دراسات

الأنفال وحلبجة: أبعاد الجرائم ضد الإنسانية وآثارها على الهوية الكردية في العراق

تحليل: الباحث السياسي/ محمد صابر

تمتلئ حياة الكرد بالقصص والمآسي من التكتيكات والجرائم التي يرتكبها الحكام الذين لا يهتموا بتسوية الملف الكردي سوى من طرف واحد، ومن بينها حكومة البعث  العراقية التي شنت على جنوب كردستان(إقليم كردستان العراق) عمليات عسكرية كبيرة، وتعود جذور الأزمات الكردية في العراق إلى بداية القرن العشرين وطريقة تشكيل العراق الحالي وتركيبته السياسية، حيث شهد الشعب الكردي آنذاك مجموعة من الصراعات والحروب التي كانت وتمثل حملتا الأنفال وحلبجة أحد أبرز الأمثلة على الجرائم التي تم ارتكابها إزاء الكرد في التاريخ المعاصر.

نتج عن هذه الحملات تداعيات عميقة على الهوية الكردية، فقد تسبب القتل والتدمير في فقدان الكثير من الأكراد لمنازلهم ومجتمعاتهم، مما أدى إلى تشتيت السكان، هذا الفقدان لم يكن مجرد فقدان مادي، بل شمل أيضًا شعور الكرد بالتهجير والفقدان الذي لا يزال يؤثر على الهوية الكردية، من محاولات سحقها وتفكيك المجتمع الكردي.  

فقد تعرض الكرد الجرائم ضد الإنسانية خلال حكم النظام البعثي لجرائم ضد الإنسانية.   يسعى هذا التحليل لدراسة سياق أهم الحملات التي شهدتها هذه المرحلة، وتأثيراتها وأبعادها سياسيًا، اقتصاديًا، واجتماعيًا، وبيان تداعيات هذه الجرائم على الهوية الكردية.

جرائم ممنهجة:

كانت حملة الأنفال (1986-1989) سلسلة متصلة من العمليات العسكرية القمعية، التي قامت القوات العراقية بتنفيذها ضد الكرد في شمال العراق، بهدف تصفية الوجود الكردي والقضاء على المقاومة الكردية وإخضاع الشعب الكردي بالكامل، وقد شملت هذه الحملات استخدام أساليب قمعية وحشية، كالتهجير وشن الهجمات العسكرية على القرى الكردية، كما تم استخدام أسلحة كيميائية في هذه الهجمات، ما أسفر عن مقتل 180 ألف قتيل من الكرد بما فيهم الأطفال والنساء، وتدمير مئات القرى، وتهجير مئات الآلاف من الكرد من مناطقهم.

وفي 1988 نفذت القوات العراقية هجوم حلبجة، وهو هجوم كيميائي مروع على مدينة حلبجة الكردية، ومن أسوأ الهجمات الكيميائية في تاريخ البشرية، حيث استهدف المدنيين بشكل مباشر، ما نتج عنه مقتل 5  آلاف من السكان المدنيين، وكانت جزءًا من سياسة القضاء الشاملة على المقاومة الكردية، وتدمير البنية الاجتماعية والثقافية للكرد، الذين يعانون حتى اليوم من أثار هذه الفظائع.

وهناك جهود مستمرة لإحياء الذاكرة الكردية من خلال المتاحف، والنصب التذكارية، والمناهج التعليمية التي تركز على كشف الحقيقة وعدم تشويه التاريخ الكردي، فإحياء هذه الذاكرة ليس فقط لإظهار أهوال الماضي، بل لتعليم الأجيال الجديدة أهمية العيش بسلام وقبول الآخر والابتعاد عن الصراعات، التي تؤذي لمثل هذه الفظائع، وفي سياق المصالحة، ينبغي على الحكومة العراقية والمجتمع الدولي للاعتراف بشكل كامل بالجرائم التي ارتكبت آنذاك، والعمل على تعويض الضحايا، بما يتماشى مع مبادئ ومعايير حقوق الإنسان، بما يسهم في تأسيس ثقافة السلام والتعايش المستدامة.

الأبعاد الإنسانية لحملتي الأنفال وحلبجة:

تمثل حملتا الأنفال وحلبجة أحد أبرز الأمثلة على الجرائم ضد الإنسانية، التي استخدمت خلالها الحكومة العراقية أساليب قمعية شديدة شملت الهجمات العسكرية الشاملة، لاسيما التهجير القسري، واستخدام الأسلحة الكيميائية، فقد كان الهدف منها تدمير الهوية الكردية بأسلوب ممنهج، ما يعكس رغبة النظام آنذاك في القضاء على أي أشكال متوقعة من المقاومة، وتشير التقارير الحقوقية إلى أن هذه الجرائم لم تكن مجرد رد فعل عسكري، لكنها كانت جزءًا أساسيًا من سياسة منهجية هدفها الرئيسي الإبادة الثقافية للكرد والهوية الكردية، وتفريغ المناطق الكردية من سكانها الأصليين.

من جهة أخرى، يعد الهجوم على حلبجة في 1988 ذروة هذه العمليات الإبادية، لاستخدام الأسلحة الكيميائية بشكل مروع، أسفر عن استشهاد الآلاف وإصابة أخرين، فلم يستهدف النظام آنذاك فقط المقاتلين، بل أنه كان موجهًا ضد المدنيين، لنشر الرعب وتفكيك الروح المعنوية للكرد، مما يشير إلى أساليب القمع الاستبدادية، التي رصدتها العديد من التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية كأفعال تندرج تحت بند الجرائم ضد الإنسانية.

إن هذه الحملات تعتبر ضمن أبرز نماذج استخدام الأسلحة الكيميائية الممنهج ضد المدنيين، وامتدت آثارهم النفسية والاجتماعية على المجتمع الكردي حتى اليوم، فقد خلفت ندوبًا عميقة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة من الكرد، لأثرها على الهوية الثقافية والاعتزاز الوطني للشعب الكردي، الذي يشكل تحدي مستمر أمام التعافي الكامل، خاصًة بعد تقاعس المجتمع الدولي في مواجهة الجرائم ضد الإنسانية، بما يعكس فشل العدالة في منع الأنظمة القمعية من استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا ضد المدنيين، فقد أظهرت حملتا الأنفال وحلبجة الحاجة لاتخاذ إجراءات أكثر فعالية على المستوى الدولي لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وضمان عدم ذهاب دماء الضحايا سدى.

آثار ممتدة:

أثرت حملات الأنفال وحلبجة وما يماثلها من جرائم ضد الإنسانية بشكل بالغ على الهوية الكردية من مختلف الأبعاد، فالتدمير المادي الذي لحق بالقرى والمراكز الثقافية والمدارس، والمجزرة التي تعرض لها آلاف المدنيين الكرد، نتج عنها تهديد الوجود الثقافي الكردي، ففي ظل الأوضاع القاسية كان على الكرد توفير الحلول والسبل للحفاظ على هويتهم، وكان الحفاظ على اللغة الكردية والتقاليد الثقافية للكرد أحد أشكال المقاومة لهذه الجرائم المرتكبة بحقهم، التي خلقت شعورًا عميقًا بالاغتراب بين الكرد في العراق، ومن خلال الأدب والموسيقى والفن الكردي، تمكنوا من توثيق مأساتهم بالصورة التي أسهمت في تعزيز هويتهم كأمة مقاومة، في مواجهة محاولات محو الذاكرة التاريخية للكرد، وقد أدت حملات الأنفال وحلبجة إلى ظهور تداعيات متعددة الأبغاد، من أهمها:

(*) تداعيات سياسية: شكلت هذه الجرائم عاملًا رئيسيًا في توجيه الحركة الكردية نحو المطالبة بالحقوق السياسية، وتعميق الصراع بين الكرد والحكومة العراقية المركزية، إضافًة إلى تعزيز رغبة الكرد في الحصول على حكم ذاتي أوسع، مع تدمير نظام البعث في 2003، حيث بدأ الكرد في بناء إقليم كردستان العراق، والذي بات بتمتع بحكم ذاتي واستقلالية نسبية، مدعومًا بتأييد المجتمع الدولي، مع توحد الأكراد سياسيًا تحت شعار المقاومة وحقوق الإنسان، فقد بدأ المجتمع الدولي يعترف بمظالم الكرد وشرع في مساعدتهم لبناء مؤسساتهم السياسية المستقلة.

(*) تداعيات اجتماعية: إحداث شرخ عميق في النسيج الاجتماعي للكرد، فعلى الرغم من تدمير معظم المدن الكردية وتشريد العديد من الأسر، استطاع المجتمع الكردي إعادة بناء ذاته بتعزيز الروابط العائلية والاجتماعية، وكانت العودة لمدنهم بعد سقوط نظام البعث خطوة كبيرة نحو إعادة توطيد الهوية الاجتماعية في كردستان، لكن موجات النزوح إلى دول الجوارأوجدت الشتات الكردي، إلا أن أواصر التعاون لا تزال قوية فيما بينهم.

(*) تداعيات اقتصادية: نتج عن التدمير الذي لحق بالبنية التحتية الاقتصادية في كردستان على آثر هذه الجرائم، تأثير على قدرة المنطقة على التنمية الاقتصادية على المدى الطويل، فقد تم تدمير الأراضي الزراعية، والمصانع، مما أعاق قدرة الكرد على استثمار مواردهم الطبيعية في سبيل تحسين أوضاعهم الاقتصادية، لكن بعد 2003، بدأ الإقليم في استعادة جزء من عافقيته الاقتصادية من خلال تطوير قطاع النفط، واتباع سياسات تنموية استقلالية بصورة أكبر، لكنهم ما يزالوا يواجهون العديد من التحديات، ولاسيما النزاع على موارد النفط مع الحكومة العراقية.

ختامًا، يمكن القول أن الجرائم التي تعرض لها الشعب الكردي لم تقتصر فقط على كونها سلسلة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بل كانت أيضًا جزءًا من مشروع طول الأمد يهدف إلى محو الهوية الكردية، وإضعاف المقاومة الكردية، وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع النظام البعثي تدمير الإرادة الكردية أو محو ذاكرة شعبها، وبعد مرور عقود على هذه الجرائم، يبقى الكرد نموذجًا للصمود أو المقاومة، بعد التمكن من الحفاظ على الهوية الثقافية والسياسية، وبناء إقليم كردستان الذي يمثل رمزًا للاستقلالية، بما يعزز دور الكرد في تشكيل مستقبلهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل مستدام.

وتبقى هذه الجرائم دافعًا لتحفيز المقاومة والنضال من أجل الحقوق، ففي النهاية تمكن الشعب الكردي من الحفاظ على هويته الثقافية والسياسية، وساهم في بناء دولة كردية شبه مستقلة، تعكس إرادة حرة للكرد رغم كل ما تعرضوا له من محاولات وعمليات قمع وحروب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى