
قبل أيام من تولى دونالد ترامب مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، استقبل العام الجديد مع داعمه الأساسي وشريك الانتخابات “إيلون ماسك” رجل الأعمال الأغنى في العالم، في المنتجع الفاخر “مارلاغو”، الذي بات يعرف في فترة رئاسة ترامب ب “البيت الأبيض الشتوي”، حيث ارتدى هو وترامب، بدلات السهرة ورقصا على أنغام أغنية “YMCA”، وهي واحدة من أكثر الأغاني شهرة في تاريخ موسيقى البوب والديسكو في السبعينات.
وسعى ماسك للسيطرة على الشؤون الخارجية بشكل أكثر مباشرة من خلال علاقته الوثيقة مع ترامب، خاصة بطرق يمكن أن تعود بالفائدة على مصالحه التجارية العديدة، وهو ما وضحته آخر تغريداته ردًا على عزم بريطانيا إصدار تشريع “السلامة على الانترنت” في مارس المقبل، الذي يجبر شركات التواصل الاجتماعي مثل X منع الأطفال من الوصول إلى المحتوى الضار وغير المناسب للعمر ومنح البالغين مزيدًا من التحكم في ما يريدون رؤيته عبر الإنترنت، مع وجود غرامات بالقانون تصل إلى 10% من إيراداتها العالمية، وكتب ماسك: “الرئيس ترامب سيتولى السلطة في الوقت المناسب تمامًا. الحمد لله.”
ماسك يثير الجدل في أوروبا
فتح ماسك النار على السياسات الأوربية من خلال العشرات من المنشورات السريعة والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان، والتي ينشرها لمتابعيه البالغ عددهم 210 ملايين عبر منصته الاجتماعية “X تويتر سابقًا”، حينما أبدى تأييده لحزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، وطالب بالإفراج عن المتطرف البريطاني المناهض للإسلام “تومي روبنسون” الذي يقبع في السجن، ووصف رئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” بأنه طاغية شرير يجب أن يكون في السجن، وأثارت هذه التصريحات والمواقف قلق العديد من الساسة الأوروبيين، حيث تتناثر في صفحة ماسك على “X” عبارات مهينة — مثل وصف السياسيين بـ”الأغبياء الحمقى” و”الجبناء المتذمرين” — بالإضافة إلى إعادة نشر تغريدات من حسابات يمينية متطرفة ومناهضة للهجرة.
كما حوّل ماسك انتباهه لفترة وجيزة إلى كندا جارة الولايات المتحدة الشمالية وأشاد بمقابلة مع “بيير بواليفير”، وهو زعيم شعبوي متعصب يقود حزب المحافظين الكندي. وقال ماسك إنه سيبث مباشرة محادثة مع “أليس فايدل”، مرشحة المستشارية عن حزب البديل من أجل ألمانيا، قبل الانتخابات المبكرة في فبراير المقبل.
قلق أوروبي من تصريحات ماسك
تدخّل إيلون ماسك في السياسة الألمانية، التي تتجه نحو انتخابات في 23 فبراير بعد انهيار حكومة الائتلاف الثلاثي المتنازع عليه بقيادة المستشار الوسطي اليساري “أولاف شولتز”، في 20 ديسمبر الماضي، جعل ماسك يكتب على منصة “X”: “فقط حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) يمكنه إنقاذ ألمانيا”، في إشارة إلى الحزب الذي تخضع أنشطته لمراقبة وكالة الاستخبارات الألمانية بسبب اشتباه في تورطه في أنشطة متطرفة.
وأكّد ماسك دعمه لحزب AfD في مقال نشرته صحيفة “فيلت أم زونتاغ”، مدعيًا أن ألمانيا “تترنح على حافة الانهيار الاقتصادي والثقافي”. ومن المقرر أن يجري ماسك محادثة مباشرة على منصة “X” مع “أليس فيدل”، القائدة المشاركة لحزب AfD.
رد فعل شولتز يجسد المعضلة التي يواجهها السياسيون الأوروبيون — هل يتجاهلون تعليقات ماسك ويتركونها دون رد، أم ينخرطون في الردّ ويخاطرون بتضخيمها؟
قال شولتز إنه من المهم “التحلي بالهدوء” تجاه الهجمات الشخصية، لكنه وصف تدخل ماسك في السياسة الألمانية بأنه مثير للقلق. وفي رسالته بمناسبة العام الجديد، أشار شولتز بشكل لافت إلى أن مستقبل ألمانيا “لن يقرره مالكو منصات التواصل الاجتماعي”، بل الناخبون الألمان.
وحذّر الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من المخاطر التي تشكلها السلطة غير المقيدة في أيدي مليارديرات التكنولوجيا، والتأثيرات المزعزعة للاستقرار التي يمكن أن يحدثوها على المؤسسات الديمقراطية، مصرحًا “من كان يتخيل قبل 10 سنوات أن مالك إحدى أكبر شبكات التواصل الاجتماعي في العالم سيتدخل مباشرة في الانتخابات، بما في ذلك في ألمانيا؟”
ووصف وزير الصحة اليوناني “أدونيس جيورج” سلوك ماسك بأنه “مقلق وبعيد كل البعد عن المرح”. وقال في حديث إذاعي: “لا يمكن لشخص ما ببساطة أن يستخدم منصته وثروته وعلاقاته لمحاولة فرض كيفية تشكيل الحكومات في كل دولة. هذا يصبح أكثر خطورة يومًا بعد يوم.”
في السياق ذاته، ركز ماسك بشكل متزايد على السياسة البريطانية منذ انتخاب حزب العمال الوسطي اليساري في يوليو، واصفًا زعيمه كير ستارمر بأنه قائد “شرير” يرأس “دولة بوليسية استبدادية”، وقد اتجه اهتمام ماسك مؤخرًا نحو قضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال، وخاصة سلسلة من القضايا التي هزت مدن شمال إنجلترا قبل عدة سنوات، حيث تمت محاكمة مجموعات من الرجال، معظمهم من خلفيات باكستانية، بتهمة استدراج وإساءة معاملة عشرات الفتيات. وقد استخدم نشطاء اليمين المتطرف هذه القضايا لربط الاعتداء الجنسي على الأطفال بالهجرة والإسلام.
واتهم ماسك ستارمر بالفشل في محاسبة الجناة عندما كان مدعيًا عامًا لإنجلترا بين عامي 2008 و2013 — وهي تهمة ينفيها ستارمر بشدة. وغرد ماسك قائلًا: “يجب أن يذهب ستارمر ويواجه اتهامات بتواطئه في أسوأ جريمة جماعية في تاريخ بريطانيا.”
ويواجه رئيس الوزراء البريطاني حاليًا دعوات لتشديد قوانين بشأن التدخل الأجنبي، وتتعرض الحكومات في جميع أنحاء العالم لضغوط لمغادرة “X”، وتقول كل من حكومتي المملكة المتحدة وألمانيا إنهما لا تخططان للانسحاب من المنصة.
تشريعات الاتحاد الأوروبي في مواجهة “X”
الصدام بين إيلون ماسك وعدد من القادة في الاتحاد الأوروبي يُعدّ غير مسبوق. هذا المواجهة مع أغنى شخص في العالم تشكل تحديًا للتشريعات الأوروبية نفسها، لأن رجل الأعمال التكنولوجي محمي بمبدأ حرية التعبير، ولا شك أنه يحق له التعبير عن آرائه علنًا — وهو ما أكدته المفوضية الأوروبية يوم الاثنين الماضي.
ومع ذلك، فإن منصته الاجتماعية، “X”، تخضع لقوانين التنظيم الرقمي للاتحاد الأوروبي، مما يضيف تعقيدًا إلى الموقف أن ماسك ليس فقط رجل أعمال ومحرضًا لليمين المتطرف، بل هو أيضًا شخصية على أعتاب دخول حكومة أقوى دولة عظمى في العالم. هذا المزيج من الأدوار، إلى جانب دعمه العلني لحركات اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا، دفع قادة مثل أولاف شولتز من ألمانيا، وإيمانويل ماكرون من فرنسا، وكير ستارمر من المملكة المتحدة، إلى انتقاده بتهمة التدخل الأجنبي.
من الناحية النظرية، يبدو الفصل القانوني بين الأدوار المختلفة التي يلعبها ماسك ــ الداعم الرئيسي للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ــ واضحا. ومع ذلك، يصبح الموقف أكثر تعقيدا عند الفحص الدقيق، في حين أن قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي يتطلب من الشركات التي لديها أكثر من 45 مليون مستخدم الالتزام بـ “التزامات العناية الواجبة” الصارمة. وتشمل هذه الالتزامات ضمان الشفافية الخوارزمية، وتقييم المخاطر الاجتماعية والمدنية ــ مثل المخاطر الانتخابية ــ الناشئة عن القرارات الإدارية، وتنفيذ ممارسات تعديل المحتوى الموضوعية.
وهنا تبدأ الأمور في التعقيد. فماسك، بصفته المساهم الرئيسي في شبكة التواصل الاجتماعي “X”، ليس مجرد قائد مؤسسي، بل إنه أيضا “مستخدم مؤهل يتمتع بمستوى عال من الوصول”، ويفخر بـ 212 مليون متابع، وبالتالي فإن المنصة ملزمة بفرض قواعدها وأنظمتها على ماسك نفسه، الذي لجأ مؤخرا إلى نشر رسائل إجبارية على حسابه، تتضمن نشر أكاذيب يمكن دحضها بسهولة في كثير من الأحيان.
تخضع منصة “X” التابعة لإيلون ماسك للتحقيق من قبل السلطات الأوروبية التي تحاول الحد من خطاب الكراهية والمعلومات المضللة والمحتوى السام الآخر على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أطلقت الاتحاد الأوروبي إجراءات انتهاك ضد “X” بموجب قانون الخدمات الرقمية للاتحاد، وقال المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي توماس رينييه إنه سيتم النظر فيما إذا كانت المقابلة المباشرة التي أجراها ماسك يوم الخميس الماضي مع أليس فيدل، القائدة المشاركة لحزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، تمنح الحزب “معاملة تفضيلية” غير مناسبة خلال فترة ما قبل الانتخابات.
ماسك، الذي يطلق على نفسه لقب مدافع عن حرية التعبير، ينتقد الجهود الرامية إلى تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي، وقد شبه المحاولات البريطانية للقضاء على المعلومات المضللة عبر الإنترنت من خلال قانون سلامة الإنترنت بالرقابة في الاتحاد السوفيتي.