ثقافة

تطور العلاقات التاريخية المصرية – الكردية

تحليل: د. سحر حسن أحمد

عبر صفحات التاريخ الممتدة، تروي لنا الأيام قصصاً عن شعوبٍ جمعتهم المسافات وفرقتهم الحدود، إلا أن أواصر الإنسانية والثقافة كانت دوماً الجسر الذي يوحد القلوب قبل الطرقات. هكذا كانت العلاقة بين مصر والكرد، علاقة نسجت خيوطها ألوان التاريخ وتداخلت فيها المصائر والأحلام.

فمنذ العصور القديمة، كانت مصر بموقعها الجغرافي وروحها الحضارية ملتقى للشعوب، بينما ظل الكرد بحكمتهم وعمق إرثهم الثقافي نبضاً حياً في جبال الشرق. تقاطعت المسارات حين حمل الكرد مشاعل الحكمة والفروسية إلى ساحات مصر، ليس كغزاة أو غرباء، بل كحلفاء وأبناء لذات الحلم الإنساني الكبير.

ونجد من بين تلك الصفحات المضيئة، برزت أسماء تركت بصمتها الخالدة، كالسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي وحّد شعوب المنطقة تحت راية الكرامة والتحرير. صلاح الدين، ذلك الرمز الذي جمع بين حكمة الشرق وعزم الغرب، ليس إلا شاهداً حياً على ما يمكن أن يثمره التعاون المصري الكردي عندما يزدهر على أرض التاريخ.

لم تكن العلاقات المصرية الكردية ليست مجرد وقائع تاريخية؛ إنها رواية مشتركة عن الصمود والتكامل، عن لقاء ثقافتين أغنت كل منهما الأخرى. وكما كانت مصر للكرد بوابة نحو العالم العربي، كان الكرد لمصر عوناً وسنداً في لحظات المصير المشترك، من ميادين السياسة إلى ساحات القتال ( الدولة الأيوبية فى مصر 1174- 1250م )، ومن روح الأدب إلى ميادين الفكر.

وهكذا، امتدت العلاقات المصرية الكردية كشجرة طيبة، جذورها ضاربة في عمق التاريخ، وفروعها تطل على الحاضر والمستقبل، حاملةً معها وعداً باستمرار التآخي بين شعبين ربطتهما قيم العدالة، الكرامة، والحلم المشترك بغد أفضل.

على مر التاريخ، كانت العلاقات بين الشعوب تُمثل انعكاسًا للتفاعلات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي تصيغ مسار الحضارات. ومن بين تلك العلاقات التي تستحق تسليط الضوء عليها، تبرز العلاقات المصرية الكردية كواحدة من الروابط التاريخية التي صمدت أمام تقلبات الزمن وشهدت مراحل تطور مختلفة عبر العصور.

إن مصر بموقعها الجغرافي الفريد وحضارتها العريقة، والكرد بثقافتهم الممتدة ووجودهم التاريخي في منطقة الشرق الأوسط، قد شكلا معًا جزءًا من نسيجٍ إنساني غني بالتعاون والتبادل. هذا المقال يستعرض تطور العلاقات التاريخية المصرية – الكردية عبر العصور، منذ البدايات التاريخية وحتى العصر الحديث، مع التركيز على المحطات البارزة التي أسهمت في تعزيز هذه العلاقة.


 البدايات التاريخية

تعود جذور العلاقات المصرية-الكردية إلى أعماق التاريخ، حيث تشير الوثائق المسمارية المكتشفة، التي تعود لأواسط الألف الثاني قبل الميلاد، إلى وجود روابط قوية بين الفراعنة والكرد المعروفين تاريخياً باسم “الميتانيين”، نسبة إلى الحضارة الميتانية التي ازدهرت في منطقة ما بين النهرين (سوريا والعراق حالياً) خلال الألفية الثانية قبل الميلاد. كانت هذه الحضارة، التي اتخذت من “واشوكاني” عاصمة لها، شاهدة على تطور العلاقات مع مصر، خاصة في عهد الدولة الحديثة (الأسرة الثامنة عشرة). في عهد الملك تحتمس الثالث (1481 ق.م – 1425 ق.م)، توطدت العلاقات بين مصر والميتانيين، كما توضح رسائل “تل العمارنة”، التي وثقت تبادلاً دبلوماسياً بين تحتمس الثالث والملك الميتاني تواشراتا (1365 ق.م – 1335 ق.م)، ابن الملك ارتاتاما (1425 ق.م – 1400 ق.م). وقد عززت هذه العلاقات عبر الزواج الملكي، حيث تزوج تحتمس الثالث من أميرة ميتانية تدعى “جيلوجيا”، المعروفة في التاريخ المصري باسم “موت أم ويا”، التي أنجبت الملك تحتمس الرابع. وخلال حكمه، وُقِّعت معاهدات سلام بين الجانبين، تضمنت الاعتراف بحقوق مملكة ميتاني في شمال سوريا مقابل الاعتراف بهيمنة مصر على جنوب سوريا وأجزاء من ساحلها. هذه الاتفاقيات أسهمت في تحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة وتعزيز التحالفات السياسية.

كما تظهر أوجه التشابه الثقافي والتجاري في التبادلات التي تمت بين مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، خاصة في مجال الزراعة والتجارة. وقد أسهمت هذه التبادلات في ترسيخ نوع من التواصل غير المباشر بين المصريين والكرد الذين كانوا جزءًا من النسيج الثقافي لتلك المنطقة.

العصر الإسلامى

مع دخول الإسلام إلى مصر في القرن السابع الميلادي، بدأت العلاقات بين مصر والكرد تأخذ شكلاً أكثر وضوحًا، خاصة مع بروز الدولة الأيوبية . كان صلاح الدين الأيوبي (1137 – 1193م)، القائد الكردي الشهير، نقطة التحول الأهم في هذه العلاقة. ومن ثم لقد كانت المنطقة العربية الإسلامية، عبر التاريخ الإسلامي إلى ما قبل العصور الحديثة، تشهد حالة من “السيولة السياسية”، كما يرى أستاذ الجغرافيا الدكتور جمال حمدان في كتابه ” دراسات في العالم العربي” ، وأن المنطقة العربية بهذه السيولة، شهدت انتقال الأسر من مكان إلى مكان دون قيود أو حدود، ودون أدنى شعور بالغربة أو إحساس بالوحدة.

صلاح الدين الأيوبي ودوره في تعزيز العلاقات

 عُد صلاح الدين رمزًا للوحدة الإسلامية وشخصية محورية في تاريخ العلاقات المصرية الكردية. بعد نجاحه في تأسيس الدولة الأيوبية، التى وحدت مصر والشام والحجاز واليمن تحت الراية العباسية بعد أن قضى على الدولة الفاطمية ( 909- 1171م). وقد جعل من مصر قاعدة رئيسية لحكمه. خلال فترة حكمه، لعب الكرد دورًا مهمًا في إدارة شؤون الدولة المصرية، حيث تم تعيين العديد من القادة الكرد في مناصب عسكرية وإدارية بارزة. وقد قاد صلاح الدين عدة حملات ومعارك ضد الفرنجة والصلبيين فى سبيل استعادة معظم الأراضى المقدسة التى استولى عليها الصلبيون فى أواخر القرن الحادى عشر واستطاع فى نهاية الأمر من استعادة معظم أراضى لبنان وفلسطين بما فيها تحرير القدس من أيدى الصليبيين بخوض معركة حطين (1187م) عزز مكانة صلاح الدين كقائد عسكري ودبلوماسي بارز. وقد استند في نجاحاته إلى الدعم الذي وفرته مصر والكرد معًا، مما أسس لعلاقة متينة بين الشعبين.

وقد اعتمد فى حروبه بشكل رئيسى على جيشه، فيما يبدو أن استخدام الكرد كمقاتلين في صفوف الجيش بهذه الكثافة كان يرجع إلى ما اشتهروا به من الشجاعة والصبر على القتال، حتى ذكر القلقشندي في موسوعته “صبح الأعشى” يقول عن بعض طوائف الكرد إنهم “رجال حرب، وأقيال طعن وضرب… وهم ذوو شجاعة وحميّة”. وكانت قوة صلاح الدين فى قوة جيشه . الذى شكلَّه من الجنود النظاميين . فكان أساس هذا الجيش من بنى جلدته الموجودين بمصر فحسب كتاب درية عونى ” الكرد فى مصر عبر العصور” كان تعداد الكرد فى جيش صلاح الدين حوالى 174 تولب ؛ أى وحدة وهو ما يُعادل 14000 جندى ، وتلك القوات هى التى مكنت صلاح الدين من الانتصار فى معركة حطين .

        أما عن الآثار التاريخية فقد أنشأ صلاح الدين الأيوبي بعض هذه الآثار في مصر كالتي لازالت حتى الآن تشهد مدى تقدم تلك الفترة، وتحفظ لهم تاريخهم الحضاري، وأسلوب حياتهم من قبيل. مدرسة القاهرة المعزية بجوار ضريح الإمام الحسين. وقد أنشأ قلعة فى القاهرة والمعروفة الآن بقلعة صلاح الدين بحى القلعة بالقاهرة ، كما أنشأ قلعتين واحدة فى شبة جزيرة سيناء والأخرى فى (جزيرة فرعون) فى خليج العقبة والمعروفة بقلعة فرعون كما عرفت مصر لأول مرة “الخوانق والربط ” التى أنشأها صلاح الدين إذ دخلت هذه المبانى مع الكرد الأيوبيين كخانقاه ( سعيد السعداء – 1173م) وجعلها للصوفية وأقام عليها شيخاً يُلقب بشيخ الشيوخ وأوقف عليها الأوقاف اللازمة للأنفاق علي من فيها من الفقراء الصوفية. وجامع السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وهناك جامع السلطان الأشرف ، وهو أيوبى الأصل كردى، وبنى على غرار مسجد السلطان الصالح نجم الدين أيوب. وأضف إلى ذلك مدرسة السلطان الكامل بالأمام الشافعى، كذلك بئر يوسف الموجود بساحة القلعة بالقاهرة. كما يقال إن الأميرة الكردية خاتون خان من الأسرة الأيوبية وقفت ثروتها في خدمة العلم والدين وإنشاء المدارس، ومن هذا الوقف أنشئ رواق الكرد في الجامع الأزهر منذ مئات السنين، وتخرج منه مئات العلماء من الكرد من العراق وتركيا وسورية وإيران وروسيا.

 العصور الوسطى

في العصور الوسطى، استمرت العلاقات المصرية الكردية بشكل إيجابي، حيث ظلت الدولة الأيوبية قائمة لفترة طويلة في مصر. خلال هذه الفترة، كان الكرد جزءًا أساسيًا من النخبة الحاكمة، وتركوا بصمتهم في مجالات الثقافة والعلم والفكر. فقد أسهم الكرد في إغناء الحياة الثقافية والعلمية في مصر من خلال علماء وأدباء كرد استقروا في البلاد. ومن بين هؤلاء العلماء، نجد الأديب الشهير بهاء الدين ابن شداد، الذي كان أحد مستشاري صلاح الدين وأحد المؤرخين الذين كتبوا عن تلك الفترة. كما هاجر الكثير من الكرد إلى مصر وانقطعت جذورهم مع موطنهم الأول، ولم يبقَ لهم من تلك الصلة سوى الاسم، وخرج الكثير من أبنائهم وأحفادهم من رجال الإدارة والأدباء والشعراء والفقهاء والفنانين، وأسدوا خدمات جليلة لوطنهم مصر، لكنهم لم ينكروا كرديتهم. ومن ثم شهدت هذه الفترة أيضًا نوعًا من التداخل الاجتماعي بين الكرد والمصريين، حيث بدأت بعض العائلات الكردية بالاستقرار في مصر، مما أدى إلى نشوء روابط اجتماعية وثقافية دائمة.

وفي ظل عصر دولة المماليك في مصر والشام (1250- 1517م)، ظل للكرد دور في وحدات الجيش المملوكي وإن أصبحت بصورة أقل نفوذاً مقارنة بعصر الأيوبيين، فإذا تحدثنا عن الوجود الكردى ، سنجد منهم العلماء، والقادة، الذين استعان بهم المماليك في الجيش والإدارة.  ومن هؤلاء عمر بن خليل الكردى، ومن ثم كان الوجود الكردى في مصر ملحوظاً، وقد تمت بينهم وبين المصريين كثيراً من حالات التصاهر والإندماج فى المجتمع المصرى، وتركوا أحفاداً لايزالون يذكرون أجدادهم .

وقد ظهر منهم عدد من كبار القادة والأمراء، منهم الأمير مجير الدين أبو الهيجاء الكردي في عصر السلطان قلاوون، ومنهم الأمير حسين الكردي – الساعد الأيمن – للسلطان قنصوه الغوري، وكان قائد البحرية المملوكية، وقد واجه ببسالة كبيرة التمدد البرتغالي في موانئ الهند سنة 1516م، بل إن الأمير الكردي ضم بلاد اليمن إلى سلطان مصر حيث افتتحها من بني طاهر، فأعطاه السلطان قنصوه الغوري بندر جدّة على ساحل البحر الأحمر إقطاعا سنوياً يدر عليه أموالاً جزيلة.

 العصر العثماني

مع دخول مصر تحت الحكم العثماني (1517- 1914م) في القرن السادس عشر، تغيرت طبيعة العلاقات بين المصريين والكرد. فلا يوجد ما يؤكد على أن الكرد كانوا من ضمن الجيش العثمانى الذى جاء مصر ولا حتى ما يؤكد على قدوم عناصر محاربة كردية بعد ذلك . أو حتى الإستعانة بعناصر كردية أو عدم الإستعانة بقيادات وشخصيات إدارية خلال الحكم العثمانى لمصر قبل حكم محمد على ( 1805- 1848م) لها. لكن المؤكد تاريخياً أن هناك اتفاقات عسكرية وإدارية واقتصادية عقدت بين الدولة العثمانية والإمارات الكردية المستقلة آنذاك؛ إذ وقعت تلك الإمارات تحت نير الدولة العثمانية منذ حدوث معركة جالديران فى 23 أغسطس 1514م بين الدولة العثمانية تحت قيادة السلطان سليم ياوز الأول والدولة الصفوية تحت قيادة الشاه إسماعيل الأول الصفوى، وانتصرت الأولى على الثانية ووقعت معظم الإمارات الكردية تحت سيطرة الدولة العثمانية.

        ولما أرادت السلطات العثمانية تحقيق الاستقرار فى المنطقة والاستفادة من الإمارات الكردية فأقرت باستقرار داخلى لست عشرة إمارة ، وتعاملت معهم على كونهم جزءاً ذاتياً ومستقلاً فى الدولة العثمانية فى مقابل دفع الضرائب والمشاركة فى حروب الدولة العثمانية ، ثم عقد الكرد مع العثمانيين معاهدة فى عام 1683م وتحالف مع ثلاثة وعشرين أميراً كردياً وشاركوا السلطات العثمانية جميع حروبهم.

ولما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر ( 1798 -1801م) ، أصدرت الدولة العثمانية فرماناً فى جميع ولاياتها لاستنفار جميع الشعوب على المحتل الغازى وكان من بينهم الشعب الكردى، فأعد الباب العالى جيشاً لطرد الفرنسين تم تجنيدهم من ( قولة – اليونان ) وأرسلهم السلطان العثمانى سليم الثالث ابن السلطان مصطفى الثالث ( 1789- 1807م )، وكان محمد على باشا هو القائد الثانى لهذه الحملة – ثم أصبح بعد ذلك القائد الأول – التى قدمت إلى مصر ولما قدم حارب الفرنسين ألحقت به السلطات العثمانية فرقة عسكرية كردية مكونة من ألف مقاتل من المجاهدين الكرد الأشداء بقيادة ( حاجو) دليل باشا، واشتركت الفرقة الكردية فى جميع الأعمال العسكرية التى حدثت بين الجيش العثمانى والفرنسى فى مصر . وقد استمرت تلك الفرقة مع محمد على باشا ولم تعد مع الجيش العثمانى بعد دحر الفرنسيين ، حتى أصبح دليل باشا أهم قواد محمد على بعد ذلك ، ومن ثم لعب الكرد دوراً فى محاربة الفرنسين فى مصر فى إطار الجيش العثمانى .

وفى فترة الحملة الفرنسية قام طالب منتسب إلى الأزهر الشريف وهو سليمان الحلبى بقتل قائد الحملة الفرنسية كيليبر ، وقد ولد فى عام 1777م فى قرية كوكان بالقرب من عفرين التى تتبع مدينة حلب السورية، وقد خلد التاريخ ذكره كغيره من الابطال الذين ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن عقيدتهم وعن الأراضى المصرية وهذا حسب ما ذكرت بعض المصادر من قبيل محمد على الصويركى .

وقد أشارت بعض المصادر من قبيل درية عونى وناجح إبراهيم إلى أن محمد على أصله كردى من ديار بكر انتقل مع الجيش العثمانى إلى ألبانيا وجاء منها إلى مصر، كما تقول بعض المصادر الكردية إن محمد على الذى تولى حكم مصر هو وأسرته – وأسس مصر الحديثة وأسس نهضتها العلمية، كما أسس نهضة حقيقية فى كافة المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية …ألخ . وبنى جيشاً قوياً، وقام بفتوحات كثيرة في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي- أصله كردي من ديار بكر، بينما كان شائعاً أن أصله ألباني. كما قال حفيده الأمير محمد علي لمجلة «المصور» المصرية فى عدد رقم (1311) الصادر فى 25 نوفمبر 1949م – كان عنوان اللقاء ديار بكر لا قولة – إن أصلهم أكراد من ديار بكر. وهذا ما أكد عليه الأمير عباس حليم أيضاً . وقد حكمت أسرته مصر حتى قيام ثورة يوليه 1952م.

تولى محمد علي حكم مصر عام 1805م  بإجماع المصريين بعد عزل الوالي خورشيد باشا. استهل حكمه بالقضاء على المماليك عام 1811م، ثم ركز جهوده على إصلاح مصر وإرضاء الدولة العثمانية. قاد حملات توسعية كفتح السودان (1821-1823م) وقمع الوهابيين بالحجاز والدولة السعودية الأولى (1818م)، وساعد العثمانيين في إخماد ثورة اليونان. أنشأ جيشًا نظاميًا، طوّر الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم، واستعان بخبراء أجانب وأرسل بعثات علمية إلى أوروبا. كما أقام مشاريع كبرى مثل القناطر الخيرية ومصانع النسيج. وتوسع طموحه إلى سوريا والأناضول، ففتح مدنًا عدة عام 1833م، لكن معاهدة لندن (1841م) أجبرته على التراجع مقابل ضمان وراثة حكم مصر لذريته. تولى ابنه إبراهيم باشا إدارة البلاد عام 1848م إثر تدهور صحة محمد علي، لكن وفاته المفاجئة بعد سبعين يومًا أعادت الحكم إلى حفيده عباس الأول  .

كما وجدت في مصر عناصر كردية فى عهده تمتعت بمكانة متميزة، هاجرت إلى مصر فى عصر محمد على وخلفائة ، وقامت هذه العناصر بدوراً بارزاً خلال وجودهم فيها، فكان لهم دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وتلقبوا بالكردي نسبة إلى مناطق نزوحهم الأصلية، وتولى بعضهم مناصب عليا في الإدارة والجيش، وكان محمد علي باشا يُرحب بهم في مصر، واعتمد عليهم في تثبيت أركان دولته، فكان من بين الأكراد الذي تولوا مناصب كبيرة في مصر محمد الكاشف بن إسماعيل بن علي – عميد الأسرة التيموية فى مصر – مديراً لمحافظة الشرقية، وتولى ابنه إسماعيل رشدي باشا مناصب عدة، حيث كان مديرًا لبعض المديريات ورئيساً لديوان الخديوي. كما تخرج من رواق الكرد بالأزهر الشريف العديد من العلماء الكرد الذين رجعوا إلى بلادهم حاملين معهم العلوم الدينية وساهموا في نشر الإسلام واللغة العربية.

العصر الحديث

مع بداية القرن العشرين وانهيار الدولة العلية، دخلت العلاقات المصرية الكردية مرحلة جديدة. فقد أصبحت مصر دولة مستقلة، بينما تم تقسيم المناطق الكردية بين عدة دول ( تركيا، إيران، سوريا ، العراق).

وقد استقبلت مصر العديد من الشخصيات الكردية البارزة في القرن العشرين، كما حدث فى القرن التاسع عشر، سواء كلاجئين سياسيين أو كطلاب علم. وقد أسهم هؤلاء في إثراء الحياة الثقافية والفنية في مصر فنجد منهم عدداً من الأسر التى قدمت إلى مصر وعاشت بها وسنُولى الحديث عن دورهم فى إثراء الحياة الثقافية المصرية من قبيل. الأسرة التيمورية والأسرة البدرخانية .

وفى وسط هذا الزخم ، لاننسي عصر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (1918 – 1970م) ، الذى أتاح للكرد أن يطلوا على العالم من خلال محطة إذاعية لهم وتُعد هي الأولى من نوعها، في عام 1957م، كما استقبل عبد الناصر الزعيم مصطفى بارزاني، وأنشأ علاقة متواصلة معه، بل وناهض الحرب التي شنت على الكرد. ويكن الكرد الاحترام لعبد الناصر ، فعندما هرع إليه السفير التركي في القاهرة ليسجل احتجاج أنقرة على بث إذاعة كردية من مصر، فقال له الرئيس المصري في هدوء “معلوماتي تُفيد بأنه لا وجود للأكراد في تركيا، كما تقولون، وأن هؤلاء الذين يوصفون بأنهم أكراد ما هم إلا أتراك جبليون. لماذا إذًا أنتم غاضبون من إذاعة كردية؟”.

بيد أن العلاقات الثقافية بين مصر والكرد شهدت تطورًا ملحوظًا في العصر الحديث، حيث تم إنتاج العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تسلط الضوء على الروابط التاريخية بين الشعبين. وبالإضافة إلى وجود الأسر الكردية كان هناك أيضاً العديد من أعلام مصر التى ترجع أصولهم للكرد فى هذا الميدان كأمثال الشاعر الكبير أحمد شوقى باشا ( 1868 -1932م) لأب كردى الأصل وأم تركية جركسية ، الكاتب الكبير عباس محمود العقاد ( 1898 -1964م) – تذكر بعض المصادر أن والدته كانت من أصل كردى وأب مصرى- ، والإمام المُصلِح المفكر الإسلامى محمد عبده (1849 – 1905م) – لأب كردى وأم مصرية-، والدكتور حسن محمد توفيق ظاظا (1919- 1999م) عالم الأديان وهو من أعلام الدراسات اليهودية، والباحث والمترجم محمد علي عوني ( 1880- 1958م) ، وابنته الكاتبة الراحلة دريَّة عوني ( 1952- 2015م) وقد قيل عنها ” أم الكرد فى مصر”.

ونتيجة هذا التواجد على أرض المحروسة والتفاعل بين الكرد والمصريين، قد انصهر القسم الأكبر منهم في البوتقة المصرية، ولا يزال الكرد القاطنون في المدن المصريَّة معروفين بأصولهم الكرديَّة، ومنهم من يشغل مواقع بارزة، ومنهم المحامون، والصحفيون، والمدراء، والفنانون. وهم منتشرون في أماكن مختلفة تمتد من الإسكندريَّة شمالاً إلى أسوان جنوباً. كما نتج عن هذا التفاعل أيضاً وجود بعض الأماكن المصرية التى حملت اسم الكرد على مدار التاريخ مثل، قرية جزيرة الكرد بأسيوط، وقرية ميت الكرد، ومدينة الكُردي بالدقهليَّة، وقرية كفر كُردي بالقليوبيَّة، وقرية منشأة الكُردي بالغربيَّة، وقرية الكُردي بكفر الشيخ. ، وضرب الأكراد بالسيدة زينب.

وهناك عائلات كرديَّة استقرت في صعيد مصر تُمارس حياة عادية لا تتميز عن بقية الشعب المصريّ، وهناك جمعيَّة في حي شبرا بالقاهرة باسم «الجمعية الكردية» أسَّسَها كرد الصعيد، كما يوجد العديد من الطلبة الكرد ممن يتلقوا تعليمهم الجامعي في جامعات مصر، وخاصة جامعة الأزهر.

وختاماً فإن العلاقات المصرية الكردية تُمثل نموذجًا للتواصل الإنساني والثقافي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية. من التفاعلات التجارية في العصور القديمة إلى الوحدة العسكرية والثقافية في العصور الإسلامية، ومن التعاون الإداري في العصر العثماني إلى الدعم السياسي والثقافي في العصر الحديث، تعكس هذه العلاقة قوة الروابط التي تربط بين الشعوب.

لا شك أن دراسة العلاقات التاريخية بين مصر والكرد ليست مجرد استعراض للأحداث، بل هي دعوة صادقة لتعزيز قيم التعاون والتفاهم بين الشعوب. إنها فرصة للاستفادة من دروس الماضي لبناء مستقبل أفضل يُعزز أواصر الصداقة والتعاون. وفي هذا السياق، تبرز أهمية الدور العربي في دعم الكرد ووحدة شعوب المنطقة لمواجهة التحديات المشتركة، حيث يُشكل الشعب الكردي جزءًا أساسيًا من منظومة الأمن القومي العربي.


المصادر

·       إيمان محمود ، العلاقات التاريخية بين مصر والكرد ، 24 سبتمبر  2017م.

https://www.masrawy.com/news/news_publicaffairs/details/2017/9/24/1160305/%D8%7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9%D8%A8%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AF

·       درية عونى و محمود زايد ومصطفى محمد عوض، الكرد فى مصر عبر العصور ، ط 1، القاهرة، 2011م.

·       رشا هشام جميل و جاسم محمد علي ، الكورد فى مصر ودورهم في الحياة السياسية والاجتماعية 1900 – 1950م، كوفرى كوردستانى .

·       رضوى الاسود، الكرد في مصر على مر التاريخ ،23 مايو 2024م.

·       سحر حسن ، حكاية أثر (2) سعيد السعداء، جريدة الشروق نت ، سبتمبر 2022م.

  • ……………، الاستراتيجيات الكردية في الحروب الحاسمة – ملاذكرد، جالديران، ومرج دابق -، مركز أتون للدراسات .
  • شريف عبد الحميد ، لقاء خاص ( علي بدرخان ، 10 سبتمبر ، 2024م، مركز الخليج للدراسات الإيرانية.
https://www.alkhalej.net/news/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%B1%D8%AC%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A8%D8%AF%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%86%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%86%D9%A%D8%A9%D8%A3%D8%AF%D8%AE%D9%84%D8%AA%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%A5%D9%84%D9%89%D9%85%D8%B5%D8%B1.

·       د. طه على،  العلاقات المصرية الكردية مدخل لمواجهة التحديات الإقليمية ـ1ـ، 21 نوفمبر 2023م.

https://ronahi.net/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87

·       محمد شعبان أيوب، حاربوا الصليبيين وخرجوا العلماء.. دور الكرد العظيم في تاريخ الإسلام، 11 اكتوبر 2021م.

https://www.ajnet.me/midan/intellect/history/2019/5/24/%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D9%88%D8%A7%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D9%8A%D9%86%D9%88%D8%AE%D8%B1%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%AF%D9%88%D8%B1

·       ناجح إبراهيم ، الكرد فى مصر ، 15 سبتمبر 2018م، المصرى اليوم .

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1322292

·       الدكتور على أبو الخير ، أكراد مصر… ثقافة عربية وهوية مصرية.

  https://maarefhekmiya.org/15508/egyptiankurds/

  • محمد على الصويركى ، الكرد فى بلاد مصر ، الحلقة الثالثة ، 2 مايو 2014م، كورد أون لاين.
  • التراجم والطبقات ،تراجم الشخصيات من موقع ذاكرة الأزهر الشريف ، المجلد الاول .
https://ketabonline.com/ar/books/67547/read?part=1&page=113&index=4593596
  • الكرد فى مصر .. من الأيوبيين إلى محمد على ، اتحاد علماء الدين الغسلامى فى كوردستان ، المكتب التنفيذى .

file:///C:/Users/almTgr/Desktop/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9/%DB%8C%D9%87_%DA%A9%DB%8E%D8%AA%DB%8C%20%D8%B2%D8%A7%D9%86%D8%A7%DB%8C%D8%A7%D9%86%DB%8C%20%D8%A6%D8%A7%DB%8C%D9%86%DB%8C%20%D8%A6%DB%8C%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%DB%8C%20%DA%A9%D9%88%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86.html

https://www.elbalad.news/3737956

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى