دراسات

الفكر السياسي في الشرق الأوسط ولغة الحوار

تحليل: د. رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

يتناول الفكر السياسي الجانب الفكري والنظري للتحول الديمقراطي في أي مجتمع، فلا يمكن إحداث التحول الديمقراطي أو التنمية السياسية، مع غياب الفكر السياسي الإيجابي القادر على بناء هيكلية النظام الديمقراطي، فهو مجموعة من الأفكار والمبادئ والآراء السياسية التي تتابَع المفكرون من الناحية التاريخية، في طرحها طبقاً لإحتياجات مجتمعاتهم وظروفهم التي تأثروا بها وعاشوا فيها، وأهم ما يميّز الفكر السياسي، هو إرتباطه الدائم بالتطور الذي شهدته المجتمعات، والظروف التي مرّت بها، ودفعتها إلى طرح وإبتداع أفكار سياسية متنوعة، كانت محل جدل ونقاش واسع، وكانت تخضع لمنطق التجربة بإستمرار، وساهم هذا الفكر في تطور الأنظمة السياسية كما نراه اليوم في مختلف دول العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط.

هنا يقول المفكر والمناضل الأممي “عبدالله أوجلان” في معرض نقده التسلط الإستبدادي والإيديولوجي في مانيفستو الحضارة الديمقراطية:أن النظام يرتبط تسلسلياً بالنظام السلطوي الذي يسبقه، ويتمتع بخاصية لا تحتمل الفراغ، أي أن طبيعة السلطة المهيمنة لا تقبل أي فراغ زماناً ومكاناً، وغالباً ما تدور المساعي لربط المجتمع بعلاقات السلطة المهيمنة، فلا تقتصر السلطة المهيمنة على الإقتصاد فحسب، بل هي مرغمة على إكمال ذاتها بالهيمنة الإيديولوجية”.(1)

هناك إقباس من كتاب إيطالي شهير، ينطبق على تعريف السياسة في منطقة تتسم بالسيولة الشديدة، ويحيط بها عالم من عدم اليقين،”يجب أن يتغير كل شيء ليبقى كل شيء على حاله”، فالأصل أن يكون الحوار داخل الدولة الوطنية جزءً من الكيان السياسى العام للدولة، حيث يتم الحوار داخل المؤسسات السياسية النيابية وداخل الأحزاب السياسية، وبينها وبين الأجهزة التنفيذية، فهو متواجد في أجهزة الإعلام والثقافة بوجه عام، وكذلك في النخبة السياسية المؤثرة في القرار العام، سواء جاء من الدولة، أو المجتمع فيما يتعلق بالمصلحة القومية والتوجُّهات الداخلية والخارجية، نحو التنمية والأمن القومي، فهي عملية ديناميكية تتحرك مع الزمن، حسب ما يستجد من أحداث ومن تطورات في المواقف، وما هو مطروح ومتاح من إختيارات، حيث أن هناك تمييزا ما بين الرأى والموقف، فيكون الرأي وجهة نظر قابلة للتعديل والتطوير والتغيير، بحسب ما هو مطروح من حُجج وبراهين ووقائع، أما الموقف فإنه تعبير عن إلتزام فكري أو سياسي أو أيديولوجي، وما يترتب عليه ليس بالضرورة أن يشكل حوارا في مرحلة الإستكشاف، وإنما مباحثات ومفاوضات، ففي الرأي يدور الحوار حول الخلاف بإتجاه تحقيق التوافق، وفى الموقف يكون الحوار حول المقايضة ومراعاة مقتضى الحال والواقعية السياسية، وفى كل الأحوال فإن الحوار لغة تخرج من أطرف متنوعة، تُحدِث التفاعل والجدل، الذي يؤدي حتماً الى توافقات ورؤىً مستقبلية، تكون حتماً لخير المجتمعات والبشرية على السواء.

أبعاد إستراتيجية ومشهدية تشكُّل الصورة

تعيش بلدان الشرق الأوسط والأمة العربية حالاً من الفوضى القائمة بمختلف تداخلاتها وتشعباتها، ويمثل المشهد السوري والعراقي واليمني والليبي والسوداني واللبناني، صورة قاتمة لهذه الحال، وبالرغم أشكال الفوضى التي عانتها وعايشتها دول عديدة على مدى تاريخها الطويل، لكننا نشهد هذه الفوضى بهذه الصورة لأول مرة، ولذلك فهي طارئة على حضارة المنطقة وقيَمها، وعلى القوى السياسية والإجتماعية، وعلى القضية الفلسطينية، التي صارت خارج السياق العربي للمرة الأولى أيضاً بما يتعلق بالإستقطابات العربية والإسلامية من أجل نصرتها، وبذلك فهي لحظات تاريخية تبدوعابرة للزمن، لا تلبث أن تشهد  تغيُّرات كبيرة ومفاجئة للإنتقال إلى مربعات مختلفة، تقود وربما تؤدي إلى حالة جديدة من التوازن السياسي والإستقرار، وتراجع فكر الإرهاب والتطرف والفوضى، لصالح الأفكار التقدمية والإصلاحية المعتدلة، وعندها سوف تتغيَّر معادلات السياسات الإقليمية والدولية شكلاً ومضموناً.(2)

فالمشهد السياسي، يعني القدرة على إدراك الديناميكية السياسية الفاعلة، وخارطة اللاعبين وعلاقاتهم فيها، وما يمتلكه كل منهم من إمكانيات، لتطوير الواقع السياسي في المستقبل القريب، فعلى صعيد الديناميكية السياسية الفاعلة، تشكل حال الفوضى والتدخلات العسكرية والسياسية المتعددة الأطراف والمسمَّيات والأهداف، الأدوات الأكثر ديناميكية وفاعلية وتأثيراً في رسم المشهد، كما توازيها وتتماهى مع تحرُّكات سياسية على شكل دول، منفردة أحياناً ومع أحلاف أحياناً أخرى، وربما على شكل مجموعات عمل، حيث تلعب القوى السياسية والإجتماعية في المنطقة دوراً حيوياً، في التأثير على طبيعة المشهد وتركيبته المعقدة، فيما تشكل العوامل الإقليمية والدولية، إطاراً صعباً لإمكانية وصول الفاعل المحلي إلى أي هدف، بإستثناء ما يتقاطع منها مع مصالح عدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين.

ومن خلال هذا الإستعراض، يتظهَّر هنا مجموعتان أساسيتان من الفاعلين المحليين، الأولى ترتبط بعقلية التغيير السياسي والإستقلال والحرية والديمقراطية، والثانية ترتبط بعقلية المحافظة على الوضع القائم، في تحقيق المصالح النخبوية للحكم مع علاقاتها الإقليمية والدولية، في مشهد متعدِّد المشارب والعوامل ومتغيِّر في التحالفات، إذ أن المعطى السياسي الغربي في الإعلام، غالباً ما يقوم على الترويج لمبدأ الدعوة إلى إحتضان بلدان وشعوب الشرق الأوسط، وفتح الطريق السياسية أمام التعاون مع هذه الدول وشعوبها، ولا يمكن لمتابع قضايا الشرق الأوسط، أن يصمَّ أذنيه عن هذه الأفكار المتكررة، ومع أنَّ فكرة الإحتضان سياسياً تبدو ناعمة، إلاَّ أنها أصبحت فكرة إستهلاكية، لم تنتج أي تحول أو تخفيف لحجم الأزمات، التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط.

فالشرق الأوسط بمشهده  اليساسي الحديث، هو نتاج لمعطيين أو حدثين، الأول إنهيار الإمبراطورية العثمانية، والثاني إندفاع الغرب ومحاولته لملء فراغ المنطقة، فكانت لحظة منتصف القرن التاسع عشر فارقة، في تشكُّل الصورة الكاملة للشرق الأوسط، مع بداية مؤشرات سقوط الدولة العثمانية، التي لم تكن سوى مجرَّد غطاء سياسي ضعيف للمنطقة العربية بشكل خاص، فعندما بدأت التركة العثمانية بالظهورعلى سطح الشرق الأوسط بعد إنهيارها، إنكشفت الحقائق حول التجربة الإمبراطورية التي بقيت لعدة قرون، من دون أن تترك آثاراً سياسية قادرة على التعافي.

فقد حصل إرتباك لدى الإستعمار الغربي، وإتُخذت قرارات دولية شكَّلت كارثة على منطقة الشرق الأوسط، وهو الخارج من تجربة سياسية طويلة، فُرضت عليه لستة قرون من الزمن، بفعل سيطرة الحكم العثماني، وهو ما كشف بوضوح، أن الشرق الأوسط وعلى المستوى العربي، أصبح مكشوفاً للعالم المنتصر في الحرب الأولى، ليحدث الخطأ التاريخي في هذه البلدان، تمثل بإستسلام المنطقة العربية ودول الشرق الأوسط، خلال الربع الأول من القرن العشرين، بشكل كامل لحال وترويج الفوضى بشكل دائم، ولذلك بُنيت النظرية السياسية الغربية على هذا المفهوم، وأصبح الخروج من أزمة سياسية والدخول في أزمة أخرى، مشهدا طبيعياً في سياسات الشرق الأوسط المليء بالأحداث، وفي حقيقة الأمر، فإن هناك وظائف سياسية محمية، خاصة بالشرق الأوسط، إعتمدها الغرب وإعتمد حمايتها بصرامة وبقوة صلبة، وأصبحت مهام سياسية محمية، لا يجب المساس بها بحسب التصنيف الغربي.

هذه الوظائف تمثَّلت في الوظائف النظرية، والوظائف العملية التطبيقية، حيث تقوم الأولى على ترسيخ الأفكار الداعمة لمقولة أن الشرق الأوسط، منطقة فوضى سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية، وهذا ما يفسِّر بأن الخطاب الغربي بشِقَّيه الأميركي والأوروبي، يتفق ويتناغم على وصف المنطقة بالفوضى، وأن خروجها من أزمة ودخولها في أخرى أمر طبيعي يجب تقبُّله، كنتيجة للمعطيات التي يراها الغرب، ويصفُ بها المنطقة بأنها بؤرة طبيعية للأزمات، أما الوظيفة العملية والتطبيقية المحمية من الغرب، هي القواعد التي فرضها الغرب بشقّيه الأوروبي والاميركي، فالوظيفة السياسية الأكبر والأولى، التي تتمتَّع بحماية صارمة من الغرب، هي الوجود الإسرائيلي، اما الوظيفية العملية الثانية، فهي إبقاء منطقة الشرق الأوسط، منطقة نفوذ عبر تحويلها كمنطقة طاردة لأي قوة دولية تفكِّر التواجد فيها، وهذا ما حدث مع الإتحاد السوفيتي، سابقاً  مع الوجود الروسي مؤخراً عبر قواعده العسكرية التي رسخها في ساحل سوريا منذ عام 1957، كما تحدث مؤشراته اليوم مع روسيا والصين، أما الوظيفية العملية الثالثة، التي حرص الغرب على حمايتها، فهي الإستئثار بالشرق الأوسط إقتصاديا، وخاصة الثروات الهائلة الموجودة في جميع دوله من دون إستثناء.

كلِّ أزمات الشرق الأوسط، تعتمد  وتسير على ذات الأصول والمنطلقات التاريخية، لأنه تاريخيًا لا يتغيَّر المشهد السياسي في الشرق الأوسط مع تنوع الأزمات وتجدُّدها، بسبب فرض الحماية الصارمة للوظائف السياسية المطلوب تنفيذها في بلدانه، فالوظائف السياسية التي إعتمد الغرب وعمل على حمايتها، تتشكَّل أو تتمثَّل في حماية الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتحريك معايير الطائفية والراديكالية الدينية العقديةن بجميع إتجاهات الأزمات المطلوب تنفيذها، وآخرها تعزيز ما يرى فيها الغرب مسارات إستغلال ثروات الشرق الأوسط بلا إستثناء.

فالأزمات في الشرق الأوسط، هي نتيجة تراكم تاريخي، ممزوج بأهداف سياسية غير معلنة، تتزامن مع إستمرار المنطقة بتأكيد أن الغرب، ما زال يواصل سوء الفهم وسوء التقدير للمنطقة، وهذه الحقيقة تناقض الواقع الذي تعيشه شعوبه، وهو أمام حقيقة غائبة، تتمثل بالشكل الخاطىء والفهم المغلوط، لأن المطلوب الفعلي لمعطيات المنطقة ولوظيفتها المحمية من الغرب، هو إستمرار ذات المسارات الغربية دون تغيير جذري، لأن هناك مصالح لم تتغيَّر الى اليوم منذ منتصف القرن التاسع عشر، هي ذات المصالح وذات الأهداف، ولكن مع تحديث في المرونة والتكتيك، من أجل تحقيق الأهداف بطرق مختلفة.

التحوُّلات المؤثرة في مستقبل الشرق الأوسط

تواجه دول المنطقة في الشرق الأوسط فجوة قديمة تاريخية ، ما بين القدرة والتوقعات، فيتوقَّع المواطنون من الدولة حمايتهم وتوفير الفرص الجديدة للشعب، والفئات الشابة وفقاً للمقاييس العالمية، ومع ذلك هناك شعور بأنَّ هدف الدولة الوحيد هو السيطرة عليهم، وهو ما أدَّى إلى تنامي الإحباط وتقوية الإنقسام بين النُّخب وبقية الشعب.

فمهمة أي سياسي في المنطقة اليوم، تتجلَّى في إدارة التغيير الذي تتقاطع مساحاته بين مكونات الدولة، والتي يُعاد رسم حدودها وأدوارها، والمجتمع الذي يشهد تغيُّرات عميقة، والتطورات الجيوسياسية التي تتّسم بالسُّيولة والفاعلية، ويضاف إلى إليها ضرورة إثراء فهمه للعالم من حوله، والطريقة التي يتغيَّر بها، ومكانته فيه، بينما تتواصل محاولات تقويض أو إستكمال دور الدول في المنطقة، من خلال الجهود المبذولة في تقليص حجمها وإمتيازاتها، من خلال حزم السياسات التي تروِّج لها المؤسسات المالية الدولية، والتي تسير في إتجاه الخصخصة، وإستطاعت دول المنطقة من خلال ذلك، إثبات أنها أكثر مرونة ممَّا كان متوقعا، إذ سيبقى التحكم في الدولة هو الأساس، وغالباً الضمانة الوحيدة لبقاء النخبة.

فالدول تستعرض قوتها من خلال القمع والمراقبة، وخصوصاً إذا شعرت النُّخب السياسية الحاكمة أنها مهدَّدة، وأنها تخشى زوال القوة التي بين أيديها، وتتعلم من بعضها البعض كيفية التغلُّب على حال الإستياء الإجتماعي، وكبح المعارضة السياسية، وعلى المستوى الإقليمي، قد تسْعى نخَب الدولة الحاكمة إلى بلوغ أقصى درجات القوة، فهذه الإستراتيجيات المعزِّزة للتوحش، تعزز حتماً أو تُضعِف أكثر منطق الشرعية للدولة والطبقة الحاكمة، لتعطي نتائج عكسية، حيث أن تفاقُم هذا الوضع بسبب غياب قوى بديلة ذات وزن، سواء على المستوى المجتمعي أو على المستوى فوق الوطني، هو ما يعزِّز حتمية مطالب الإنفصال بين مكونات الدولة، وهذا يمكن ملاحظته في إتجاهات مماثلة بين سلطات المركز والأطراف في كل هذه االبلدان، وبشكل أكثر وضوحاً بين العاصمة وأكثر المناطق تهميشا في كل بلد، مما يؤدي إلى محاولات ناجحة ومبدعة لتفكيك مركزية القوة للدولة، حتى تكون الدول أكثر قرباً من مواطنيها، ولإطلاق العنان لإمكانياتها الإقتصادية والثقافية.

إن معظم دول المنطقة هي دول قوية، بسبب إحتكار إستخدام الحكومات للعنف وتأمين الحدود، بإستثناءات قليلة كلبنان واليمن والصومال والعراق إعتبارًا من عام 2003، فأصبحت تلك المساحات واقعاً للتنافس الإقليمي، وزادت إنتفاضات عام 2011 عدة دول أخرى إلى تلك القائمة: سوريا وليبيا، ومعها الجهات الفاعلة غير الحكومية، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد ظهرت جهات فاعلة غير حكومية تاريخياً، في مناطق مثل لبنان والعراق، حيث كانت الدولة ضعيفة.

هذا التزايد في أعداد الدول الضعيفة في الشرق الأوسط، أدَّى إلى زيادة الفاعلين الإقليميين والدوليين، الراغبين في رعايتها والتدخل في شؤونها، وأدَّى إلى نمو مماثل في الجهات الفاعلة غير الحكومية، ولكن تمَّ تضخيمه ورجحان كفَّة الجهات الفاعلة غير الحكومية القائمة على سياسات الهوية، حين سيطرت مجموعات على العراق وسوريا ولبنان واليمن، تولِي درجات متفاوتة من الأهمية للإسلام السني والشيعي، بينما لا يزال القوميون الأكراد يناضلون لإكساب قضيتهم رعاية لا تزال مفقودة، أفقدتها ومنعتها الدول التسلطية المسيطرة على مناطق إقاماتهم في سوريا والعراق وتركيا.

فهذه التحوُّلات مجتمعة، قدمت صورة جيوسياسية تبدو مختلفة تماماً عن عشرينيات القرن الحالي، عمَّا كانت عليه في بداية العقد الأول قبل الإنتفاضات التي حصلت عربياً، حيث هناك المزيد من الدول غير المستقرة، والمزيد من الجهات الفاعلة غير الحكومية، المحلية والوطنية والعابرة للوطنية تعمل داخلها، والمزيد من القوى الإقليمية والدولية المستعدة للتدخل والمتدخِّلة أصلاً، إما من خلال رعاية اللاعبين المحليين، أو نشر جيوشهم الخاصة، وهذه التحولات الهيكلية جميعها تضرب معها الساحات المستقرة سابقًاً في الأوطان.

أن السياسة تُصنع بالأساس من الأسفل، وفي المستوى المحلي، وتحكمُها شبكيات التفاعلات على المستويات كلِّها، المحلية والوطنية والإقليمية والدولية، وباتت الفواعل غير الحكومية فيها، تحتل وزنا كبيرا في مقابل الدولة التي يُعاد رسم أدوارها وحجمها الآن وفي المستقبل، بينما الموقف الديني يبقى محرِّكاً أساسياً للديناميات المجتمعية والسياسية، ويبقى هو القضية المثيرة للنزاع بشكل كبير، إلاَّ أنَّ ما يجب الإشارة له في هذا الصدد، هو أن التعامل معه يشهد تحوُّلات عميقة، خاصة بين الشباب الذي تغذِّيه أنماط ثقافية ومعرفية جديدة، تقوم على الفردية والنفع والعملية والواقعية، وإختفاء المرجعية أو النقطة المركزية التي يرتكن إليها، وهنا باتت المجتمعات أمام تحوُّلات تتعلق بالأيديولوجيا وأولوية الخطاب، المرتكز على مستوى حياة الناس، ضمن منطق قائم على تشكيل المعسكرين الديني والعلماني، بالإضافة إلى المجتمعات كلها، وهو ما يؤدي حتماً الى إطلاق وتفعيل ديناميات التفتيت، بين الإنقسام الديني العلماني، وإلى صراعات أكثر حدة متعلِّقة بالهويات.

وهنا يمكن أن تتعرض المواطنة والإلتزام بالتنوع والحقوق الفردية، للخطر بسبب تميُّز الإنتماء والولاء للهويات الأساسية، وقد يؤدِّي الإستغلال السياسي للخطابات الدينية والعلمانية، التي إستمرت فترات طويلة، إلى وقوع المزيد من الصراعات المجتمعية والتنافس، من أجل التحكم في قيادة المعسكرين المتناحرين، إذ أنَّ التلاعب بالإنقسامات المجتمعية سعياً وراء مصالح النظام في الحكم والنُّخبة الحاكمة المقربة والجماعات، يؤدي حتماً وبشكل واضح إلى تصاعد الإنقسامات الطائفية، حيث تعيش نظُم الحكم وتتلطَّى خلف ستار الإستبعاد والإقصاء، وهو سِمة النُّظم والحياة السياسية، حيث التمييز في الجنسية والعرق والطائفة، أو الدين أو الطبقة الإجتماعية، أو القبيلة أو الإنتماء السياسي وغيرها، وهنا يمكن أن تكون الفردية والتنوع بأشكالها المتعددة، الأساس الذي يُبنى عليه، في إعادة إستكشاف مفهوم المواطنة الحاضنة للتنوع، بإعتباره القوة المحركة الأساسية للتنمية المجتمعية، وطريقاً غير مباشر في علاج النزاعات المرتبطة بالهوية، كما يمكن للمجال الديني المتنوع أن يجعل القادة الدينيين عُرضة للمساءلة أمام جموع المؤمنين، وهذا بحدِّ ذاته ما يمكن أن يساهم في تقليل إستغلال الخطاب الديني بشكل كبير، وتدعيم الفصل بين سلطة الدولة والمؤسسات والمنظمات الدينية.(3)

فالتحدي الأكبر في العقود القادمة المقبلة، يتمثَّل في تطوير الإستجابات بشكل مرن للتغيير في مجالات رئيسية، تشكل طبيعة الحياة السياسية في مستقبل المنطقة، وفي التركيبة السكانية، وفي الإقتصاد، الذي سيتأثر بعوامل مستجدة تُغيِّر طبيعته، وفي الجغرافيا السياسية، خصوصاً أن هناك ندرة في الموارد الطبيعية، بما في ذلك الغذاء وتقلُّب الأسعار والمخاطر المرتبطة بالأوبئة الجديدة، وكذلك التدهور البيئي، بسبب التحديات الإقتصادية والإجتماعية، وخصوصاً أن هذا يتزامن مع الزيادة الملحوظة في عدد السكان، فالقدرة على إستباق هذه التحديات والتعامل معها، هي المفتاح في إغتنام الفرص ومواجهة المخاطر، وقدرة التكيف بشكل صحيح مع الإتجاهات الإقتصادية والتكنولوجية من الفروق بين الدول وداخل كل دولة.

أزمة الشرعية السياسية في إقليم الشرق الأوسط

إن الصراعات الداخلية الأهلية العربية وفي الشرق الأوسط، ذات طبيعة معقَّدة ومركَّبة، فهي ذات طبيعة سياسية وإجتماعية وإقتصادية وثقافية ودينية، لها أبعاد داخلية وخارجية، وكذلك ذات إمتدادات تاريخية ترتبط كولونيالياً بهذا الخارج، ومن هنا فإن أسباب ومحرِّكات الصراعات الداخلية، تتداخل مع هذه الطبيعة المركَّبة بكلِّ جوانبها وأبعادها المذكورة، وبروز الصراعات الداخلية ليست ظاهرة عربية السلوك أو مكانها العالم العربي، فهي ظاهرة دولية وعالمية، تربط بذاتية الإنسان وفي مختلف بقاع العالم، حيث أن أمم الشرق الأوسط موحَّدة في معنوياتها من حيث القيم والثقافة، ولكنها مجزأة في مادياتها الإقتصادية والإجتماعية، وهذا ما أدى ويؤدي إلى بروز حقيقي للتعدُّد والتوحُّد في الشخصية العربية، إن ظاهرة التعدديات، أو التنوع هي ظاهرة طبيعية، ونجدها عند كافة الأمم والشعوب، غير أن الإشكالية تكمُن في نزوع هذه الظاهرة نحو العنف والنزاع.

فالصراعات الداخلية العربية، كانت محطَّ إهتمام مع نهايات القرن العشرين، من القوى الدولية والإقليمية، وسيبقى هذا الإهتمام على الأقل لفترة طويلة نسبياً، وذلك للأهمية الإستراتيجية لمنطقة العالم العربي والشرق الأوسط، الذي يشكل قلب العالم الجيوسياسي، بالإضافة إلى تزايد خطورة وتأثير هذه الصراعات على الأمن والإستقرار الإقليمي والدولي، كما أن خطورة الصراعات الداخلية العربية وتأثيرها على مصالح بلدانه من جهة، وعلى المصالح الحيوية الدولية من جهة أخرى، تدفع الباحثين في العالمين، للتعرف على أهم العوامل المحركة لهذه الصراعات وطبيعة أسبابها، بحيث يمكن تقسيم أسباب ومحركات الصراعات الداخلية في المنطقة، إلى مستوى متعلق بالأسباب الداخلية، وآخر مستوى متعلق بالعوامل والأسباب الخارجية، أي عوامل غير عربية، في المصدر والفعل والتأثير.

فهناك أزمة الشرعية للسلطة السياسية، التي يغلب عليها ضعف أو هشاشة الشرعية التي تستند عليها، فهي تعيش أزمة شرعية في الحكم، إذ أن غالبية أنظمتها لم تصل إلى السلطة بوسائل ديمقراطية حقيقية، لذا فإن انتماء الشعب للنظام السياسي محدود أو هامشي، يكاد ينحصر في الخوف أو المصالح الضيقة لبعض فئات الشعب، وغياب الشرعية يعني غياب أهم أسس الطبيعة الديمقراطية للسلطة السياسية ودوامها، وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإنَّ تعامل الأنظمة مع التعدديات العرقية أو المذهبية أو الدينية أو العشائرية، داخل الكيان أو الدولة المعاصرة، لم يكن ديمقراطياً، فكان التعامل إما بالسلوك التسلُّطي، إن كانت رافضة لهذه الشرعية والنظام السياسي، أو رافعة لقوى التنوع أو الأقلية، إن كانت مناصرة ومؤيدة للنظام السياسي، وفي كلا الحالتين أو الوضعين تسبب ذلك في نشوب الصراعات الداخلية.

إن السلوك التسلُّطي للنظام السياسي، أدى إلى إضطهاد الأقليات، لذا كانت ردة الفعل هي العنف والصراع مع النظام السياسي، فحتى قوى التنوع والتعدُّد المؤيدة للنظام السياسي غير الديمقراطي، حصلت على إمتيازات خاصة على حساب بقية الشعب، ممَّا أدَّى إلى خلق فجوة كبيرة، ولدت وأوجدت الأحقاد والعداء بين إمتيازات لهذه الأقليات وعامة الشعب، تطورت لاحقاً إلى علاقة تضاد في المصالح وعلاقات صراع وعنف.

من ناحية أخرى فإن الطبيعة الدكتاتورية (التسلُّطية) للنظام السياسي  المحمول بشرعية ضعيفة، ترفض أصلاً مشاركة الشعب أو القوى السياسية في القرار، وعادة ما تلجأ الدكتاتورية إلى القوة في التعامل مع الشعب، وإلى تقييد حرياته، هذه الطبيعة التسلطية كانت سبباً أساسياً، في ردود فعل شعبية عنيفة ضدَّ النظام السياسي، وفي أحيان كثيرة كان السلاح والعنف هو الحكم في العلاقة ما بين السلطة السياسية المتسلطة، وفئات أو حركات سياسية معارضة لسياسات وقرارات النظام السياسي الحاكم في بعض الدول فيها.

ومن هنا فإن غياب الشرعية للنظام السياسي، نتيجة غياب دور أو إرادة الشعب بكل فئاته وطوائفه ومكوناته عن الإختيار الحر، أدَّت إلى صراعات ما بين السلطة السياسية من جهة، وما بين طوائف أو قوى التعددية والتنوع من جهة أخرى، إذ هناك نوع من الغربة للسلطة السياسية، سياسياً وثقافياً عن محيطها الشعبي، بالبُعد وربما التعارض، ما بين الانتماء الثقافي والأيديولوجي للشعب وللأمة، وما بين الانتماء الثقافي والأيديولوجي للسلطة الحاكمة، فالشعب يغلب عليه الإنتماء الحضاري العربي والإسلامي، في حين أن السلطة السياسية يغلب عليها الإنتماء الثقافي الغربي، على الأقل على صعيد السلوك والممارسة، وكذلك فإن هذا التباعد أو التعارض ما بين الطرفين ثقافياً وأيديولوجياً، تمَّ إتباعه بغربة سياسية، فالشعب يرغب بالإرادة السياسية المستقلة والحرة للدولة، والنظام السياسي سار في سياسات التبعية للقوى العظمى، في فترة الحرب الباردة وما بعدها، وهذه الغربة الثقافية الإيديولوجية والسياسية، توافقت مع حال الإحباط الشعبي العام من فشل السلطة السياسية الحاكمة، في إدارة قضايا الوطن المحلية (تحقيق التنمية الشاملة، توفير الحريات وتأمينها، القضاء على الفقر والبطالة، حفظ كرامة الإنسان … إلخ)، أو الفشل في قضايا الوطن الخارجية مثل قضية فلسطين، ونتيجة  لتلك العوامل، لم تعد الدولة قادرة على تحصيل شرعيتها من الأمة أو الشعب، لذا لجأت إلى القوة المادية الصلبة والخشنة، وهو ما دفع إلى نزاعات بينها وبين حركات معارضة داخلية مسلحة في عدد من البلدان العربية.

كذلك فإن الجهل الديني، والجهل بالتاريخ السياسي للمجتمع العرقي، الذي شكَّل عداوة مع المجتمعات الإنسانية عموماً، وهو بالنسبة لشعوب المنطقة ذي البيئة الإنسانية القوية الإلتصاق والإعتزاز بثقافتها ودينها، والمليئة بالتنوع العرقي، سلاح أو مصدر أساسي للعنف، وكما هو معروف فإنَّ الإسلام هو الدين السائد في عالمنا، فالجهل بالدين الإسلامي، وبطبيعته التأثيريية ديناميكياً وبقوة الإيديولوجيا لديه، تم التعامل معه بإخفاء أسسه ومضامينه ومقاصده العامة، وإبتعاده عن العصر ومقتضياته، ووضعه في عزلة حضارية، على الرغم من أنه دين الحوار و التعارف والوسطية، وبشكل آخر، فإنَّ التعامل مع الإسلام بجهل، ووضعه في أطر ضيقة وفي عزلة مغلقة عن عالم الإجتهاد في متغيرات العصر وحصره في دائرة الجمود الفكري، و إبعاده عن طبيعته الوسطية، قد أسَّس لمناخات متددة ولفترات طويلة.

فهذا الجهل التاريخي والسياسي، وضعف حركة الوعْي بالتاريخ وبالسياسة، وبالإصلاح من قبل أفراد أو أتباع الكيانات، أدى إلى تعصُّب عرقي، فضعفت حركة الوعْي بالمغالطات التاريخية، وتشوَّهت الحقائق التي أحاطت بالكيانات العرقية، وهو ما أدى إلى تكوين ثقافي عرقي ذي طبيعة مكبوتة، بالإضافة إلى أن ضعف الوعْي السياسي، بما تقوم به النخب أو الرموز السياسية للكيانات العرقية، من إستغلال لواقع الكيانات العرقية، بشكل يخدم مصالح النخبة أو الرموز السياسية للكيان العرقي، أدَّى إلى الشعور بالظلم والقهر من قبل الأقليات بشكل دفع إلى المزيد من التعصُّب العرقي، فالجهل الديني والجهل التاريخي والسياسي للمجتمع العرقي، تزامن مع إضطهاد سياسي من قبل نظام الحكم، وفشل في إدارة الدولة وتحقيق التنمية للمجتمع العربي، مما ولد عنفاً وصراعات داخلية في عدد من بلدان الشرق الأوسط.

فلدى العديد من دولنا اليوم في إقليم الشرق الأوسط، صراعات داخلية بين السلطة السياسية من جهة، والأقليات العرقية أو الدينية من جهة أخرى، بسبب غياب العلاقة  التي تسمَّى تعاقدية، الواضحة والملزمة، وفي نفس الوقت عادلة، والعلاقة التعاقدية قد تكون من خلال إتفاقيات أو معاهدات بين الطرفين، أو من خلال دستور يُعرِّف كل طرف بحقوقه وواجباته بشكل واضح دون إجحاف، مع وجود الآليات التي تُلزم كل طرف بتطبيق بنود هذه العلاقة التعاقدية، فأحياناً قد تكون العلاقة التعاقدية واضحة ببنودها وإلْتزاماتها، ولكن قد توجد مماطلة أو عدم إلْتزام أو تطبيق لهذه العلاقة التعاقدية، من أحد الطرفين، لأسباب تتعلق بمتغيرات مستجدة، محلية أو إقليمية أو دولية، تغيِّر أو تؤثِّر على مصالح النظام السياسي أو النخبة السياسية أو قيادات الأقليات، وربما تجربة العراق مع الأكراد أوضح مثال على ذلك، رغم وجود علاقة تعاقدية بين السلطة السياسية والكيان الكردي العرقي تمثل في حكم ذاتي، إلاَّ أن المستجدات التي خلقتها حرب الخليج الثانية، أدَّت إلى عدم الإلتزام بها، في حين أن تجربة السودان مع جنوبه تتعلق بالإختلاف حول بنود العلاقة التعاقدية بين النظام السياسي والقوى الفاعلة داخل أقليات منطقة الجنوب السوداني، ويضاف إلى غياب الوضوح أو الإتفاق على بنود العلاقة التعاقدية، وهناك أحياناً غياب للبعد المؤسسي للعلاقة التعاقدية، مما يجعلها غير مستمرة أو مستقرة، بسبب تفرُّد السلطة السياسية ومزاجياتها، أو بسبب تغيُّر طبيعة النظام السياسي، أو تغيير الإرتباطات الخارجية للقوى الفاعلة لدى العديد من الأقليات العرقية أو الدينية.

لذلك وبعد إنهيار الحكم العثماني في العالم العربي، قامت قوى الإحتلال البريطانية والفرنسية، بتقسيمه إلى كيانات قطرية، وتمَّ ذلك بشكل قسري، ولم يتم جعل الحدود السياسية للدولة القطرية متجانسة مع الحدود الثقافية والإجتماعية أو العرقية أو القبلية والعشائرية، بمعنى آخر إستقطبت الدولة القطرية مجتمعات غير متجانسة، بل متصارعة في أحيانٍ كثيرة، عرقياً أو طائفياً أو عشائرياً أو مذهبياً، وهذا التكوين أو النشوء القسري لكيانات قطرية، جعل من دول الشرق الأوسط القُطْرية في بعض الأحيان مهيأة ومجهزة للصراعات، عند توفر أجواء سياسية وإجتماعية ـ اقتصادية، مع سيطرة الدكتاتورية السياسية.

وهذا التكوين القسري للدولة القطْرية، يفتح المجال للحديث عن مدى فشلها كدولة معاصرة في أن تكوِّن هوية ثقافية موحِّدة للأمة من جهة، وأن تلبِّي متطلبات وإحتياجات الأمة من جهة ثانية، وقدرتها على أدائها وظيفتها السياسية والأمنية للأمة من جهة ثالثة، ويبدو أن هذه الجوانب الثلاثة، جعلت الدولة القطْرية في حال من الأأزامت الدائمة والمتلاحقة، وهذا الوضع كان سبباً أساسياً إما إلى سياسيات إندماج، أو تكتُّل مجموعة من الدول القطْرية لتطوير قدراتها، بدلاً من تطوير دورها وفاعليتها، أو إتجاهها نحو التفكُّك إلى كيانات أضعف أو أكثر قطرية، ولكن أكثر إلتصاقاً بالهوية الثقافية والحضارية للأمة، كما حدث على سبيل المثال مع تفكُّك يوغسلافيا ثقافياً وعرقياً، أو الإتحاد السوفياتي السابق.

إن التعددية في المجتمعات، هي سِمة إنسانية، سواء أكانت تعددية عرقية بأشكالها المختلفة من اللون أو الأصل أو الجنس والعرق، أو تعددية ثقافية، أو تعددية قبلية وعشائرية، والتي تؤدي فيها إختلاف العادات والتقاليد والخصائص المحلية للشعوب دوراً أساسياً، كما أن هناك إختلاف في الأديان، أو المذاهب في الدين الواحد، فالتعددية هي أصل في المجتمع الإنساني ومنها المجتمع العربي المشرقي، ومن هنا إرتبط مفهوم الضرورة للضابط الحضاري كسلوك إيجابي تجاه التعددية، وبمعنى آخر هو السلوك الحضاري عند الإختلاف مع الآخر، سواء من حيث الإستعداد للإعتراف أو قبول وجود الآخر، أو قبول التعايش مع الإختلاف الفكري أو السياسي أو العرقي أو الديني مع الآخر، وفي نفس الوقت، الوصول إلى حلِّ الصراعات مع الآخر في المجتمع، من خلال الوسائل السلمية، بدلاً من وسائل العنف والقوة المادية أو المسلحة،

 وفي الواقع، فإن غياب هذا الضابط الحضاري في علاقات طوائف المجتمع العرقية أو الدينية المختلفة والمتنوعة، تجاه بعضها البعض في الدولة القطْرية المشرقية، أو في علاقة الأقليات مع السلطة السياسية في الكيانات القطرية العربية، أدى إلى العديد من الصراعات المسلحة في عدد من الدول، وفي هذا السياق يمكن أن تطرح قضية هيمنة الأقلية على الأغلبية في بعض الكيانات القطرية العربية مع عجز هذه الأقلية، غالباً في الحصول على شرعية الأغلبية بالإرادة الحرة، وفي نفس الوقت رفض هذه الأقلية أن تأخذ موقعها وحجمها الطبيعي، ضمن فئات وطوائف المجتمع المختلفة، مما يدفعها إلى إستخدام شرعية القوة المادية والعنف الرجعي، للمحافظة على موقعها الإستثنائي، وفي المقابل، فإنَّ تجاهل أو عدم إعتراف الأغلبية بحقوق الأقلية السياسية والثقافية، أو إضطهادها، يدفعها إلى اللجوء إلى القوة المادية لرفع الظلم والحصول على حقوقها، وكلا الوضعين تسببا في نزاعات مسلحة في بعض الدول العربية(سوريا والعراق ولبنان واليمن والسودان).

ومن المعروف أن النُّخبة السياسية هي المركز الذي يستحوذ على القوة، أو مركز إمتلاك القوة في الدولة، أو النظام السياسي أو الأقلية، لذا فإن النُّخبة السياسية وطبيعة دورها، كان عاملاً من العوامل الرئيسية التي كانت ومازالت تؤدي دوراً محورياً، في خلق أو صنع الصراعات أو تسويتها، فالنخبة السياسية هي من النخبة المجتمعية، وبمثابة القلب من الجسد، فإذا تعثَّرتن يتعثَّر الكيان الإجتماعي والجسد السياسي في أحواله وفي مستويات أدائه، ولذلك فإنَّ النخبة السياسية، أو صفوة القوة السياسية، هي القاطرة التي تشدُّ حركة التطور والتنمية إلى مساراتها المتنوعة، فإذا سلكت القاطرة مسارها الصحيح وتمتَّعت بقوة دفع مناسبة، إزدهرت التنمية وإستمر التطور، وربما يمكن القول، إنه لا يختلف إثنان كثيراً حول أهمية ومحورية دور النخب السياسية في حياة المجتمعات في الشرق الأوسط، ربما بدرجة تفوق مثيلتها في بلدان أخرى كثيرة في العالم المعاصر (4).

هنا تمثل هذه النخبة السياسية والعسكرية، نقطة الإرتكاز الأساسية للنظام السياسي الدكتاتوري، ولسلوكه التسلُّطي وإضطهاده السياسي في بعض دول المنطقة، كما لا يُخفى على أحد، أثر ودور الإضطهاد السياسي للدولة،  وعمله الدؤوب على خلق البيئة المناسبة للعنف والتوتر السياسي، داخل المجتمع الواحد، أما على صعيد الأقليات الطائفية الدينية أو العرقية، فتمثل دور النخبة في التوجيه والتأثير أو النفوذ في سلوك الأقلية السياسي، ومن هنا فإنَّ طبيعة مواقفها وسلوكها، كان يؤدي إلى التعايش أو الصراع، ما بين الأقلية والدولة القطْرية التي تستقر فيها، حيث كان يغلب على هذه النُّخب السياسية والثقافية، الإرتباط الخارجي والولاءات الخارجية، وتنفيذ مصالح دول خارجية أو قوى دولية، في أحيان كثيرة كانت هذه الدول ذات طبيعة عدائية، لبعض النظم الرافضة لمطامع ومصالح هذه القوى الخارجية، وربما كانت هذه المطامع الخارجية، تأتي على حساب المصلحة العامة للأقليات والدولة القطرية معاً، وهذه الأجواء والإرتباطات الخارجية والتنافسات، كانت تنعكس على شكل عنف وسلوك صراعي ما بين الأقلية، ودولة الأغلبية وربما حالتا السودان والعراق من أكثر الأمثلة وضوحاً.

 إن نُخب الأقلية، أدَّت أدوراُ أساسية فاعلة في صياغة الرؤى الثقافية والسياسية، وأحياناً الدينية لهذه الأقليات، وخلقت أحياناً أخرى أقليات مليئة بالشكوك والحذر، ضد مجتمع الأقلية بشكل تعزَّزت فيه التفرقة الثقافية والسياسية، وإعاقة عملية الإندماج السياسي والإجتماعي لهذه الأقليات ضمن الدولة القطرية، وبمعنى آخر أدَّت هذه النخبة أحياناً إلى خلق عزلة ثقافية سياسية ودينية وبيئة عدائية، ما بين مجتمع الأقلية ومجتمع الأكثرية، وهذه العزلة والبيئة العدائية، تضافرت مع عدد من العوامل الداخلية الأخرى، التي تمَّ الإشارة إليها خاصة الإضطهاد للنظام السياسي، في إيجاد بيئة خصبة للصراعات الداخلية في بعض المجتمعات العربية.

وهناك عدد من الإشكاليات في طبيعة الفكر العربي المعاصر، كانت في بعض الأحيان سبباً في حدوث نزاعات داخلية عربية وأحياناً عربية_عربية بينية، منها غياب وجود نظام حياة سياسي كامل أو منظومة فكرية شاملة، لجوانب الحياة المختلفة سواء الإقتصادية أو الإجتماعية أو السياسية، مما فتح المجال أمام الأنظمة السياسية، للبحث عن مستوردات بعيدة عن دائرة حضارة أبنائها، لإدارة الحياة اليومية، تراوحت هذه الأنظمه ما بين الإشتراكية أو الرأسمالية الغربية، وهو ما أدى إلى تناقضات إيدولوجية وإجتماعية وسياسية داخل الكيان القطري الواحد، تمحورت حولها التكتلات أو قوى سياسية معارضة للسلطة فتم الإحتراب الدائم وتفعيل دوامات العنف في الصراع، مثل صراع الأحزاب الشيوعية مع بعض الأنظمة السياسية العربية، أو معارضة لقوى سياسية أخرى مثل الأحزاب اليسارية مع الحركات الإسلامية.

رؤية حضارية سياسية لإستمرار الصراع

الفكر السياسي المشرقي المعاصر، رغم دخوله عالم ممارسة السلطة، ومواجهته لمشكلات الواقع وتحدياته، كمشكلات الأقليات غير العربية، إلاَّ أن هذا الفكر السياسي المعاصر، مازال يفتقر إلى رؤى منهجية نظرياً أو فلسفياً، وأسُس فكرية حضارية واضحة، ضمن مشروع نهضوي لكيفية التعامل مع مشكلة الأقليات، فهذا القصور، أدى إلى تخبُّط في عالم الممارسة السياسية، والتخبط في السياسات العامة للدولة العربية في المشرق تجاه هذه الأقليات، فتعاملت الأنظمة السياسية مع الأقليات غير العربية، ضمن معطيات أمنية وذاتية وآنية مرحلية، إرتبطت بمصلحة النظام السياسي، وليس بمصلحة الدولة، ورؤيتها الحضارية للعلاقات بين فئات المجتمع ووظائفه، وليس ضمن توجهات متعلِّقة بماهية علاقة الدولة مع الفرد والمجتمع، وطبيعة دور الدولة الإنمائي تجاه المجتمع، وهذا الخلل جعل محور العلاقة بين النظام السياسي والأقليات غير العربية هو المحور الأمني وقائماً عليه، وليست العلاقة الحضارية، وهذا المحور ولَّد وإرتبط بعلاقة الشك والحذر والتشكيك، في الولاء لللهوية الوطنية بين الطرفين، مما جعل عملية إندماج الأقليات عملية عسيرة وصعبة، ووفَّر مساحة خصبة لنشوء بذور الصراع والخلاف والعنف في الدولة القطرية، التي تحتوي مجتمع أقليات عرقية غير عربية.

وعليه فقد كانت العوامل الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية ومازالت، تتمتَّع بدور قوي ومؤثر أو فاعل، في الصراعات الداخلية بلبلدان الشرق الأوسط، غير أن نجاح هذه العوامل الخارجية في نمو الصراعات الداخلية، لم يكن ليتم لولا وجود العوامل الداخلية للنزاعات في تلك البلدان، ولنكن واقعيين ومنصفين، فالأصل هو قابلية البيئة الداخلية للتفاعل السلبي مع المؤثرات الخارجية، وأهم العوامل والأسباب أو المحركات الخارجية المؤثرة في الصراعات الداخلية،  تمثَّلت بالدور السلبي لكثير من قوى الإستشراق والتبشير، بالإضافة إلى دور الإستعمار لهذه البلدان.

وتاريخياً، حاولت هذه القوى خلق عزلة عدائية ثقافية ودينية، ما بين الأقليات ومجتمع الأغلبية، ولا يُخفى على أحد دور هذه القوى في صناعة وصياغة نُخب ثقافية وسياسية، ضمن أنماط متجانسة معها، لقيادة دول أو المجتمعات أو الأقليات العرقية والدينية، وقد أدَّت هذه النُّخب، دوراً محورياً في الصراعات الأهلية، فالإستعمار كان يغذِّي الصراعات العنصرية والطائفية من جهة، ويخلق المغالطات التاريخية والثقافية بين طوائف المجتمع، وبشكل أخص بين الأغلبية والأقليات، فكان يعمل على خلق المكائد السياسية والأحقاد بين فئات المجتمع، ليحافظ على بؤر الصراعات داخل الدولة الواحدة في المشرق الواحد، وكذلك بين الدول العربية فيما بينها ككل.

إضافة الى ذلك إضطراب الأمن الإقليمي، بحيث أدت حالة عدم الإستقرار الأمني والسياسي، الذي تعيش فيه المنطقة والشرق الأوسط، دوراً واضحاً في تصاعد أو تصعيد الصراعات الداخلية  لبلدانه، فلا يخفى مثلاً أثر وعلاقات مشاكل تركيا وإيران مع الأكراد على أكراد العراق، وكذلك دور مشاكل إثيوبيا وإرتيريا وأوغندا على مشكلة جنوب السودان، والصراع العربي والإسرائيلي على بعض الصراعات الداخلية العربية، كما وأن الصراعات بين الدول المنطقة، كان لها نتائج سلبية حادة على الصراعات الداخلية في بلدان الشرق الأوسط، فهذه الصراعات قد إستدرجت القوى الإقليمية والدولية للتدخُّل،  لتظهر مسألة التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما أدى في أحيان كثيرة إلى تدويل الصراعات الداخلية، نتج عنه تعقيد التسوية أو الحل لهذه الصراعات، ومو ما أدى إلى إطالة أمدها، وكانت النتيجة، أن المصالح الدولية ومصالح القوى الخارجية الإقليمية، تداخلت في كثير من الأحيان مع العديد من العوامل الداخلية والصراعات الأهلية، مما جعل هذه الصراعات وسائل للقوى الخارجية وأداوتها الفعالة لممارسة الضغط على القرار السياسي القطْري العربي.

كما أدَّى التنافس ما بين القوى الدولية، الى المزيد من النفوذ والسيطرة في منطقة الشرق الأوسط، وكان في كثير من الأحيان سبباً من أسباب الصراعات الداخلية في بعض الدول، واللُّجوء إلى العنف ضد بعض الأنظمة السياسية، التي كانت مدعومة من قبل الولايات المتحدة أو الغرب عموماً وبالعكس، أما في مرحلة ما بعد الحرب البادرة، فإنَّ التنافس ما بين القوى الدولية حول النفوذ في المنطقة، ورغم سيطرة القطبية الأحادية للولايات المتحدة، وحصول تراجع في هذا التنافس، إلاَّ أنه كان هناك تنافس بشكل خاص فرنسي ـ أميركي حول بعض المناطق في أفريقيا، وبعض الدول العربية في أفريقيا، إذ كان يحاول كل طرف دعم القوى المتعاونة معه في صراعه الداخلي، مع قوى الخصم الموالية للطرف الآخر.

وكما هو معروف، فإنه ربما الوجود الإسرائيلي كجسم غريب وسْط دول المنطقة، رفضته مناعة دولها لحد الآن على الأقل، ولكي يحافظ على وجوده وبقائه وتحقيق المزيد من التوسُّع، كان لا بدَّ أن يحاول تحطيم وتفتيت هذا الجسد ودوله، لإضعاف مناعته ومقاومته لإنشاء إسرائيل، إذ أنَّ الرؤية الإسرائيلية لتركيبة المنطقة، وإستراتيجية التعامل معها، بقوله أن الشرق الأوسط ليس سوى موزاييك شعوب وثقافات وأنظمة تحكم شعوباً ومجموعات غير راضية، إذا استطاعت إسرائيل الإتصال بهذه المجموعات كافة، المعادية للعروبة والإسلام، فإنها ستتمكن من تفتيت العالم الإسلامي قطعاناً متناحرة، منها على سبيل المثال آراء شارون في الثمانينيات عندما كان وزيراً للدفاع، فهو دعا إلى الإتصال بالأقليات لتفتيت وتقسيم الدول العربية، وقد أدت إسرائيل دوراً واضحاً في تقديم الدعم اللوجستي والعسكري لأقليات طائفية/دينية، وعرقية في بعض الدول العربية كلبنان مثلاً إبان الحرب الأهلية، لتعزيز دورها في نزاعها وصراعها مع الدولة المركزية العربية، أو ضد قوى سياسية معارضة للوجود الإسرائيلي، وهذا الدور مستمر في إستنزاف وتفتيت الدولة، ومن أمثلته دعم بعض القوى كحزب الكتائب المسيحية في لبنان في الحرب الأهلية، ودعم قوات جون غارينغ في جنوب السودان ضد الدولة السودانية.

فهذه العوامل والمحركات الداخلية التي ذكرنا، تؤكِّد بكل وضوح أن هناك حاجة إلى آليات لفض المنازعات الداخلية في الدول، تستند على أساس من التصالح مع مجتمعها الداخلي، قائمة على أسس من حرية الإرادة والإختيار والمشاركة في القرار، كما أن هناك حاجة أو ضرورة للتفكير في أجواء، تساعد على إستكشاف أية أسباب أو محركات للصراعات قبل تفاعلها أو تطورها، إلى مراحل تؤدي بها إلى السلوك العنفي والتصارعي، وأن أية محاولة لإستئصال أسباب ومحركات الصراعات الداخلية العربية، بعيداً عن التعاون والتضامن بين شعوب المنطقة، فإن محركات الصراع ستبقى، وفي نفس الوقت ستمتد لتطال جميع البلدان في المنطقة.

وهناك أيضاً عوامل وأطرافاً، تُعدُّ الأكثر تأثيراً في هذا المشهد، تتعلق بالأطراف المحلية، مما عرف بالثورة والثورة المضادة، وتيار الإسلام السياسي المعتدل والتيار التغريبي، وتيار الإصلاح والديمقراطية، وتيار المحافظة على مكاسب النخب الحاكمة، وعلاقاتها الخارجية، والتيار الليبرالي بتنوعاته، وكذلك ما يتعلق بالأطراف الإقليمية، حيث تبدو كل من إيران وتركيا الأكثر فاعلية في عموم المشهد بشكل متفاوت، ويُعد أي تقارب بينهما فرصة للتوصل إلى رؤية مصلحية إقتصادية وأمنية وفكرية وسياسية لهما، قد تتقاطع مع أطراف محلية مهمة، خاصة أن إيران، ربما شكلت في فترة زمنية سابقة، أهم الفاعلين في سوريا والعراق واليمن على وجه التحديد، وكذلك في معادلة التوازن الإستراتيجي في القضية الفلسطينية، أخذاً بعين الإعتبار الإشكال الطائفي وأبعاده في السياسة الخارجية الإيرانية، وتداعياته على صورتها ومستقبلها،ً فالأطراف الدولية المنطلقة من إعتقادها بأنَّ ظروف المنطقة ومعطياتها، لم تنضج بشكل كافٍ لتحقيق أهدافها ومصالحها، وتحاول هذه الأطراف منفردة، وأحياناً مجتمعة، أن تفرض معادلات لا تنهي الصراعات بقدر ما تسعِّرها، وأحياناً تديرها ولا تعالجها.(5)

ويبدو أن هناك توجه عام  للإستمرار في الصراع رهاناً على تغيُّر التحالفات، وتراجع أطراف وإستنزاف أطراف أخرى، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، عند الوصول إلى طاولة الحوار، كما هو الحال في ليبيا وفلسطين واليمن وسوريا ولبنان، ويُعد من أبرز الإتجاهات للمشهد السياسي، التمثل في أدواته العسكرية والأمنية والإقتصادية والسياسية، والتوجه نحو تدخلات إقليمية، تتقاسم الأدوار والمصالح، لتحقيق أكبر قدر وافر لكل منها الكعكات الإقتصادية، مع توفير بيئة إقليمية جديدة، فهذه التحولات تتعلق بقدرات المنظمات الإرهابية، على توسيع نطاق عملياتها، وتقوية إرتباطاتها بأجندات دول إقليمية ودولية، وبقدرة المجتمع الدولي على التوصُّل إلى رؤية مشتركة حقيقية للمشهد، بعيداً عن عجز الأمم المتحدة، وكذلك بقدرة كل من تركيا وإيران مدعومة من بعض الدول العربية للوصول إلى رؤية، تفرضها على القوى المحلية وعلى المجتمع الدولي، ومعها قدرة الأطراف الفلسطينية على إعادة الحضور والقوة للقضية الفلسطينية، بما يزيد من عوامل الدفع نحو إنهاء الفوضى وحالة عدم الإستقرار، وهنا يمكن القول بأنه تمَّ اللَّعب كثيراً على نظرية الإستنزاف لغالبية الأطراف، وهي تسعى للوصول إلى نهاية سريعة لحل سياسي في كل الأقطار، بسبب تداعيات هذا الإستنزاف الإقتصادي والأمني عليها، لكن أيّاً منها لا يملك حتى اللحظة، كامل الرؤية ولا الأدوات الكافية، ولا الضمانات اللازمة، لتحقيق أهدافه أو بعضٍ منها، لذلك تستخدم مسارات الحلول السياسية، لتحسين أوضاع اللاعبين وزيادة حصتهم ودورهم المستقبلي.

أزمة الإيديولوجيا في الفكر السياسي الحديث لدول الشرق الأوسط

إن نشوء الفكر االسياسي الحديث عموماً في قلب الدولة العثمانية في أواخر عهدها، أدَّى الى البحث عن آفاق جديدة تُعيد للدولة شبابها وللمجتمع حيويته وفاعليته، وفي هذه الأجواء تبلورت رؤية التيارات الفكرية الأساسية، القومية منها والعلمانية اليسارية وكذلك الإسلامية، لكن هذه التيارات التي تصارعت على مدار قرن، لم تلاحظ أنّ الدولة التي كان يُراد إصلاحها قد ذهبت وإضمحلَّت، وأنّ واقع ما بعد التحرُّر من الإستعمار المباشر، لا يرتقِ إلى مستوى الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن هذه التيارات الفكرية بقيت مشدودة إلى صراعها الأيديولوجي، وأهملت قضية الدولة، وأهملت أولوية الدولة، بإعتبارها معبّراً عن إرادة الأمة، فبعد أن فشلَ القوميون في بناء دولتهم القومية، وفشلَ الماركسيون في بناء دولة العمّال والفلاّحين، وفشلَ الإسلاميون في بناء الخلافة الإسلامية، يبدو و كأن الجميع إستكان ورضي بفكرة الدولة القطْرية واقعاً لا يمكن تجاوزه.

فالرؤية الأيديولوجية، هي التي كرّست مجموعة من الإشكاليات المستعصية، تمثَّلت في مجموعة من الثنائيات الزائفة في الوعْي العربي المعاصر، كثنائية العروبة والإسلام، والرجعية والتقدّمية، والنهضة والإنحطاط، والمجتمع الديني والمجتمع المدني، فكل ما إنبثق عن هذه الثّنائيات المزيّفة من قضايا وتفرّعات أكثر بعداً عن الواقع، علماً أنّ الأداء الجماهيري للشعوب في المنطقة قد تجاوز هذه المحددات الإيديولوجية، وعبرت الشعوب عن حالها، كشعوب مسلمة بعيداً عن تناقضات الإسلاميين، وكانوا عروبيين من دون إيديولوجيا قومية مسقَطة إسقاطاً على رؤوسهم، وكانوا مدنيين من دون أن يكونوا ليبراليين، وعلمانيين، والأهم من كلّ ذلك، أنهم كانوا كلّ هذا، وفي الوقت نفسه.

فالجيوبوليتيك هو مفهوم واسع، وله مقدّماته النظرية، ومَقولاته المختلفة، وما يعنينا منها، بما يشكل الأساس المنهجي الجديد في التفكير السياسي، هو الكفّ عن محاولات تغيير بنية المجتمع، وهويّته الحضارية، ودراسة هذه البنية والهويّة كمعطى تاريخي حضاري منجَز في منطقة الشرق الأوسط، غير قابل للتحويل في المدى السياسي المنظور، إذ أنه في نمط التفكير الجيوبوليتيكي، تتقدم قضية الدولة بحدّ ذاتها، لتحتلّ الأولوية على حساب قضية نظام الحكم، فنظام الحكم وكلّ محدّداته الإجتماعية والإقتصادية، هي رهن التفاعل الإجتماعي، في مناخ من الحرية داخل إطار الدولة، وأنّ قضية الدولة هي في صُلب الرؤية الجيوسياسية.

فمنطقة الشرق الأوسط،عاشت على مدار القرن العشرين، تجاربَ عديدة ومتنوّعة، تصارعت وتجاذبت فيه السياسة والإجتماع والعمل الثوري والإنقلابات بكل مضامينها ومشاريعها، وهذه التيارات في العموم لم تخرج عن إطار المشروع الإسلامي الحركي، والمشروع القومي العربي، والمشروع العلماني بتحوّلاته اليسارية والليبرالية، وتقاطعاته مع المشاريع الأخرى، إذ أنَّ مشاريع التيارات القومية والعلمانية على إختلاف مشاربها، كانت مشاريع إيديولوجية بإمتياز، كونها حملت في جوهرها مشاريع شمولية، تستهدف إجراء تحوّلات حضارية، وتغيُّرات تقارب الرؤية الوجودية، ورؤية شعوب المنطقة، للعالم والمجتمع والإقتصاد والسياسة على المستوى القيمي والنهضوي، لذلك كانت بمجملها مشاريع إنقلابية شمولية، هدفها بناء مجتمع وأنموذج حضاري جديد، مؤسس على الإنقطاع عن سياق الأمّة التاريخي والحضاري، وهذا ما لم يتحقّق، لأنّ الخروج عن هذا السياق ظهر وكأنه خروج على الأمة، ولا بدَّ من تأسيس لوعي قومي قابل للتناغم مع هويّة الأمة الحضارية، وقادر على بلورة مشروع سياسي يحقّق تطلُّعات الأمة.

إنّ كل هذه العمليات التغييرية، تتطلب دراسة وتحديد مكوّنات المشروع السياسي والإقتصادي والإجتماعي، في تناغمه وتعاضده مع مكوّنات الهويّة أوّلاً، ومعطيات الجغرافيا ثانياً، وضرورات المرحلة التاريخية كذلك، من أجل المزج مع بعضها لتقديم مشروع سياسي عربي، يُخرج دولها نحو المستقبل المنشود، فيكون العنوان المركزي والرئيس لهذا المشروع، هو الدولة، أو الدولة القادرة على تحقيق مصالح المجموعة البشرية المنضوية في إطارها، وهذا هو شرطها الأوّل والأساس، ثم يأتي لاحقاً شكل المجتمع والدولة ومواصفاتهما ونموذجهما، ليكون رهن الحراك السياسي والإجتماعي الحرّ في إطار الدولة القادرة، وهذا هو شرطها الثاني.(6)

كذلك فشلت العقلية الأيديولوجية والإسلامية، في تغيير الواقع لدول المنطقة، وعلى الرغم من تراجع الأيديولوجيا القومية بلباسها التقليدي والعلماني، والإنتشار الأفقي للتيار الإسلامي الذي ينمو في ظل واقع التشابك المباشر والميداني، فإن هذا التيار لم يتقدم على مستوى إنتاج الرّؤى والتصورات والمشاريع السياسية، وإنّ إستمرار الحركات الإسلامية وفاعليتها وبروزها، مرتبط بشكل كبير بحقيقة أن هذه المجتمعات هي مجتمعات مسلمة، تتفاعل مع الإسلام والخطاب الإسلامي، لكن لهذا التفاعل والفاعلية  القدرة على الفوز في الإنتخابات الديمقراطية، ليست غطاء ولا مبرراً لفقدان هذا التيار الإسلامي لرؤيته الجيوسياسية، وبالتالي لعدم قدرته على تحقيق هذه الرؤية في الواقع، وأن عملية نجاحه في صناعة المستقبل في المنطقة، مرهونة بقدرته على تقديم هذه التصورات السياسية، ومرهونة بقدرته على فكّ الترابط بينه وبين الدّين، فالإسلام هو دين المجتمع، وهو شأن العلماء والفقهاء، ومن ثَمَّ أفراد المسلمين، أمّا شأن الأحزاب فهو السياسة.

 فما على القوى الإسلامية السياسية اليوم، إلاَّ أن تحسم خياراتها بين كونها جماعة دينية، أو حزباً سياسياً، فالجماعة الدينية هي المجتمع المسلم دينياً، ولا يمكن لفئة قليلة مهْما كانت كبيرة، أن تستبدل نفسها بهذه الجماعة، خاصّة وأنّ ظاهرة العداء للدين قد تراجعت، ولم يَعد حتى ممثّلو التيارات الأيديولوجية الأخرى، يجادلون في هوية المجتمع، إنّما يكتفون بطرح بعض الإشكاليات الحقوقية والمدنية والإجتماعية المترتّبة على ذلك، في الظروف المعاصرة، وعلى ممثلي التيار الإسلامي أن يقدّموا الأجوبة عن هذه الإشكاليات.

وقضية الدولة هي بالأساس المشروع الجيوبوليتيكي المنتظر لدول المنطقة، فإن الواقع العربي المعاصر وفي نظرة تحليلية معمّقة، يشير إلى غياب هذه الدولة، هذا الغياب الذي بدأ منذ إنهيار الدولة العثمانية، وهو مستمرّ حتى يومنا هذا، فلا بدَّ من التمييز بين مفهوم الدولة كمعبّر عن إرادة الأمة، لكن بالمعنى الجمْعي الذي تحدّث عنه هيغل، وهذا المعنى يختلف عن واقع الحكومات لدول المنطقة في الشرق الأوسط، فما هو موجود في حكومات تقوم بتسيير شؤون مجموعات بشرية، وتحقيق مصالح شرائح وطبقات إجتماعية، وقوى صاعدة عائلية أو عشائرية أو إجتماعية أو غيرها، هذا هو واقع الدولة القطْرية اليوم في كلّ بلدان المنطقة.

إنّ واقع الدولة القطْرية المشرقية، يكمن في تمثيل حيّ وحقيقي لمفهوم ما يمكن تسميته بالدولة الرخوة، والدولة الرخوة هي التي تصدر القوانين ولا تطبقها، الكبار فيها تحميهم أموالهم، والسلطة التي تغطِّي على ممارساتهم غير القانونية، ويعمّ الفساد وتنتشر الرشاوى بين الصّغار والكبار على السواء، ويتحوّل الفساد إلى نمط حياة، فهذه الدولة الرخوة، تقوم على الربط بين التّخاذل في الإقتصاد والتّخاذل في السياسة، وبين التراخي في السياسة الخارجيّة، والتراخي في السياسة الداخلية، حيث أن مهام الإنتقال من الدولة الرخوة الى الدولة القادرة فيه صعوبة بالغة، وتحديات جمَّة، لا يمكن للدولة القطرية القيام بها، لأنها دولة ضعيفة، وسيتم جذبها ناحية القوى الكبرى، وبالتالي ستفقد إستقلاليتها وقرارها، وستدخل في تناقض مع تطلّعات الشعوب، ولن يكون أمامها من خيار، إلاّ اللّجوء إلى القبضة الأمنية لحماية نفسها، وبالتالي للعودة إلى الفساد المنظّم، الذي سيعيد إنتاج أنموذج الدولة الرخوة أو الدولة الفاشلة مرّةً أخرى.

إنّ تطلعات شعوب المنطقة في الشرق الأوسط وعمق موروثها الثقافي، وحقيقة التوتر الحضاري الذي تعيشه الأمّة، وإصرارها على رسالتها الحضارية، تتطلب بالضرورة قيام الدولة القادرة على فتح الآفاق لهذه الأمة، في صنع حاضرها ومستقبلها، والمساهمة في المسيرة الحضارية للبشرية، عبر التفاعل الحرّ والمبدع مع الواقع المعاصر، والمخزون الحضاري والقيمي لهذه المجموعة البشرية الكبرى.

فالعالم يتجه اليوم إلى بناء كتل سياسية وإقتصادية كبيرة، لضمان حضور دوله في المسرح الدولي، وإنّ النظرة إلى الإقليم الذي نعيش فيه، يظهر تبلور قوى جيوسياسية مؤسَّسة على نوع من الوحدة القومية، فليس المطلوب ولا من المحتّم قيام الوحدة العربية، وبين دوله من مشرقها الى مغربها الآن في ظل التعقيدات الدولية والإقليمية ، لكن قيام  تكتّلات سياسية وإقتصادية على أسس حضارية معاصرة، في إطار دولة أو مجموعة دول، في أقاليم جغرافية مشرقية أو مغربية، يمكن أن تؤُسّس لقيام كتل جيوسياسية فاعلة، وقادرة على الوقوف جنباً إلى جنب مع الدول المحيطة، التي يزداد نفوذها في الإقليم، وتقف حائرة تجاه هذا العجز، بين أن تتبنّى هذا الإمتداد العربي والمشرقي القاصر أو تبتلعه بشكل كامل.

فواعل الداخل وصناعة الفكر السياسي

بناءً على طبيعة التطورات السياسية الحاصلة، في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، يبدو هناك عودة الى الأوضاع الداخلية، لتكون المؤثر الأول في صناعة السياستين الداخلية والخارجية للدول، ولا سيَّما الشرق الأوسط، بعد طفرة صراعات الإيديولوجيا خلال سنوات العقود الماضية الأخيرة، حيث تساهم فواعل الداخل في حوكمة السياسة العامة الرسمية وغير الرسمية، وذلك بإعتبارها عملية حيوية ومعقَّدة، فهي تشكل نتاج تفاعل أدوار متعددة من المؤسسات أو الجهات غير الرسمية أو غير الحكومية، مثل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، التي تشارك في صنع السياسة العامة، من خلال الدور الذي تؤديه في النظام السياسي القائم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وقد برز دورها في مختلف الأنظمة المعاصرة، وهو الدور الذي تختلف درجة أهميته ونجاحه من دولة إلى أخرى، بالنظر للعديد من المعطيات الواقعية التي يفرزها كل نظام سياسي، وبجانب المعطيات التي يفرزها مدى تقدم الدول وتخلفها، ومدى إنتشار الوعي بين أفرادها.

كذلك فإنه في عالم السياسة، يكون للأفكار قوة هائلة ولديها القدرة على تشكيل مسار المجتمعات، والتأثير على هياكل الحكم، وعلى حياة الأفراد، لقد لعبت النظريات السياسية دائما دورا حاسماً في تشكيل مسار المجتمعات البشرية، وكانت قوة دافعة وراء تشكيل الحكومات، ووضع القوانين وتوزيع السلطات، من الفلاسفة القدماء إلى المفكرين المعاصرين، حيث أثرت النظريات السياسية على الطريقة التي ننظم بها أنفسنا، ونتفاعل مع بعضنا البعض، ونتصور المجتمع المثالي، كما تولد النظريات السياسية من الرغبة في فهم وتحسين تنظيم المجتمعات، والسعي للإجابة على الأسئلة الأساسية حول طبيعة السلطة، ودور الحكومة، وحقوق ومسؤوليات الأفراد، إذ توفر هذه النظريات أطراً لتحليل الأنظمة السياسية، واقتراح الإصلاحات، وتصور نماذج بديلة للحكم.(7)

في الشرق الأوسط يبرز التحدي اليوم في إسرائيل، بما يهدد كيانها بإضمحلالها عبر الصراع الداخلي الاجتماعي والسياسي والثقافي والقيمي، الذي دفع برئيس الدولة لأن يحذر من حرب أهلية على الأبواب، كذلك يكمن التحدي بإيران، الذي ساهم في تشجيعها على مسار التسويات والمصالحات، هو التحدي الداخلي الذي يرتبط بشرعية النظام في الداخل، وبتردي قدرته على الإستجابة لمتطلبات وحاجات المجتمع، كما وأن دولة كبيرة كالصين، عاد فيها الداخل ليكون مصدر صناعة السياسة، لا الصراع العقائدي الصرف مع أميركا كما كان سائداً، فتحديات الصين ترتبط بتداعيات سياسات الدولة تجاه جائحة «كورونا»، والفقاعة العقارية، وتدنِّي نسب النمو الذي من دونه، لا تستطيع بكين أن تستمر في الإستجابة لتوقعات الطبقة الوسطى الصينية الأضخم في العالم، التي تُعد العلامة الأبرز من علامات المعجزة الصينية.

ولو توسعنا قليلاً لوجدنا أن أميركا لا تشذُّ عن القاعدة، حيث الداخل الأميركي بما يشكله من صراعات هوياتية وإيديولوجية ومصلحية، بات هو المقرر في صناعة السياسة الخارجية الأميركية، لطالما قيل في أميركا إن كل سياسة هي سياسة محلية في نهاية المطاف، بيد أن وضوح هذا العنوان، لم يكن بمثل وضوحه اليوم، فعودة الدواخل لحظة مهمة في سياق تطور المعاني الفلسفية للسياسة وصراع العقائد.

والإيديولوجيات السياسية، كإطار لتنظيم وفهم دور وهيكل الحكومة، لها تأثير عميق على الطريقة التي نتخيّل بها العالم وكيفية التعامل معه، ومن خلالها يكون الفهم للبيئة، مكانياً وزمانياً، فالتفاعل بين الإيديولوجيات السياسية وبين مفهومي المكان والزمان هو مدخل رئيسي لفهم كيفية تشكل الفكر والممارسة السياسيين، لجهة دور الجغرافيا السياسية، أو لجهة السياق التاريخي، أو لجهة تصور المستقبل.

وهنا يلعب مفهوم المكان دوراً حاسماً في الإيديولوجيات السياسية، أياً يكن نوعها، لأنه يؤثر بشكل مباشرعلى طريقة توزيع السلطة السياسية وممارستها وتعريف مصادر الشرعية ومعايير النجاح والفشل، فيما يرتبط البعد المكاني إرتباطاً وثيقاً بالجغرافيا السياسية، سواء أكان ذلك يعني الحدود المادية أو الموارد الطبيعية أو توزيع السكان، ولا ينفك البعد المكاني عن البعد الزماني الذي يستدعي التاريخ، كما هو حال معظم الآيديولوجيات القومية أو الهوياتية، التي تولي أهمية إستثنائية للأرض والثقافة واللغة والعرق.

بداهة، تختلف الآيديولوجيات بعضها عن بعض بإختلاف قدرتها على التكيف والتطور بمرور الوقت، ومدى قابليتها لأن تستجيب للظروف الإجتماعية والإقتصادية والسياسية المتغيرة، وما تتيحه أو لا تسمح به ديناميكية الفكر والممارسة السياسيين.

التعبيرات المكانية والزمانية المختلفة للمتصارعين في الشرق الأوسط، نجده متجلياً في العنوان الزمني بالسعودية وبرؤية 2030، أما العنوان الجغرافي هو الوطن السعودي بحدوده المعترف بها دوليا، وفي الخليج رؤى مماثلة، كما هي رؤية الإمارات في الخمسين سنة المقبلة، بعد أن أتمت الدولة عام 2021 عامها الخمسين، وأما المكان فهو الدولة نفسها. نقع هنا على زمان ومكان محددين يمكن تصورهما ضمن حدود الإدراك البشري، في الوقت  الذي يجد فيه المرء إذا ما نظر إلى الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، ليجد زمن يتراوح بين تاريخ سحيق، ومستقبل هو ما بعد المستقبل وما بعد الحياة، فدعاة الصحوة السنَّة يتوقون إلى ما يسمَّى العصر الذهبي للإسلام أيام الخلافة الراشدة، باحثين عن خليفة لإعادة إنتاجه، خارج أطر الدولة والحدود والشرعية السياسية أو الهوية الوطنية، وكذلك دعاة الصحوة الشيعة، تأخذهم النوستالجيا والحنين إلى لحظات يعتبرون أن مليئة بكل معاني الحق السياسي، كما في إحياء عاشوراء كلحظة سياسية، ويجتهدون في محاولة تعديل نتائج هذ الحدث التاريخي، بنتائج معارك تخاض راهناً، سواء أكان في العراق أم في سوريا أم في اليمن، وأما المستقبل في الفكرين، فهو الآخرة بعينها وليس أقل، حيث النعيم الأبدي والجنان الموعودة نتيجة بتحقيق الوعد الإلهي.

أما المستقبل المنظور إليه لدى الدول غير الآيديولوجية، كالسعودية والإمارات، فهو مستقبل مادي ملموس بمكانه وزمانه، مرتبط بالتخطيط لمستقبل قابل للتوقع، وأكثر تركيزاً على تعزيز التنمية في الإقتصاد وفي التماسك الإجتماعي والتحديث والإستدامة البيئية، وغالباً ما يكون مدفوعاً بإحتياجات وتطلُّعات شعب محدد ضمن حدود الهوية الوطنية للدولة،فما ينتج عن هذا التفاعل بين الفكر السياسي ومعادلتي الزمان والمكان، يتصل مباشرة بمستقبل البشر، فاليوتوبيا التي تروج لها الإيديولوجيا، ولا سيما الجامدة منها، تتمحور حول تحقيق مجتمع مثالي قائم على مبادئ دينية أو ثقافية أو قومية أو سياسية أو طبقية، ولذلك تمتلك القدرة على تعزيز ثقافة التضحية الفردية، والإستشهاد بغية تحقيق الصالح العام، لأنها تقدم أولوية الأهداف الجماعية على الرفاهية الفردية.

وعلى العكس من ذلك، تعطي دول أخرى في المنطقة كالسعودية والإمارات وباقي دول الخليج، الأولوية لرفاهية الفرد وتلبية الإحتياجات والتطلعات الحالية، المرتبطة بمستويات معيشية عالية، كالتعليم، والرعاية الصحية، والفرص الإقتصادية لمواطنيها.

في الختام

إن المساهمة في إدارة الحكم من خلال تسيير الشؤون العامة، حق مشترك بين جميع المواطنين، ولا بدَّ أن يقوم وفق أسس من المساواة والعدالة الإجتماعية والإنسانية، في تعزيز كرامة الفرد وصيانتها، فلا يجوز الإستبداد به وإحتكاره من قبل البعض دون البقية، وعليه فإن ظاهرة الإستبداد السياسي، هي ظاهرة مَرَضية تصاب بها نظم الحكم، ولم تسلَم العديد من النظم السياسية من هذه الظاهرة السلبية التي أصيبت بها، لكن تبقى ميزة الظاهرة الإستبدادية المعاصرة في إستدامتها وصعوبة تفكيكها، إضافة الى ممانعة قيام نسق صالح للحكم ممكّن وقادر على التعبير السليم والسلمي،  والمعبِّر عن حقوق وإحتياجات جميع أفراد المجتمع، وقادر على تحقيق التنمية الإنسانية الشاملة، فهذا الأخير لن يقوم إلاَّ بتفكيك نظم الإستبداد وتبديلها بأخرى منفتحة، إذ تسبَّبت هذه الظاهرة التي طبعت المنطقة العربية والشرق الأوسط مبكراً، في إنهيار الفرد، وتسببَّت بالفشل في الحفاظ على جودة الحياة، وتحقيق التنمية والإزدهار المطلوب من نظم الحكم، فمن خلال النظر في أسباب إستدامة الظاهرة وتجددها، نجد أن مسار الدولة المعاصرة، بكل مراحلها حتى الوقت الراهن، يشترك في ظاهرة التسلطية، كما لا يمكن إنكار جهود النخب الحاكمة لإستمرارها في الإستبداد بالحكم، وتتمثل هذه الآليات والعوامل في ثقافة ترتبط بروافد التسلُّط والأبوية، فلا مجال إلى تحول ديمقراطي، إلاَّ إذا كان هناك يقين لدى قطاع واسع من المواطنين بأن الديمقراطية هي أفضل نظام حكم وضعي متاح، وتتمثَّل كذلك بإشكالية الفساد، وما يترتَّب عنها من سوء إدارة الثروة، وما يتبعه من الفقر وإنتشار عوامل الجهل بنسب كبيرة توسِّع دائرة العجز في بنية العقل العربي عامة ومنطقة الشرق الأوسط على الخصوص.

 فجدلية العلاقة بين الفقر والجهل مثبتة، إذ عادة ما ترتبط بالتهميش والضعف، ومنه العزوف عن المشاركة السياسية، وإستشراء ظاهرة العنف السياسي بمختلف مظاهرها، حيث تتراكم الظواهر السلبية ونتائجها في ظل النظم الرسمية، التي تتحمَّل مسؤولية إيصال شعوبها إلى هذه المستويات من الإنحطاط، والتي لم تنجح في تحقيق التقدم خلال العقود السابقة، بما يدفع للتفكير بإنعدام أي أمل في تحقيق الإصلاح في إطارها وبوجودها، فلم يعد هناك بديل من الإعتراف، بأن أي إصلاح مهما كان ضعيفاً وجزئياً، أصبح يستدعي شروطاً في تغيير طبيعة الحكم وأساليبه وقواعده وغاياته ورجالاته الحكم فيه أيضاً، أي أنه يستدعي التحوُّل من نمط الحكم القائم على الوصاية أو القيادة الطليعية أو الأبوية، إلى نمط جديد من حكم يستند إلى تفويض مباشر، وعن طريق إنتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية من قبل الشعب، والخاضع لمراقبة ممثليه ونوابه، غير أن الدولة التسلطية، منعت كل فرص التحوُّل الديمقراطي السلمي، الأمر الذي دفع تحت الضغط  إلى اللجوء لقنوات ووسائل تعبير أخرى، أخطرها العنف والعنف المضاد.

فلا منطق جدي في تعزيز إرادة التغيير، المتقاطعة مساحاته بين مكونات الدولة، التي يُعاد رسم حدودها وأدوارها، وكذلك داخل المجتمع الذي يشهد تغيُّرات عميقة، والتطورات الجيوسياسية السائلة بقوة من متغيِّر الى آخر، ويضاف اليها ضرورة إثراء الفهم المتأني للعالم، والطريقة التي يتغيَّر بها، ومكانه فيه، بينما تتواصل محاولات تقويض أو إستكمال دور الدول في المنطقة، من خلال الجهود المبذولة لتقليص حجمها وإمتيازاتها، بفرض سياسات تروِّج لها المؤسسات المالية الدولية، وتسيِّرها في إتجاهات الخصخصة ووضع اليد على مقدراتها، وبالرغم أن دول المنطقة قد إستطاعت التكيف من خلال ذلك بإثبات أنها أكثر مرونة مما كان متوقعاً، فقد بقي التحكم في الدولة هو الأساس والمشروع السائد، وغالباً شكل الضمانة الوحيدة لبقاء النخبة وحيدة ممسكة بإدارة الدفة في الحكم السياسي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-عبدالله اوجلان،، مانفيستو الحضارة الديمقراطية، السلطة المهيمنة المركزية، صفحة 34و 35.

2-عبد المنعم سعيد،عن الحوار السياسي،

https://www.alarabiya.net/politics/2022/05/02/%D8%B9%D9%86

3-هشام جعفر، إعادة تعريف السياسة، https://www.aljazeera.net/opinions/2022/1/9/%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7

4https://www.aljazeera.net/2004/10/03/%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%88%D9%85%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%A9

5-التحولات في الشرق الأوسط واتجاهاتها ، مركز دراسات الشرق الأوسط ، http://mesc.com.jo/OurVision/2018/01.html

6-محمد عادل شريتج، ملامح الفكر السياسي العربي، https://www.dohainstitute.org/ar/ResearchAndStudies/Pages/art344.aspx

7- أيمن عمر، https://www.aljazeera.net/blogs/2024/3/11/%D9%82%D9%88%D8%A9-

%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى