متابعات

بعد انتخاب عون وتكليف سلام تحديات مهمة أمام لبنان الجديد

تحليل: الكاتب الصحفي فتحى محمود

مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيسا للبنان تدخل البلاد مرحلة جديدة تساهم في تشكيلها التطورات المتلاحقة بمنطقة الشرق الأوسط، التي أدت إلى انحسار النفوذ الإيراني وعودة لبنان للحضن العربى وسط رعاية دولية مكثفة، إلا أن هناك تحديات كثيرة وخطيرة تواجه الرئيس الجديد، في ظل التعهدات والمواقف التي أطلقها في خطاب القسم.

أولى تلك التحديات هي تشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على القيام بمسئولياتها وترجمة توجهات وسياسات الرئيس إلى واقع على الأرض، علما بأن الحكومة في لبنان ــ حسب وثيقة الوفاق الوطنى المشهورة باتفاق الطائف ــ هي السلطة التنفيذية التي لا يملك رئيس الجمهورية اتخاذ أي قرار بدون موافقتها، بل إن الحكومة مجتمعة إذا اتخذت قرارا واعترض عليه الرئيس يصبح القرار نافذا حكما إذا أصرت عليه الحكومة التي تمتلك صلاحيات واسعة جدا.

وقد اسفرت الاستشارات النيابية التي أجراها عون عن مفاجأة كانت أمنية لدى قوى سياسية أترى أن المرحلة الجديدة تتطلب تشكيل حكومة تكنوقراط قوية بعيدا عن المماحكات السياسية، ويرأسها شخصية لم تشارك في الممارسات السياسية السابقة التي انتقدها عون في خطاب القسم، حينما طالب بضرورة تغيير الأداء السياسى، حيث حصل الدكتور نواف سلام على الأغلبية التي تؤهله لتشكيل الحكومة ، وهو أستاذ جامعي ورجل قانون ودبلوماسي كان مندوبا للبنان في الأمم المتحدة، وشغل منصب قاضي في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وفي فبراير 2024 انتخب رئيساً لـها.

لكن المشكلة الحقيقية ستظهر مع اختيار الوزراء والقيام بعملية تشكيل الحكومة الجديدة، لأن بعض القوى السياسية ترغب في الحصول على حقائب وزارية معينة، وحتى لو كانت حكومة تكنوقراط، ستتدخل القوى السياسية في تشكيلها حتى توافق عليها في مجلس النواب، لكن المشكلة الأكبر ستكون موقف حزب الله وحركة أمل من المشاركة في الوزارة، حيث يميل الحزب للمقاطعة وقد يثير أزمة تحت شعار الميثاقية والتمثيل الشيعي، وظهر ذلك في عدم رضاء الحزب عن تكليف نواف سلام برئاسة الحكومة، حيث كان يرغب في استمرار بقاء نجيب ميقاتى رئيسا للحكومة، وفى التصريحات الغاضبة التي أطلقها محمد رعد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة التابعة للحزب  بعد لقاء الرئيس عون عندما أعرب عن أسفه بعد لتسمية رئيس جديد للحكومة، قائلاً إن البعض يعمل على التفكيك والتقسيم والشرذمة والإلغاء والإقصاء تعنةً وكيديةً وتربصاً، وكنا نأمل أن نلاقي اليد التي لطالما تغنت بأنها ممدودة وإذ بها قطعت، ومن حقنا أن نطالب بحكومة ميثاقية، وأي حكومة تناقض العيش المشترك لا شرعية لها على الإطلاق.

جدير بالذكر أن الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام هي التي ستتولى إجراء الانتخابات النيابية المقبلة في مايو من العام القادم.

انسحاب إسرائيل

أما التحدى العاجل الآخر أمام عون فهو استكمال انسحاب إسرائيل من الجنوب وتنفيذ اتفاق الهدنة، وتمكين الجيش اللبناني من السيطرة على تلك المناطق بحلول يوم 26 يناير، أى نهاية مهلة الستين يوما التي يتضمنها الاتفاق، وإذا ماطلت إسرائيل ولم تنسحب بنهاية هذا التاريخ من كل المناطق اللبنانية المحتلة سيشكل ذلك إحراجا كبيرا للرئيس اللبناني الجديد، وسوف ينتهز حزب الله الفرصة لتحسين صورته الإعلامية كمدافع عن الأراضى المحتلة، لذلك فإن جوزيف عون يعول كثيرا على الرعاية الدولية والعربية الحالية للبنان وخاصة الجانب الأمريكي من أجل الضغط على إسرائيل لاستكمال الانسحاب والالتزام بالاتفاق، وقد حمل المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكستين رسالة طمأنة بهذا الخصوص خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت الأسبوع الماضى.

الانهيار الاقتصادى

وعلى الصعيد الاقتصادى، فإن التحدى الأكبر الذى يواجه الرئيس الجديد هو الانهيار الاقتصادى والمعيشى الذى يعانى منه لبنان في السنوات الأخيرة، بالإضافة لعملية إعادة إعمار الجنوب الذى يعانى من دمار شامل، وقد سبق أن وصف البنك الدولى الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان بأنها تأتي ضمن الأزمات الاقتصادية الأسوأ على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأشار في تقرير صادر الشهر الماضى إلى أنه من المرجح أن يتدهور وضع المالية العامة في لبنان أكثر بسبب ارتفاع الاحتياجات التمويلية لتأمين الخدمات الأساسية وتلبية الحاجات الملحة، بالإضافة إلى انخفاض محتمل في إيرادات المالية العامة، ومع صعوبة الحصول على التمويل بسبب تخلف لبنان عن سداد الديون السيادية، تبرز أهمية الشروع في إعادة هيكلة الديون الشاملة لاستعادة القدرة على النفاذ إلى الأسواق المالية الدولية لتمكين البلاد من مواجهة تحدياتها المتعددة الأوجه، وضرورة العمل على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، وتعزيز الحوكمة، وتحسين أداء الخدمات والمرافق العامة، وتسهيل استعادة الخدمات الأساسية، ودعم القطاع المصرفي للحفاظ على أموال المودعين.

ويعاني لبنان منذ 4 سنوات من أزمة رباعية العناصر، تتعلق بالشق المصرفى والمالى والاقتصادى والسياسى ، وقد بدأت ملامح هذه  الأزمة بالظهور في خريف 2019، مع إقفال المصارف لأبوابها وتوقفها عن إعطاء المودعين أموالهم، عبر فرضها قيود صارمة على السحوبات الدولارية، في وقت كان يعد القطاع المصرف اللبنانى الركيزة الأساسية لاقتصاد البلاد.

واستكمل الاقتصاد اللبنانى مسار التدهور مع انهيار العملة الوطنية بشكل دراماتيكي، لتفقد الليرة اللبنانية أكثر من 95 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، وتنخفض من 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد في أكتوبر 2019 إلى قرابة الـ 90 ألف ليرة للدولار حالياً، وقد تسبب هذا التراجع في تدمير القوة الشرائية لـ اللبنانيين الذين عاشوا تحت وطأة مستويات غير مسبوقة من ارتفاع أسعار الاستهلاك، حيث كشفت بيانات إدارة الإحصاء المركزي، أن أسعار المواد الغذائية في البلاد، سجلت ارتفاعات فاقت نسبتها الـ 6000 بالمئة منذ ديسمبر 2019 وحتى عام 2024.

وقضت الأزمة الاقتصادية التي عاشها لبنان على مدار 4 سنوات، على معظم احتياطاته من العملات الأجنبية، فسياسة دعم أسعار السلع والمواد الأساسية التي تم إنتاجها خلال سنوات الأزمة، أدت إلى تراجع قيمة الاحتياطيات الأجنبيّة في مصرف لبنان من 34.73 مليار دولار في منتصف أكتوبر 2019، إلى 8.7 مليار دولار في منتصف أكتوبر 2023، وهذا ما دفع بحاكم مصرف بالإنابة وسيم منصوري، إلى الإعلان وفور تسلمه قيادة المصرف المركزي اللبناني في أغسطس 2023، أن المصرف سيتوقف كلياً عن مد الدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية، نظراً للشح الكبير الحاصل في احتياطاته.

وكانت العقبة الرئيسية التي تمنع الدول المانحة والمؤسسات الدولية من مساعدة لبنان، هي حالة عدم الاستقرار السياسي التي يعانى منها، وسيطرة فصيل محدد مرتبط بإيران على مفاصل الدولة واحتكاره قرار الحرب والسلام بمعزل عن الحكومة، ولذلك فإن انتخاب عون رئيسا والتعهدات التي قدمها بقيام دولة قوية تمتلك جميع مقدراتها وتحتكر وحدها حمل السلاح وقرار الحرب والسلم، وتتفاعل مع محيطها العربى والدولى بإيجابية بعيدا عن التدخل في الشئون الداخلية، إلى جانب الالتزام بتنفيذ خطة إصلاح إقتصادى ومالى ومعيشى شاملة، والحفاظ على حقوق المودعين بالمصارف، ومكافحة أوجه الفساد والمحسوبية كافة، كل ذلك يعد استجابة قوية لمطالب الدول المانحة والمؤسسات الدولية، الأمر الذى يؤدى إلى حصول لبنان على دعم اقتصادى ومالى ضخم يلبى احتياجاته ويساعده على الخروج من الأزمات التي يعانى منها، وخاصة أن عملية انتخاب جوزيف عون جاءت برعاية دولية وعربية كبيرة، وهذه الرعاية ستعمل على إنجاح العهد الجديد من خلال توفير كل أوجه الدعم له، ليحقق جميع الأهداف والتعهدات التي وردت في خطاب القسم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى