أبرز التعريفات:

  • في علم اللغة (اللغويات): تُعرّف اللغة بأنها نظام من الرموز والأصوات تُستخدم للتواصل بين الأفراد. ويعتبر هذا النظام معقدًا ويشمل القواعد (النحو والصرف) والمعاني (الدلالة) والأساليب (الأسلوب).
  • في الفلسفة: تُعتبر اللغة وسيلة للتعبير عن الأفكار والمشاعر، وتلعب دورًا أساسيًا في تشكيل التفكير والتفاعل الاجتماعي. في هذا السياق، يُنظر إليها كأداة للفهم والتواصل، وليست مجرد وسيلة للتعبير.
  • في علم النفس: تُدرس اللغة كظاهرة معرفية، حيث يُنظر إليها كعملية ذهنية تشمل اكتساب اللغة واستخدامها في التفكير والتواصل.
  •  في العلوم الاجتماعية: تُعتبر اللغة جزءًا من الهوية الثقافية والاجتماعية، حيث تُستخدم لتحديد الانتماءات الثقافية وتعزيز التفاعلات الاجتماعية.

ومن ثم، يُنظر إلى اللغة ككيان متكامل يتضمن جوانب صوتية، ومعنوية، ونحوية، وثقافية، مما يجعلها أداة حيوية في الحياة الإنسانية. فلقد عبر العلماء عن اجتماعية اللغة بقولهم: “إن اللغة لا تنشأ إلا في مجتمع”، و”إن اللغة لا تستعمل إلا في مجتمع”، و”إن الكلام يختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية في المجتمع الواحد في العصر الواحد؛ “يُمكن لشعبين ينشأنِ في نفس المنطقة الجغرافية، في وقت واحد، أن يختلف كلامهما، ويَرجع ذلك إلى عدد من العوامل الاجتماعية” فاللغة تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية، فهل تجد – على سبيل المثال – مفرداتِ ونبرات من ينتمي إلى بيئة ريفية هي نفسها التي تجدها عند من يسكن بيئة صحراوية، وثالث في بيئة ساحلية أو حضارية؟ لا شك أننا نُلاحظ مِثلَ هذه الاختلافات، التي تكون في بعض الأحيان مدعاةً للسُّخرية والتهكم.

اللغة من المنظور الأوجلانى

أوضح أوجلان أن مصطلح اللغة أرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الثقافة، حيث تُشكّل اللغة العنصر الأساسي في مجال الثقافة بمعناها الضيق. وذكر أنه بالإمكان تعريف اللغة، في هذا السياق، “على أنها جوهر الثقافة نفسها”. فهي تُمثل الإرث المجتمعي الذي يتجسد في الذهنية والأخلاق والجماليات والعواطف والأفكار التي اكتسبها المجتمع عبر الزمن. اللغة هي التعبير المادي عن الهوية الجمعية، وهي لحظة الإدراك التي يُعبّر عنها من خلال المعنى والعاطفة. فالمجتمع الذي يُعبر عن ذاته من خلال لغته يمتلك حجة قوية للحياة، لأن تقدم المجتمع وازدهاره يتجسد في مدى تطور لغته، فكلما كانت اللغة أكثر رقيّاً، كان مستوى تقدم الحياة في ذلك المجتمع أعلى.

فاللغة والثقافة يُشكلان الجذور الإنسانية العميقة التى لا يُمكن اقتلاعها إلا على يد بعض المؤرخين الجهلة. ويُمثلان الحاضنة الحقيقية لعودة البشرية إلى جذورها الطبيعية. في جوهرهما، تسعيان إلى القضاء على الذهنية الذكورية المتمثلة في الحرب والقتل، ومحو الطبيعة من أجل إعمار المدن والرأسمالية التى تُهاجم جميع اللغات والثقافات، مما يستدعي ضرورة الحفاظ على التنوع اللغوي والثقافي في الشرق الأوسط ككنز من التقاليد. والعولمة المتسلطة التي تُسيطر على عقولنا من خلال نظريات ضعيفة وواهية. فالعودة إلى الثقافة واللغة تعني استعادة القيم الإنسانية النبيلة والحفاظ على التنوع. وكذلك الحفاظ على الهوية الثقافية.

بيد أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي تجسيد للثقافة والتراث الاجتماعي، مما يبرز ضرورة الحفاظ على اللغة وتنميتها كجزء أساسي من الهوية الثقافية لأي مجتمع.

وقد عبر أوجلان عن الفكرة القوية حول العلاقة بين اللغة والمجتمع، ومدى تأثير اللغة على الهوية الثقافية والمعنوية للمجتمعات؛ إذ أكد على أن اللغة تُعد مؤشر على الرفعة، فتعكس قوة اللغة الأم لمجتمع ما مستوى الحياة فيه. وأوضح أن خسارة اللغة يُعد فقدان للهوية فعندما يفقد مجتمع لغته الأصلية ويخضع لسيطرة لغات أخرى، فإنه يفقد جزءًا كبيرًا من هويته، مما يؤدي إلى الاستعمار الثقافي والتآكل الاجتماعي. والمجتمعات التي تُعاني من فقدان لغتها لن تتمتع بحياة غنية بالمعاني والقيم الجمالية والأخلاقية، بل ستواجه حياة مأسوية تؤدي إلى تآكل وجودها الثقافي. وأكد على ضرورة إعادة بناء القيم المؤسساتية لتلك المجتمعات التي فقدت معانيها، لأن ذلك يساعد في محاربة الاستعمار الثقافي واستعادة الهوية. أما فى حالة المجتمعات المقهورة، فقد أشار الى الحالة التي يمر بها المجتمع الكردي كمثال على هذا الوضع، حيث أصبح المجتمع في حالة من القهر والبؤس، مما أدي إلى التشتت وفقدان القيم والأخلاق وبالتالى  فقدان اللغة والمعاني والتى بدورها أدت إلى أخطاء وخيانات على الصعيدين الفردي والجماعي، عكست ضعف البنية الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع.

وقد أكد على أهمية اللغة في تشكيل الهوية الثقافية والأخلاقية ، لأن هذا يعكس رؤية عميقة لضرورة الحفاظ على اللغة كجزء من النسيج الاجتماعي لأي مجتمع، ومكافحة محاولات طمس الهويات الثقافية. ومن ثم يجب المحافظة على اللغة والثقافة مترابطتان بشكل وثيق، وتطويرهما لمواجهة التحديات المعاصرة، لأنهما يمثلان الهوية والروح الإنسانية.

ولا شك أن تعريف عبدالله أوجلان للغة يُعَد مختلفًا عن التعريفات الأخرى التي تركز عادةً على اللغة كوسيلة للتواصل ونقل المعلومات. إذ يرى أوجلان أن اللغة هي أكثر من مجرد أداة للتواصل؛ إنها تجسيدٌ للهوية الجماعية ووعاءٌ للذاكرة المجتمعية. فاللغة عنده ليست مجرد كلمات تُستخدم للتعبير، بل هي الإرث الذي يحمل الذهنية والقيم والعواطف والأفكار التي كوَّنها المجتمع عبر الزمن. وبالمقارنة، تقتصر التعريفات الأخرى للغة غالبًا على الجانب الوظيفي والتقني، بوصفها أداة لنقل الأفكار أو توصيل المعلومات بين الأفراد. أما أوجلان، فينطلق من فهم عميق لدور اللغة كركيزة للثقافة والمقاومة، معتبرًا أنها تُمثل روح المجتمع وقوته التي تعكس مدى تطوره. ويؤكد على أن فقدان اللغة أو تهميشها يؤدي إلى فقدان جزء من الذات والهوية المجتمعية، حيث يرى اللغة وسيلة لتعزيز الحرية والتمسك بالجذور الأصلية في مواجهة سيطرة الذهنية الذكورية والرأسمالية.

المدينة

يُستخدم مصطلح “المدينة” للإشارة إلى منطقة حضرية تتميز بوجود كثافة سكانية عالية ووجود بنية تحتية متطورة. يُعرف عادةً بأنها مكان يتجمع فيه الناس لأغراض مختلفة مثل السكن، العمل، التعليم، والترفيه. تتميز المدن عادةً بوجود: البنية التحتية، الخدمات، النشاطات الاقتصادية، والتنوع الثقافي. بشكل عام، وتُعتبر المدينة مركزًا حيويًا للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

يتنوع تعريف مجتمع المدينة بين العلماء والمفكرين، حيث يتناول كل منهم جوانب مختلفة لهذا المفهوم. ومن هذه التعريفات والنظريات التي تناولها العلماء حول مجتمع المدينة نجد :

  • إميل دوركهايم: يرى عالم الاجتماع الفرنسي، أن المدينة تُمثل مرحلة متقدمة من التنظيم الاجتماعي. وفقًا له، فإن المدينة تُسهم في خلق نوع من التضامن الاجتماعي المعقد (التضامن العضوي) بسبب تنوعها واحتوائها على فئات اجتماعية مختلفة، مما يؤدي إلى تفاعلات اجتماعية معقدة.
  • ماكس ويبر(1864- 1020م): يعتبر ويبر أن المدينة هي مركز للتجارة والثقافة، حيث يلتقي الناس من خلفيات متنوعة. ويركز على أن المدينة توفر بيئة للتفاعل الاجتماعي وتشكيل هويات جديدة، نتيجة للانفتاح والتنوع الموجود فيها.
  • ديفيد هارفي (1578- 1657م): يركز عالم الجغرافيا، على دور المدينة كمساحة سياسية واقتصادية. ويُشدد على أن المدينة ليست مجرد مكان للعيش، بل هي ساحة للصراع الطبقي والتنظيم الاجتماعي، حيث يتم إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
  • مارك أوجي (1935- 2023م): يتناول أوجي فكرة “المدينة كفضاء عام” حيث يعتبر المدينة مسرحًا للتفاعلات الاجتماعية والثقافية، وهي المكان الذي يُمكن فيه للأفراد التعبير عن أنفسهم والانخراط في الحوارات المجتمعية.
  • ليفسكي (1837- 1873م): ينظر ليفسكي إلى المدينة كمكان ينظم فيه الأفراد حياتهم الاجتماعية. ويركز على الدور الذي تلعبه المدينة في تشكيل الهوية الفردية والجماعية، وكيف تؤثر الظروف الحضرية على أنماط الحياة.
  • ميشيل فوكو( 1926- 1984م): يُفَسِّر فوكو المدينة كمساحة خاضعة للسلطة، حيث تُستخدم تقنيات السيطرة والتنظيم في إدارة السكان. يتناول فوكو كيفية ارتباط الفضاء الحضري بالسلطة والمعرفة.
  • روبرت ماكيفر (1882- 1970م): عرّف المدينة كمجتمع محلي؛ بأنّها وحدة اجتماعية تضم مجموعة من الأفراد تسود بينهم مصالح مشتركة، ويتعاملون مع بعضهم البعض بقيم عامة؛ فيشعرون بالانتماء ويتشاركون ظروفًا أساسية تمكنهم من العيش بحياة مشتركة.

 كما أشار علم الاجتماع إلى أنّ المدينة عبارة عن تنظيم اجتماعي يتضمن أنماطًا اجتماعية داخل نظام إيكولوجي محدد، وارتبط مفهوم المدينة بتنوع نمط الحياة المتبع، إذ يختلف أسلوب حياة المجتمع الحضري اختلافًا كبيرًا عن أسلوب حياة المجتمع الريفي، وهذا ما يميز المدن عن الأرياف والقرى. بشكل عام، يتفق العديد من العلماء على أن مجتمع المدينة يتميز بتنوعه وتعقيده، حيث يُسهم في تشكيل الهويات الاجتماعية والثقافية، ويكون ساحة للصراع الاجتماعي والتفاعل بين الأفراد.

المدينة الأوجلانية

غالبًا ما يُعَرَّف “مجتمع المدنية” بأنه المجتمع الذي تتشكل فيه الطبقات الاجتماعية، وتتأسس فيه المدينة والدولة، مما يجعله مجتمعًا متمدنًا ومقسمًا طبقيًا ومنظمًا سياسيًا. فالتمايز الطبقي الذي يظهر في المجتمع القبلي المساواتي، والتمدن الذي ينبثق من المجتمع الزراعي القروي، وتأسيس الدولة في المجتمعات الهرمية، كلها عناصر تميز المدنية.

تتجلى المدنية بشكل واضح كلما ازدادت السيطرة الأحادية في العلاقات الاجتماعية، وتعاظمت التناقضات بين المجتمع والطبيعة. من هذا التباين، تطورت بنى ثقافية وأخلاقية وجمالية فريدة في المجتمع. وتظل المدنية مسألة جدلية، حيث تُعتبر تقدمًا عظيمًا بالنسبة للشرائح المهيمنة والمستعمِرة، بينما يراها المقهرين كارثة وخسارة للجنة المفقودة.

تتسبب المدنية أيضًا في نشوء مؤسسات ومعاني متجزئة ومتناقضة، وتبرز الحروب كمثال حي على هذه التناقضات العميقة. فالحروب الجسدية تُعبّر عن تمزق المجتمع، بينما الحروب الأيديولوجية تُظهر الصراع على الهيمنة. ومع ذلك، يدعي كل طرف من الأطراف المتصارعة في المجتمع المدني أنه يُمثل المجتمع الحقيقي الكامل، ويسعى لفرض هيمنته باعتبارها السبيل لتحقيق استمرارية المجتمع.

الظاهرة الأساسية التي تظهر مع تصاعد مجتمع المدنية هي هيمنته على المجتمع الطبيعي، حيث يبتلعه ويصهره ضمن آليات العنف والاستغلال، محولاً العلاقة البيئية التكافلية مع الطبيعة إلى علاقة استغلالية تُعامل المجتمع كمصدر للموارد حتى الاستنفاد. السؤال هنا هو: “هل سيتفكك المجتمع بفعل تناقضاته الداخلية أم نتيجة التناقضات البيئية؟” وهذا التساؤل بات ملحًا اليوم. في حال لم يحدث تحول جذري وإيجابي في المدنية، ستعاني كل من البيئة والمجتمع من كوارث كبرى. بيد أن الرأي القائل باستحالة وجود المجتمعات دون المدنية واعتبارها رمزًا للثراء والمناعة هو في الغالب رأي أيديولوجي يعبر عن وجهة نظر النخب الاستعمارية الاحتكارية. إن تزايد التمايز الطبقي والتسلح النووي ودمار البيئة، إضافةً إلى انتشار الأمراض والبطالة والانفجار السكاني، كلها مؤشرات تُنذر بمخاطر هذا النظام.

من هذا المنطلق، يُطرح أوجلان البديل في الحضارة أو الحداثة الديمقراطية، التي تبتعد عن هيمنة المدنية الاستعمارية وتدعو إلى تحول إيجابي يتيح للثقافة الاجتماعية، المتأصلة بطبيعتها، دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل المدنية على أسس إنسانية وديمقراطية. وبدلاً من اعتبار انهيار المدنية القديمة انهيارًا للبشرية، يُمكن النظر إليه كخطوة لصعود الحضارة الديمقراطية التي تمنح الثقافة والمجتمعات القدرة على التطور الحر، مما قد يعني تحررًا جذريًا وبداية حياة أكثر حرية.

يتميز مجتمع المدينة وفقًا للرؤية الأوجلانية، بعدة سمات رئيسية تتعلق بالتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بين الأفراد. إذا يتسم مفهوم مجتمع المدينة عنده بالآتى :

  1. التفاعل الاجتماعي:  يبرز أوجلان أهمية التفاعل بين الأفراد في المدينة، حيث تعتبر المدينة مكانًا للتلاقي والتبادل الثقافي والاجتماعي. هذا التفاعل يُعزز من روح الجماعة ويخلق شبكة من العلاقات التي تُعزز التماسك الاجتماعي.
  2. المشاركة والديمقراطية: يُشدد على ضرورة أن يكون المجتمع المدني في المدينة قائمًا على المشاركة الفعالة للأفراد في اتخاذ القرارات. فهو يرى أن الديمقراطية يجب أن تُمارَس على مستوى القاعدة، حيث يشارك المواطنون في إدارة شؤونهم.
  3. العدالة والمساواة:  يعتبر أن المدينة يجب أن تعكس قيم العدالة والمساواة، مما يعني أن جميع الأفراد لابد أن يكون لهم الحق في الحصول على الفرص والموارد بشكل متساوٍ. هذه القيم تُعزز من قدرة الأفراد على المشاركة في الحياة العامة.
  4. الهوية الثقافية:  يُشير إلى أن المدينة هي مكان لتعزيز الهوية الثقافية والتنوع. فالتنوع الثقافي يعكس غنى المجتمع، ويُمكن أن يكون مصدرًا للإبداع والتطور.
  5. البيئة الحضرية:  يُولي أهمية كبيرة للتخطيط الحضري الذي يدعُم الحياة المجتمعية. فتصميم المدينة يجب أن يُعزز من سهولة التنقل والتفاعل بين الأفراد، مما يُسهم في بناء مجتمع أكثر تواصلًا.
  6. التغيير الاجتماعي:  يعتبر أن مجتمع المدينة يجب أن يكون قادرًا على التكيف والتغيير وفقًا لاحتياجات أفراده. هذا التغيير يُمكن أن يحدث من خلال الابتكار والتفاعل مع التحديات الجديدة.

ومن ثم، فإن مجتمع المدينة من وجهة نظر أوجلان هو مجتمع ديناميكي يسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية، ويُعزز من التفاعل الثقافي والاجتماعي بين أفراده.

 ومن ثم فالمدينة الأوجلانية، تتعدى كونها مجرد تجمع حضري منظم، إذ ينظر إليها كظاهرة سياسية واجتماعية تُمثل أداة للسيطرة والقمع في يد الدولة القومية. يراها مكاناً يُسهم في انفصال الإنسان عن طبيعته الحقيقية وعن بيئته، حيث تتجسد فيها علاقات الهيمنة، ويتم فيها تهميش قيم التعاون والتكافل لحساب الفردية والمادية. من هذا المنطلق، أكد أوجلان على ضرورة إعادة تعريف المدينة بشكل يتجاوز الهيمنة المركزية للدولة، لتُصبح بيئة تُعزز التعاون والتعايش، وتحرر من الاستغلال الرأسمالي، بحيث تكون المدينة قادرة على احتضان الإنسان في إطار مجتمعي ديمقراطي يضمن له حياة متوازنة ومستدامة.

السلطة

لا وجود لمجتمع بدون سلطة، لا يُمكن أن تتكون جماعة وتتماسك إلا بعد أن تُحل مسألة السلطة فيها، حتى الجماعات غير الرسمية تتوجَّه تلقائياً إلى توزيع الأدوار بين أعضائها بشكل تفوض فيه زمام أمرها إلى عضو ما يتولى زمام قيادة وتوجيه النشاطات. وقد يحدث صراع على هذا الدور، إلى أن يستقر رأي الجماعة في النهاية على قائد أو زعيم تعترف به، ولو بشكل غير رسمي أو لمهمة محدَّدة. 

إذاً، فالسلطة هي قدرة شخص ما أو منظمة ما على فرض أنماط سلوكية لدى شخص معينة. تُعد السلطة أحد أُسس المجتمع البشري وهي مُناقضة لمبدأ التعاون. إن تبني أنماط العمل نتيجة فرض السلطة يُسمى الانصياع، والسلطة كمصطلح يشمل غالبية حالات القيادة.

تُطبق السلطة استناداً إلى قوة اجتماعية معينة. قد تكون هذه القوة حقيقية (كالتهديد بالتسبب بأذى جسماني) أو وهمية (كانصياع المؤمنين لطريق غورو) . تتحدد القوة من خلال الاستخدام المحتمل للعقوبة: عملية تمس بالشخص الذي لا ينصاع إلى السلطة أو يُهددها، بغية ضمان وجود قوة اجتماعية. قد تطبق السلطة بشكل مباشر استناداً إلى وجود قوة فعلية (كالتهديد بالحبس)، ما يُســمى  ” الإكـراه ”  أيـضا، وقد تـنبع من الشرعية التي يـمنحها الخاضع للسلطة لأصحابها (مثل: الاعتراف بمرجعيات النبلاء، وغالباً ما نجد هذين النوعين من المرجعيات متداخلين.

 ولغوياً فالسلطة هي: القوة والقدرة على الشيء، والسلطان الذي يکون للإنسان على غيرة سلطات. ولها أيضا تعريف اصطلاحي: وتعني غالبية حالات القيادة وتطبق السلطة استناداً إلى قوة اجتماعية معينة. وقد تکون هذه القوة حقيقية کالتهديد بالتسبب بأذى جسماني أو روحية ” کانصياع المؤمنين” وللسلطة أنواع منها الشرعية، والنفسية، والدينية، والاجتماعية.

 لقد اختلف علماء الاجتماع والمفكرون حول تحديد والإحاطة بهذا المفهوم (الزعامة والقيادة). وقد عالج كل من العلماء هذا المفهوم حسب دراسته للجماعة التي ينتمي إليها والتي درسها. وكان لكل عالم مفهوم. وحسب قول رينيه كاسيس ” تصطفي الجماعة مسؤولاً أو رئيساً ليكون منظِّماً لأحوالها وضابطاً لها ولقوتها المنتشرة العائمة. والارتياح الذي يجلبه القائد للجماعة، ينبع من إحساس الأعضاء في الحماية من الأخطار التي واجهها نيابة عنهم. البطل هو ضمانة ضد الأخطار الداخلية والخارجية التي تُحيط بحياة الجماعة، فيما لو تركت بدون سلطة أو قيادة.” 

يُعرف “فوکو” السلطة بأنها (علاقات) ومن أهم مزايا علاقات السلطة في رأيه ” موازين القوى “، ويرى أن السلطة تقوم على الصراع بين الحاکم والمحکوم، ولها وسائلها المختلفة التي من خلالها تستمد قدرتها على التحکم والسيطرة، ويُحاول أن يُقاوم السلطة، لکنه لم يوضح لنا لماذا اختار المقاومة والصراع معها دون الخضوع لها، کما أنه لم يرفض کل أشکال السلطة في الوقت نفسه، ولم يهدف كذلك إلى إقامة نظرية متکاملة عن السلطة، وإنما السلطة بالنسبة له هي القضاء الحافل بالصراعات. ويتم ممارسة السلطة من خلال التعذيب وهو ” عقاب جسدي مؤلم يتفاقم إلى حد الفظاعة، والعقوبات هنا جسدية ومتنوعة في أشکالها، فالموت مثلا يمکن أن يکون بالشنق، أو التقطيع، أو الخنق، أو الحرق حية، أو بکسر الرأس. ويلعب التعذيب في رأي “فوکو” وظيفة سياسية وقانونية، حيث يُضفي التعذيب في عيون الجميع قوة لا قهر، وهدفه إظهار الفارق الأقصى بین فرد من الرعية تجرأ على خرق القانون، والحاکم ذو القوة الذي يبرز قدرته.


السلطة من وجهة نظر المشروع الأوجلانى

       يُعالج أوجلان مفهوم السلطة من منظور اجتماعي وفلسفي، ويُشير إلى التعقيدات والتضاربات المرتبطة به؛ إذ يعتبر مصطلح السلطة مصطلحاً متنازعاً عليه، يفتقر إلى تعريف واضح رغم أهميته في فهم الواقع الاجتماعي. يتضح أن السلطة ليست مجرد هيمنة أو تحكم، بل هي تعبير عن استغلال اقتصادي وتركيز للقوة، حيث تعكس طبيعة العلاقات الاجتماعية والقوى المهيمنة فيالمجتمع.

وقد رأى أوجلان أن مفهوم السلطة هو مفهوم إشكالي ومعقد، يصعب تعريفه بشكل محدد وشامل، فهي تبدو كظاهرة حتمية في المجتمعات الإنسانية، وكأنها ضرورية لاستمرار التنظيم والإدارة. إلا أن هذا الظاهر يعكس حقيقة أعمق، حيث يتبين أن السلطة ليست فقط وسيلة للتنظيم، بل تُمثل استغلالًا منظمًا للطاقة المجتمعية لخدمة مصالح فئات محددة. وقد وصف السلطة كـ “طاقة كامنة” تتواجد في جميع أركان المجتمع، لتتحول إلى أداة بيد القوى الاجتماعية المسيطرة، والتي من خلالها تتشكل الدولة بنظامها الطبقي الاستغلالي. ويُنظر إلى السلطة كعنصر طفيلي يتسلل إلى جسد المجتمع، ومن ثم يُشببها بالورم السرطاني الذى ينتشر فى المجتمع ويتطفل على البنية الاجتماعية الطبيعية. وهناك جانب آخر مهم، وهو قدرة السلطة على تقديم نفسها كضرورة مجتمعية، وتغطية هذا الدور بغطاء شرعي يجعلها تبدو كحتمية لا غنى عنها للإدارة، على الرغم من تأثيرها الضار.

وقدم تحليلاً عميقاً حول الفارق بين السلطة والدولة وأوضح كيف تُشكل الدولة صورةً مركزة ومحددة من السلطة. بينما تتواجد السلطة بشكل عام في المجتمع، والدولة هنا هي شكل مهيكل ومنظم لها، يلتزم بالقوانين ويهدف إلى شرعنة نفوذه، مما يجعل السلطة عبر الدولة مقيدة بقواعد أكثر وضوحًا. إلا أن هذه السلطة المركزة، حين تتجاوز الضوابط وتُصبح استبدادية ومعادية للحرية.

ورأى أن حنين المجتمع للسلطة يتسبب بزيادة النفوذ الاستبدادي، فكلما تعاظم النفوذ زادت فرصة ظهور “الطغاة الصغار” على المستويات المجتمعية، مما يؤدي إلى استنزاف الديمقراطية وتحويلها إلى شكل مشوه. يُستخدم مثال هتلر كتحذير تاريخي لنتائج الاستبداد غير المقيد، حيث تتوسع الاستبدادية وتتحول إلى قوى فاشية تنتشر في نسيج المجتمع بأكمله. بيد أن النظام الرأسمالي أسهم في انتشار هذا النوع من السلطة الفاشية داخل المجتمعات من خلال النظام الاقتصادي والسياسي للدولة القومية.

يختلف تعريف عبدالله أوجلان للسلطة عن التعريفات التقليدية، التي غالباً ما تراها قوة تنظيمية ضرورية لفرض النظام الاجتماعي وضمان التعايش السلمي، حيث تمثل آلية لضبط السلوك الفردي والجماعي بواسطة قوانين وقواعد تحت سلطة الدولة. ويُعتبر دور السلطة هنا إيجابياً في تنظيم المجتمع ومنع الفوضى. أما عند أوجلان، فالسلطة تُفسَّر كقوة استغلالية ومتجذرة في بنية الدولة القومية، تعمل كأداة سيطرة تفرضها النخب من أجل الهيمنة على المجتمع وتوجيهه وفق مصالحها الخاصة، بعيداً عن متطلباته الحقيقية. ينظر أوجلان إلى السلطة كعنصر غريب على الطبيعة المجتمعية، متسلل إلى نسيج المجتمع بشكل يشبه “الورم السرطاني”، يهدف إلى إخضاع الأفراد وسلب إرادتهم الذاتية. وبدلاً من اعتبار السلطة ضرورية للحياة الاجتماعية، يرى أوجلان أن التحرر من هيمنتها شرط لتحقيق الديمقراطية الحقيقية. : يرى أوجلان أن السلطة هيأداة من أدوات للقمع والسيطرة على الشعوب.

الديمقراطية

ظهر مصطلح الديمقراطية لأول مرة ببلاد اليونان القديمة ليعبر عن نظام الحكم بأثينا وقد اشتقت هذه الكلمة من مصطلحي demos والتي تعني الشعب وkratos والتي يقصد بها السلطة والحكم، وبالتالي وضع الأثينيون مصطلح الديمقراطية ليعبّروا عما يعرف بحكم الشعب. وفي الأثناء بلغت الديمقراطية الأثينية عصرها الذهبي خلال عهد السياسي والخطيب بريكليس Pericles ( 460 – 429 ق.م ) حيث تميز الأخير بدعمه لحرية التعبير عن الرأي. وبالتزامن مع ذلك عرف النظام الديمقراطي الأثيني والذي يصنّف من قبل أغلب المؤرخين كأول ديمقراطية في تاريخ البشرية العديد من النقائص ولعلّ أبرزها إقصاء النساء والعبيد من المشاركة في الحياة السياسية.

ومن المفيد الإشارة إلى دستور المدينة في الحضارة الإسلامية كأحد النماذج المبكرة أيضاً لحاولة فريدة لإرساء أسس ديمقراطية قائمة على الشورى، لتحقيق العدالة والمساواة والاحترام الكبير للتنوع الديني وحماية الحرية الدينية والالتزام بالتعايش السلمي وكذلك المشاركة في الدفاع والعدالة في حل النزاعات.

يُشير مفهوم الديمقراطية لغةً إلى حُكم الشعب أو حُكم الأغلبية. تُعد الديمقراطية، صورة من صور الحكم، ومرجعاً أساسياً للجميع لحماية حقوق الإنسان؛ وهي توفر بيئة لحماية حقوق الإنسان؛ إذاً فالديمقراطية هي أحد المثل العليا المعترف بها عالمياً والقائمة على قيم مشتركة تتبادلها الشعوب في مختلف أنحاء العالم، بغض النظر عن الاختلافات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكما هو معترف به في (إعلان وبرنامج عمل فيينا)، تقوم الديمقراطية على إرادة الشعب المعبر عنها بحرية لتقرير نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومشاركته التامة في جميع جوانب حياته. وأما أن تكون الديمقراطية اجتماعية أي أنها أسلوب حياة يقوم على المساواة وحرية الرأي والتفكير، وأما أن تكون اقتصادية تنظم الإنتاج وتصون حقوق العمال، وتحقق العدالة الاجتماعية.  وقد عرّف العلماء الديمقراطية بطرق متعددة، ترتكز جميعها حول قيم المشاركة، والمساواة، وحرية الفرد داخل المجتمع. وفيما يلي بعض تعريفات العلماء لمفهوم الديمقراطية:

  • جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter (1883- 1950م): يرى أن الديمقراطية هي “أسلوب للحكم” يركز على عملية انتخاب القادة عبر انتخابات تنافسية، مشددًا على أهمية مشاركة المواطنين في اختيار حكومتهم، دون الحاجة إلى تدخلهم المباشر في كل القرارات السياسية.
  • روبرت دال Robert Dahl ( 1915- 2014م) :  يصف الديمقراطية بأنها نظام سياسي يعتمد على “التعددية السياسية” و”المشاركة الشعبية” و”المساءلة”، حيث يجب أن يكون لدى المواطنين القدرة على المشاركة بشكل فعال، وأن يكون هناك تنوع في الأصوات والآراء من أجل تشكيل حكومة شرعية تعبر عن إرادة الناس.
  • أبراهام لينكولن Abraham Lincoln ( 1806- 1861م):  قدم تعريفًا بسيطًا وشهيرًا للديمقراطية بأنها “حكم الشعب، بواسطة الشعب، ومن أجل الشعب”، مما يعكس رؤيته للديمقراطية كنظام يتجسد فيه صوت الناس في الحكم.
  • جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau ( 1712- 1778م): في سياق الديمقراطية المباشرة، يرى روسو أن الديمقراطية هي الحالة التي يحكم فيها الشعب نفسه بشكل مباشر، إذ يجب أن يكون للناس صوت مباشر في القرارات التي تؤثر عليهم، وليس عبر ممثلين فقط.
  • جون ستيوارت ميل John Stuart Mil ( 1806- 1873م): يؤكد أن الديمقراطية هي ضمان لحرية الفرد وتحرره من السيطرة القسرية، إذ تضمن الديمقراطية التوازن بين حرية الفرد وحقوق المجتمع، مما يمنع الاستبداد ويعزز فرص التعبير عن الإرادة الفردية.
  • أمارتيا سن  ) Amartya Sen 1933- 1972): يرى أن الديمقراطية هي أكثر من مجرد آلية انتخابية، بل إنها “عملية عامة” توفر الحريات الأساسية كالحرية السياسية، والمساواة في الحقوق، والفرص الاقتصادية، ويعتبر الديمقراطية أساسًا لتوسيع الحريات الإنسانية وتحقيق العدالة.

تُجمع هذه التعريفات على أن الديمقراطية هي نظام يُفترض أن يمنح المواطنين القدرة على التأثير في القرارات التي تمس حياتهم، وتحقيق توازن بين سلطة الحكومة وحريات الأفراد، مع الاعتماد على آليات المشاركة السياسية والتعددية والمساءلة لتحقيق ذلك.

الديمقراطية لدى أوجلان

يرى أوجلان أن الاستخدام المفرط للديمقراطية في التطبيق العملي وتفسيرها بشكل يتعارض مع جوهرها سببًا كافيًا لأهمية تعريفها بشكل صحيح. حيث يُمكن النظر إلى الديمقراطية بتعريفات محدودة أو كبيرة؛ إذ يتم استخدامها بكثرة رغم الفوضى في تفسيرها. في التعريف الواسع، يُمكن القول ” إن الديمقراطية هي نظام تمارس فيه المجموعات، التي لا تخضع لدولة أو سلطة، حكمها الذاتي”. وبهذا، فإن إدارات المجموعات مثل العشائر والقبائل التي تحكم نفسها ذاتيًا تندرج تحت هذا المفهوم.

وقد أوضح أن تعريف الديمقراطية يكتسب أهمية خاصة في عصرنا الحالي، لا سيما مع ما يتعرض له مفهومها من سوء تطبيق وتفسير مشوَّه يبتعد عن جوهرها الحقيقي. في أعمق معانيها، يُمكن اعتبار الديمقراطية أنها قدرة الجماعات التي لا تخضع للسلطة أو الدولة على إدارة شؤونها بنفسها، مثل القبائل والعشائر التي تُنظم حياتها بعيدًا عن تدخل الدولة. أما الديمقراطية بمفهومها الضيق، فهي تُمثّل الأنماط الإدارية الذاتية داخل المجتمعات التي تغلب عليها ظاهرتىّ السلطة والدولة، حيث لا يُمكن أن تكون إدارات تلك المجتمعات ديمقراطية أو استبدادية بالكامل، بل مزيجٌ منهما يفتح المجال لتفسّخ السلطة وفساد الديمقراطية معًا.

وإن الدولة تسعى لكبح جماح الديمقراطية ومقاومتها؛ في المقابل، تُحاول القوى الديمقراطية توسيع نطاقها وإلغاء الحدود التي تفرضها الدولة؛ إذتتجلّى المشكلة الأساسية هنا في تداخل الديمقراطية مع الدولة، حتى أن الدولة في كثير من الأحيان تتبنى قناع الديمقراطية في حين تطمح الديمقراطية للتحرر من سطوة الدولة، وهو صراعٌ قديم امتد منذ الحضارة الأوروبية.

في سياق هيمنة الحداثة الرأسمالية، يتخذ هذا الصراع أشكالًا جديدة، حيث تسعى الدولة القومية إلى بسط سيطرتها على المجتمع وقمع القوى الاجتماعية، بينما تُبقي للمواطنين واجهة شكلية من الديمقراطية التمثيلية البرلمانية لإرضائهم. هذه هي الديمقراطية الليبرالية، التي تتوازن ظاهرياً بين استبداد الدولة ومطالب الشعب، لكنها في جوهرها تعمل على ترويض الصراعات الاجتماعية وضمان استمرار سيطرة الدولة.

كما يري أنه لا يُمكن إنقاذ الديمقراطية المجتمعية من حالة الغفلة هذه إلا عبر تعزيز الإدارات الذاتية الديمقراطية. إذا استطاعت هذه الإدارات الحفاظ على استقلالها دون الخضوع لسلطة الدولة من جهة، أو التشويه باسم الدكتاتورية الشعبية أو البروليتارية من جهة أخرى، ستقترب من الحل الأمثل. فالإدارة الذاتية الديمقراطية لا تقوم على التبعية للدولة أو على اعتبارها ممثلاً وحيداً للشعب. إنها نموذج يتحدى التحريفات اليمينية واليسارية المرتبطة بالديمقراطية الليبرالية، التي تستمد قوتها من سيطرة الدولة والاحتكارات الاقتصادية، سواء اتخذت شكل الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية أو ديمقراطية شعبية اشتراكية.

وفي هذا السياق، تقع على عاتق المجتمع مهمة تأسيس قواه الخاصة بعصرنة ديمقراطية تتصدى لقوى الرأسمالية المعاصرة والمدنية التاريخية. إن الدور التاريخي للعصرنة الديمقراطية يتمثل في أن تبني نفسها في مختلف المجالات الاجتماعية، رافضةً أن تذوب في النظام القائم أو أن تُصبح امتداداً مدنياً له، دون السعي إلى تدمير الدولة أو احتوائها.

ومن ثم، فإن الديمقراطية عند المفكر عبدالله أوجلان، تتجاوز هذا المفهوم التقليدي فى شكل نظام حكم، -الذى يرتكز على مبادئ المشاركة الشعبية، وحرية التعبير، واحترام حقوق الإنسان. تتجسد الديمقراطية هنا في أنظمة سياسية تعتمد على صناديق الاقتراع، وفصل السلطات، والتداول السلمي للسلطة، وتعددية الأحزاب، حيث تهدف إلى تحقيق توازن بين حرية الفرد واحتياجات المجتمع، وتوفير الحقوق المدنية والسياسية في إطار الدولة – لتُصبح نظاماً اجتماعياً شاملاً، يهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة خارج إطار سلطة الدولة التقليدية. يرى أوجلان أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد آلية حكومية أو نظام سياسي، بل هي حياة اجتماعية وإدارة ذاتية مجتمعية تعبر عن إرادة الشعوب بعيداً عن الدولة القومية أو الهيمنة المركزية. يؤكد أن الديمقراطية المجتمعية تستمد قوتها من المجتمع مباشرة، فهي تنطلق من القواعد الشعبية عبر مجالس أو إدارات ذاتية، تُمَكِّن الناس من حكم أنفسهم، بعيداً عن مفهوم التبعية للدولة أو انحصار السلطة في يد نخبة معينة.

بالتالي، تختلف ديمقراطية أوجلان جذرياً عن النموذج الغربي التقليدي، وهي الديمقراطية المباشرة، إذ يرى فيها وسيلة للتعبير عن إرادة المجتمع بمعزل عن الدولة والاحتكارات الاقتصادية، مؤكداً على أهمية عدم الارتباط بمصالح السلطة أو الدولة، وبدلاً من ذلك، تكون الديمقراطية المجتمعية هي الحل الشمولي والمستقل الذي يُمكن الشعوب من إدارة شؤونها بفعالية وحرية.Top of Form


الإبادة Bottom of Form

الإبادة هي عملية تستهدف القضاء التام أو الجزئي على مجموعة معينة من البشر أو الكائنات الحية الأخرى، سواء كان ذلك لأسباب عرقية أو دينية أو ثقافية أو بيئية. ويُمكن للإبادة أن تتخذ أشكالًا متعددة، مثل الإبادة الجماعية (Genocide) التي تستهدف تدمير مجموعة بشرية معينة، والإبادة الثقافية التي تهدف إلى محو ثقافة أو تراث معين. والإبادة البيولوجية تهدف إلى تدمير بيئة أو نظام طبيعي يؤثر بشكل مباشر على بقاء فئة معينة من الكائنات الحية، بما في ذلك البشر، وهي ترتبط في الغالب بالمخاطر البيئية التي تهدد توازن النظم الحيوية. والإبادة البيئية تهدف إلى التدمير الممنهج للنظم البيئية بسبب الأنشطة البشرية التي تؤدي إلى انقراض الأنواع النباتية والحيوانية، مما يؤدي في النهاية إلى تهديد بقاء الإنسان ذاته. عادةً ما تنطوي الإبادة على نية واضحة، سواء كانت بهدف الإبادة المباشرة أو من خلال تدمير البيئة أو الثقافة أو الموارد التي تعتمد عليها المجموعة المستهدفة للبقاء.

كما يُستخدم مصطلح الإبادة لوصف الفعل المتعمد للقضاء على مجموعة معينة من الأشخاص، ويعرف أيضًا بمحاولة القضاء على ثقافة، عرق، أو طائفة معينة. تفسيرات العلماء لهذا المصطلح تختلف بناءً على السياق التاريخي والقانوني الذي يُستخدم فيه. ويعتمد تعريفها الدقيق على نية الفاعل، ونوع التأثير، وأهدافه.

الإبادة الجماعية هي التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم أو جنسيتهم أو دينهم أو أصلهم. تمت صياغة هذا المصطلح في أربعينيات القرن العشرين بواسطة رافائيل جوزيف ليمكن 1900- 1959م القانوني البولندي. الذى ابتكر مصطلح ” إبادة الجنس” بين عامي 1941و1943 م حين عكف علي كتابة عمله الأشهر ” حكم المحور في أوروبا المحتلة “. ويُعد الفصل التاسع الذي حمل عنوان” إبادة الجنس.. مصطلح جديد ومفهوم جديد لتدمير الأمم ” أوسع موضوعات الكتاب انتتشاراً وأكثرها مرجعية، وفيه أبتكر ليمكن – لأول مرة – مصطلح genocide من كلمة ” Genos” اليونانية بمعني جماعة واللاحقة اللاتينية Cide بمعني “قتل” ليكون المعني عرف : ليمكن” “إبادة الجنس” بأنها: “لا تعني بالضرورة الإجهاز المباشر علي أمة ما أو جماعة عرقية إذا ارتكبت من خلال عمليات القتل الجماعي لأعضائها، بل إنها تعني خطة منهجية تستهدف تدمير البنية الأساسية لحياة جماعة قومية بغرض إبادة هذه الجماعة بذاتها. وتهدف هذه الخطة إلي إفناء المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية والمشاعر القومية والدينية والكيان الاقتصادي، وتدمير المن والحرية والصحة والكرامة الشخصية، بل وحتي حياة الأفراد الذين ينتمون إلي هذه الجماعة. وبذا، تستهدف الإبادة جماعة قومية بأكملها. وتتأتي الأفعال الموجهة ضد الأفراد لانتمائهم إلي هذه الجماعة القومية بعينها وليست لصفاتهم الشخصية”.

وهكذا، قدم ليمكن مصطلح ” إبادة الجنس” وصياغة مفهومه  “تدمير أمة او أية جماعة قومية”، شريطة وجود خطة منظمة ومنفذة ترمي إلي إفناء هذه الجماعة برمتها. وعرف الإبادة البيولوجية بأنها: ” منع التكاثر فيها” ورغم ريادة “ليُمكن” في مضمار ” إبادة الجنس”، فإن تعريفه قد اتسلم بالضيق، عندما قصره علي الجرائم الموجهة ضد “جماعات قومية” حصرياً وليست ضد “جماعات” مطلقة بصفة عامة. وفي الوقت ذاته، اتسم هذا المفهوم بالاتساع، حيث لم يقف عند حد الإبادة المادية فحسب، بل شمل الأفعال الرامية إلي إفناء حضارة الجماعة وسبل معيشتها.  

الإبادة الثقافية أو التطهير الثقافي هو مفهوم ميزه القانونى ليمكن، عام 1944، على أنه مكون من مكونات الإبادة الجماعية ومنذ ذلك الحين، اكتسب هذا المصطلح قيمة خطابية كعبارة تستخدم للاحتجاج على تدمير الإرث الثقافي. وكثيرا ما يُساء استعماله أيضا كشعار لإدانة أي نوع من أنواع التدمير الذي يعترض عليه المتحدث، دون اعتبار لمعيار نية تدمير جماعة متضررة من هذا القبيل ، ثم أُخذ المصطلح بعين الاعتبار في عام 2007 في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الشعوب الأصلية وتم وضعه جنباً إلى جنب مع مصطلح «الإبادة الإثنية»، لكنه حُذف من الوثيقة النهائية، وتم استبداله بمصطلح الإبادة الجماعية فحسب. لا يزال التعريف المحدد للإبادة الثقافية غير واضح. يستخدم الإثنولوجيين من أمثال روبرت جولن مصطلح «الإبادة الإثنية» كبديل عن “الإبادة الثقافية” ، إلا أن هذا الاستخدام تعرض للنقد لأنه يتسبب في المخاطرة بالخلط بين الإثنية والثقافة.                                                           

الإبادة فى فلسفة أوجلان

هي امتداد لظاهرة الصهر، والتى تهدف إلى القضاء التام على الشعوب والأقليات والجماعات الدينية والمذهبية والعرقية التي يصعب استيعابها من خلال أسلوب الصهر. يتم اختيار إحدى الطريقتين حسب الوضع القائم. عادةً ما تُرتَكب الإبادة الجسدية ضد المجموعات الثقافية التي تتمتع بمستوى أعلى من ثقافة النخبة الحاكمة، أي ثقافة الدولة القومية. المثال الواضح على ذلك هو الإبادات الجماعية وعمليات التطهير العرقي التي ارتُكبت ضد الثقافة اليهودية والشعب اليهودي. فاليهود، نظرًا لكونهم من أبرز الشرائح التاريخية في مجالات الثقافة المادية والمعنوية، تعرضوا دائماً للهجمات والإبادات من الثقافات المهيمنة المعادية، وكانوا هدفاً متكرراً لعمليات التطهير المتمثلة في المذابح المنظمة.

تُعد الإبادة الثقافية أحد أشكال الإبادة، وغالبًا ما تُمارَس ضد الشعوب والمجموعات العرقية والدينية التي تكون في وضع ضعيف ومتأخر مقارنة بثقافة الدولة القومية والنخبة الحاكمة. الهدف من الإبادة الثقافية، التي تُعتبر أداة أساسية، هو القضاء على هذه الشعوب والمجموعات من خلال دمجها في ثقافة ولغة النخبة الحاكمة والدولة القومية. يُسعى إلى إلغاء هويتها من خلال إدخالها في كل أنواع المؤسسات الاجتماعية، وبالأخص المؤسسات التعليمية. الإبادة الثقافية هي شكل من أشكال “التطهير العرقي” التي تكون أكثر تأثيراً مقارنة بالإبادة الجسدية، حيث تمتد على مدى طويل من الزمن. نتائجها أسوأ بكثير من الإبادة الجسدية، وتُعد من أفظع المصائب التي قد يتعرض لها شعب أو مجموعة.

الإجبار على التخلي عن هوية الفرد، وعن جميع مقوماته الثقافية المادية والمعنوية، يوازي كتلة صلبة دائمة وثابتة على المدى الطويل. ولا يُمكن الحديث هنا عن العيش من أجل القيم الثقافية التي تتعرض للإبادة، بل لا يُمكن إلا التحدث عن الألم والمعاناة. الألم الأساسي الذي تُسببه الرأسمالية المعاصرة لجميع الشعوب والطبقات المقهورة لا ينبع فقط من استغلالها المادي، بل هو ألم يتجدد بسبب القضاء على جميع قيمها الثقافية الأخرى. فالموت على الصلب هو الحقيقة التي تشهدها جميع القيم الثقافية المادية والمعنوية التي تتجاوز الثقافة الرسمية للدولة القومية. وبالمجمل، إذا لم تكن هناك أساليب أخرى، يصبح من المستحيل تحويل البشر والبيئة إلى مصدر للاستغلال، وبالتالي تعريضهما للنضوب.ومثال على ذلك نجد الشعب الكردي للإبادة الثقافية، مما يُمثل حالة بارزة تُظهر ويلات هذه الإبادة بأشد صورها تأثيرًا. فبينما يُفرض على الشعب الكردي العيش في دائرة من الألم ضمن آلية “الصَّلب” التي تفرضها الدول القومية المهيمنة، وتُسَلط على قيمه الثقافية المادية والمعنوية، تتعرض موارده الطبيعية والاجتماعية، بما في ذلك إرثه الثقافي – وعلى رأسه قيم العمل والكدح – للسلب والنهب العلني. في المقابل، يُترك ما تبقى من هذه الموارد ليواجه المحو والبطالة والتفسخ، ليظهر وكأن الشعب الكردي يُجبر على العيش في وضع لا يُطاق، بعيدًا عن أي شكل من أشكال الاعتراف أو القيمة.

يبدو وكأنه لا يوجد أمام الإنسان الكردي سوى خيار واحد هو الانصهار الكامل في ثقافة الدولة القومية المهيمنة، والتخلي التام عن قيمه الأساسية. لا يوجد سبيل آخر للحياة سوى هذا الخيار. ومن هنا، تصبح الإبادة الثقافية للشعب الكردي، التي قد تصل أحيانًا إلى الإبادة الجسدية، من أكثر الأمثلة المأساوية التي تسلط الضوء على حقيقة الرأسمالية المعاصرة بكل وضوح.

 يتجاوز تعريف عبد الله أوجلان للإبادة الثقافية هذا المفهوم العام الذى يراها ” عملية منظمة تهدف إلى تدمير هوية وثقافة مجموعة معينة عن طريق محو عناصرها الأساسية، كاللغة، والتقاليد، والتراث، والدين، مما يؤدي إلى تلاشي الوجود الثقافي لهذه المجموعة وإضعاف تماسكها الداخلي”، بينما يرى أوجلان أنها أداة سلطوية تستخدمها الأنظمة الرأسمالية والدول القومية بشكل واعٍ ومستمر لتفكيك الروابط الاجتماعية والثقافية في المجتمعات وفرض سيطرة ذهنية شاملة. ومن وجهة نظر أوجلان، فإن الإبادة الثقافية ليست مجرد تدمير للهوية الثقافية لمجموعة ما، بل هي سياسة تهدف إلى إبعاد المجتمع عن جذوره وإضعاف قدرته على المقاومة الفكرية والسياسية، لتحويل الأفراد إلى عناصر منفصلة يسهل التحكم فيها.

وفى الختام ، نري أن المصطلحات التى طرحها المفكر عبد الله أوجلان تعكس فكره المتعلق بتحدي الأنظمة السلطوية والرأسمالية، وتدعو إلى إقامة نظام ديمقراطي مجتمعي يعتمد على العدالة، تحرير المرأة، وحماية البيئة. يعتبر أوجلان أن المجتمع يُمكن أن يحقق تحرره من خلال هذه المبادئ الأساسية التي تدفع نحو مجتمع أكثر إنسانية وعدالة. إذ يُمكننا أن نرى بوضوح كيف تجاوزت كلماته حدود المفاهيم التقليدية لتُصبح معبراً عن رؤى عميقة تتشابك فيها الإنسانية بالهوية، والحرية بالعدالة. فلقد سعى أوجلان عبر مصطلحاته إلى بناء جسور بين المعاني التي قد تبدو للبعض صامتة، لكنه، بلغة نابضة بالروح، حرر هذه الكلمات من قيودها الجامدة، فجعل منها أدوات للتنوير ورموزاً لنضال جمعي يسعى إلى التغيير الجذري. إن هذه المصطلحات ليست مجرد مفاهيم لغوية أو أدوات فلسفية، بل هي رسائل إنسانية موجهة للأجيال، تحمل في طياتها قيماً كونيةً تدعو إلى العدالة والسلام والكرامة. ومن خلال استنطاق المعاني واستنباط الحقائق، تجلت رؤيته في خلق عالمٍ يُعلي من قيمة الإنسان، ويمضي به نحو أفقٍ جديدٍ، حيث تتحد الشعوب وتتحرر الإرادات.


المصادر

  1. حيزية كروش ، علم المصطلح النشأة والتطور ، مجلة أقلام الهند، السنة السادسة ، العدد الثانى، أبريل يونية 2021م .
  2. رشا الصوالحة ، مجتمع المدينة ، 20 أغسطس 2022م.

https://mawdoo3.com/%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9

  • سمير الخليل: دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي (إضاءة توثيقية للمفاهيم الثقافية المتداولة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2016.
  • عبد الحميد بوفاس ، فوزية سعيود، فى مفهوم المصطلح وعلاقته بعلم المصطلح (المصطلحية)، مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية ، جامعة الشهيد حمه لخضر، الوادى الجزائر.
  • عبد اللطيف عبد اللطيف الريح، مدخل إلى علم المصطلح ، كلية الأداب قسم اللغة العربية ، جامعة الملك فيصل ، 1975م.
  • المكتب الإقليمى لشرق المتوسط ، معهد الدراسات المصطلحية وأخرون، علم المصطلح، فاس، المملكة المغربية ، 2005م.
  • علي القاسمي:علم المصطلح أسسه النظرية و تطبيقاته العملية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت،لبنان، 2008م.
  • د. محمد رفعت الأمام، إبادة الجنس .. نشأة المفهوم ومعضلات التطبيق”، السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، عدد151، يناير2003.
  • محمد قطب سليم: المجتمع والثقافة والشخصية (دراسات في علم الاجتماع الثقافي)، كلية الآداب – جامعة طنطا، طنطا، ط1، د.ت.
  • محمد أحمد يوسف، مفهوم السلطة فى فلسفة ميشيل فوكو، مجلة كلية الأداب ، يولية 2016م، عدد 27.
  • الأمم المتحدة، لمحة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، المفوضية السامية لحقوق الإنسان والديمقراطية.
https://www.ohchr.org/ar/about-democracy-and-human-rights
  1. عبدالله على عبو سلطان، جريمة الإبادة الجماعية ، دور القانون الدولى الجنائى فى حماية حقوق الإنسان،
https://mail.almerja.com/more.php?idm=74780
  1. د.عصام  فاروق، مفهوم اللغة عند اللغويين القدماء والمحدثين ، 30 يناير 2017م.
https://www.alukah.net/literature_language/0/112093/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9%D8%B9%D9%86%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%A1%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%AF%D8%AB%D9%8A%D9%86
  1. أمير عبدالله ، تعريف اللغة عند المحدثين وعلماء العربية، 9 سبتمبر 2019م، منتديات حراس العقيدة.
https://www.hurras.org/vb/node/808275
  1. https://www.geo-strategic.com/2020/04/05.html
  2. https://mawdoo3.com/%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9
  3.  https://mawdoo3.com/%D9%85%D8%A7_%D9%85%D8%B9%D9%86%D9%89_%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9
  4. المركز الثقافى للبحوثوالتوثيق – صيدا ، مفهوم السلطة ومن يُمثلها.
https://markazthakafisaida.org/%D8%AA%D9%81%D8%B5%D9%8A%D9%84740
  1. https://mawdoo3.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9_%D9%88%D9%85%D8%B9%D9%86%D8%A7%D9%87%D8%A7
  2. https://arabic.rt.com/society/903333%D9%85%D8%B5%D8%B7%9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AA%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B%D9%8A%D8%A9%D9%85%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D9%88%D%84%D8%A9-%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%B1%D9%81-%D9%85%D8%B9%D9%86%D8%A7%D9%87%D8%A7
  3. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A9_%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى