اقتناص الفرص … التوسع الإسرائيلي والتركي على الأراضي السورية بعد سقوط النظام
تحليل: د. فرناز عطية
لم تكد تمر سويعات قليلة على احتفال السوريين بإعلان سقوط “نظام الأسد” بعد دخول الثوار لدمشق وفرار الرئيس المخلوع “بشار الأسد” الأحد 8 ديسمبر 2024، وانسحاب قوات جيشه من مواقعها الحدودية، إلا وفوجئوا بتوغل واستيلاء كل من إسرائيل وتركيا على أجزاء من الأراضي السورية المتاخمة لهما، في تصرف انتهازي يهدف إلى تغيير الأوضاع على أرض الواقع لصالح الدولتين، ويخرق الأمن والسلم الدوليين، ويشعل مزيدًا من التوتر في المنطقة، ضاربين بكل القوانين الدولية عرض الحائط، على النحو التالي:
أولاً: التوسع الإسرائيلي
سارعت إسرائيل بتنفيذ تحركات مفصلية بعد سقوط نظام “الأسد” بإرسال قواتها لتبادر باجتياح المنطقة العازلة التي أنشأت وفقًا لاتفاقية (فك الاشتباك) بين سوريا وإسرائيل 31 مايو 1974، حيث سيطرت قوات “وحدة شيلداغ” على منطقة جبل الشيخ السورية دون مقاومة تُذكر، وفي هذا الإطار قرر مجلس الوزراء الإسرائيلي احتلال هذه المنطقة، وإنشاء منطقة عازلة تخضع لرقابة الجيش الإسرائيلي على الحدود مع سوريا، على بعد حوالي 25 كيلومترًا من دمشق، وعلى بُعد عدة كيلومترات بعد الجانب السوري من المنطقة العازلة، كما تقدمت القوات الإسرائيلية حتى قرية بقعصم، التي تقع في سفوح جبل الشيخ السوري الذي استولت عليه القوات الإسرائيلية، كذا دعا الجيش الإسرائيلي سكان الجنوب السوري، إلى ملازمة منازلهم في: أوفانية، القنيطرة، الحميدية، الصمدانية الغربية، القحطانية، كما استهدفت القوات الإسرائيلية مقرات الجيش السوري، والميليشيات المدعومة من إيران، ومستودعات الأسلحة الاستراتيجية والكتائب المدرعة، ودمرت المروحيات العسكرية السورية قاعدة المزة الجوية جنوب غرب دمشق، واستهدفت الضربات الإسرائيلية أيضًا القاعدة البحرية السورية في اللاذقية غرب سوريا، وعملت إسرائيل على إنشاء منطقة آمنة خالية من الأسلحة الثقيلة والبنى التحتية في جنوب سوريا، بما يتجاوز منطقة الفصل، مع التركيز على التواصل مع السكان الدروز والمجتمعات المحلية الأخرى في المنطقة، ويفسر ذلك بالآتي:
- تذرع إسرائيل بأنها تحمي نفسها من الفصائل المتطرفة في سوريا.
- رغبة إسرائيل في التوسع وتحين أي فرصة في سبيل إنشاء دولة إسرائيل الكبرى على حساب الأراضي العربية.
- اعتبار تل أبيب أن اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل 31 مايو 1974 سقطت بسقوط نظام “بشار الأسد”.
- التخوف من استغلال قوى معادية لإسرائيل الفراغ الأمني الحادث في سوريا، ووصول المعارضة للأسلحة الكيماوية والثقيلة بسوريا لاسيما مع صعود القوى الإسلامية في سوريا وتزايد التدخلات التركية والكردية.
- استخدام إسرائيل لاستراتيجية الردع الاستراتيجي ضد القيادة الجديدة في سوريا.
- التأكد من القضاء على “محور المقاومة” المعادي لإسرائيل والذي تشكل فيه سوريا عنصر أساسي.
- وقد أيدت الولايات المتحدة ما قامت به إسرائيل، حيث أكد “جاك سوليفان” مستشار الأمن القومي الأمريكي أنه إجراء منطقي ومتوافق مع حق الدفاع عن النفس، وهي عملية تحييد للتهديدات المحتملة ضد إسرائيل.
- أما الجامعة العربية فقد عقد مجلسها اجتماعاً غير عاديًا على مستوى المندوبين الخميس 12 ديسمبر 2024، بمبادرة مصرية، أدانت التوغل الإسرائيلي داخل المنطقة العازلة مع سوريا، واحتلال إسرائيل للأراضي السورية، وقد خلص الاجتماع إلى “صدور قرار عربي بإدانة التوغل الإسرائيلي في المنطقة العازلة، مع التأكيد على أن ما فعلته تل أبيب يعد انتهاكاً واضحًا لميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن أرقام (242)، و(338) و(497) “، كما شدد على أن “اتفاق فض الاشتباك يظل سارياً طبقاً لقرار مجلس الأمن رقم 350 الصادر عام 1974، وطبقاً لقواعد القانون الدولي، ومن ثم انتفاء تأثر الاتفاق بالتغيير السياسي الذي تشهده سوريا حالياً، وأهمية استمرار دور قوة الأمم المتحدة (الأندوف) في مراقبة فض الاشتباك، والكشف عن الانتهاكات الإسرائيلية”، ودعوة الأمم المتحدة للاضطلاع بمهامها بموجب الاتفاق والتحرك الفوري لوقف الخروقات الإسرائيلية.
ثانيًا: التوسع التركي
بادرت تركيا بعد سقوط نظام “الأسد” إلى استهداف وحدات حماية الشعب بشكل مباشر، إذ دمر جهاز المخابرات التركي 12 شاحنة محملة بالصواريخ والأسلحة الثقيلة في شمال شرق سوريا، كما شنت فصائل موالية لتركيا “الجيش الوطني” هجمات على سد تشرين وجسر قرة قوزاق في جنوب شرق منبج بشمال سوريا، ويذكر أن الفصائل الموالية لتركيا قد انتزعت في وقت سابق السيطرة على مدينة منبج من “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة، وقد انسحبت الفصائل بعد ذلك إلى شرقي نهر الفرات، بموجب اتفاق بين الولايات المتحدة وتركيا، ومن زاوية أخرى فإن نشاط تنظيمات إرهابية كتنظيم “داعش” سيزداد في مثل هذه الأجواء، مما يزيد من الانفلات الأمني في البلاد، ويساهم في زيادة أعداد النازحين، ويحدث تغيير ديموغرافيًا لاسيما في مناطق الكرد لصالح تركيا.
وهناك عدد من الدوافع للسعي التركي الدؤوب والمتكرر للتمدد في الأراضي السورية، ومنها:
- رغبة تركيا في السيطرة على الوضع في سوريا، لاسيما مع وجود نظام جديد، والمساهمة في رسم المعالم الجديدة للنظام الناشئ في سوريا الجديدة، لضمان تحييد الخصوم الإقليميين والدوليين وتحديدًا روسيا وإيران بعيدًا عن الساحة السورية.
- رؤية أنقرة ونظام “أردوغان” لقوات “سوريا الديمقراطية” أنها امتداد لحزب “العمال الكردستاني”، الذي تصنفه تركيا بأنه منظمة إرهابية، ويقين تركيا بأن أكثر المناطق تنظيماً وأماناً هي مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي البلاد، لذلك لا تتوقف عن شن هجمات بين الحين والأخرى لزعزعة استقرار المنطقة وإخراج القوات الكردية منها، للحيلولة دون انتقال المد القومي من أكراد سوريا إلى أكراد تركيا، خاصة مع ما يعانونه من مظلميات تحت حكم “أردوغان”.
- محاولة لضمان التواجد التركي على الساحة السورية والتدخل في الشأن السوري، لاسيما مع الدعم التركي المتواصل حتى الآن لفصائل مثل: “هيئة تحرير الشام” التي تزودها أنقرة بالدعم اللوجستي والطائرات دون طيار، والفصائل التابعة لها كـ”الجيش الوطني”، ناهيك أن عملية اسقاط “نظام الأسد”، وصعود قوى الإسلام السياسي، لم تكن لتفلح دون التنسيق بين الفصائل المعارضة السورية المسلحة وتركيا، وإعطاء الضوء الأخضر من قبل الولايات المتحدة.
- التخوف التركي من أن يبرم الأكراد السوريون صفقة مع أي حكومة مركزية في دمشق لتحقيق استقلال ذاتي، على غرار أكراد العراق في أعقاب حرب العراق، إذ يعرف الأتراك أن الولايات المتحدة كانت الوكيل الأساسي في مساعدة الأكراد العراقيين على إنشاء حكومة إقليم كردستان، واليوم، عادت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى التحالف مع كيان كردي آخر، مما ينذر بإعادة نفس السيناريو الذي شهده العراق، ونتيجة لهذا، أصبح التحالف الأمريكي مع كرد سوريا سبباً رئيسياً للخلاف بين أنقرة وواشنطن.
- سعي النظام التركي بقيادة “أردوغان” منذ اندلاع الأزمة السورية 2011، وحتى الآن لإقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، وقد أكد “أردوغان” مؤخراً أن تركيا ملتزمة بخطتها للسيطرة على شريط بعرض 30 إلى 40 كيلومتراً في شمال سوريا، مما يستدعي التوغل التركي في الأجزاء الشمالية من سوريا، ومحاولة تغيير التركيبة الديموغرافية للمناطق الكردية هناك، والحرص على عدم وجود أي كيان سياسي للكرد.
وبالتالي فإن مواقف الدولتين الجارتين للدولة السورية اللتان اتسمتا بالانتهازية، والإسهام في تأجيج الصراع في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما وأن كل منهما تسعى لبسط نفوذها وزيادة محيط هيمنتها على حساب الدولة السورية، مع العلم أنه باستحضار التجارب التاريخية لكلا الدولتين، نجد أن كلا الدولتين من الصعوبة بمكان أن تتنازل عن الأراضي التي تمددت فيها واستحوذت عليها من الدول الأخرى، ناهيك عن عدم استتباب واستقرار الوضع السياسي الداخلي لسوريا حتى الآن، والذي تتجاذب أطرافه عدد من القوى، ما بين مؤيد ومعارض لسيطرة جماعات الإسلام السياسي على السلطة، مما يتطلب إعادة هيكلة للعلاقات بين هذه القوى، وتصفير الخلافات فيما بينها، والإسراع ببناء نظام ديمقراطي توافقي يتعهد بأن يعكس كل الأطياف والقوى السياسية للمجتمع السوري، مما يضمن السلم والاستقرار للنظام السياسي الجديد في سوريا، وإغلاق المجال أمام الصراعات الداخلية، للتفرغ لإعادة بناء الدولة، وإلا ستكون سوريا عرضة لمزيد من عمليات التقليص لأراضيها، والتمدد على حسابها، وأمام سيناريو من إثنين كلاهما مر؛ فإما الدخول في حرب أهلية لا يعرف مداها، أو التقسيم.