ينما يناضل الشعب الكردى من أجل الحفاظ على هويته وثقافته وخصوصاته فى شمال وشرق سوريا وفى جنوب شرق تركيا ضد التعريب والتتريك، تحل الذكرى الثانية عشرة لاغتيال سكينة جانسيز ( 1958- 2013). وقد اختزلت عبر 55 عاماً سيرة ومسيرة النضال الكردى حتى صارت بامتياز أيقونة الثورة الكردية وتجلياتها النظرية والفكرية والتنظيمية. وجاء اغتيالها ضمن أيديولوجية الإبادة الجماعية التى يقترفها النظام التركى منذ قرن ونيف سواء فى ثوبه الأتاتوركى أو الأردوغانى وسواء كانت العقيدة السياسية شوفينية متطرفة أو دينية متعصبة. ووتصنف جريمة اغتيال سكينة جانسيز وفقاً للقانون الدولى العام جريمة إبادة نوعية GENDERCIDE حيث استهدفت عن قصد خاص امرأة قيادية بعينها بهدف إبادة الجماعة الكردية المستهدفة. هكذا وصفت المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التى أقرتها الأمم المتحدة فى ديسمبر – كانون الأول 1948.
وبمناسبة مرور 12 عاماً على استشهاد المناضلة الثائرة التى تختزل المسألة الكردية، نلتقط فترة التكوين الثورى لديها إبان المرحلة الانتقالية من الشبيبة إلى الشباب؛ أى منذ انتقالها بإرادتها من ديرسم الجبلية فى جنوب شرق الأناضول إلى أزمير الساحلية غرب الأناضول ، وبذا ، انتقلت من مجتمع جبلى وزراعى ورعوى محدود وقليل السكان إلى مجتمع صناعى وتجارى مكتظ بالسكان.. ولاغرو؛ إذ أن مدينة أزمير تعد المدينة الثالثة الأكثر سكاناً بعد أنقرة واسطنبول، وميناء التصدير الأول، والمدينة الصناعية الثانية بعد اسطنبول. وتعد هذه المرحلة فارقة ومفصلية فى حياة سكينة وأدت إلى صقلها ونضجها أيديولوجيا وتنظيمياً. وخلال هذه المرحلة ، بدأت تنخرط فى أوساط العمال ووقفت على كثير من مشاكلهم ومعاناتهم واستغلال أصحاب الأعمال لهم عندما عملت فى مصنع ( معمل) شيكولاته بأزمير ، ومن خلال مذكراتها ” حياتى كلها صراع” ، ترجمة بشرى على، دار نفرتيتى بالقاهرة 2022، نرصد ملامح وسمات شهديتنا الأيقونة خلال فترة تكوينها الثورى ونضالها البطولى.
نكران الذات فى خدمة الثورة
منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، عانت سكينة مجدداً، إذ أن ” كل الجوانب كانت وتقيدك، وتحد من حراكك، وتعرقلك”. ورغم هذا ، ثمة درس جد مهم قد استوعبته فى هذه المرحلة المبكرة، خلاصته: نكران الذات، واستخدام القوة العقلية والمهارة حتى أقصاها، وتسخيرها فى خدمة الثورة ! ” (ص 165)
ومازالت مدارس ديرسم تتبوأ موقعها المحورى فى تشكيل ثورية ويسارية سكينة ورفاقها.ولاغرو؛ اذ ضمت مدارس الثانوى شريحة الشباب الأكثر حيوية فى المجتمع رغم أنها كانت من أكثر أرضيات الصراع تأججاً. وقد استاءت سكينة جداً من ذاك الفصيل “اليسارى” الذى خلط عن عمد بين القضية الوطنية والتأثير على الرأى العام ، وحسب نصها: ” ويطرحون تقييماتهم وفق ذلك لتحريف المسار؛ إذ يسردون كل ما من شأنه أن يدحض الواقع الكردستانى ويفند جوهر الاشتراكية”. (ص165)
وجدير بالتسجيل أن هذا النمط من الفصائل قد ابتعد عن – أو بالأحرى ناهض- البحث والتدقيق وبلوغ الوعى التاريخى والانفتاح على التغيير. وتزداد الروح الثورية بشاعة عندما لا تتشكل على أساس واقعها الذاتى الحقيقى”…. ذلك أن الاستعمار التركى وطابعه الكمالى الأتاتوركى قضى على الخصال الإنسانية والروح الكردية”. ( ص 166) وللأسف، عرقل ذاك التيار باسم الثورة والثورية النهوض القومى ودلالاته من ” وحدة واتحاد”. ولا ريب أن هذه النزعة الاستنكارية قد أثرت سلبياً على تحديد مسار ومصير “اليسار التركى” الذى اختار عبوديته، وصادق كل من ويقدس استعباده، فأطلق صفة الأممية والإخوة على نزعة الإنكار، واعتبر الشوفينية الاجتماعية أعلى درجات الاشتراكية والديمقراطية، رغم أن نتائجها كانت وخيمة العواقب.
ممارسة العنف الثورى:
وثمة سمة اكتسبتها سكينة فى السادسة عشر من عمرها مفادها ان النضال الأيديولوجى – السياسىيشترط ممارسة العنف الثورى. وحسب توصيفها الدقيق: ” لم ويكتسب أى شئ بسهولة” ( ص 166) وباتت جماعة سكينة ” قوة صاعدة وتمثل كل جديد” على عكس بقية الجماعات التى هيمنت عليها “النزعة الكمالية” ، ودخلت فى حرب ضروس ضد جماعة سكينة.
وقد انتقدت سكينة جانسيز الصراعات الضارية بين أجنحة اليسار فى الفضاء التركى التى أسفرت عن ” تجذير الخلافات، وتشتيت قوى الشعب، وإضفاء استخدام فرص وأدوات النضال المشترك ولو بالحدود الدنيا” ( ص167). ولذا، فلاغرو أن اتحدت هذه الفصائل مع ” شرطة الدولة” فى مناهضة جماعة سكينة” فى نفس اليوم ونفس اللحظة ومن نفس الجبهة أحياناً” ( ص167).
مزاولة العمل الثورى
وقد عزمت سكينة على المضى قدماً فى ” مزاولة العمل الثورى”. بيد أنها اصطدمت بمسألة زواجها من باقى.وبذلت جهوداً حثيثة للحيلولة دون إتمام هذا الزواج رغم أن خطيبها يسارى شأن معظم أهالى ديرسم. ورغم التحديات الاجتماعية المعقدة ، فقد قررت الشابة الواعدة الاستمرار على الدرب الثورى الطول. وحسب كلامها” سأقوم بالعمل الثورى مهما كلفنى ذلك. ولن يقدر أحد على منعى من الوصول إلى هدفى” (ص 176) وقد بذلت قصارى جهدها للخروج من المنزل ” وممارسة العمل الثورى” ( ص 177) وسعت إلى معظم رفاقها وأقاربها لمساعدتها فى عدم إتمام الزواج؛ إذ أنها تٌريد أن تٌصبح ” ثورية” ( ص179)
الثورية هى استخدام الإرادة بحرية
وبعد صراع عنيف بين الموروث الاجتماعى والطموح الثورى، خلصت سكينة إلى ان الثورية تعنى “استخدام الإرادة بحرية”. ولمزيد من الإيضاح، رسمت شهيدتنا صورة لمفهوم الثورية فى مطلع شبابها وأثناء تكوين بنيانها الثورى على النحو الآتى: ” فالثورية تعنى الحرية، والقدرة على استخدام الإرادة الذاتية بحرية، والتشاطر مع الغير، وبذل الجهد الجمعى. كانت الممارسة الثورية جميلة بكل تفاصيلها، وتجذبنى إليها كثيراً. ربما لها قواعدها. ولكنه لم يكن صعباً الالتزام بها طوعاً ورغبة، كنا مندمجين بتلك القواعد دون أن ندرك ذلك. إنه طراز حياة جميلة بكل خصائصها بل وبمصاعبها.إن كل المشقات وشٌح الإمكانيات فى ذاك المنزل الطينى قد عشش لدينا حب الممارسة الثورية، فتعلقنا بها” ( ص 180)
وفى كلية العلوم السياسية بأنقرة، راحت سكينة تبحث عن الرفيق حيدر كايتان، وجلست فى ساحة الكلية تٌحدث نفسها:” ثمة فتاة هربت من المنزل وتتطلع إلى الممارسة الثورية”. وأردفت تقول:” سأقنع هؤلاء، بل وحتى أمى ، من خلال ممارستى الثورية” رغم كل العراقيل والتناقضات والصراعات والعجز والمخاوف. فى كلمة: هيمن على سكينة إصرار طاغى بالعمل الثورى.
وبعد جدال شائك، أوضح باقى لسكينة انه مسرور باختيارها “الدرب الثورى”.. واتفق الرفاق على أن يولوا وجهتهم شطر أزمير رغم أن شهيدتنا لم تفكر فى هذه المدينة، وقررت العمل بجانب استكمال الدراسة. وحسب روايتها :” سأشتغل أنا أيضاً، وسأتدبر شئونى، وسأتعمق نظرياً إلى حين التمكن من التواصل مجدداً مع الرفاق. وأقول لنفسى لن أقف بلا عمل هناك” ( ص 186)
مجتمع العمال
وفى أزمير ، سعت سكينة بنت الثامنة عشر عاماً (1976) إلى البحث عن عمل، وكانت تتمنى أن تعمل فى ” أحد المصانع التى تعج بها المنطقة الصناعية فى أزمير”. إذ رغبت فى أن تكون ” عاملة” لتناضل فى النقابات الصناعية. وثمة فرصة عمل كمربية أطفال عند عائلة ” يزاولون العمل الثورى”. ولكنها اكتشفت أن الأسرة تتسم بـ ” طابع البورجوازية الصغيرة”، ولذا قررت ألا تبقى” ساعة واحدة” فى هذا المنزل.
وبعد جهاد ،عملت الشابة سكينة فى مصنع للشيكولاته. ورصدت عينيها الثاقبتين بنية هيكل المصنع كالآتى: “أغلب العاملين فيه كانوا من النساء” ، وبعضهن مهاجرات بلغاريات. ولاحظت أن السيطرة الاستئثارية للنساء ” وكأن المصنع يعود للنساء، إذ لا يوجد سوى بضعة رجال”. ولقد لفت نظرها فاطمة الكردية التى تعمل فى قسم المراجل: ” إنها تعمل بدأب. فقسم المراجل هو من أصعب الأقسام. فحمل تلك المراجل حتى وهى فارغة كان صعباً للغاية” ( ص 188- 189)
اصطدمت سكينة بداية بأن أصحاب الأعمال يطردون العمال من الطلاب الجامعيين الذى يؤثرون فى بقية العمل عن طريق الأفكار اليسارية والتنظيمات النقابية. عندئذ، أدركت منذ الوهلة الأولى أن ” الحوار مع العاملات هنا لن يكون سهلاً”. وأخذت تتردد بين العاملات وتسمع إليهن كثيراً. واكتشفت أن “الخاصية المشتركة لديهن جميعاً هى إنهن يرين العمل وسيلة أو حاجة ماسة لمساعدة الأسرة اقتصادياً أو لتأمين احتياجاتهن الشخصية”
وعلاوة على شريحة العاملات البلغاريات ذوات الأصل التركى، فالعاملات الأخريات كن كرديات عموماً. ورغم أن معظمهن كن لا يجدن التركية ومن ذوات “السلوك الفظ”. ولكن بسبب سلوكيات سكينة الحسنة وإجادتها التركية، فقد حطمت النظرة التقليدية للكرد. وبدأ” الآخرون يحبون الكرد مع ازدياد حميمية علاقتنا”. ورويداً رويداً، نجحت الثائرة الواعدة فى ” جذب الأنظار لدرجة أن الكثير من العاملات كن يأتين تلقائياً ويسردن لى مشاكلهن”. كما اكتشفت كثيراً من كواليس العمل ومدى استغلال أصحاب الأعمال للعمال.
وقد انتقدت سكينة العلاقات المشبوهة داخل منظومة العمل” لا سيما أن أماكن العمل الصغيرة كهذا المصنع كانت وتّحول إلى بؤر للانحطاط والسفالة. كانت العمالة تٌجّرد من جوهرها بانتشار اليد العاملة الرخيصة، وبتفشى العلاقات البعيدة عن المشاكل الذاتية، وبتدنى المستوى الثقافى ” ( ص 192)
على الدرب التنظيمى
وازدادت خبرة سكينة بأحوال العمل والعمال فى مصنع بانار للشيكولاته بأزمير، واستغلت استياء بعض العاملات لـ ” تنظيمهن انطلاقاً من هذا الاستياء”.
وبذا، نمت البذور التنظيمية فى ذهنية الثائرة الشابة. ونترك القلم لها كى تٌدّون هذه التجربة الجنينية: ” فمثلاً لا تٌوجد نقابة للعمال، وليس هناك ضمان أيضاً. وثمة فتيات بترت أطرافهن أو علقت شعورهن بالآلة، فقضين نحبهن، علاوة على من أصبن بجروح بليغة جعلتهن مشوهات ، وبالتالى ، ما من ضمان لهن! ولا تٌدفع لهن التعويضات، ولا تٌؤخذ أية تدابير وقائية أخرى. وعليه، يغدو الأمر مرهوناً بالصدفة والحظ، وتصبح هكذا حالات أمراً طبيعياً”. ولكن معظم هذه الفتيات المستاءات” لا يٌؤمن بالاشتراكية”. ولهذا، تحلت سكينة بالصبر لتكوين ” مجموعة صغيرة من الفتيات القادرات على رؤية المشاكل الموجودة فى المصنع بأقل تقدير، وسنتمكن معاً من إيجاد حلول لها”. ونظراً لصغر حجم المصنع ، فقد أدركت الثائرة الصغيرة عدم قدرتها على “التأثير والتفاعل، إلا فى حال حصول مقاومات العمال. وحتى هذا يبدو صعباً للغاية” (193)
وتشكلت لدن سكينة صورة سلبية وسيئة عن منظومة العمل الصناعى فى تركيا الذى تٌشبه شيكولاته بانار ” المشهورة”! وتضحك سكينة فيما بينها وبين نفسها قائلة:” إذا، هذه هى حال جميع المصانع والورشات. فالنظافة والجودة ليستا مهمتين. أما مراكمة رأس المال والربح والمزيد من الإنتاج. فهى أمور لا غنى لرب العمل عنها. أما العمال فلا يعنيهم سوى استلام رواتبهم اليومية. أى أن صحة الشعب ليست مهمة، بل إن المهم هو ثراء رب العمل وربحه ” (ص194). ومهما يكن من أمر، اكتسبت سكينة خبرات عملية كانت سعيدة بها. وقد عبرت عن هذه التحولات الايجابية فى حياتها قائلة:” هكذا كانت أيامى الأولى فى العمل. لكنى تأقلمت مع الوقت، وازدادت وتيرتى. فسررت بوضع العمالة، واشتغلت بسرور، وشعرت بالمتعة فى العمل” ( ص195)
ثوار كردستان المستعمرة
ورغم عمل سكينة ست أيام أسبوعيا ، فإنها لم تقف عن السير على الدرب الثورى. ومن ثم أخذت فى مطالعة المجلات والصحف ومتابعة المستجدات السياسية وزيارة بعض الجمعيات الثقافية فى أحياء أزمير لاسيما ذوات الخصائص اليسارية والثورية. وثمة جدال حامى الوطيس بين الثائرة الشابة اليافعة وبين الرفاق حول حقيقة ” كردستان مستعمرة” والفوارق الرئيسية بين الاستعمار الحديث والاستعمار الكلاسيكى. وقد تألمت سكينة جداً أنها لم تجد فى أزمير شخصاً قال عن نفسه أنه ” كردى أو كردستانى” رغم وجود أحياء ذات أغلبية كردية. ورغم وجود تيارات فكرية متباينة ومتنوعة، فقد كانت سكينة تتفاخر وتتجاهر بكونها من ” ثوار كردستان” الذين كانوا يلقبون أنفسهم بـ ” الوطنيين”.
وقد رسمت ثائرتنا الشهيدة صورة دقيقة عن تداخلات وتشابكات وتناقضات الواقع الثورى الكردى فى تركيا. ونترك القلم لسكينة كى تبدع فى تصوير هذه اللوحة:” أثرت هذه الحالة الروحية لهؤلاء سلباً على خوض نقاشات سليمة ضمن المجموعة. لكن، ولأن الكوادر الكرد بين صفوفهم يٌشكلون درعاً حصيناً. فالمقارية التى تنكر وجود كردستان، وإحلال نزعة الإنكار هذه محل الأممية، قد شكلا منذ البداية حاجزاً أمام التطور الايجابى للمجموعة. فحسب هؤلاء، فإن الفضيلة العظمى تتمثل فى مزاولة العمل الثورى متحصنين بالحقيقة العامة المنادية بأخوة الشعوب. إلا أنهم يجهلون معايير ذلك، وباسم من، أو باسم أى شعب أو أية إخوة يٌزاولون ثوريتهم ، من الطبيعى التأثر بذلك فى البداية. ذلك أن الجامعيين الكرد تأثروا بكل التطورات التى عدوها ثورية أو ديمقراطية او تقدمية. وانفتحوا عليها، واتخذوا أماكنهم فيها. ولكن ، لابد من التسلح برؤية واضحة وسديدة بشأن المواضيع الثورية الرئيسية، للتمكن من صياغة تحليلات أيديولوجية سليمة” ( ص 200)
عند هذا الحد، تماهت كردستان فى ذهنية سكينة مع أيديولوجيتها ، وهو ما أكدته الكلاسيكيات الماركسية. وبذا اقتنعت الشابة ذات الثامنة عشرة بعدم وجود تناقض عضوى بين ما هو وطنى وما هو أممى فى بنيتها الأيديولوجية. وحسب النص السكينى:”…. فأيديولوجياً صحيحة، ونحن على حق. هذا يكفينى. وكل من يؤمن بها، يستطيع الدفاع عنها ونشرها فى كل مكان يتواجد فيه وفى كل الظروف والشروط ” ( ص ص 201-202)