عُقد اجتماع بشأن الأزمة السورية بالرياض في 13 يناير الجاري، في إطار الجهود العربية والدولية المستمرة لإيجاد حل شامل ومستدام للصراع السوري، الذي دام لأكثر من 13 عامًا، حتى سقوط النظام في ديسمبر 2024، وسيطرة هيئة تحرير الشام على مفاصل الحكم، مما يؤكد الحاجة للتنسيق التام لمواجهة الأزمات السياسية المعقدة التي امتدت آثارها للمنطقة بأكملها.
وقد حضر هذا الاجتماع شخصيات بارزة من مختلف الأطراف الفاعلة، بما في ذلك ممثلون عن الدول العربية المؤثرة مثل السعودية ومصر والأردن والإمارات، وأمين عام مجلس التعاون الخليجي، وبحضور بريطاني وألماني وتركي وأمريكي.
يأتي هذا الاجتماع في ظروف شديدة الحساسية مفخخة بالتعقيدات الميدانية والسياسية، بعد أن أطاحت المعارضة السورية بحكم الرئيس السوري السابق “بشار الأسد”، وسيطرة “تحرير الشام” على دمشق، مع استمرار التحركات العسكرية والتهديدات الأمنية بسبب فلول النظام السابق، وبالإضافة إلى الأطماع التركية في الشمال السوري، والتوغل الإسرائيلي في الجنوب، مع استغلال هذه المرحلة الانتقالية التي من المفترض أن تستمر لأربع سنوات وفقًا لتصريحات قائد الهيئة المسيطرة على البلاد “أحمد الشرع”.
ويهدف ذلك التحليل إلى استعراض أهم المحاور التي تناولها الاجتماع ومضامينها السياسية، مع التركيز على أبعادها السياسية والإنسانية والأمنية، في سياق استشرافي لمستقبل الأزمة السورية وتصور للسيناريوهات المتوقعة بناءً على تحليل التطورات ونتائج هذا اللقاء.
السياق والتطورات:
اتسم الاجتماع الوزاري في الرياض بتقارب المواقف بين الدول العربية والغربية حول الأزمة السورية، على الرغم من توافر بعض الخلافات في نقاط تفصيلية، وقد جاء الاجتماع بعد سلسلة من الاجتماعات السابقة في مدن أخرى مثل العقبة الأردنية، مما يؤكد التنسيق الدولي المتزايد بشأن كيفية التعامل مع الملف السوري وتطوراته، ومدى دقة قرار الانفتاح مع الإدارة الحالية لدمشق.
فقد شكل هذا اللقاء فرصة مناسبة لإظهار مدى وحدة المواقف الدولية تجاه دعم العملية السياسية الانتقالية في سوريا، فالدول المشاركة، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول العربية والغربية، أكدت على ضرورة الاتجاه للحل السياسي مع احترام حقوق السوريين، وضمان وحدة الأراضي السورية. وشدد البيان الختامي على ضرورة الضغط على إسرائيل في ملف الجولان، مما يعكس التوافق الدولي في التعامل مع الملف السوري، ويدل على تطور الإستراتيجيات الدولية تجاه دمشق.
ومن جهة أخرى أكدت الأطراف على ضرورة رفع العقوبات على سوريا، لتسهيل إعادة الإعمار، مما يعكس تحولًا مهمًا في سياسة الدول الكبرى، وبالأخص الولايات المتحدة، التي أعلنت تبنيها خططًا تدريجية للضغط على الحكومة السورية في ذات الوقت ال ي توسع فيه الإعفاءات من العقوبات المفروضة على سوريا، لتسهيل وصول الخدمات بعد الإطاحة ببشار الأسد، في إطار السعي إلى دعم الاستقرار في سوريا خلال المرحلة الانتقالية.
لكن في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ضرورة الإسراع في اتخاذ خطوات حقيقية في مسار الحوار الوطني الشامل، الذي يجب أن يضم كافة مكونات الشعب السوري، فإن هذا الاتجاه مازال بعيد المنال في ظل الاستمرار بتقديم خطوات مبدئية فقط أو نوايا ووعود وإشارات إيجابية، فهناك حاجة ملحة إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتحقيق نتائج مادية، بأن يتم توسيع نطاق الحوار ليشمل كافة الأطراف وبضمانات حقيقية لتحقيق مصالحة وطنية شاملة.
المضامين الرئيسية:
هناك العديد من المواقف والنقاط التي تمت مناقشتها وطرحها خلال اللقاء على رأسها التوغل الإسرائيلي في الجنوب والحوار الوطني، وقضايا أخرى تم تجاهلها في المقابل على رأسها الأطماع التركية والتواجد في الشمال السوري، وفي ظل هذه التفاعلات يمكن تقسيم أهم ما طرحه اللقاء وتناوله من قضايا أو رسائل هامة فيما يلي:
(1) دعم العملية السياسية السورية: يبرز من الاجتماع الوزاري في الرياض التأكيد على ضرورة دعم عملية انتقالية شاملة، وحوار وطني يشمل جميع الأطراف السورية وتضمين تمثيل كافة القوى السياسية والاجتماعية، مع الحفاظ على حقوق جميع السوريين. وتمثل هذه المبادرة خطوة هامة نحو بناء استقرار سياسي في سوريا، خاصًة مع تزايد تعقيدات الأزمة السورية الممتدة لسنوات عديدة، ويُعد ذلك بمثابة رسالة قوية تؤكد على أن مستقبل سوريا يجب أن يكون للسوريين فقط، وأن الحلول السياسية هي الطريق الوحيد لإنهاء الأزمة بشكل مستدام.
(2) السيادة السورية وأمن الحدود: في هذا الاتجاه نددت أطراف الاجتماع الدولي بالتوغل الإسرائيلي في مناطق الجولان والقنيطرة، هذا التصعيد يُعد من القضايا المهددة للأمن القومي السوري والأمن الإقليمي، ويمس وحدة الأراضي السورية، فالمجتمع الدولي يضغط من أجل احترام وحدة الأراضي السورية والانسحاب الإسرائيلي، مما يعكس أن التحديات الإقليمية لا تقل أهمية عن التحديات الداخلية بالملف السوري، فالتوغل الإسرائيلي يعكس تغييرات استراتيجية في موازين القوى بالمنطقة، ويشعل قلقًا دوليًا بشأن استقرار سوريا والاستقرار بالمنطقة. لكن يتضح في هذا الإطار حالة من ازدواجية المعايير في التعامل مع التوغل الإسرائيلي من جهة والتوغل التركي من جهة أخرى واحتلال تركيا للشمال السوري، تحت ذريعة هدفها في إنهاء الوجود الكردي، فتقوم بتدمير البنية التحتية السورية بمناطق سيطرة الأكراد، وتقصف نقاط مدنية بصورة عنيفة، وتهدد بمخاطر الانفلات الأمني في مخيمات بها أسر دواعش، وسجون يُعتَقل بها قادة ومحاربي التنظيم الإرهابي “داعش” منذ سقوط أخر نقطة لهم على يد الأكراد السوريين والتحالف الدولي.
(3) رفع العقوبات وضرورة الدعم الاقتصادي والإعمار: تضمن الاجتماع محور خاصًا لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، التي تشكل حاجزًا كبيرًا أمام إعادة البناء الاقتصادي وإعمار البلاد، وتؤثر بصورة مباشرة على حياة المواطنين السوريين والحاجات الأساسية، ولذلك شدد وزير الخارجية السعودي “فيصل بن فرحان” على أن رفع العقوبات سيمكن سويا من تحقيق التنمية الاقتصادية وتوفير بيئة ملائمة لعودة اللاجئين، إلا أن بعض الأطراف قد ترى أن رفع العقوبات يتطلب ضمانات حقيقية من الإدارة الجديدة بتحقيق تقدم سياسي ملموس.
(4) الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية: أظهرت التصريحات المتبادلة بالاجتماع تقديرًا للخطوات التي اتخذتها الحكومة السورية في الحفاظ على المؤسسات بالدولة السورية، وتتطلب إعادة بناء المؤسسات السيادية بالبلاد بعد سنوات من الحرب دعمًا دوليًا لإعادة تأهيل البنية التحتية والمؤسسات الحكومية. ولكن، يبقى هذا الدعم متوقفًا على مدى قدرة الحكومة الحالية على إجراء إصلاحات داخلية جذرية بما يضمن تمثيلًا حقيقيًا لجميع السوريين في الحكم، دون استثناء أي مكون سياسي أو اجتماعي.
(5) الموقف الدولي من الخيارات السورية: دعا البيان الختامي إلى دعم خيارات الشعب السوري، مما يشكل خطوة هامة نحو إحترام الإرادة الوطنية، وحق السوريين في تقرير مصيرهم بعيدًا عن أي تدخلات خارجية، بينما تبقى الإشكالية في كيفية تنفيذ هذا الموقف في ظل التداخل الكبير للقوى الدولية والإقليمية في الشأن السوري.
(6) التنسيق بملف المساعدات الإنسانية: يساعد استمرار تقديم الدعم الإنساني في التخفيف من الأزمة وتبعاتها التي يعاني منها ملايين السوريين. وتبقى المعضلة في الآليات التي تضمن وصول هذه المساعدات إلى مستحقيها دون أن تتعرض للاستغلال السياسي، ولذلك هناك حاجة ملحة لزيادة التنسيق الدولي وتوسيعه في تقديم المساعدات الإنسانية والإنمائية.
رؤية مستقبلية:
يُعد استشراف السيناريوهات المستقبلية للأزمة السورية بعد اجتماع الرياض ضرورة لفهم التداعيات المحتملة لهذا اللقاء المحوري، وبالنظر إلى تعقيد الوضع السوري والتطورات الميدانية والعسكرية وتشابك المصالح الإقليمية والدولية، فإن مخرجات الاجتماع قد تؤدي إلى تطورات متباينة، تتراوح بين التقدم نحو الحلول السياسية أو استمرار الجمود والتوتر، وتبقى كافة السيناريوهات مفتوحة بالأزمة السورية، وفي إطار المعطايات الحالية، يمكن صياغة مجموعة من السيناريوهات التي تتيح قراءة أعمق للاتجاهات المحتملة للأزمة، على النحو التالي:
(1) سيناريو التحول السياسي السلمي: وفقًا لهذا السيناريو، قد تنجح الأطراف السورية بالتعاون مع القوى الدولية في التوصل إلى اتفاق سياسي شامل، يضمن تمثيل جميع مكونات المجتمع السوري، ورفع العقوبات قد يسهم في إحداث تحول اقتصادي ملموس، مما يعزز الاستقرارالداخلي السوري، فمع تقدم العملية السياسية وتقديم خطوات ملموسة تشمل إشراك كافة الأطراف السورية بالمسار السياسي، قد يشهد المجتمع الدولي مرحلة جديدة من التعاون البناء مع الحكومة السورية في مختلف المجالات..
(2) سيناريو التصعيد الإقليمي: رغم محاولات الدعم الدولي للانتقال السياسي، قد تتصاعد الأوضاع إذا لم تلتزم الأطراف المعنية بالتحولات السياسية المنشودة. فالتوغل الإسرائيلي من جهته قد يؤدي إلى تصعيد الوضع الأمني بالمنطقة بأكملها، والأطماع التركية واستمرار التواجد بالشمال السوري وتهديد السيادة السورية من جهة أخرى يعقد جهود إعادة البناء في سويا، ويعرقل فرص الوحدة السورية الحقيقية إذا لم تثبت الحكومة السورية الحالية أن ولائها لسوريا والسوريين، لا لتركيا والمشاريع الإقليمية للأتراك، ومع استمرار الأزمات الإنسانية والاقتصادية، قد يكون من الصعب توفير تسوية سياسية شاملة.
(3) سيناريو التجميد أو التأجيل: يشير ذلك الاتجاه إلى استمرار المواقف المتباينة بين القوى الدولية والإقليمية، وتجميد أو تأجيل العملية السياسية السورية، أو تسويتها دون حلها، ويستمر الوضع الإنساني في التدهور، مع تزايد وتفاقم الخلافات الداخلية بين الأطراف السورية المختلفة، وبالتالي تبقى سوريا في حالة من الغموض السياسي والأمني مع احتمالات صعوبة التوصل إلى حل نهائي.
ختامًا، يمكن القول أن المجتمع الدولي يواجه تحديات كبيرة في التعامل مع الأزمة السورية، ولكن هناك آفاق لتطوير حل سياسي مستدام، إذا تم تعزيز الدعم الاقتصادي والسياسي مع ضمان احترام السيادة السورية، ففي ظ التوترات الإقليمية الحالية، تظل الخيارات السياسية والاقتصادية مفتوحة وكافة السيناريوهات مطروحة.
ويعتمد نجاح هذه المسارات على تنسيق مواقف دولية قوية والضغط على الأطراف المعنية لتحقيق تسوية شاملة، وتوفير ضمانات حقيقية حول تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، التي تضم كافة مكونات الشعب السوري، وتقصي أي مشاريع إقليمية ذات أطماع بالهيمنة وتهديد استقرار البلاد وزعزعة الأمن والسلم الإقليمي والدولي، لاسيما أن تخلق بيئة مواتية لاستعادة تنظيم داعش الإرهابي نفوذه وعودة التهديدات الإرهابية في التعاظم والتمدد.