
بادئ ذي بدء؛ نعلمُ جميعًا أن اللغة هي من تميز الأمم والشعوب عن بعضها البعض، ولا تحتوي أي لغة منفردة على مجموع الحكمة الإنسانية، كما أنه ليست هناك لغة قادرة بمفردها على التعبير عن كل أشكال التفكير الإنساني.
إن هذا القول ينطوي على حقيقة مؤكدة عندما يتحدث عن إمكانات اللغة المُفردة؛ فلا شك أن لكل لغة من لغات البشر إنجازاتها، وأن كل لغة قد كونت لنفسها رصيدًا من الأفكار والتجارب والقصص التي تمثل حصيلة النشاط اللُغوي والتجارب الإنسانية على مر الزمان.
إن هذا لا ينفي فكرة “التشاركية” في مساحات التجارب الإنسانية التي يعيشها الناس من كل جنس ونوع، وفي كل زمان ومكان، وتمثل تلك المساحة “التشاركية” الأرضية الفكرية المشتركة بين الشعوب؛ والتي تكمن ميزتها في نقطة الانبهار لما يظهر بين الشعوب من تشارك في أفكار وأمور بعينها تمثل نقطة التقاء إيجابية.ولكن من المُحال أن تتوازى حياة شعبٍ ما وتجاربه المعيشية بكافة جوانبها وأحداثها وملامحها وقصصها مع حياة شعبٍ آخر، لذلك يختلف رصيد كل أمة من الأمم وكل شعبٍ من الشعُوب من حيث الكم والنوع والكيف عن رصيد أي شعب آخر.
ويفضي بنا التفكير في هذا الاتجاه إلى رؤية مماثلة تتعلق بتاريخ الأدب وارتباطه بمختلف الشعوب، فلا شك أن لكل أمة تراثها الأدبي الذي يميزها عن سائر الأمم الأخرى، ولكن لا يمكن لأمة واحدة أو شعبٍ واحد أن يتحمل نقل كل سمات آداب باقي تلك الأمم والشعوب الأخرى على مدى التاريخ، فهذا الأمر يحمل من الضخامة والثِقَل ما لا يمكن أن ينهض به أبناء شعب واحد، ولذلك تبقى الشعوب وخاصةَ في مجال الأدب والثقافة في احتياجٍ دائم لبعضها البعض، كما أن التواصل الأدبي بينها يعمل على تجديد المُناخ الفكري وإفساح المجال في نطاق الوعي الفردي والجماعي على حدٍ سواء، كما يُضاعف ذلك حظ الشعوب والأمم من الحِكمة والتبصُر.
أصول وتاريخ الأدب الكُردي:
بدايةً نقول أن الأدب هو مَلكة أو براعة راسخة في النفس، كما أنّه سجّل لتراث الأمة من علومها ومعارفها عبر عصورها، وقد استُعْملت لفظة «الأدب» على مجموعة من الآثار المكتوبة التي يتجلّى فيها العقل الإنساني بالإنشاء والفنّ الكتابي، ويمكن القول بأنّ الأدب هو مجموع الكلام الجيّد المروي نثرًا وشعرًا.
ويُعد الأدب بصفةٍ عامة جزءًا مهمًا من التراث الثقافي لأي شعب من الشعوب، وتكمن أهمية الأدب ويستمد قيمته من التاريخ العميق للشعوب وذخائرها من الأساطير، والتراث، والحروب والحَكَايا، والقضايا، ونلاحظ في مجال الأدب المتعلق بالشعوب الشرق أوسطية خاصةً؛ أن أعمال الماضي تتحرك دائمًا إلى مكان الصدارة؛ حيث أن ما مضى من تاريخ تلك الشعوب يمثل خزانات الكنوز التي تمتلك قوة الحديث بلا انقطاع عن سيرة ومسيرة تلك الشعوب، كما أن التواصل بين الأزمنة الماضية والحاضرة يصنع لكل أمة مكانتها، ويرسم على مدى التاريخ كينونتها التاريخية والسياسية، كما يؤكد لكل أمة بُعدها الاجتماعي والزمني ونسقها العقائدي.
من هذا المنطلق نُلقي الضوء على أصول وتاريخ الأدب الكُردي، ذلك الأدب الغني الذي يمتلك تاريخًا طويلًا ومعقدًا يمتد لآلاف السنين، ويعكس وقائع وتجارب وأحلام هذا الشعب؛ الذي يتوزع عبر مناطق مُختلفة من الشرق الأوسط، خاصة في تركيا، العراق، إيران، وسوريا.
ويعود الأدبُ الكُرديُ إلى العصورِ القديمة، حيث كانت اللغة الكُردية تُستخدم في القصص والأشعار والروايات والملاحم، وغالبًا ما كان الأدب الكُردي يُكتب باستخدام الحروف العربية أو الأرمنية أو اللاتينية، حسب المنطقة التي دُوِّن فيها، وهو جزء حيوي من ثقافة الشعب الكُردي، وقد مر بتطورات كبيرة عبر العصور، واستطاع الأدب الكُردي أن يعبر عن معاناة وتطلعات الشعب الكُردي في مختلف مراحل تاريخه، وساهم في الحفاظ على الهُوية الكُردية في مواجهة العديد من التحديات السياسية والثقافية.
ويمكن تقسيم تاريخ الأدب الكُردي إلى عدة مراحل وتيارات أدبية، مع ملاحظة تأثيرات الثقافات المختلفة عليه، بسبب التوزيع الجغرافي للشعب الكُردي، واحتكاكه بالعديد من الحضارات المختلفة.
الأدب الكُردي القديم:
لقد اتسم الأدب الكُردي القديم بالتراث الشفوي الذي يعود إلى العصور القديمة، حيث ظهرت
في تلك الحقبة القصص والحكايات التي تناقلتها الأجيال في شكل روايات وقصص نثرية وشعرية، وأمثال شفوية، وحكايات بطولية، ولم يكن هناك تسجيل مكتوب في حينها لهذا الأدب، ولكن كان يتم تبادله شفاهيًا بين الأجيال.
واتسمت موضوعات هذا الأدب بأنها كانت تتعلق بالملاحم البطولية، والقصص الشعبية، والعادات، والتقاليد الكُردية الأصيلة، وكذلك الأساطير التي كان يتم سردها حول الآلهة والمخلوقات الخرافية، ومن أشهر الأعمال الشفوية التي تخلدت في ذاكرة الشعب الكُردي هي “ملحمة مم وزين” التي تُعتبر من أقدم الأعمال الأدبية الكُردية المكتوبة[1].
الأدب الكُردي في العصور الإسلامية:
بدأ الأدب الكُردي يشهد تحولًا مهمًا في العصور الإسلامية، وخاصة بعد دخول الإسلام إلى منطقة كُردستان في القرن السابع الميلادي؛ حيث دخلت عليه تأثيرات اللغة العربية والفارسية وفي هذه الفترة، ظهر العديد من الشعراء والكُتاب الكُرد الذين كتبوا باللغة الكُردية، ولكنهم تأثروا بالثقافة الفارسية والعربية، وكان لذلك تأثيرًا إيجابيًا في انتشار الأدب الكُردي بالعديد من اللغات في منطقة الشرق الأوسط وغيرها.
الأدب الكُردي في العصر الحديث
مع تطور المجتمع الكُردي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتغيُّر الأوضاع السياسية في منطقة كُردستان، شهد الأدب الكُردي تطورًا مهمًا، خاصة مع بداية الاهتمام بالهُوية الثقافية الكُردية، وأصبح الأدب الكُردي أكثر ارتباطًا بالقضايا القومية والهُوية، فالشعراء والكُتاب الكُرد بدأوا يعبرون عن معاناتهم من جراء القمع السياسي والاجتماعي، ويكتبون عن
النضال الكُردي من أجل الاستقلال والحفاظ على الهُوية.
كما بدأ الأدب الكُردي يأخذ منحى أكثر إيديولوجيًا، بعد الصراعات الكبرى والتقسيمات السياسية؛ حيث صار بمثابة أداة للنضال الوطني، ووسيلة لتوثيق معاناة الشعب الكُردي تحت وطأة حكم الأنظمة السياسية المختلفة، ومع تأسيس المدارس الكُردية والصحف والمجلات التي ساهمت في نشر الأدب الكُردي، بدأ الأدب الكُردي في هذه المرحلة ينتقل من الأدب الشفوي إلى الأدب المكتوب.
الأدب الكُردي المعاصر
اليوم، يشهد الأدب الكُردي تطورًا في ظل العولمة وانتشار التكنولوجيا الحديثة، ونلمس أن العديد من الُكتاب الكُرد المعاصرين يكتبون في مجالات الأدب المختلفة كالرواية، والقصة القصيرة، والشعر، وتاريخ الأدب والفلسفة، كما نرى الأدب الكُردي المعاصر يعكس التنوع الثقافي والسياسي للشعب الكُردي في ظل الحروب والنزاعات المستمرة في بعض مناطق كُردستان، بالإضافة إلى تعزيز الهُوية الكُردية في المهجر.
تحديات الأدب الكُردي
الأدب الكُردي يواجه تحديات كبيرة، بما في ذلك القمع السياسي، حيث أن العديد من البلدان التي يقطنها الكُرد (تركيا، سوريا، إيران، والعراق) مارست في مراحل مختلفة سياسة التهميش والرقابة على الأدب الكُردي، وعلى الرغم من هذه التحديات، تمكن الأدباء الكُرد من الحفاظ على إرثهم الأدبي من خلال الكتابة، والنضال الثقافي، والدفاع عن حقوقهم.
تأثير الأدب الكُردي
من منطلق ما تم تناوله آنفًا عن الأدب الكُردي؛ يمكننا أن نستشف رؤية إيجابية لوظيفته بأنه كان دائمًا في طليعة أدوات التعبير عن التطلعات السياسية والاجتماعية لشعبه، ويعكس بدوره معاناته تحت الاحتلالات المختلفة، مثل الاحتلال العثماني، والبريطاني، والفارسي.
وعند الحديث عن الأدب الكُردي في العصر الحديث، يتعين النظر في دُور الكُتاب والمثقفين الكُرد في نشر الوعي بقضايا حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وحماية الثقافة الكُردية.
أشكال الأدب الكُردي:
رغم أن الشعر يعتبر هو الشكل الأدبي الأكثر شهرة في الأدب الكُردي، يليه القصة[2] بأنواعها مثل القصة القصيرة، الأقصوصة، الرواية، الملحمة، المسرحية، ولكل من تلك الأشكال الأدبية خصائصها ومميزاتها؛ إلا أن القصة تُعد من الأشكال الأكثر شهرة وانتشارًا في المجتمع الكُردي، فقد لا تستسيغ كل طبقات المجتمع أو يستسيغ كل الأفراد المذاق الشعري، بينما يهتم الجميع بالقصة وحبكتها وأحداثها وشخوصها؛ سواء طالت القصة وأصبحت في شكل الرواية، أم قصرت وتم تناقلها في شكل الأقصوصة، أو ما يسمى في عصرنا الحالي بالقصة القصيرة جدًا (ق. ق. ج)، ولذلك سوف نتناول في البداية القصة الكُردية كأحد أشكال الأدب الكُردي الأكثر انتشارًا منذ البداية وحتى الآن[3].
لمحة عن القصة الكُردية وأهميتها في الأدب الكُردي:
القصة الكُردية هي جزء من التراث الأدبي والثقافي الكُردي الذي يمتد عبر العصور، ويعكس تاريخ وشخصيات الشعب الكُردي العريق؛ ذو الثقافة الغنية المتنوعة، وتطلعاته وآماله، ورغم أن الشعب الكُردي عاش في مناطق مختلفة؛ إلا أن الأدب الكُردي قد تمكن من البقاء حيًا من خلال القصص الشفوية في بداية تاريخه، ثم تطور ليشمل الأدب المكتوب في القرن العشرين.
كما تشمل القصة الكُردية في إطار الأدب؛ الأسطورة، والحكاية الشعبية، القصة التاريخية، والقصة الشعرية التي تعبر عن الهُوية الكُردية، ومعاناة الكُرد، وآمالهم في الحرية، وللأدب الكُردي تاريخ طويل ومعقد، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضايا السياسية والاجتماعية التي مر بها الشعب الكُردي عبر العصور.
وتعتبر القصص الكُردية في العصور القديمة جزءًا من تراث طويل وعميق يعكس تفاعل الكُرد مع مختلف الثقافات والحضارات في الشرق الأوسط، هذه القصص والملاحم تقدم لمحة عن تاريخ الشعب الكُردي، عن بطولاته، وحبه للأرض والعائلة، وعن تحدياته في مواجهة الغزاة والمستعمرين. ورغم أن العديد من هذه القصص قد فُقدت مع مرور الزمن، فإن ما تبقى منها يظل شاهدًا على عراقة هذا الشعب وحضارته.
ولقد اتسمت القصة الكُردية في العصور القديمة بالغنى والتنوع، كونها متأصلة في تاريخ طويل ومُعقد يمتد لآلاف السنين؛ فتعايش الكُرد في مناطق متعددة من الشرق الأوسط، وخاصة في المناطق التي تُعرف الآن باسم تركيا، العراق، إيران، وسوريا، وامتداد تاريخهم إلى العصور القديمة كما ذكرنا آنفًا، أدى إلى أن تتشكل القصص الكُردية من الأساطير، والتقاليد الشفوية، والحكايات الشعبية التي تم تناقلها من جيلٍ إلى جيل.
و تكشف هذه القصص عن جوانب متعددة من الحياة الكُردية، مثل النضال من أجل الحرية، العلاقات الاجتماعية والعاطفية، العادات والتقاليد، والصراعات السياسية.
وكذلك تُعد القصص الكُردية الشعبية من أبرز القصص والحكايات التي تحكيها الشعوب الكُردية وتناقلتها الأجيال؛ والمعروفة أيضًا باسم “الفولكلور الكُردي”، وتتنوع هذه القصص في المضمون والنوع، وتتحدث عن موضوعات مختلفة مثل؛ الحب، الشجاعة، المغامرة والحكمة، وتُعتبر القصص الشعبية جزءًا مهمًا من التراث الثقافي للشعب الكُردي، وتنقل القيم والتقاليد والمعتقدات القديمة من جيل إلى آخر[4]
القصة الكُردية بين الشفاهية والتدوين
في بداية تاريخ الأدب الكُردي، كانت القصص الشفوية هي الشكل الأدبي السائد، حيث كانت الحكايات الشعبية والكلمات المنطوقة هي الوسيلة الأساسية لنقل التقاليد، والمعتقدات، والأساطير، والقصص البطولية التي شكلت جزءًا من الهُوية الكُردية، وكانت هذه القصص تتناول موضوعات متعددة تمثل الواقع الكُردي مثل؛ العلاقات الإنسانية والمشاكل الاجتماعية، الحكمة الشعبية؛ كـالأمثال والحِكم الكُردية، القتال من أجل الكرامة والحرية، الانتفاضات والثورات، البطولة والمقاومة ضد الغزاة، الحب العُذري… إلخ.[5]
ومع بداية القرن العشرين، بدأت القصة الكُردية في الانتقال إلى الأدب المكتوب، وهو تحول مهم في تطوير الأدب الكُردي، وكانت القصص الكُردية المكتوبة في البداية محدودة، لأن اللغة الكُردية لم تكن معتمدة في المؤسسات التعليمية بشكل كبير، ولذا كان الأدباء الكُرد يكتبون بالأدوات المتاحة، مثل اللغة الفارسية أو التركية أو العربية.
العناصر الرئيسية في القصة الكُردية:
إن الموضوع الرئيسي الذي يعطي للقصة الكُردية خصوصيتها النوعية يتمثل في أن القصة تعتبر بمثابة الخطاب المُجتمعي لدى الشعب الكُردي، فالعناصر الأسلوبية المستخدمة لتشخيص حوار وحديث الشخصيات في المسار القصصي تعبر عن الامتدادات الاجتماعية والتاريخية لدلالات الحياة الكُردية، والمُتبصر بالقضايا الكُردية عبر العصور يمكنه أن يستشف بوضوح أن الشكل والمضمون داخل القصة هما لشئ متصل داخل الخطاب القصصي؛ الذي يُعد في مجمله انعكاسًا للواقع بكل مفرداته الحياتية.
الهُوية في القصة الكُردية:
القصص الكُردية تتمحور حول موضوع الهُوية الكُردية، والبحث عن الاستقلال والاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية للكُرد، كما تعكس الكثير من القصص الألم والحزن الناتج عن القمع والتهجير القسري الذي تعرض له الكُرد في العديد من البلدان.
وتعتبر قضية الهُوية من أهم القضايا التي تتناولها القصة الكُردية في ظل التحديات التي يواجهها الشعب الكُردي بسبب التفرقة السياسية والثقافية، وكثيرًا ما تكون القصص الكُردية محورًا لاستكشاف مسألة الهُوية، سواء كان ذلك من خلال اللغة أو العادات أو القيم الثقافية. والهُوية الكُردية في القصص قد تكون في حالة صراع أو تهديد بسبب السياسات القمعية، مثل محاولة إلغاء اللغة الكُردية[6] أو فرض ثقافات أخرى على الكُرد في الدول التي يعيشون فيها.
البطولة والشجاعة
كما يلمس القارئ بوضوح أن البطولة والشجاعة هي عنصر رئيسي في الأدب الكُردي؛ حيث يظهر في القصص الأبطال الذين يواجهون التحديات والصعاب، سواء كانت ضد السلطة الحاكمة أو ضد قُوى معادية أخرى، هؤلاء الأبطال غالبًا ما يرتبطون بمجموعة القيم السائدة بالمجتمع الكُردي كالشرف، والكرامة، والعدالة.
رموز الطبيعة
ونطالع بالقصة الكُردية رموز الطبيعة بكل أشكالها؛ فالجبال هي رمز مهم في الثقافة الكُردية، حيث تعكس الجبال برمزيتها القوية قوة ارتباط الشعب الكردي بالأرض، وكيفية الاحتماء بها، وتُستحضر فيها المعارك، والرحلات، والتحايل في مواجهة الأعداء.
الحب والعلاقات الإنسانية
كما لا تخلو القصة الكُردية من موضوعات الحُب والعلاقات الإنسانية؛ فنجد أن بعض القصص تركز على المرأة وجماليات الوجود الأنثوي في الحياة، والتواصل الإنساني بين الجنسين مما يتولد عنه أحداث رومانسية أو تراجيدية، قد تتمثل في ما يواجهه العُشاق من تحديات كبيرة؛ كالفوارق الاجتماعية أو الأيديولوجية، أو النزاعات القبلية بين العائلات.
الشتات والمنفى وحلم العودة
تعتبر قضية الشتات أحد الموضوعات الرئيسة في القصة والأدب الكُردي المعاصر منذ القرن العشرين وحتى اليوم، وقد تعرض الشعب الكُردي للتهجير القسري نتيجة الحروب، القمع السياسي، والمجازر؛ ولذلك تتناول العديد من القصص الكُردية موضوعات اللجوء، الهجرة، والانفصال عن الوطن الأم، وفي القصص الكُرديةُ، يُنظر إلى المنفى كرمز لفقدان الاتصال بالجذور والمكان، وفي بعض القصص، تتساءل الشخصيات عن مكانتها في البلدان التي عاشوا فيها، وكيف يمكنهم الحفاظ على هُويتهم في بيئات غريبة، كما نجد أن القضايا المتعلقة بمحاولة العودة إلى الوطن بعد سنوات الشتات، أوالصراع بين الانتماء للأرض الأم والانتماء إلى المكان الذي يعيشون فيه الآن، هي أيضًا موضوعات متكررة في الأدب والقصة الكُردية.
النضال والمقاومة والثورات الكُردية:
النضال من أجل الحرية والكرامة كان وما زال موضوعًا رئيسيًا في الأدب الكُردي؛ فالشعب
الكُردي لطالما خاض حروبًا ونضالات ضد الأنظمة القمعية التي كانت تسعى لتقليص حقوقهم أو استيعابهم، والقصص الكُردية، سواء كانت تاريخية أو معاصرة، غالبًا ما تمجد الروح المُقاومة والقتالية للكُرد.
كما تروي القصص الكُردية حكايات من النضال والمقاومة، سواء كانت ضد الاستعمار أو الأنظمة الدكتاتورية؛ هذه القصص تُظهر روح الشعب الكُردي في مواجهة قوى أكبر وأقوى، ونلمس في القصص الكٌردية إحياء ذكريات الأبطال والمجاهدين الكُرديين الذين قدموا حياتهم في سبيل القضية الكُردية، حيث يتم تمجيدهم في الأدب والقصص الكُردي.
كما يتضح من خلالها قضايا الاضطهاد السياسي؛ حيث يتعرض الكُرد لسياسات تهميش وإقصاء واضح في البلدان التي يعيشون فيها، هذه السياسات تتضمن القمع الثقافي، مثل منع استخدام اللغة الكُردية في الإعلام والتعليم، إضافة إلى القمع السياسي الذي يستهدف النشطاء والمفكرين الكُرد، كما تروي تجارب الأفراد الذين تعرضوا للسجن أو التعذيب بسبب نشاطهم السياسي أو الثقافي، كما تروي أوجاع العائلات التي فقدت أبنائها بسبب السياسات القمعية.
المرأة الكُردية والقصة
المرأة الكُردية تُعد واحدة من الشخصيات المحورية في القصة الكُردية المعاصرة، في الأدب القصصي الكُردي؛ حيث تُناقش في القصة قضايا المرأة الكُردية التي تعيش في ظل التقاليد الاجتماعية الصارمة، وفي أوقات الحرب والتهجير، مما يمنحها بُعدًا مركبًا من المعاناة والقوة ونلاحظ من خلال الدراسات حول القصة الكُردية أن العديد منها تسلط الضوء على دور المرأة في الحركات التحررية في منطقة الشرق الأوسط ، سواء من خلال الانخراط في المقاومة المُسلحة أو من خلال كفاحها للحفاظ على الأسرة والهُوية في أوقات الحروب.
كما تُظهر القصة الكُردية التحديات الاجتماعية التي طالما واجهتها؛ بالرغم من أن المرأة الكُردية كانت دائمًا رمزًا للصمود، إلا أن الأدب الكُردي من خلال القصة لا يُخفي التحديات التي تواجهها المرأة في مجتمع تقليدي تحت الاحتلال، مثل قضايا الزواج المبكر، حرمان المرأة من التعليم، الفوارق الوظيفية بين الجنسين، والعُنف المنزلي.. إلخ.
الطبقات الاجتماعية الكُردية
في بعض القصص الكُردية، نرى الصورة الحقيقية لمعاناة الكُرد من الطبقات الاجتماعية
الأدنى، وخاصة في المناطق الريفية التي تفتقر إلى التنمية الاقتصادية، فهذه القصص تتناول الصراع من أجل البقاء، ومحاولة تحقيق الرفاهية في مجتمع يعاني من التهميش والفقر، وتنطق القصص الكُردية مُصورة تلك المعاناة، وكيف أن القرى الكُردية لا تحظى بالعناية اللازمة من قبل الأنظمة الحاكمة.
كما تبرز بعض القصص مدى التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الكُردي وكيف ينعكس هذا التفاوت على الحياة اليومية للأفراد.
التحولات الثقافية والفكرية
من القضايا المهمة أيضًا في الأدب الكُردي الحديث من خلال القصة؛ هو إظهار الصراع بين التقاليد والحداثة، مع دخول التأثيرات الغربية والعولمة، نجد أن هناك صراعًا داخليًا في المجتمع الكُردي بين الحفاظ على التقاليد الثقافية والدينية وبين التطلع إلى التحديث والتطور. فالكثير من القصص الكُردية تتناول هذه التوترات بين الأجيال القديمة التي تتمسك بالقيم التقليدية، والشباب الذي يسعى للتغيير والتحديث، فعلى الرغم من محاولات استيعاب الحداثة من قِبل الأنظمة المختلفة، فإن القصص الكُردية تتحدث عن حرص الكُرد على الحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم، والتي تتمثل خاصةً في مظاهر الاحتفالات، الموسيقى، الرقص، الأزياء، المأكولات الشعبية…. إلخ.
القيم في القصة الكُردية
مما سبق تناوله من خلال القصص الكُردية، يمكن استخلاص العديد من القيم والمبادئ التي تبرز في الأدب الكُردي بصورة جلية، ومنها:
الحرية والاستقلال: وهو موضوع محوري لا تكاد تخلو منه الكثير من القصص الكُردية التي تسلط الضوء على صراع الكُرد من أجل حريتهم وحقوقهم، سواء كانت في شكل معارك ضد الاحتلال أو مقاومة للظلم.
الكرامة والشرف: الكرامة الشخصية والعائلية تُعد من القيم الأساسية في المجتمع الكُردي، وغالبًا ما تكون هذه القيم محورية في قصصهم.
التضحية من أجل الوطن: كثير من القصص تتحدث عن الأبطال الذين يضحون بحياتهم من
أجل مصلحة المجتمع الكُردي وقضيته الكُبرى.
إذن؛ فالقصة الكُردية تمثل أداة قوية للتعبير عن الهموم الثقافية، الاجتماعية، والسياسية للشعب الكُردي، ومن خلال القصص، يعبر الكُرد عن إرادتهم في الحرية، وتطلعاتهم للمساواة، وحفاظهم على ثقافتهم وهويتهم في مواجهة التحديات التاريخية التي واجهوها.
الموضوعات الرئيسية في القصة الكُردية:
تتناول القصص الكُردية العديد من القضايا الإنسانية والاجتماعية، لكنها تميزت دائمًا بحضور القضايا الوطنية الكُردية. وهذه بعض الموضوعات الرئيسية التي تغطيها القصة الكُردية:
الحرية والنضال الوطني: تطور الأدب الكُردي في سياق نضال الشعب الكُردي من أجل الحرية والكرامة؛ فالكثير من القصص الكُردية تروي التضحيات التي قدمها الكُرد في سبيل قضاياهم القومية والسياسية.
الهُوية الثقافية: ساهمت القصص الكُردية في الحفاظ على الهُوية الثقافية واللغوية للشعب الكُردي في ظل الضغوط التي كانت تهدد باندثار هذه الهوية؛ فاللغة الكُردية في حد ذاتها كانت عنصرًا أساسيًا في التعبير عن هذه الهُوية.
المنفى والشتات: بسبب ظروف الحرب والنزاع السياسي، أصبح العديد من الكُرد لاجئين أو مهاجرين، وتتناول الكثير من القصص الكُردية موضوع الشتات والشعور بالغربة، والحفاظ على التراث في المهجر.
المرأة الكًردية: المرأة الكردية كان لها دورًا بارزًا في الأدب الكُردي؛ حيث تم تمثيلها كشخصية مقاومة وناضجة في المجتمع الكُردي، ولقد قدم العديد من الكتاب الكُرد في قصصهم صورة المرأة الكُردية القوية التي تصمد أمام الظلم والعنف.
الصراع الاجتماعي والسياسي: بسبب الاحتكاك مع القوى السياسية الحاكمة مثل العثمانيين، الفرس، الأتراك، والعرب، تم تناول الصراعات السياسية والاجتماعية في الكثير من القصص الكُردية. كما تناولت القصص الانقسامات داخل المجتمع الكُردي نفسه بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
تطور القصة الكُردية في العصر الحديث[7]:
في العقود الأخيرة، شهدت القصة الكُردية تطورًا كبيرًا، خاصة مع زيادة الاهتمام بالأدب الكُردي في الدول الغربية، وأثر الشتات الكُردي في نشر الأدب في المجتمعات المهاجرة؛ في هذه الفترة، بدأت القصص الكُردية تأخذ طابعًا أكثر عالمية، بينما بقيت متمسكة بالجذور المحلية، فنجد أدباء مثل؛ شريف باشا خندان[8]، جميل روفاتي[9]، والعديد من الأدباء الكُرد قد ساهموا في إحياء الأدب الكُردي القصصي وجعلوه جزءًا من الأدب العالمي.
كما ظهر الأدب الكُردي الذي عبَّر عن القضايا السياسية المعاصرة، مثل الحرب في كُردستان العراق، والانتفاضات الكُردية في تركيا وسوريا، مما أعطى القصة الكُردية بُعدًا مُعاصرًا يواكب التطورات السياسية في المنطقة.
التحولات الاجتماعية والسياسية في فكر القائد عبد الله أوجلان وتأثيرها على القصة الكُردية
تُنبئ الشواهد من حولنا أن البشرية تنتقل من طور الكتابة المجردة إلى طور أو مرحلة الكتابة التصويرية، وليس معنى تلك العبارة زوال أهمية الكتابة إنما زوال استقلالها، فلم تصبح أداة توثيق وحفظ وتوصيل، بل يجب عليها أن تتسع لكي تشمل ما يجري من تغييرات في ساحة المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي …إلخ
إن ما يحدث الآن أبعد بكثير من مجرد تسجيل وتوثيق الأحداث؛ بل يتصل اتصالًا جوهريًا بتعديل طرائق التعرف على العالم المحيط بنا، فما كان يدون بالأمس من نتاج محدود ينحصر بين أيدي الآحاد أو العشرات من البشر؛ أصبح اليوم في متناول الجميع ليس بالكلمة فقط ؛ بل بالصورة ووسائل التواصل ومتابعة الحدث بالعين المجردة.
يتبقى لنا بعد ما أبحرنا فيه آنفًا أن نتطرق لرؤية أحد المفكرين البارزين في كُردستان ألا وهو القائد والمفكر “عبد الله أوجلان” الذي يرى أن القصة الكُردية الحديثة قد تأثرت بشكل كبير بالصراعات السياسية والتاريخية التي مر بها الشعب الكُردي في العصر الحديث، ويذكر أن هذه التأثيرات بدأت في أوائل القرن العشرين مع قيام الدول الحديثة التي قسمت الأراضي الكُردية بين عدة دول، مما أدى إلى سياسات قمعية ضد الكُرد في العديد من هذه الدول، وعُرِفَ هذا العصر بعصر “التمزق الكُردي” أو “الشتات الكُردي”.
فما بين التهميش الذي عاناه الكُرد في تركيا التي سعت إلى دمجهم في الثقافة التركية من خلال فرض سياسات القمع والتعريب، وما بين منع استخدام اللغة الكُردية، أدى هذا إلى ظهور الأدب الكُردي الممنوع؛ الذي كان يتخذ من القصة والشعر وسيلة للتعبير عن الهُوية الكُردية، كما حدث في العراق؛ حيث كانت منطقة كُردستان مسرحًا للثورات والمقاومة الكُردية مما ألهم الأدباء الكُرد لكتابة قصص تُعبّر عن معاناة الشعب الكُردي، وكذا في إيران وسوريا، ولكن الكُرد استطاعوا الحفاظ على هويتهم الثقافية من خلال تمسكهم بالأدب والفن.
وفي نظرة لواقع “القصة” في شمال وشرق سوريا نلاحظ غلبة الرُؤى الواقعية والمضمون الاجتماعي والوطني على معظم النتاجات الأدبية الكُردية في العصر الحديث، تماشيًا مع التحولات والتغييرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على المنطقة؛ إلا أن معظم الكتابات القصصية تعاني ضعفًا في استخدام التقنيات الفنية والجمالية ومنها الرؤى والخيال والأسلوب الرمزي، إضافة إلى تداخل غير موضوعي في الأجناس الأدبية.
ونطرح هنا تساؤل المفكر أوجلان بصدد القصة والرواية؛ قبل كل شيء يجب أن نسأل أنفسنا ماهي الرواية؟ وهل توجد رواية كُردية؟ والأوضاع التي يعيشها الشعب الكُردي هل تصلح أن تكون مادة أدبية لرواية ما؟
ومن هذا المنطلق يُجيب “أوجلان” بأن كل ما كُتب قديمًا من قصص وروايات كُردية يجب أن تُعاد صياغتها في الوقت الراهن برؤية جديدة وعصرية إذا أردنا أن نجعل منها قصة أو رواية عصرية ومفهومة من قبل الجميع, ويقول:
(عندما نكتب عن الثورة مثلاً يجب أن لا ننسى أولئك الذين آزروا الثورة, ولا أولئك الذين ناصبوها العداء).
وأرى أن هذا القول قولًا بليغًا لا يشوبه خطأ من وجهة نظري، فمن الأفضل أن نبدل قول “الأدب والثورة” بـ “الأدب وحقيقة الثورة”، وهو يرى أن الأدب له مهمة دقيقة وحساسة في حياة الشعوب وثوراتها؛ فالأدب يُعطي الثورة معناها, وبُعدها الجمالي.
كما يؤكد أن الأدب هو “خطاب الثورة”، فالثورة بدون أدب تُعاني الكثير من السلبيات, وأن الأدب الذي لا يصل بمستواه إلى مستوى الثورة أدب هامشي وناقص – على حد قوله –
ويرى “أوجلان” أن القصة الكُردية لا يمكنها الإنغلاق على حدثٍ بعينه، فإن أردنا أن نكتب عن الثورة الكُردستانية؛ فيجب أن يملك المؤلف الحرية الكاملة في دمج ومزج شخصيات هذه القصة أو الرواية كيفما شاء, وإظهار كل الجوانب السلبية التي تستعرضها من واقعٍ ما، ومن هنا نلمس شموليته الفكرية للحدث والتاريخ والحالة النفسية للإنسان, وكذلك رغبته كمفكر في الفهم العميق للبنية الفكرية لشخوص القصة، وفهم كافة أبعادها سواء التاريخية أو الشخصية أو السياسية وما هو الشكل الذي يجب أن يُرى فيه الواقع الكُردستاني؟
ومن منطلق المعاناة الحقيقية للمفكر المعتقل عبد الله أوجلان يقول: (بتصوري لو كان هناك روائي كُردي حقيقي وقام بكتابة رواية كُردية حقيقية، فإنه حتمًا سيحصل على جائزة “نوبل”، وبدون أي شك فهذه الجائزة تنتظر ظهور الرواية الكُردية)
وهو في ذلك يرى أن أي كاتب أو أديب كُردي لو استعرض وبصدق مأساة الواقع الكُردي وبشكل عميق وجذري لنال تلك الجائزة بكل سهولة، فكُردستان في نظره أرض بكر بحاجة لكثيرٍ من الجهد والعطاء، ويشبه حالة المثقف، والفنان الكردي بأنه يجب أن يتخلص من الجوع الفكري والعقلي, وأن يتشبع بتاريخ تلك الأرض البكر؛ لكي يقوم بعمله وممارسة دوره التاريخي، كما أنه يرى أن ما يقع فيه أدباء وكُتاب القصة من سلبيات هو نتاج الابتعاد عن حقيقة الثورة, ولتحقيق ذلك يناشد الأدباء البحث العميق، والحوار العلمي الجاد، والخيال الخلاق المُبدع… ليكونوا أصحاب جسارة وعشق كبيرين لبلادهم, فهو يرى أن العدو قد عمد إلى ترك كُردستان خاوية من كل شئ؛ ليس الاقتصاد ولا السياسة والتاريخ فحسب؛ بل رغب أيضًا أن يتركها بلا أدب، انطلاقًا من هذا فإن سرقة واستعمار الأدب القصصي بالذات قد وصل إلى مستويات عالية جداً في وقتنا الراهن.
الأدب وكُردستان في مرحلة الثورة
يستلزم التحليل العميق لما ساقه أوجلان عن الأدب في مرحلة الثورة إعمال الموهبة وإعمال العقل معًا، فما يرغب أوجلان في طرحه يؤكد بما لا مِراء فيه؛ على وجوب شمولية فكر الأديب القاص الذي يحمل الموهبة الفطرية مع الطاقة الانفعالية القوية المستمدة من واقع المعاناة الكُردية، يضاف إلى ذلك الألسنة الطيعة، والأخيلة النشطة، حيث يتعامل أصحاب المواهب الأدبية وخاصة في مجال الرواية والقصة الأدبية مع مفردات الأحداث بحرارة الواقع ويتمثل في ذلك ب “تولستوي” الذي كتب عن “الحرب والسلام” فكأن تولستوي عاش بنفسه الأماكن التي تخوض الحرب، وكان يتجول كي يعرف في أية وديان وقمم جرت المعارك. وينعزل في المكتبات ويدرس كل ما يتعلق بذلك ويتحدث مع العديد من شخصيات المرحلة. وهذا من وجهة نظره –التي أؤيدها – هو ما جعل من هذه القصة عملاً كلاسيكيًا رائعًا، مع أن الحروب كثيرة في تاريخ روسيا، ويؤكد أن الحرب الموجودة في كُردستان حتى يومنا الراهن هي أولى الحروب وآخرها بهذه الشمولية؛ فهي حرب البقاء والفناء، وهي الحرب التي ستحدد مصير كل شيء.
ويعطي أوجلان الأمثلة تلو الأمثلة عن شخصيات تُعتبر مثلاً يُحتذى في كتابة القصة الكُردية كحادثة “زينب كناجي” وأمثالها، و”فرهاد قورتاي” و”كمال بير” و”خيري دورموش” في عمليتهم للإضراب عن الطعام حتى الموت؛ فجميعهم مواضيع لقصص كُردية عظيمة وثرية. كما أنه يرى أن هناك حقائق عديدة لشخصيات جابهت الموت لدرجة أنها صارت مادة خصبة وغنية لأي كاتب وقاص ليؤلف القصص عنها، لدرجة أنه قد لا يمكنه الانتهاء منها.
وختامًا يمكننا طرح هذا التساؤل الإيجابي – ما هي أهمية كتابة تاريخ القصة الكُردية؟
وفي إجابتنا عن هذا التساؤل نبغي إنهاء القطيعة يين القصة والواقع الكُردي القائم بالفعل؛ فإن العلائق الدقيقة بين القصة والواقع علاقة معقدة ولا يمكن فصلها لشدة ترابطها وتشابكها فكتابة تاريخ القصة الكُردية ليست مجرد مهمة أكاديمية أو أدبية، بل هي جزء من المشروع الثقافي والـنضال السياسي لشعب له تاريخ طويل ومعقد؛ فالقصة الكُردية تمثل صوتًا حقيقيًا للشعب الكُردي، وتعكس صراعاته، آماله، وهويته الثقافية في ظل الظروف السياسية والاجتماعية المتغيرة التي مر بها؛ حيث يتمثل دور القصة الكُردية في عدة نقاط شكلت أهميتها ألا وهي:
حفظ التراث الثقافي: فالقصة الكُردية كانت وسيلة مهمة لنقل التراث الثقافي واللغوي الكًردي عبر الأجيال، خاصة في ظل الظروف القاسية التي مر بها الشعب الكُردي، مثل الحروب والشتات.
التمثيل السياسي والاجتماعي: القصة الكُردية كانت بمثابة أداة تعبير عن الظلم الاجتماعي والسياسي الذي تعرض له الكُرد، كما ساعدت في نشر الوعي حول قضايا الحقوق والحرية.
الهُوية الأدبية: مع تطور القصة الكُردية، أصبح لديها قدرة على التعبير عن الهوية الوطنية للشعب الكردي، وخصوصًا في مجتمعات الشتات حيث أصبح الأدب الكُردي رمزًا من رموز النضال والوجود.
التعبير عن الذاكرة الجماعية للشعب الكُردي:
فلقد مر الكُرد بتجارب مريرة من الشتات، الحروب، التشريد، القمع، ومقاومة الاستعمار، وكانت القصة وما زالت هي وسيلة نقل تجارب الأجيال التي عايشت تلك الأحداث الصعبة، وتجسد الأمل والصمود في وجه التحديات.
تعزيز النضال من أجل حقوق الكُرد:
كتابة تاريخ القصة الكُردية تسلط الضوء على القضايا السياسية والاجتماعية التي واجهها الشعب الكُردي عبر التاريخ، وتدافع عن حقوق الكُرد في مواجهة القمع السياسي والثقافي، وفي هذا السياق، تكون القصة جزءًا من النضال المستمر لحقوق الإنسان وتقرير المصير.
المساهمة في الأدب العالمي:
الأدب الكُردي، بما في ذلك القصة الكردية، يُعتبر جزءًا من الأدب العالمي؛ فالكتابة عن تاريخ القصة الكُردية تُسهم في إثراء الأدب العالمي بفهم أعمق لثقافة متنوعة ومثيرة للاهتمام. حيث أن كتابة تاريخ القصة الكُردية تساعد في توثيق إسهامات الأدباء الكُرد في تطوير الأدب القصصي.
دراسة التطور الأدبي عبر العصور:
كتابة تاريخ القصة الكُردية تسهم في فهم تطور الأدب الكُردي عبر العصور المختلفة؛ كيف تغيرت الموضوعات الأدبية في القصة الكُردية من القصص الشفوية إلى الأدب المكتوب؟ كيف تأثرت القصة الكُردية بالعوامل السياسية والاجتماعية، وكيف تعكس التحولات التي شهدها الشعب الكُردي.
الحفاظ على الأصوات المفقودة والمهمشة:
تاريخ القصة الكُردية لا يتعلق فقط بالأدباء المعروفين، بل يشمل أيضًا الأصوات المهمشة، والقصص المفقودة؛ التي لا تكون قد نالت الاهتمام الكافي؛ فإن توثيق تاريخ القصة الكُردية، يُسهم في إحياء الأصوات المفقودة، خاصة للنساء الكُرديات، الشابات، والأقليات الأخرى التي قد لا تكون قد أتيحت لها فرصة الكتابة عن تجاربها.
تعزيز الوعي بالقضايا المعاصرة:
القصة الكُردية ليست فقط انعكاسًا للماضي، بل هي أيضًا وسيلة لفهم القضايا المعاصرة، والعديد من الكتاب الكُرد اليوم يتناولون المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يواجهها الكُرد في العصر الحديث، مثل المفكر عبد الله أوجلان الذي طرح فكرة الأمة الديمقراطية بديلًا عن فكرة الدولة القوموية، كما تعكس القصة صورة الصراع مع الأنظمة القمعية المختلفة، ومن خلال دراسة تاريخ القصة الكردية يمكن لنا أن نُسلط الضوء على المشاكل الراهنة و التحديات التي يواجهها الشعب الكُردي، مما يساهم في رفع الوعي بهذه القضايا على الصعيدين المحلي والدولي.
إلهام الأجيال القادمة:
إن كتابة تاريخ القصة الكردية هو أكثر من مجرد توثيق أدبي، إنه إحياء للذاكرة الجماعية لشعب عاش الكثير من المآسي والصراعات، كما يعد بمثابة إلهام للأجيال القادمة من الأدباء والمبدعين الكُرد، والقصة الكُردية هي عالم غني ومعقد يعكس تاريخًا طويلًا من النضال والأمل والحلم بالحرية، قد تكون هذه القصص مستمدة من الأساطير القديمة أو التجارب السياسية والاجتماعية الحديثة، لكنها تبقى دائمًا جزءًا أساسيًا من الثقافة الكُردية، وتعكس الهموم اليومية لشعبٍ قاسى في نضاله من أجل الحقوق والحريات.
وختامًا نقول:
القصة الكردية في العصر الحديث تمثل جزءًا مهمًا من الأدب الكُردي المعاصر، فهي تتميز بتنوع موضوعاتها، بدءًا من الهوية والمقاومة إلى المنفى والشتات، وتحمل في طياتها آلام وأحلام الشعب الكُردي في سعيه الدائم للحرية والعدالة، وهي تعكس تطور الفكر الكُردي عبر الأزمان المختلفة، كما تعكس أيضًا التحديات التي واجهها الشعب الكُردي في العصر الحديث، وتفاعله مع الواقع السياسي والاجتماعي المضطرب، وتستمر في التأثير على الأدب العالمي من خلال توثيق تاريخ وثقافة هذا الشعب الذي عانى طويلاً ولكنه لا يزال صامدًا ومبدعًا.
القصة الكُردية، كجزء أساسي من الأدب الكُردي، ليست مجرد قصص تقليدية، بل هي تاريخ حي يعبر عن نضال الشعب الكردي في سبيل الحرية، والحفاظ على الهوية، و مقاومة التحديات السياسية والاجتماعية. لهذا، تظل القصص الكُردية مهمة جدًا في فهم الواقع الكُردي ومعالجة قضايا المجتمع الكُردي من منظور أدبي وثقافي.
[1] قصة “مم وزين“: من أشهر القصص الكُردية التي تحكي قصة حب مأساوية بين “مم” و”زين”. تعتبر هذه القصة إحدى روائع الأدب الكُردي وتتميز بالرمزية العميقة والجانب الفلسفي.
قصة “دِلْشاه“: تعتبر هذه القصة جزءًا من الفلكلور الكُردي، وتروي حكاية شاب يُدعى “دلشاه” الذي يناضل ضد الظلم والقهر في إطار اجتماعي معقد.
الأساطير الكُردية: تحتوي القصص الكُردية أيضًا على أساطير مشهورة مثل أسطورة “كاوا الحداد”، الذي يُقال أنه قاد الكُرد في ثورة ضد الطاغية الظالم “ضحاك”. هذه القصة تُعتبر رمزًا للثورة والنضال ضد الاستبداد.
[2] تعد القصة جنسًا أدبيًا نثريًا سرديًا لها أسلوبها وتقنياتها الخاصة مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى، وهي من الآداب الإنسانية القديمة، كون رواة الأخبار والسير وقصص الأمثال والأساطير والحكايات والملاحم والمقامات المعروفة في تاريخ شعوب المعمورة ماهي إلا أوجه وامتدادات تاريخية لجنس القصة.
[3] في الأدب الكُردي الحديث قد ظهرت القصة في البداية على شكل ملاحم وحكايات وقصص بصيغة شعرية على يد الشعراء الكلاسيكيين مثل (فقي تيران، أحمدي خاني ..الخ)، فيما أحدث الملا محمود بايزيدي ثورة أدبية بإدخال القصة بالأسلوب النثري، واعتبر”فؤاد تمو” مؤسس القصة الكردية الحديثة من خلال نشره أول قصة كُردية في صحيفة “روجاكرد” بإستانبول في السادس من حزيران عام 1913م.
[4] ومن أمثلة القصص الكُردية المشهورة تفردت قصص “ملا ودينار” و “كه مان” و “حمه وهوشيار” و “حواري محمود وفيروز” بمميزات خلدتها عبر التاريخ وصارت من القصص الكُردية الشعبية المعروفة، كما تضمنت تلك القصص استخدام الأمثال والألغاز والأغاني.
[5] كانت الشخصيات الأسطورية مثل ملك شاهين و ميرزا غوراني تظهر في هذه القصص، كما كان للأحداث التاريخية الكردية مثل الانتفاضات ضد الإمبراطوريات المختلفة تأثير كبير على الموضوعات.
[6] اللغة الكُردية: هي أحد المفردات الأساسية المحددة للهوبة، ولذا نري أن الصراع حول حق الكُرد في التحدث بلغتهم وإدراجها في المناهج التعليمية وفي الإعلام؛ غالبًا ما يظهر في الأدب الكُردي، كما يتناول الأدباء الكُرد في أعمالهم معاناة الكُرد في الحفاظ على هُويتهم اللغوية.
[7] تتميز القصة الكردية في العصر الحديث بظهور عدد من الأدباء الذين أسهموا بشكل كبير في تطوير الأدب الكردي، سواء باللغة الكردية أو في الأدب العالمي.
البدليسي في القرن 16: رغم أنه عاش في العصور القديمة؛ إلا أن شرفخان البدليسي يعتبر من أوائل الأدباء الذين عملوا على تثبيت الأدب الكردي في العصر الحديث من خلال كتابة كتابه “شرفنامة” ورغم أنه لا يتناول القصة الحديثة، إلا أن عمله أثر في الفكر الكُردي الحديث.
أحمد توفيق: من أبرز الأسماء في الأدب الكُردي الحديث، وقد كتب العديد من القصص والروائع الأدبية التي تناولت معاناة الشعب الكُردي في ظل الحروب والسياسات القمعية.
[8] كاتب كُردي عراقي مؤسس حزب الإصلاح السياسي سليل الأسرة البابانية الذين حكموا جنوب كردستان، ولد بالسليمانية عمل مستشارًا ووزيرًا للخارجية، له مؤلفات عن معاناة الكُرد مثل الجبل الصامت، الطريق إلى الحرية، أحلام الصباح.
[9] جميل روفاتي كاتب كردي عراقي من أبرز الكتاب في العصر الحديث ومن أعماله: تاو زارد “الطاووس الأبيض” زهرة الخريف عن حياة المرأة الكُردية، الليلة الطويلة، النبع المقدس –عن حياة الشعب الكردي-