ثقافة

يلماز غوني .. الحضور الدائم بالصورة والكلمة

تحليل: هدير مسعد عطية

للبعض تأثير إنساني يدوم طولا، بل يضحي كالعنقاء التي تعيد تأسيس ذاتها بعد أن يُظن أنها انتهت، مسيرة يلماز غوني الإنسانية والفنية، يمكن وسمها بأنها تعد تجسيدًا مثاليًا لهذا الصنف الذين لا ينتهي تأثيره، حتى وإن حُجب ومنع من الوصول لقاعدته الجماهيرية. فمن هو يلماز غوني؟ شخصية أثرت على تاريخ الفن التركي بفضل أبعاده المتعددة (كمخرج سينمائي). وبصفته ممثلًا، وكاتب سيناريو، ومخرجًا، ومنتجًا، وكذلك روائيًا وكاتب قصص، حقق العديد من النجاحات. بشخصيته الفنية متعددة الأبعاد وإحساسه العميق بالمسؤولية الفنية، كان غوني حساسًا للغاية تجاه مشاكل بلده، حيث سادت الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، والتوترات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية. في أعماله وأفلامه، سعى لتسليط الضوء على تناقضات المجتمع التركي والقمع الناتج عن القوانين الرجعية للنظام، وذلك عبر أسلوب واقعي اجتماعي بعيدًا عن المبالغات والشعارات.

كسر غوني نظام “نجم الشباك” الذي كان معمولًا به في الستينيات، وشق طريقه نحو النجاح من خلال جهوده الشخصية. أطلق عليه الشعب لقب “ملك القبح” وأصبح أسطورة فنية وإنسانية. حطم الأنماط التقليدية لفن التمثيل، وأثر بشخصيته البديلة على العديد من الممثلين. خاصةً في السبعينيات، كان له دور ريادي كمخرج وكاتب سيناريو ومنتج، حيث قدم أعمالًا مميزة في سينما “يشيل تشام”، ولعب دورًا بارزًا في تطوير سينما بديلة ومعارضة داخل هذا التيار.

البداية.. عودة للجذور

ولد يلماز غوني في الأول من أبريل عام 1937 في قرية ينيجه التابعة لمدينة أضنة جنوب تركيا. نشأ في أسرة كردية من فلاحين لا يملكون أراضٍ. والدته من منطقة فارتو في موش الواقعة جنوب شرق تركيا، ووالده من سيفريك التابعة لأورفة. وصف غوني حياته البائسة في تلك الفترة قائلاً: “أول ما رأيته بعد ولادتي، إلى جانب وجوه والدي ووالدتي القلقة، كان البندقية المعلقة على الحائط. ورأيت الحصان في حضن والدي. بدأت حبي للبندقية والحصان منذ طفولتي. كنت أيضًا طفلاً لعائلة كانت الثأر جزءًا من حياتها، ولهذا أصبحت الخيول والبنادق شغفًا لا غنى عنه بالنسبة لي”. وللمساهمة في إعالة أسرته، بدأ يلماز غوني العمل في سن مبكرة. لم يتمكن من قضاء وقت فراغه مثل أقرانه في المدرسة الإعدادية: “كنت أحسد بعض الأطفال في المدرسة وهم يلعبون الكرة الطائرة أو الماندولين، لكنني لم أستطع أن أشاركهم لأنني كنت أعمل. عملت في الحقول كعامل زراعي، حملت المياه، وأشرفت على رعاية الخيول أثناء حراثة الأرض، وقطفت القطن، وحرثت الأرض، وعملت كحارس في البساتين. في أحد الصيفيات، كنت مهتمًا بقيادة الجرارات. كنت أبيع السميط قبل المدرسة والمشروبات بعدها”.

عملٌ بسيط خلال سنوات دراسته الثانوية كان له الأثر الأكبر في تشكيل مسيرته المستقبلية، حيث أدخله عالم السينما ليصبح لاحقًا كاتب سيناريو ومخرج حقق شهرة عالمية. بدأ غوني يتعرف على السينما في سن مبكرة، حيث كان يحمل لافتات إعلانية على ظهره ويتجول في الأحياء للترويج للأفلام. عن أول تجربة له مع السينما يقول: “كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما شاهدت أول فيلم في حياتي. كان فيلمًا من نوع الويسترن. في سينما تان بأضنة، تعرفت لأول مرة على رعاة البقر. أحببتهم كثيرًا. كانوا يتحركون بأناقة، وبنادقهم ذات المقابض المرصعة بالصدف الأبيض لم تغادر مخيلتي. كنت أعيش معهم تلك اللحظات، حيث كنا نعتبر الهنود أعداءنا. بالنسبة لي، كانت أمريكا حينها بلد أبطال رعاة البقر، وحتى رجال العصابات كانوا أقرب إلينا من إخوتنا”.  

في سنوات دراسته الثانوية، كتب غوني الشعر والمقالات والقصص والنقد الأدبي. نُشرت أعماله في مجلات أدبية وفنية مثل Doruk وOnüç وYeni Ufuklar وPazar Postası وBir. في عام 1955، تم تقديمه للمحاكمة بتهمة الترويج للشيوعية عبر إحدى قصصه، التي كتبها أثناء دراسته الثانوية. بعد تخرجه في عام 1956، انتقل إلى أنقرة لمتابعة دراسته الجامعية وسجل في كلية الحقوق. لكنه اضطر للتخلي عن الدراسة بسبب ضيق الحال المالي وعاد إلى أضنة.

بداية مسيرته السينمائية

حصل غوني لاحقًا على فرصة عمل في شركة إنتاج سينمائي، ما دفعه للانتقال إلى إسطنبول حيث التحق بكلية الاقتصاد في جامعة إسطنبول. هناك، بدأ العمل كمشرف توزيع في شركة Dar Film Productions. ومن خلال هذا العمل، بدأ يتواصل مع صناع السينما. في عام 1958، تعرف على المخرج التركي البارز عاطف يلماز وبدأ العمل معه ككاتب سيناريو ومساعد مخرج. وشارك غوني لأول مرة كممثل في فيلم Bu Vatanın Çocukları  الذي أخرجه عاطف يلماز عام 1958. رغم أن دوره كان ثانويًا، إلا أن موهبته كممثل برزت، وكان هذا الفيلم بوابته الأولى إلى عالم السينما. عمل بعد ذلك ككاتب سيناريو وممثل في فيلم Alageyik، وككاتب سيناريو ومساعد مخرج في فيلم Karacaoğlanın Kara Sevdası. وبين عامي 1958 و1961، عمل في أفلام مثل Tütün Zamanı وÖlüm Perdesi وDolandırıcılar Şahı وKızıl Vazo وSeni Kaybedersem وTatlı Bela، حيث تولى أدوارًا متنوعة كممثل وكاتب سيناريو ومساعد مخرج.

مع ذلك، توقفت مسيرته السينمائية مؤقتًا في عام 1961 عندما تم سجنه بسبب قصة كتبها بعنوان Üç Bilinmeyenli Eşitsizlik Sistemleri، نُشرت في مجلة Onüç. وُجهت إليه تهمة الترويج للشيوعية، وحُكم عليه بالسجن. عن هذه التجربة قال غوني: “حُكم علي بالسجن لمدة ٧ سنوات ونصف مع نفي لمدة سنة ونصف. وبعد الاستئناف، خُفضت العقوبة إلى سنة ونصف من السجن و6 أشهر من النفي. وألقي القبض علي أثناء تصوير فيلم Tatlı Bela. أمضيت فترة العقوبة في سجني باشاكابيصي ونيفشهير لمدة سنة ونصف، وقضيت 6 أشهر من النفي في قونية”.  كانت السنوات الأولى من حياة غوني مليئة بالصعوبات والتحديات، لكنها أسهمت في تشكيل شخصيته كمخرج وكاتب سيناريو وكاتب ذو بصيرة. أسلوبه الفريد، الذي جمع بين التجارب الشخصية والنضال الاجتماعي، جعله أحد أعمدة السينما الواقعية الاجتماعية في تركيا.

بعد إطلاق سراحه، عاد يلماز غوني إلى إسطنبول، لكنه واجه صعوبة في العثور على عمل في “يشيل تشام”، حيث كان مصنفًا كـ”شيوعي”. على الرغم من هذا الوصم، تمكن في عام 1963 من العودة إلى السينما من خلال فيلم İkisi de Cesurdular، حيث شارك كممثل رئيسي وكاتب سيناريو. أصبح بعدها يُلقب بـ”ملك القبح”. خلال فترة سجنه، لم يكن غوني خاملاً، بل وضع خططًا مستقبلية طموحة: “بين عامي 1961 و1963 كنت في السجن ومن ثم في المنفى. بدأت التمثيل عام 1963. خلال السجن خططت لأن أصبح ممثلاً، بل وأحد أشهر الممثلين. قمت بحساب كل شيء ووضع استراتيجيات محددة. بعد خروجي من السجن، نفذت كل ما خططت له. بحلول عام 1965، كنت بالفعل واحدًا من أشهر الممثلين في القمة”.

لم يكن حكام سوق السينما في إسطنبول يعتقدون بفرص نجاح أفلام غوني، ولهذا توجه إلى الأناضول. خلال فترة قصيرة، أصبح بطل الشعب، وواحدًا منهم. تحول غوني إلى نجم شعبي، وحققت أفلامه أرقامًا قياسية في شباك التذاكر. عام 1965 كان عامًا ذهبيًا لغوني، حيث شارك في 21 فيلمًا، وكان غالبًا ما يتولى الأدوار الرئيسية.

مع عودته السريعة والمدروسة إلى السينما، أطاح غوني بأنواع الأفلام الرومانسية التي كان يقدمها Göksel Arsoy  وبقصص البطولة التي اشتهر بها Orhan Günşiray  من السوق السينمائي. بدأ الجمهور يبتعد عن هذا النوع من الأفلام، مما أثر أيضًا على نجوم آخرين مثل Eşref Kolçak، الذي واجه صعوبات في البقاء بالسوق، وAyhan Işık، الذي تضرر بسبب مطالبه المالية العالية في ظل أزمة السوق. في هذه المرحلة، ظهرت شخصيات جديدة في السينما التركية، مثل “تايفون” الذي أداه Öztürk Serengil  و”تورست عمر” الذي قدمه Sadri Alışık. وسط هذا التغيير، وجد غوني مكانه كنموذج “الشاب من الأطراف”، الذي يمثل المهمشين والبسطاء. على الرغم من محاولات قمعه وإعاقته، استمر غوني في المقاومة وحقق أول نجاح كبير له مع فيلم İkisi de Cesurdu. جسد غوني في الفيلم شخصية “علي دوران”، الرجل القوي، الذي أعاده بقوة إلى السينما التركية. خلال فترة قصيرة، أصبح يُعتبر أحد أفضل الممثلين .

في هذه الفترة، التي تمكن فيها غوني من إثبات نفسه كممثل بارع، تغيرت مفاهيم السينما الشعبية. لم تعد “الواقع” الذي يظهر على الشاشة مجرد قصص خيالية منفصلة عن حياة الناس، بل أصبحت واقعًا ينبع من الشعب ذاته. شخصيات غوني السينمائية أصبحت انعكاسًا حقيقيًا لهموم الشعب ومعاناته. لم يعد الجمهور يتماهى مع أبطال الأفلام التقليديين، بل وجدوا أنفسهم في الشخصيات التي أوجدها غوني. أصبح هناك وحدة بين شخصيات غوني والجمهور. مثَّل يلماز غوني في الستينيات صوتًا للمضطهدين والمهمشين في السينما التركية. وعلى الرغم من مشاركته في العديد من أفلام الحركة والأكشن في تلك الحقبة، إلا أنه قدم أيضًا أعمالًا بارزة مثل Hudutların Kanunu، İnce Cumali، Kızılırmak Karakoyun، Kurbanlık Katil، وKozanoğlu  في عام 1967. بفضل أدائه في هذه الأفلام، بلغ غوني قمة مسيرته التمثيلية.

في أواخر الستينيات، كان يلماز غوني قد بلغ ذروة أدائه التمثيلي، حيث أصبح نجمًا بارزًا في السينما التركية، واستحوذ على قلوب الملايين وأصبح رمزًا شعبيًا. بفضل أدائه، استطاع تجسيد معاناة المظلومين والمحرومين والعمال الذين يكافحون من أجل لقمة العيش بشكل واقعي. أفلامه في تلك الحقبة سلطت الضوء على تشوهات النظام القائم ووجهت انتقادات جريئة للسينما التقليدية، حيث دعت إلى المقاومة في مواجهة الظلم، لكنها في الوقت نفسه طرحت فكرة الانتقام الشخصي كحل.

في عام 1966، تزوج غوني من الممثلة نباهات جهره، لكن زواجهما لم يدم طويلًا. وكان عام 1968 عامًا محوريًا في حياة غوني؛ ففي هذا العام أخرج أول أفلامه بعنوان Seyyit Han. ورغم انشغاله بالإخراج، كان عليه تأدية خدمته العسكرية. وخلال هذه الفترة، أخرج فيلم Aç Kurtlar  وشارك في تمثيل عدد من الأفلام الأخرى. أثناء تصوير أحد الأفلام، تعرف على فاتوش غوني (جاله فاطمة سليمانجيل)، وتزوجها بعد إنهاء خدمته العسكرية في 27 يونيو 1970.

بعد إنهاء خدمته العسكرية، أخرج غوني فيلم Umut  (الأمل)، الذي أنهى حقبة في سينما Yeşilçam  وبدأ أخرى جديدة. وُصف الفيلم بأنه من أكثر الأفلام واقعية في السينما التركية، من حيث الأسلوب والمحتوى، ومهد الطريق للأعمال المستقبلية. اشتهر غوني بإخراج العديد من أفلامه دون الاعتماد على نصوص مكتوبة مسبقًا. بعد Umut، قدم أفلامًا بارزة أخرى مثل Zavallılar، Acı، Ağıt، وBaba.  في 17 مارس 1972، أثناء عمله على فيلم جديد، تم اعتقال غوني بتهمة الانتماء إلى منظمة يسارية تسعى للإطاحة بالحكومة الدستورية، وتوفير مأوى لهذه المنظمة. صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 7 سنوات . لم يتوقف غوني عن العمل أثناء سجنه، بل ألف روايات مثل Salpa، Sanık، وHücrem. . وبعد قضاء سنتين ونصف في السجن، تم إطلاق سراحه في مايو 1974. بعد الإفراج عنه، أخرج فيلم Arkadaş  (الصديق). ثم بدأ العمل على فيلم Endişe  (القلق) في مسقط رأسه أضنة، لكن الفيلم لم يُكمل تصويره.

أثناء تصوير Endişe، وقعت حادثة مأساوية في أحد المطاعم، حيث قُتل قاضٍ خلال تبادل لإطلاق النار. تم اتهام غوني بارتكاب جريمة القتل وحُكم عليه بالسجن لمدة 19 عامًا. علق غوني على ذلك بقوله: “لم أتمكن من قول كل ما أردت قوله. بالكاد بدأت أفهم صناعة السينما، حتى أخذوا مني الكاميرا”. وعلى الرغم من كل العقبات، استمر غوني في العمل على أفلامه في ظروف صعبة. كتب نصوص أفلام مهمة مثل Endişe، Izin، Sürü، Düşman، وYol  أثناء وجوده في السجن. كما أشرف على فرق العمل التي نفذت أفلام Yol وSürü، وحرص على إصدار مجلة Güney  التي كانت تعبر عن أفكاره وآرائه. وفي عام 1981، استغل غوني فرصة خروجه في إجازة من السجن ليهرب إلى الخارج. فيلمه Yol (1982) حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، مناصفة مع فيلم Missing للمخرج كوستا غافراس. وفي عام 1983، أخرج فيلمه الأخير Duvar  (الجدار).

وقد توفي يلماز غوني في 9 سبتمبر 1984 بسبب مرض السرطان، ودُفن في مقبرة بير لاشيز في باريس، فرنسا.

وجها أخر لغوني.. أيقونة كردية 

على الجانب الأخر يمكن قراءة حياة غوني بوصفه رجلًا كرديًا روحًا ووعيًا ووجدانًا. من الخمسينات إلى عام 1984، بدأ يلماز غوني، الكردي قلبًا والتركي جنسية، في صناعة الأفلام باللغة التركية. وسرعان ما اكتسبت أفلامه شهرة واسعة في تركيا وحظيت باعتراف دولي. في تلك الفترة، كانت هناك حظر على استخدام اللغة الكردية في المدارس ووسائل الإعلام وجميع الأماكن العامة في تركيا. وكان في وقت صناعة أفلام غوني، كانت الدولة التركية في عملية محو هوية الكرد إلى حد أنهم بدأوا يشيرون إلى الكرد بعبارات مثل “الأتراك الجبليين” أو “الأتراك الهمجيين”. وكان غوني منزعجًا بشدة من القمع الذي كان يعانيه الكرد، فقرر عرض الثقافة الكردية على الشاشة، مما وضعه في مواجهة شديدة مع الحكومة التركية. فقام غوني بتصوير أفلامه في المناطق الكردية في تركيا لإضفاء هوية كردية على أفلامه، على الرغم من القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية. في تلك الفترة، لم يُسمح له بمعالجة هوية الكرد بشكل علني أو أن يتناول القمع الممنهج الذي تتعرض له هذه الجماعة في أفلامه. بدلاً من ذلك، كان عليه أن يدمج النزاع الكردي في تقنيات سينمائية معينة تمنع تصوير النزاع كسبب رئيسي من أسباب معاناة الشخصيات والمآسي التي يعايشونها.

بعد الهجرة الجماعية للكرد في الثمانينيات والتسعينيات إلى أوروبا، أتيحت للسينما الكردية فرصة للظهور من خلال المجتمع الكردي في الشتات. وبعد التسعينيات، ومع إقامة حكومة إقليم كردستان في العراق، حقق صناع الأفلام الكرد نجاحًا في إنتاج أفلام كردية بعيدًا عن قمع الحكومة العراقية. في تركيا وسوريا، بدأ عصر جديد للسينما الكردية بعد عام 2010 عندما بدأ الكرد يحصلون على بعض حقوقهم السياسية. ولهذا، يغدو مفهوم السينما الوطنية وطريقة تمثيلها للأمة لا يزال موضوع نقاش واسع بين النقاد. لا توجد نظرية موحدة يتفق عليها الجميع لتصنيف الأفلام أو مجموعة الأفلام كجزء من السينما الوطنية لأي أمة، سواء كانت ذات دولة أو بلا دولة. تقليديًا، يُفهم مفهوم السينما الوطنية على أنه يشير إلى مجموعة من الأعمال التي تمثل دولة قومية. ويمكن قراءة السينما الوطنية بوصفها تعتمد على: مفهوم محدد للأفلام أو النصوص ‘الوطنية”، والعلاقة بين تلك الأعمال، التي يمكن أن ترتبط بعرض مشترك للأعراض الثقافية والتاريخية التي تسهم في الأنظمة الحالية. ويمكن أن تشير هذه الأعراض إلى الأسلوب، الوسيط، المحتوى، السرد، بنية القصة، الأزياء، تصميم المشهد، الشخصيات، الخلفية، أو التصوير السينمائي، وكذلك إلى الخلفية الثقافية لصانعي الأفلام والجمهور.

بالنسبة للأقليات، يشكل إنتاج الأفلام داخل دول تفرض قيودًا على التعبير الثقافي واللغوي تحديًا كبيرًا. غالبًا ما تكون العناصر الثقافية والهوية الوطنية مدمجة بشكل خفي في الأعمال الفنية. صناع الأفلام الذين تعرضت هوياتهم العرقية أو الوطنية للإنكار أو محاولات الإقصاء اضطروا إلى تطوير تقنيات إبداعية للتعبير عن هويتهم بطرق غير مباشرة. في كتاب السينما والأمة، يناقش الكاتبان هيجورت وماكينزي نماذج مختلفة من السينما الوطنية التي نشأت في ظروف تاريخية متباينة. ويشيران إلى أن الأفلام يمكن أن تمثل أمة مستقلة عن الدولة التي أُنتجت فيها. وفي كتاب المجتمعات المتخيلة، يشير بندكت أندرسون إلى أن الأمة هي مجتمع متخيل أعضاؤه يشتركون في قيم موحدة وإحساس بالانتماء إلى فضاء جغرافي-سياسي محدد. يوضح أن الأمم يمكن أن توجد خارج إطار الدولة، وبالتالي فإن الجنسية ليست بالضرورة مرتبطة بوجود الدولة. ولهذا، يمكن القول، لقد تمكن صناع الأفلام الكرد من تأسيس سينما تحمل طابعًا كرديًا مميزًا، رغم محاولات التهميش والإقصاء والاضطهاد التي واجهها الكرد في الدول الأربع الرئيسية التي يعيشون فيها (العراق، إيران، سوريا، وتركيا). وحري بالتسجيل في هذا الإطار، لقد أُنتج أول فيلم كردي في أرمينيا السوفيتية عام 1926 بعنوان زاري، وأخرجه هامو بيكنزاريان. تناول الفيلم حياة مجموعة من الأقلية الكردية الإيزيدية في أرمينيا السوفيتية وصراعهم مع نظام إقطاعي ظالم. على الرغم من أن الفيلم يعرض الهوية الكردية بوضوح من خلال الأزياء التقليدية والعناصر الثقافية، إلا أنه يحتوي على صور نمطية عنصرية تصور الكرد كجماعة جاهلة وغير متحضرة. وحتى اليوم، يرفض العديد من النقاد تصنيف هذا العمل كفيلم كردي، بحجة أن هدف المخرج كان تقديم الكرد في صورة سلبية.

وكممثل وسارد ومخرج، يمكن اعتبار يلماز غوني “بائس” السينما التركية بالمعنى الفانوني، حيث وُلد كرجل كردي داخل صناعة السينما التركية القومية بشدة. وباعتباره أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ السينما التركية منذ بداياتها، أصبح اسم غوني وفنه محط اهتمام أكاديمي واسع اليوم، يشيرحميت بوزارسلان إلى هذه الظاهرة قائلاً: يلماز غوني شخصية كاريزمية وغامضة في الوقت ذاته. لقد بيع عشرات الآلاف من نسخ ملصقاته في تركيا على مدى ثلاثة عقود. كونه كاتبًا ومخرجًا ومنتجًا للعديد من الأفلام، يعتبر، حتى في كتاب من إصدار وزارة الثقافة التركية، الأب المؤسس للسينما التركية – بمعناها الفرويدي أيضًا. من الصعب تخيل فيلم روائي في تركيا لا يستمد جذوره من غوني، الذي يمثل إرثه عبئًا ثقيلاً.”  من اللافت أن غوني، وبعد عقدين تقريبًا من مقالة بوزارسلان، أصبح يُعتبر أيضًا الأب المؤسس للسينما الكردية. وهنا، يمكن الزعم أن التذبذب بين “يلماز غوني التركي” و”يلماز غوني الكردي” يكشف عن التوتر بين الوعد الشعبي للسينما وسياسات تشكيل الهوية الكردية في حياة فردية واحدة. بمعنى آخر، يساعدنا غوني على فهم كل من الظروف التاريخية والإمكانات السوسيولوجية المستقبلية لتشكيل الهوية.

لقد أصبح من الحقائق الراسخة اليوم أن السينما في تركيا لم تكن أبدًا متجانسة قوميًا، بل كانت تتخللها الهويات العرقية والدينية التي همّشها الخطاب الوطني المهيمن منذ أواخر العهد العثماني. وبتواصل مع البناءات القومية في تركيا الكمالية، فإن القراءة المهيمنة لتاريخ السينما التركية قامت على تجاهل جذورها العثمانية. خلال ما يقرب من قرن، لم يُعترف بعد برواد هذه الثقافة السينمائية الخاصة. برزت هذه القضية إلى العلن في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أثناء مناقشات حول إعادة النظر فيما يُقال إنه أول فيلم تم إنتاجه في تركيا  تدمير النصب الروسي في آياستيفانوس (1914) لفؤاد أوزكيناي. ومع ذلك، ادعى علماء السينما أن مؤسسي الثقافة السينمائية التركية لا يمكن وصفهم بالتركية وفقًا للتعريفات الكمالية التي تصف “التركي” بأنه مسلم من المذهب الحنفي يتحدث التركية. تعكس هذه التعريفات الطابع الكوزموبوليتاني للإمبراطورية العثمانية، حيث يُعتبر الإخوة ماناكي، ياناكي ماناكي (1878-1954) وميلتون ماناكي (1882-1964)، من بين رواد السينما التركية في العصر العثماني. أما العصر الذهبي لسينما “يشيلتشام” في تركيا، الذي يُقال إن يلماز غوني أعاد تأسيسه، فقد بُني على أسس أيديولوجية لم تُعلن صراحة، حيث كانت صناعة السينما التركية تتمتع بهيكل غير متجانس عرقيًا ودينيًا.

يلماز غوني.. “ملك القبح

يلماز غوني، المعروف أيضًا باسم “ملك القبح للسينما التركية”، وُلد ضمن هذا التاريخ من الإنكار والقمع. ويمكن الزعم أن شخصية يلماز غوني تمثل “حدثًا” في النظام الجمالي للسينما الكردية لثلاثة أسباب على الأقل. أولاً: وُلد غوني في عصر الجمهورية الكمالية، وأصبح جزءًا من نظام نجوم السينما التركية في الستينيات، مما جعله نموذجًا مقبولًا لـ “المواطن الكردي” في إطار الدولة الكمالية. منذ ظهوره المبكر على الشاشة الفضية، ارتبط اسمه بكتابة السيناريو والإخراج والإنتاج في العديد من الأفلام التي لعب فيها دور البطولة. كان غوني معروفًا بلعب دور قاطع الطريق (eşkıya) في أفلام الستينيات، مثل فيلمه ملك الملوك (1965) للمخرجة بلغي أولغاك. أثناء مقابلة صحفية مع طارق دورسون كاكنج، أثار غوني غضب الصحفي بأسلوبه الذي يعكس إحساسًا “بالملكية السينمائية”، مما دفع كاكنج إلى تذكيره بأن “ملك السينما التركية الوحيد هو أيهان إشيك”، الذي كان مواطنًا أرمنيًا مخفيًا في ذلك الوقت. ردًا على ذلك، اقترح غوني لقب “الملك القبيح” لنفسه. تُظهر هذه الحادثة حدود قبول غوني داخل إطار “التركية” وتكشف في الوقت ذاته رفضه للقوة المعيارية لهذا الإطار بأسلوب ساخر، مطالبًا بالاعتراف عبر إظهار قدرته على الفعل.

ثانيًا: تعكس أعمال غوني السينمائية في السبعينيات الآليات التي تُظهر كيف يعمل الاستعمار الداخلي في بعض الأفلام التي تترجم الهوية والثقافة الكردية إلى اللغة التركية. في أفلام مثل Umut  (الأمل) 1970، Arkadaş  (الصديق) 1974)، وسورو (القطيع، 1978)، تبنّى غوني فهمًا اشتراكيًا تركيًا للقضية الكردية بوصفها مشكلة تتعلق بالتخلّف والرجعية. من خلال تصوير واقعي اشتراكي – وإن لم يُسمِّه كذلك – قدم غوني روايات عن القرى الكردية الفقيرة والمجتمع الكردي الإقطاعي. ناقش تيم كينيدي هذه الأعمال باعتبارها امتدادًا لفهم “جذور المشكلة الكردية في الصراع الطبقي”، إلى جانب مخرجين أتراك مثل لطفي أكاد ومتين أركسان. من جهة أخرى، وصف مسلم يوكسيل غوني بـ le regard mutilé (النظرة المُشوّهة)، مستلهمًا من داريوش شايغان. يرى يوكسيل أن غوني يرسّخ الأيديولوجيات الاشتراكية الكمالية التي تصور الهوية والجغرافيا الكردية كمسألة تخلّف اقتصادي وديني. تتجلّى هذه النظرة الاستعمارية التي استبطنها غوني في السرديات التربوية التي يطرحها. وفي كلتا الحقبتين من مسيرته، ظهر في سينما غوني نوع من “المقاومة المذكرة” تتجسد في شخصياته مثل قاطع الطريق (سيد خان، عروس الأرض، 1968)، أو رجل العصابات (ملك الملوك)، أو البرجوازي الصغير (الصديق) الذي يناضل ضد القوى المهيمنة. اتسمت هذه المقاومة بنبرة كردية واضحة عبر السرديات التي استخدمت الثقافة والجغرافيا الكردية بلغة تركية، حيث اقتصر الحضور الصوتي للغة الكردية على أسماء الشخصيات مثل “ريمو” و”كيجه” و”كوتشرو” و”سيد خان”.

ثالثًا: المحور الأخير الذي يجعل يلماز غوني شخصية أساسية في الخطاب المعاصر حول السينما الكردية هو الانفتاح السينمائي الذي تحقق عبر فيلمYol  (الطريق) 1981، الفائز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان. أُنجز الفيلم على يد شريف جورن بسبب سجن غوني في تركيا، لكنه حُرّر لاحقًا في أوروبا بإشراف غوني. يشعر كثيرون أن ظهور مصطلح “كردستان” على الشاشة في فيلم الطريق شكّل وعدًا شعبيًا من السينما بالقضية الكردية. كان هذا الإعلان عن كردستان، الذي جاء بعد انقلاب 12 سبتمبر 1980، بمثابة مطالبة بالاعتراف. ومع ذلك، صُنّف الطريق، الذي حظرته الحكومة التركية لمدة تقارب عقدين، كأول فيلم تركي يفوز بجائزة السعفة الذهبية.

وعلى الرغم من أن فيلم الطريق لم يُصوَّر باللغة الكردية بسبب الحظر التركي المفروض على اللغات الكردية، إلا أنه أظهر وجود هذه اللغات في شكل لهجة أو أثر في اللغة التركية. وقد أطلق على الأرض الواقعة شرق نهر دجلة اسمها التاريخي “كردستان”، ووجه عدسته لاستكشاف التقلبات بين القبائل الكردية الإقطاعية والموضوعات الكردية الحديثة، من خلال الرحلات بين المدن والقرى. يتناول فيلم الطريق مجموعة واسعة من التوترات التي ساهمت في تشكيل عملية الذات الكردية. وبالتالي، أصبحت ردود أفعال اللغة الكردية تجاه اللغات الرسمية المحيطة واحدة من السمات المميزة للأفلام الكردية، بدءًا من يلماز غوني وصولًا إلى أحدث المخرجين الكرد في المنفى. يشير أولوس باكر إلى موقع فيلم الطريق في تاريخ السينما التركية، حيث يصفه بأنه فيلم يُحدث اضطرابًا في الوعي من خلال شكله ذاته، عبر حالة من الغيبوبة الجغرافية التي تجمع بين القبائل والطبيعة، ليصل إلى جماليات التعددية من خلال مفهوم “الخطاب غير المباشر الحر” في الفكر الباختيني. من خلال الرجوع إلى الأرض واللغة والذاكرة لسرد الحياة اليومية للشعب الكردي، أصبح فيلم الطريق ليلماز غوني بمثابة الرائد في تفسير الذات الكردية من منظور سياسي واقتصادي.

وكان النقد الذي وجهه المثقفون الأتراك لفيلم الطريق، واستقباله بينهم، يكشفان عن العمل متعدد الطبقات للأيديولوجية التركية في المجال السينمائي، إضافةً إلى تأثيرها الحاسم على عمليتي الإنتاج والتوزيع. وقد تم حظر الفيلم في تركيا حتى عام 1999، مما يبرز “تركّية غير حاسمة” لمنتجه الكردي، باعتبارها حالة تُظهر “كردية غير حاسمة” أمام الجمهور التركي. بمعنى آخر، فإن التوتر غير المُسمّى بين يلماز غوني كمخرج تركي معترف به عالميًا وكمؤسس مُحتمل للسينما الكردية، يعكس الصراع الخطابي الذي يحدد إمكانية ظهور أي سينما كردية. وتقدم أسومان سنر مثالًا واضحًا لهذا الصراع من خلال مقاربتها لفيلم الطريق وشخصية يلماز غوني. في محاولتها تقديم قراءة نسوية للفيلم، تطرح سنر مفهومي “الآخرية” والسينما السياسية للنقاش في سياق الحالة التركية للسينما القومية. من خلال تصوير غوني كمخرج تركي، تُشير سنر إلى أن الاهتمام الغربي بفيلم الطريق ينبع من فهم استشراقي لتركيا كبلد يخضع لتقاليد إقطاعية، ومن صورة النساء الأناضوليات المهمشات. ولكن، من خلال افتراض “تركّية” المخرج والمجتمع الذي يصوره كأمر مسلم به، تتحول القراءة النسوية لسنر إلى قراءة استعمارية بحد ذاتها. حيث ترفض هذه القراءة الاعتراف بالسوسيولوجيا الخاصة بالمجتمع الكردي، وحياة النساء الكرديات في ظل البنى الإقطاعية، باعتبارهن كيانًا مستعمرًا تحت سيطرة الدولة التركية، كما يصوره فيلم الطريق.

بعبارة أخرى، من خلال وضع سينما غوني في موقع “الآخر” غير المتكافئ مع السينما التركية، تتبنى سنر نهجًا يقوم على الاعتراف المشروط بالقضية الكردية. هذا النهج يصمت عن “غوني الآخر” (الكردي) لصالح التركيز على غوني “الملك القبيح” للسينما التركية. وبينما تأخذ هذه القراءة الفخر بجائزة السعفة الذهبية التي حصدها يلماز غوني التركي، إلا أنها تلقي باللوم على يلماز غوني الكردي في تقديم صورة مشوهة عن المجتمع التركي الحديث بوصفه مجتمعًا متخلفًا. تحليل هذه القراءة لفيلم الطريق وشخصية يلماز غوني يُبرز الطبقات المختلفة للنظرة الاستعمارية التي تمت من خلالها قراءة خطاب السينما الكردية على المستوى النظري.

هوية كردية على الطريق

يبدأ فيلم الطريق، بلقطة طويلة من سجن إمراعي، الذي يقع على جزيرة، مع صور لظلال بشرية قوية تتجول حول ساحة السجن. يتبع ذلك مشهد لرجل في العزلة من خلال نافذة صغيرة يراقب ضباط السجن وهم يوزعون الرسائل التي وصلت حديثًا إلى السجناء. بعد ذلك، يتم إصدار أمر تشريعي من السلطات يسمح للسجناء الذين كانوا سلوكهم جيدًا بالحصول على إجازة مؤقتة لزيارة عائلاتهم لمدة أسبوع. من المشهد الافتتاحي، يجعل غوني صراع المواطنين أو سكان السجن مع الدولة السمة الأساسية للفيلم. ويستمر في تشابك هذا التمثيل المتناقض للأفراد الذين يمثلون أجهزة الدولة وصورة السجناء. يُظهر تمثيل السجناء جنبًا إلى جنب مع شخصية تمثل الدولة كيف تحافظ الدولة على السجناء والمواطنين خارج السجن كأشخاص يتم فحصهم ليتبعوا مبادئ الدولة بغض النظر عن تاريخهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. بعد أن يُمنح السجناء إجازاتهم، يركبون حافلة كبيرة لزيارة عائلاتهم. بينما يبدأ الفيلم في توثيق حياة ثلاثة من السجناء؛ سييت علي، محمد صالح وعمر، تصبح هوية هؤلاء الثلاثة موضوعًا رئيسيًا للفيلم في علاقة مع ماضيهم وعائلاتهم وثقافتهم.

طوال الفيلم، لا يعامل غوني هوية الشخصيات الوطنية كشيء يسعى هؤلاء الشخصيات لفهمه أو إدراكه، بل على العكس، يجبرنا كمشاهدين على أن نرى هويتهم كمصدر لجميع مشاكلهم من خلال خلفياتهم الاجتماعية والعرقية والاقتصادية. لا يعالج غوني بشكل علني كيف أن هؤلاء السجناء ينتمون إلى مجموعة عرقية أقلية في تركيا أو كيف أن كونهم من مجموعة عرقية فقيرة قد يجعلهم أكثر عرضة لارتكاب الجرائم والعيش في فقر. بدلاً من ذلك، يريد أن يحس الجمهور بهوية الشخصيات من خلال نضالهم. من خلال هذا التمثيل، يصور غوني الشخصية وعلاقتها بالدولة والثقافة والمجتمع كشيء يتم بناءه وتفكيكه بشكل دوري من قبل الدولة استنادًا إلى الظروف التي يعيشون فيها.

العديد من الشخصيات في الفيلم تبدو أنها مثقلة بالجرائم التي ارتكبوها في الماضي، وكيف يُنظر إليهم من قبل المجتمع، وكذلك عبء عائلاتهم الفقيرة والمحرومة. في الفيلم، الجميع سجين لشيء ما. الرجال سجناء الدولة، النساء سجناء المجتمع والرجال، الأطفال سجناء الفقر والصراع، وهكذا. لذلك، لا تظهر أي من هذه الشخصيات علامات الفرح عند تلقيهم الأخبار التي تفيد بمنحهم إجازة مؤقتة، وكأنهم يعلمون أن سجنهم لا يقتصر على السجن الذي عاشوا فيه بسبب الجرائم التي ارتكبوها. بدلاً من ذلك، السجن هو القيم المجتمعية، والتقاليد، والاضطهاد المستمر من قبل الدولة ضد الأقليات التي كانت في الأصل تشجعهم على ارتكاب الجرائم، ثم تدفعهم للعيش في هذا الوضع. يتم تصوير السجناء طوال الفيلم في لقطات بعيدة تظهرهم في مواجهة المساحة التي يقطنون فيها ويعيشون تجربتها. أولاً، يتم عرض السجناء داخل جدران فناء السجن المغلق. ثم، عندما يكونون في طريقهم إلى وجهتهم النهائية، يتم تقديم الحافلة التي تقلهم في لقطات بعيدة توضع فيها مقابل المساحة التي تمر بها. المساحة هي الأرض التي تم حرمانهم من إقامة دولتهم عليها، وهي أيضاً الأرض التي استولت عليها دولة ترفض الاعتراف بهم كإنسان كامل. توقفت الحافلة باستمرار عند نقاط التفتيش العسكرية حيث يجب تأكيد هوية السجناء من خلال وثيقة في جيبهم تثبت أنهم سجناء تم منحهم إجازة مؤقتة من الدولة.

مرور السجناء عبر المدن والقرى في تركيا يعترضه تلك النقاط العسكرية العشوائية التي تذكّرهم بسجنهم في السجن المادي الذي يعترف بهم كأشخاص مسجونين بسبب جريمة أو جرائم متعددة. طوال الفيلم، يدمج غوني سعي الشخصيات من أجل الهوية الوطنية بطريقة خفية. يصور الفوضى والبؤس الذي يعانيه الشخصيات نتيجة التهميش، الإنكار، والتجريد من الإنسانية من قبل الدولة، وهذه هي النقطة التي تظهر فيها هوية الشخصيات الكردية. عندما يعود الثلاثة إلى قراهم، فإن الملابس التقليدية لأهالي القرى، والمنازل المهجورة المهملة، والتضاريس الجبلية الصعبة تميز الشخصيات بوضوح على أنهم كرد. الكرد، كإحدى أكثر الجماعات اضطهادًا في تركيا، كانوا يقاتلون من أجل الاعتراف بهويتهم الوطنية ككرد من قبل الحكومة التركية في ذلك الوقت.

رمزيًا، يمثل السجناء الكرد الذين تم التعامل معهم كمجرمين وعوقبوا بسبب هويتهم العرقية تحت حكم الدولة التركية في تلك الفترة. عندما صنع غونيه فيلم “الطريق” في عام 1982، كانت تركيا تمر بعدد من الاضطرابات السياسية والصراعات الداخلية. كانت البلد تحت حكم الديكتاتورية العسكرية وكانت تعاني من الفقر، وعدم الاستقرار، وغياب النظام الاجتماعي. كانت حقوق الأقليات، خاصة الكرد، محدودة للغاية. رفضت الدولة الاعتراف بالكرد كجماعة عرقية وثقافية وتقليدية متميزة عن الأتراك. تم حظر استخدام اللغة الكردية، وتم حظر جميع التعبيرات الثقافية التي تُظهر الكرد كجماعة عرقية مختلفة في وسائل الإعلام. كانت الموسيقى الكردية يجب أن تُصنع في الخفاء، وإلا كان السجن هو المصير المحتوم. كان يُجبر الأطفال الكرد على الاندماج في الثقافة التركية. وأي شكل من أشكال التمرد أو النشاط ضد القمع الحكومي كان يُعتبر عملًا إرهابيًا من قبل الدولة. وبالنسبة لغوني وغيره من الفنانين الكرد، كان التعبير عن أي شكل من أشكال الهوية الكردية أو الهوية الوطنية بشكل علني يعرضهم للسجن، لذلك بحثوا عن تقنيات من خلالها يمكنهم مقاومة القمع الحكومي دون التعرض للملاحقة من قبل الدولة.

في “الطريق”، أدمج غوني الهوية الكردية للشخصيات في الصور، والمناظر الطبيعية، واللقطات الطويلة التي غالبًا ما يتم وضعها ضد خلفية طبيعية حادة. حاول غوني هنا أن يستمد ويخلق هوية وطنية فريدة للشخصيات من خلال تمثيل المساحة، وتجربة الثقافة، والطريقة التي يفهم بها الشخصيات وجودهم في علاقتهم مع الدولة. وبما أن لغة الفيلم هي التركية، ولم يذكر أي من الشخصيات حتى مرة واحدة أنه أو أنها كردية، فإن غوني حاول أن يبني الهوية الكردية للشخصيات من خلال تقنيات معينة تجعل صراع الشخصيات رمزًا لصراع جميع الكرد في تركيا.

الخلاصة هنا، كشف “الطريق” الوضع في تركيا خلال انقلاب الثمانينيات العسكري، وأبرز التهميش الذي عاني منه المواطنون الكرد. ومن خلال تحليل النسخ المختلفة للفيلم، التي صدرت على التوالي في الأعوام 1982 و1993 و2017، بالإمكان مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية ضمن السياق الكردي في تركيا. عكس فيلم “الطريق” رحلة الشخصيات في بحثها عن الحرية، حيث تدرك أن السجن حاضر في كل مكان بفعل المجتمع المراقب، مما يجعل الشخصيات أسرى لتقاليدهم الخاصة وسلطات الإشراف التي تحارب المقاومة الكردية. وكان تم حظر النسخة الأصلية من الفيلم في تركيا بسبب رسالته السياسية، ولكن في عام 1993 تم اعتماد نسخة خاضعة للرقابة أُزيلت منها بعض الإشارات إلى القضية الكردية. هذه الرقابة، التي قلّلت من وضوح الوجود الكردي في الفيلم، تم تبنيها جزئيًا في نسخة عام 2017 المعنونة Yol – “النسخة الكاملة”. هدفت هذه النسخة إلى تحسين جودة الفيلم واستعادة النص الأصلي لغوني مع ست شخصيات بدلاً من خمس، مع تسليط الضوء بشكل أكبر على قضايا النساء، إلا أنها واجهت اعتراضات بسبب حذف العديد من المشاهد واتباعها نهج الرقابة التركية التقليدي. وبالمنتهى، يمكن القول، أن هذه النسخ المختلفة تُبرز أهمية المواضيع الرئيسية التي تناولها فيلم “الطريق” في تركيا اليوم، حيث لا يزال المواطنون يواجهون مشكلات اجتماعية وسياسية.

وفي أعقاب فيلم الطريق، يصبح مشروع غوني الأخير  Duvar   الجدار(1983) ، وهو الذي عكس تجاربه المتعددة في السجن في تركيا لأسباب سياسية وغير سياسية – استعارة للعنف الاستعماري من زوايا متعددة. تطرق الفيلم إلى التعددية في المقاومة التي تفتح مساحة لوكالة النساء، بالإضافة إلى يقظة اشتراكية كردية. من خلال معالجة عدد من المواضيع السياسية غير المرئية – مثل التعذيب والاغتصاب والإعدام – المرتبطة بأفلام 12 سبتمبر وهي فئة من الأفلام التي تناولت الانقلاب العسكري لعام 1980 وصُنفت تحت مسمى “أفلام ما بعد الانقلاب” في تركيا. وفقًا لكولينز، يشير غوني إلى مواقع الفعل السياسي في تركيا في ذلك الوقت. ويُظهر ذلك من خلال تجارب السجناء غير السياسيين الخاضعين لنخبوية الحركات اليسارية التركية، حيث يكسر غوني أسطورة الطفل البريء إلى أشلاء. على سبيل المثال، من خلال فصل الطفل الذي يفتقر إلى أي وكالة – كما يظهر في تحليل نوردان غوربيلك عن صورة الطفل الباكي في تركيا ما بعد الانقلاب عن العائلة، يتجنب غوني الوقوع في الفخاخ البنائية الحديثة التي تعد أساسية في أيديولوجيات اليسار التركي. وبتسليط الضوء على الطفل كالبطل الرئيسي في رواية عن العنف، ومنح الوكالة لفئة الأطفال، يبالغ غوني في التأثير المغترب للمشاهد المحرر من الأسرة المتخيلة الحديثة ومن الأمة.

بهذا السرد المحدد، يفتح غوني الباب للتغيير الاجتماعي من خلال تأثير الصدمة – أي “صدمة الواقع”. أما المنحرفونفي فيلم الجدار، فلا يمتلكون عائلة ولا تعاطفًا مجتمعيًا يمنع العنف اللاإنساني، لكنهم يمتلكون وعيًا ذاتيًا وإرادة لتغيير الوضع. تظهر الدولة من خلال رموزها الأبوية عبر البيوسياسة الخاصة بنظام السجن؛ بمعنى آخر، ينحل الفصل بين “الدولة-الأب المعاقِبة” و”الدولة-الأم الراعية” في دوامة العنف تحت حكم الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر. يشكل التعذيب والإهانة والاغتصاب عناصر أساسية في هذه البيوسياسة. يظهر الحراس في السرد كوسطاء لغضب الدولة ضد أطفالها العصاة. لكن، على عكس السرديات الشائعة حول انقلاب 12 سبتمبر، لا يتناول فيلم الجدار مسألة الضحايا السياسيين، بل يُظهر العنف العشوائي للدولة ضد الشعب، مما يشير إلى أن موقع التحول ضد العنف المهيمن الذي يكمن في المجتمع وليس في المثقفين.

حقيقة كان غوني فارقا في المنتج السينمائي الكردي التركي، فمن خلال مزجه بين الأيديولوجيات اليسارية، الثورة الماوية، والسياسة الاشتراكية الكردية، وسجنه المتكرر لأسباب سياسية وغير سياسية، إلى جانب منشوراته (مثل الدورية التي نشرها تحت اسمه Güney) وأفلامه التي أصبحت وسيلته لاكتشاف “شعبه الخاص، الشعب الكردي”، يمثل غوني حياة مستوحاة من عدسة كاميرا تنطق بحقيقة جماعية ناشئة.. كانت السينما لديه، أكثر بكثير من مجرد انعكاس للواقع. بل إنها تقدم طرقًا بديلة للوجود في العالم، تفتح المجال للتغيير الاجتماعي، وتعدل شروط التحولات وسرعتها. السينما لديه كانت حدثًا. أو بالأحرى، يمكن أن تصبح كذلك من خلال قراءة نقدية تطلق إمكاناتها النقدية. إن المساهمة المبكرة لغوني في تقديم الكردية وكردستان؛ من خلال جماليات واقعية تغذت على التزامه السياسي. وبكلمة نهائية، كان غوني في حياته وفنه يمثل الثورة عندما تخترق الوجود، وتتحول لأداة في خدمة مجتمع مُسيّس.

للمزيد يمكن الرجوع إلى :

Bahar Şimşek: On the aesthetic regime of Kurdish cinema the making of Kurdishness, university

of leiden, Retrieved from https://hdl.handle.net/1887/3161381        

celal hayir: die lebensgeschichte von yilmaz güney und ein überblick seiner

filmkunst, https://dergipark.org.tr/en/download/article-file/688065

Lanja Najmaldin Karim: Kurdish National Identity in the films of Yilmaz Guney and Bahmani Ghobadi, Journal of University of Human Development 7(3):69-73, https://journals.uhd.edu.iq/index.php/juhd/article/view/899

Lazgin Ktebchiyan: Who is Yilmaz Goney to Us? https://kurdshop.net/en/famous-kurdish-persons/3100

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى