سلسة نساء كرديات سطرن تاريخ .. زمرد خاتون (ست الشام بنت أيوب الكردية)
تحليل: أ.د/إبراهيم محمد مرجونة .. أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
المرأة الكردية حسناء جميلة مثقفة تهتم بشكلها ، وحريصة على أن تبدو في أحسن صورة وتلف شعرها علي شكل جدائل ، وترتدي أساور في المعصم وتلف حول رقبتها عقد من الذهب ، أو الفضة علي حسب الحالة المادية([1]).
اشتركت المرأة الكردية في شتي النواحي الاجتماعية ، وكانت تشاطر الرجل في حياته الاقتصادية وتقوم بالمسئولية الملقاة علي عاتقها خير قيام ، ولعبت المرأة الكردية دوراً أساسياً في حياة الرجل([2]) ، وتدخلت في بعض الأحيان في الأمور السياسية التي تخص العشيرة وأبرز هؤلاء النساء الكرديات (حليمة خان) من العشيرة الهكارية ، (عادلة خان) من العشيرة الهلبجية، (كوخا نرجس) من العشيرة الشوانية وغيرهن([3]).
وقد دان الرجل الكردي بالطاعة للعلماء ورجال الدين وأحسن إلي النساء واحترمهن([4]) وعرف عن بعض النساء الكرديات أنهن أقل ملتزمات ولهن دور حقيقي في البناء الحضاري مثل غيرهن من نساء المسلمين([5]).
وتعتبر المرأة الكردية جزءاً من ملكية الزوج ، وفي الغالب يتزوج الكردي من كردية مثله حيث أن ذلك تقليد كردي([6]) ، وتتمتع المرأة الكردية بحرية أوسع مما هي عليه النساء المجاورات لهن ، ومع ذلك يثق فيها الرجل ثقة تامة([7]).
أما عن أهم الأعمال التي تقوم بها المرأة الكردية ، فهي تدير كافة شئون البيت ، وتساعد زوجها في الرعي ، أو الأعمال الزراعية وتقوم بتربية الأطفال ، وحياكة الثياب ، وصناعة السجاد وصناعتها تتميز بالأناقة ، والجمال . وعموماً فالمرأة الكردية تحب العمل([8]).
وأحياناً تختلط بعض النساء الكرديات مع الرجال ، ويعطين رأيهن بصراحة إذا تطلب الأمر ذلك ، وليس هناك من حد في الحرية التي نالتها النساء الكرديات ؛ ذلك لأنهن فاضلات يمنعهن إسلامهن وأعرافهن القبلية من الوقوع في الخطأ([9]).
ومن بين النماذج النسائية التي غيرت وأسهمت في البناء الفكري والثقافي وساعدت على بناء الشخصية وتأصيل الهُوية ست الملك
ست الشام هذه المرأة الجليلة القدر([10])، العظيمة الشأن، كان لها شأن كبير، فقد جُمع لها مالم يجمع إلا لنساء معدودات في التاريخ الإسلامي كله، ووهبها الله من نعمة التفضل، والإحسان، وأنواع البر، والصدقات ما يعجز التاريخ أن يذكر لأمثالها..فقد ذكر ابن كثير في تاريخه ([11]) أنها أخت الملوك وعمة أولادهم، وأنها أم الملوك. وكان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكاً.
وذكرهم سبط ابن الجوزي بقوله: والملوك من بني أيوب إلى آخر من ولي منهم السلطنة في بلد من البلاد المشهورة كلهم محارمها، لأنهم إما إخوتها، وإما بنو إخوتها. وهم خمسة وثلاثون ملكاً. إخوتها الأربعة المعظم توران شاه ([12])، وصلاح الدين والعادل، وسيف الإسلام.
وأولاد صلاح الدين العزيز، ثم ابنه المنصور، والأفضل، والزاهر، والظاهر وابنه العزيز وابن ابنه الناصر يوسف. وأولاد العادل الكامل، وأولاده الثلاثة: المسعود، والصالح، والعادل.
وأبناء الصالح المعظم المقتول بمصر.والموحد صاحب حمص.وابن العادل ابن الكامل المغيث صاحب الكرك.
والمعظم ابن العادل الأكبر.وابنه الناصر داوود.والأشرف ابن العادل والصالح ابن العادل والأوحد.والحافظ، والعزيز، وابنه السعيد.وشهاب الدين غازي، وابنه الكامل محمد.وابن سيف الإسلام إسماعيل الذي ادعى الخلافة باليمن. وفرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، وابنه الأمجد صاحب بعلبك، وتقي الدين وابنه المنصور.. ثم ذريته ملوك حماة اليوم ([13]).
يفهم مما سبق أن ست الشام كانت ذات أصل وحسب ونسب سليلة الملوك والحكام ذات أثر قوي في الحراك المجتمعي ولاسيما فيما يخص البناء الاجتماعي والتكامل ورعاية الأخر ومحبة الناس فهي سيدة قلما يجود الزمان بمثلها.
إنها ست الشام بنت أيوب بن شاذى الكردية ([14]) أخت صلاح الدين الأيوبي، وهي شقيقة المعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن.اسمها زمردُّ خاتون.ولقبها: عصمة الدين.وعرفت فيما بعد على الإطلاق ب: ست الشام. ([15])
وكانت: “سيدة الملكات” ([16])، و(سيدة «الخواتين) في عصرها ([17]). وكانت عاقلة، كثيرة البر، والصلات، والإحسان، والصدقات ، راعية العلم والعلماء الكردية التقية المنمازة
وكان يُعمل في دارها من الأشربة والمعاجين والسفــوفــات والعقاقير في كل سنة بألوف من الدنانير الذهبية، وتفرقها على المرضى والضعفاء والمحتاجين، وكان بابها ملجأ للقاصدين، ومفزعاً للمكروبين، تعطف عليهم كالأم الرؤوم، وتواسيهم وتخفف عليهم مصيباتهم، وتدفع إليهم المال وتفرق عليهم المعونات بسخاء.
أدركت بعدما أنهم الله عليها بالحكمة : أن تنظر إلى المال على أنه خير كله إذا أعطي لأصحابه، وصرف لوجوه الخير.. وسُخّر للعلوم النافعة، وأبواب البر والإحسان، فكانت كذلك.
إنها نعمة كبيرة، وفضل عظيم، أن تكون امرأة في ذلك القدر، وفي تلك الأبهة والسلطان، فتصرف همها عن شهوة السلطة ومآرب السياسة إلى أبواب الخير والصلاح والنفع العام.. وأن تسخّر غلمانها وأجراءها ووصيفاتها لخدمة المسلمين من الضعفاء والمحتاجين.
فهي كباقي الكرد رجالاً كانوا أم نساء اتصفوا بالعديد من الصفات ، والتي منها القوة ، وشدة البأس ، وكونهم محاربين أقوياء يمتلكون مهارة حربية ، وعسكرية فائقة والنساء محبين للعلم والعلماء لديهم القدرة على تحمل الأعباء والمسئوليات([18]).
وكان للكرد سمات خاصة بهم ، وصفات مميزة لهم جعلتهم يحملون طبيعة تختلف عن سواهم([19]) فهم متعصبون لبعضهم ، هذا بجانب الشجاعة ، والحمية ، والشهامة ، والأخلاق، الحميدة([20]).
وقد بلغ من حب زمرد خاتون ست الشام الكردية للعلم أن صرفت همها لتعليم ابنها “حسام الدين عمر” فلا شيء عندها يعدل العلم، ولا أجر يضاهي تعليم الابن ليكون من الصدقات الجارية لها، وكان لها ما أرادت كذلك.وهذا يؤكد طبائع الكرد في الاهتمام بالنشىء لأن الطفل هو ثمرة الزواج الذي وجب بناءه بشكل مميز يعكس الفكر والترابط الأسري ويكون نافه للمجتع أجمع بتنوع اطيافه.
فقد أورد ابن كثير أن “حسام الدين عمر بن لاجين” كان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين الأيوبي ([21]).وكانت قد تزوجت والد حسام، ثم ابن عمها ناصر الدين أسد الدين شيركوه بن شاذي صاحب حمص.
إلا أن أبرز ما قامت به هو إنشاؤها مدرستين عظيمتين: المدرسة الشامية البرانية والمدرسة الشامية الجوانية…
وتعرف هذه المدرسة بالحسامية أيضاً، نسبة إلى ابنها حسام الدين بن لاجين وكانت دفنته بها، ودفنت هي بالقبر الذي هو فيه، وهو الذي كان يلي باب القبو من القبور الثلاثة، والقبلي هو قبر أخيها توران شاه، والأوسط قبر ابن عمها وزوجها ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذي، وكانت جنازتها حافلة عظيمة.. رحمها الله.
ولا شك أن لها أخباراً كثيرة ومناقب عظيمة، إلا أن المصادر لا تزيد على ما ذُكر، وما سيأتي من الحديث عن المدرستين الشاميتين.
وهذا يعكس إلى أي مدى كان لها تأثيرها في الحراك العلمي والثقافي وماذا عن تأثير هذه المدارس الذي استمر لسنوات وساعد في البناء العلمي والمعرفي وكان بمثابة توقيع عقد موثق يوضح دور النساء الكرديات وفضلهن في البناء الحضاري بصفة عامة والحياة العلمية والثقافية بصفة خاصة.
لكن الجميل أن نعرف أن الشيخ تقي الدين ابن قاضي شهبة قد صنف فيها كراسة.. ذكر أبو شامة المقدسي أنها عنده ([22]).ولا تحدثنا المصادر التاريخية عن شيء من مواقفها السياسية، بل يستشف من أعمالها الخيرية العظيمة أنها كانت واسطة خير بين إخوتها، وموضع تجمع واتفاق بين أهلها وأقاربها، وكما كانت تشجع على العلم والخير والإصلاح. كانت بالمقابل تشفع للمسيء وتتجاوز عن المخطئ، وكانت تحن إلى أهلها وتعطف عليهم، ففي السنة العاشرة من ولاية السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر، وهي سنة ست وسبعين وخمسمائة، توفي الملك المعظم فخر الدين شمس الدولة توران شاه أخو السلطان صلاح الدين لأبيه، وشقيق ست الشام، وكان أكبر من صلاح الدين في السن، وكان يرى في نفسه أنه أحقُّ بالملك من صلاح الدين يوسف، وقد أبعده صلاح الدين وبعثه إلى اليمن، ثم بعلبك، ثم الإسكندرية، فتوجه إليها وأقام بها معتكفاً على اللهو، ولم يحضر حروب أخيه صلاح الدين ولا غزواته، ومات بالإسكندرية، فأرسلت شقيقته ست الشام، فحملته في تابوت إلى دمشق، فدفنته في تربتها التي أنشأتها بدمشق. وكان توران شاه المذكور جواداً، ممدحاً حسن الأخلاق، إلا أنه كان أسوأ بني أيوب سيرة وأقبحهم طريقة ([23]).
ومما سبق يتضح أنها كانت ذات دور سياسي غاية في الخطورة فهي مثلت نوع من أنواع القوة الناعمة التي رأبت الصدع وأصلحت بين الأخوة ووحدت الكلمة والصف ، وتجلت الدبلوماسية في أزهى صورها بما قدمته من اصلاح بين الأخوة وأن غفلت المصادر هذا الدور ولكن هو دور عظيم بجانب دورها الحضاري.
وفي السنة الخامسة عشرة من ولاية السلطان صلاح الدين على مصر، وهي سنة ٥٨١ هـ، توفي محمد ابن الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شاذي.. ابن عم صلاح الدين.. وكان الأخير يخافه لأنه كان يدعي أنه أحق بالملك منه، وكان زوج أخت السلطان، ست الشام بنت أيوب، ومات بحمص، فنقلته زوجته ست الشام إلى تربتها، ودفنته عند أخيها الملك المعظم توران شاه([24]).
المدرسة الشامية البرانية (الحسامية):وتعرف بالمدرسة الحسامية، وكانت بمحلة العقيبة بالعونية، شرقي سوق صاروجا، غرب سوق الهال.
أنشأتها ست الشام، وهي من أكبر المدارس وأعظمها، وأكثرها فقهاء، وأكبرها أوقافاً، كما يقول ابن شداد، وهي من وقفها السلطاني، وهو قدر ثلاثمائة فدان. حده قناة الريحانية (في الغوطة الجنوبية إلى أوائل القبيبات إلى قناة حجيرا ودرب البويضا (في الغوطة الجنوبية)، ومنه الوادي التحتاني وادي السفرجل وقدره نحو عشرين فداناً، ومنه ثلاثة كروم وغير ذلك.
وكان أبو بكر محمد بن عبد الوهاب الفخر بن الشيرجي (ت:٦٢٩هـ) يلي ديوان ست الشام وفوضت إليه أمر أوقافها. وقال سبط ابن الجوزي: كان ثقة أميناً كيساً متواضعاً.
وكان شرط واقفها أن لا يجمع المدرّس بينها وبين غيرها، وأول من درس بالشامية البرانية القاضي شرف الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن القرشي الدمشقي من بني عم ابن الزكي (ت ٦١٥هـ)،ثم ذكر الدرس بها قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات يحيى بن الحسن المعروف بابن سني الدولة.ثم من بعده نجم الدين أحمد بن راجح بن خلف المغربي المعروف بابن الحنبلي (ت ٦٣٨ هـ).
ثم من بعده عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة نجم الدين بن أبي عصرون.ثم من بعده قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل يحيى بن الزكي.ثم من بعده القاضي رفيع الدين عبد العزيز بن عبد الهادي الجيلي.ثم من بعده الشيخ تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين الشافعي.
ثم ناب عنه بها شمس الدين أبو عبد الله محمد المعروف بالمقدسي في الأيام الظاهرية. وتولاها معه عز الدين محمد بن شرف الدين عبد القادر الأنصاري (ت ٦٨٢هـ).
ولما توفي شمس الدين المقدسي ولي مكانه أخوه شرف الدين أحمد بن نعمة.ثم الشيخ زين الدين الفارقي.ثم القاضي كمال الدين بن الشريشي.ثم صدر الدين بن الوكيل.ثم كمال الدين بن الزملكاني.ثم كمال الدين بن الشيرازي.
ثم القاضي شمس الدين أبو نصر الشيرازي، وكان من خيار قضاة الشام (ت ٦٣٥ه)ـ وتولى تدريسها كذلك زين الدين محمد بن عبد الله بن المرحل الشافعي (ت ۷۳۸هـ).ثم جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة. وكان قوي النفس رت ۷۳۸ هـ) ثم شمس الدين محمد بن أبي بكر بن النقيب (ت 745ه).ثم الشيخ تقي الدين السبكي.ثم درس بعده ولده القاضي جمال الدين حسين.ثم درس بها بعده القاضي علاء الدين علي ابن القاضي فخر الدين الزرعي سنة ٧٤٧هـ.ثم الإمام شمس الدین ابن خطيب يبرود.ثم الشيخ تاج الدين السبكي.ثم شيخ الشافعية محمد بن قاضي شهبة، ثم نزل عنها لشهاب الدين الزهري.ودرس بها أبو العباس أحمد بن محمد المعروف بابن الرهاوي (ت ۷۷۷هـ).ثم درسَّ بها جمال الدين عبد الله بن أحمد الزهري، وكان له كلمة عالية وإقدام (ت ٨٠١هـ).ثم تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن شيخ الشافعية شهاب الدين الزهري، وكان عاقلاً، ساكناً، كثير التلاوة، ويقوم الليل، وعنده حشمة وأدب، ولسانه طاهر (ت) ٨٢٤هـ). ([25])
واستقر عوضه في تدريس الشامية البرانية قاضي القضاة نجم الدين بن حجي.ثم قاضي القضاة الشيخ شمس الدين البرماوي الشافعي. ثم القاضي محي الدين المصري (ت ٨٤٠هـ).ثم علاء الدين الصير في (ت ٨٤٤ هـ).ثم شمس الدين محمد بن عبد الله البلاطنسي، مفتي المسلمين (ت 863ه).ثم بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عمر بن حجي، ثم نزل لابنه الدين قبل موته.
ثم درس بها نيابة مفتي المسلمين زين الدين خطاب ابن الأمير عمرالعجلوني ثم الدمشقي (ت ٨٧٨هـ).ثم أقضى القضاة تقي الدين أبو بكر بن عبد الله الشهير بابن قاضي عجلون الذي انتهت إليه مشيخة الشافعية بدمشق ت ۹۲۸هـ)، ومعه أقضى القضاة سراج الدين أبو حفص عمر بن علي الصير في (ت ٩١٩ هـ).
كما تولى التدريس بها الفاضل العالم القاضي عبد اللطيف بن محب الدين الحموي (ت ۱۰۲۳هـ).والشيخ العلامة المحقق حسن بن محمد البوريني (ت ١٠٢٤ه).والشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يونس العيثاوي (ت ١٠٢٥هـ).
وكانت هذه المدرسة وأمثالها من المدارس الكبيرة تستقطب كبار العلماء، بل ويتنافسون في التدريس بها، لعظمتها ومكانتها عند العلماء، بل إن أبرز علماء العصر كانوا يدرسون بها، وحدث أكثر من مرة أن تدخل الحاكم في دمشق لتعيين المدرسين بها.
وللقارئ أن يتصور عدد العلماء الذين تخرجوا من هذه المدرسة على مدى قرون، لنشر قيم الإسلام العظيم، والأجر الكبير الذي يعود على واقفتها ست الشام “رحمها الله” وعظم أجرها.
أما مصير هذه المدرسة في هذا العصر، فيقول ابن بدران (ت ١٣٤٦هـ) إنه لم يبق منها سوى جدار، ويقول محمد كرد علي (ت ١٣٧٢ه) إنها اليوم مدرسة ابتدائية للأيتام، تقوم بها جمعية الإسعاف الخيري. ([26]) غاية القول أن الغرس العلمي والثقافي الذي بدأت لبنته الكردية زمرد خاتون الكردية حتى بعد انتهاء دوره التعليمي صار داراً للأيتام ليجسد أن الخير قائم طالما أخلص فاعله.
المدرسة الشامية الجوانية:وهي قبلي المارستان النوري.وقد كانت داراً لستُ الشام، فجعلتها بعدها مدرسة، وقد زارها في العصر الحديث شيخ الحنابلة ابن بدران، فذكر أنه يبق من رسمها سوى بابها، وبأعلاه بلاطة كبيرة نقش فيها حفراً نص الوقف، وعندما وقف أمامها وتأملها رأى بابها الأصلي موجوداً إلا أنه صغر وصار باباً للدار.. وجدارهـا الغربي باق، وهو مبني بالحجارة الكبيرة. ثم ذكر أن محل التاريخ قد انمحى أثره، وحفرت البلاطة مكانه وحشيت بالطين.
قال: وعما قليل ستذهب البلاطة بأجمعها ([27]).أما نص الوقف فقد أورده تقي الدين السبكي في فتاويه الكبرى.وقد يكون من المفيد أن أنقله للقارئ الكريم حتى يتعرف على نظام الأوقاف في ذلك العصر، والمصطلحات المستخدمة آنذاك.. وقد لا يبخل بعد ذلك بالدعوة لواقفها.. وهو:
قال الشيخ الإمام مختصر كتاب الشامية الجوانية: هذا ما وقفه فخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله بن علي بن أحمد الأنصاري [المعروف بابن الشيرجي] ما يأتي ذكره: فمن ذلك جميع الدار بدمشق، ومنه بظاهر دمشق ضيعة تعرف بيزينة([28])، وحصة مبلغها أحد عشر سهماً ونصف سهم من أربعة وعشرين سهماً تعرف بجرمانا من بيت هيا([29])، ومنها أربعة عشر سهما، وسبع من أربعة وعشرين سهما من ضيعة تعرف بالتينة([30]) من جبال عسال، ومنه جميع الضيعة المعروفة بمجيدل القرية، ومنه نصف ضيعة تعرف بمجيدل السويدا، وقفا على الخاتون ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شادي، ثم على بنت ابنها زمرد خاتون بنت حسام الدین محمد بن عمر بن لاجين ثم على أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم على أولاد أولادها، ثم على أنسالهم كذلك. فإذا انقرضوا ولم يوجدوا عاد على الجهات التي يأتي ذكرها، فالدار مدرسة على الفقهاء والمتفقهة. الشفعوية المشتغلين بها، وعلى المدرس بها الشافعي قاضي زكي الدين أبي العباس الطاهر أحمد بن محمد بن علي القرشي (ت ٦١٧ هـ) إن كان حياً، فإن لم يكن حياً فعلى ولده، ثم ولد ولده، ثم نسله المنتسبين إليه ممن له أهلية التدريس، فعلى المدرس الشافعي بهذه المدرسة. ومن شرطهم أن يكونوا من أهل الخير والعفاف والسنة، غير منسوبين إلى شر وبدعة. والباقي من الأملاك على مصالح المدرسة، وعلى الفقهاء والمتفقهة المشتغلين بها، وعلى المدرس بها القضاة زكي الدين أو من يوجد من نسله ممن له أهلية التدريس وعلى الإمام المصلي بالمحراب بها، والمؤذن بها، والقيم المعد لكنسها ورشها وفرشها وتنظيفها وإيقاد مصابيحها، يبدأ من ذلك بعمارة المدرسة، وثمن زيت ومصابيح وحصر وبسط وقناديل وشمع وما تدعو الحاجة إليه، وما فضل كان مصروفاً إلى المدرس الشافعي، وإلى الفقهاء والمتفقهة وإلى المؤذن والقيم، فالذي هو مصروف إلى المدرّس في كل شهر من الحنطة غرارة، ومن الشعير غرارة، ومن الفضة مائة وثلاثون درهماً فضة ناصرية، والباقي مصروف إلى الفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم على قدر استحقاقهم على ما يراه الناظر في أمر هذا الوقف من تسوية وتفضيل وزيادة ونقصان وعطاء وحرمان، وذلك بعد إخراج العشر وصرفه إلى الناظر عن تعبه وخدمته ومشارفته للأملاك الموقوفة وتردده إليها. وبعد إخراج ثمانمائة درهم فضة ناصرية في كل سنة تصرف في ثمن بطيخ ومشمش وحلوى على ما يراه الناظر.
ومن شرط الفقهاء والمتفقهة والمدرس والمؤذن والقيم أن يكونوا من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحسن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة، وأن لا يزيد عدد الفقهاء والمتفقهة بهذه المدرسة عن عشرين رجلا من جملتهم المعيد بها والإمام، وذلك خارج عن المدرس والمؤذن والقيم، إلا أن يوجد في ارتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة فللناظر أن يقيم بقدر ما زاد ونه([31]).
وقد درس بها الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح الشهرزوري الكردي صاحب المقدمة المشهورة في الحديث.ثم من بعده شمس الدين عبد الرحمن المقدسي ثم انتزعت من يده وتولاها تاج الدين محمد بن عبد السلام بن عصرون، وكان خيرا متواضعا حسن الإيراد للدرس (ت ٦٩٦هـ).ثم درس بها العلامة صدر الدين العثماني المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل.ثم أمين الدين سالم بن عبد الرحمن بن أبي الدر، ويقال له لؤلؤ، المعروف بإمام مسجد ابن هشام وكيل بيت المال الذي كان ملازماً للإمام النووي (ت ٧٢٦هـ).ثم تولى تدريسها القاضي الشافعي جلال الدين القزويني. ثم ابنه بدر الدين.ثم درس بها الفقيه أبو الفتح السبكي قريب الشيخ تقي الدين السبكي. ثم درس بها قاضي العساكر الحلبية الرئيس ناصر الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين يعقوب الحلبي، الذي تولى كتابة السر ومشيخة الشيوخ بدمشق (ت ٧٦٣هـ).
ثم القاضي أمين الدين محمد بن أحمد القلانسي، الذي ولي قضاء العسكر بدمشق ووكالة بيت المال مرات (ت ٧٦٣هـ).ثم درس بها قاضي القضاة بدر الدين السبكي. ثم قاضي القضاة ولي الدين أبو ذر عبد الله ابن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء السبكي.ولما مات القاضي ولي الدين ولي القاضي سري الدين تدريس الشامية الجوانية.ثم درَّس بها بعده قاضي القضاة شهاب الدين الباعوني. ثم درَّس بها الشيخ شهاب الدين بن حجي، ومعه الشيخ جمال الطيماني، وقاضي القضاة نجم الدين بن حجي.
وبالنيابة درس بها الشيخ شمس الدين البرماوي، والشيخ علاء الدين بن سلام، وشهاب الدين الملكاوي.ودرس بها القاضي زين الدين عبد الباسط، وولي الإعادة بهذه المدرسة جماعات منهم: الإمام العلامة مفتي الشام جمال الدين محمد المعروف بابن قاضي الزبداني، وكان معظماً، تخضع له الشيوخ، ويُقصد لقضاء حوائج الناس عند القضاة وغيرهم، ويمشي بنفسه في قضاء ذلك، وعنده تواضع وأدب (ت ۷۷۹ه).ومنهم العلامة نجم الدين بن الجابي.والشيخ تقي الدين اللوبياني. ([32])
و في الأخير : كانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحساناً إلى الفقراء والمحاويج ، وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغيرها من الأدوية والاحتياجات وكانت تفرقه على الفقراء والمرضى والمحتاجين .
توفيت ست الشام» زمرد خاتون الكردية ، ودفنت بالمدرسة الشامية البرانية.وكانت وفاتها في دمشق بسوريا يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة 616هــ /1220 م في دارها التي جعلتها مدرسة ، عن المارستان وهى الشامية الجوتنية “البرانية” ، ونقلت منها إلى تربنها بالشامية البرانية ،وكانت جنازتها حافلة. ([33])
عن جدارة ورضا من الجميع استحقت تلك السيدة الكردية أن يسميها أهل بلاد الشام في زمانها ست الشام ولم يكن لقبها هبة من ملك أو تشريفاً من سلطان. هي الأميرة «ست الشام زمرد بنت نجم الدين أبي الشكر أيوب بن شاذي بن مروان» التي توصف بأنها أم الفقراء وراعية العلم والعلماء وأخت الملوك وعمتهم وزوجة الملك ناصر الدين محمد بن شيركوه بن أيوب». إنها أخت الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، صاحبة المدراس التي أضاءت وملئت الدنيا علمًا وظهر فيها الأساتذة والتلاميذ الأعلام وأصحاب الرؤى والفكر.
وهذا يصل بنا إلى حقيقة لا ريب فيها أنه: علي الرغم من أن االكرد امتلكوا المهارة العسكرية ، والحنكة السياسية ، إلا أنهم إلي جانب ذلك استطاعوا أن يتركوا تراثاً حضارياً في عدة مجالات أدبية ، وعلمية، وفنية شاركت فيه النساء الرجال وحفظ التاريخ دورهم وخلده فهم تقريباً شركاء في جميع الانجازات أن لم تكن بأيدهم.
قائمة المصادر والمراجع التي تم الاعتماد عليها
- ابن عساكر (أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي ) ت 581: تاريخ مدينة دمشق، وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، دراسة وتحقيق، محب الدين أبو سعيد، دار الفكر للطباعة والنشر، 1995.
- الأصطخري (أبو إسحاق ابراهيم بن محمد الفارسي الكرخي) (ت: 957ه/ 1550م): مسالك الممالك، تحقيق، محمد جابر عبد العال، راجعه، محمد شفيق غربال، سلسلة الذخائر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1961.
- أبو الفداء (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي) ت ٧٧٤ هـ: البداية والنهاية، بيت الأفكار الدولية، 2009.
- الدمشقي (عبد القادر بدران الدومي) ت1346هـ: منادمة الأطلال ومسامرة الخيال، تحقيق، زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 1985.
- الصفدي (صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله) ت 764هـ: الوافي بالوفيات، تحقيق، أحمد الأرناؤوط وآخرون، دار إحياء التراث، بيروت، 2000م.
- شرف خان بدليسي: الشرفنامة في تأريخ الدول والامارات الكردية، مطبعة النجاح، بغداد، 1953.
- محمد فتحي الشاعر: الأكراد في عهد عماد الدين زنكي، دار المعارف، القاهرة، 1991.
- علي سيدو الكوراني: من عمان إلى العمادية أو جولة في كردستان الجنوبية على سيدو الكوراني، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل، إقليم كردستان، العراق، 2012.
- كاظم حيدر: الأكراد من هم وإلى أين، منشورات الفكر الحر، بيروت، 1995.
- أمين سامي الغمراوي: قصة الأكراد في شمال العراق، دار النهضة العربية، 1967.
- ف.ف. مينورسكي: الاكراد ملاحظات وانطباعات، رابطة كاوا للثقافة الكردية، 1987.
- محمد خير رمضان يوسف، المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، دار القادري، بيروت، 1992م.
- النعيمي (عبد القادر بن محمد الدمشقي) ت927هـ: الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، 1990.
- Chambers’ Encyclopedia: V8, OP. Cit.
- Delacorte World History : (Kurds) V 11, The Near East , New York, 1967
( [1] ) محمد فتحي الشاعر : الأكراد في عهد عماد الدين زنكي ، ص 24.
( [2] ) علي سيدو : حوله في كردستان الجنوبية ، ص 257.
وكذلك كاظم حيدر : المرجع السابق ، ص 19.
( [3] ) أمين سامي الغمراوي : قصة الأكراد في شمال العراق ، المرجع السابق ، ص 65.
– وكذلك مينورسكي : الأكراد ملاحظات ، المرجع السابق ، ص 74.
( [4] ) ابن عساكر : تاريخ ابن عساكر ، ص 117.
( [5] ) Chambers’s Encyclopedia : V8 , OP. Cit . , P.272
([6] ) Barbara Robson : Irqi Kurds , OP. Cit . , P. 1 , Net.
( [7] ) مينورسكي :الأكراد ملاحظات ، المرجع السابق ، ص 74.
( [8] ) ب . ليرخ : المرجع السابق ، ص 24-25.
( [9] ) محمد فتحي الشاعر : المرجع السابق ، ص 25.
([10]) محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، دار القادري، بيروت، 1992م، ص 15-31.
([11]) ابن كثير، البداية والنهاية ١٣/ ٨٤؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([12]) توران شاه : لفظة أعجمية معناها ملك الشرق.. انظر منادمة الأطلال ص۱۰۸.
([13]) انظر الذيل على الروضتين لأبي شامة المقدسي ص ۱۱۹، والوافي بالوفيات 15/120.
([14]) اسم أعجمي معناه بالعربي «فرحان». ذكره ابن خلكان. انظر منادمة الأطلال ص١٠٨.
([15])محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([16]) الوافي بالوفيات ١٥/ ١١٩.
([17]) الذيل على الروضتين ص۱۱۹، والنجوم الزاهرة ٦/ ٢٤٦؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
( [18] ) الاصطخري : المسالك ، ص 116.
-وكذلك : حسين نور صادقي : أصفهان ، المرجع السابق ، ص 8.
([19])Delacorte World History : (Kurds) V 11, The Near East , New York, 1967, p.5.
( [20] ) ابن عباس (الحسن بن عبد الله) : ترتيب الدول ، ص 147.
– كذلك : البدليسي : الشرفنامه في تاريخ الدويلات الكردية ، ص 220.
([21]) البداية والنهاية ١٣/ ٨٤.؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([22]) الدارس في تاريخ المدارس ۱/ ۲۷۸، ومنادمة الأطلال ص۱۰۸؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([24]) النجوم الزاهرة ٦/ ١٠٠؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([25])محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([26])محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-20.
([27]) منادمة الأطلال ص ١٠٦.؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([29]) جرمانا من قرى غوطة دمشق الشرقية وبيت ليا من أقاليم الغوطة (الدارس).
([30]) من قرى جبل قلمون (الدارس).
([31]) انظر الدارس في تاريخ المدارس ١/ ٣٠١ – ٣٠٣.؛ محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.
([32])محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31..
([33]) ذكر ابن كثير في تاريخه ١٣/ ٨٥ أن وفاتها كانت في دارها التي جعلتها مدرسة، وهي عند المارستان وهي الشامية الجوانية، ونقلت منها إلى تربتها بالشامية البرانية. محمد خير رمضان يوسف ،المرأة الكردية في التاريخ الإسلامي، ص 15-31.