
لم يكن الصراع السوري مجرد انتفاضة شعبية، بل أنه يمثل تجسيدًا لتراكمات عقود من الاستبداد والفساد السياسي والاجتماعي، ما نتج عنه انهيار البنية المؤسسية. وللمصالح الإقليمية والدولية وتعقيداتها دورًا رئيسًا في تعظيم هذه الأزمة، فقد أصبح الانتقال الديمقراطي في سوريا هدف مأمول تحاصره العديد من المعوقات، التي تجعل إمكان تطبيقه أشبه بالتصورات المثالية البعيدة عن الواقع في سوريا.
فبعد مرور أكثر من عقد على بدء الصراع الدموي الذي أودى بحياة مئات الآلاف وتسبب في نزوح الملايين، وهروب رأس النظام السوري في 8 ديسمبر 2024 وسيطرة “هيئة تحرير الشام” على الحكم في دمشق، تبقى المعضلة الرئيسة التي تواجه الإدارة الحالية للبلاد هي الانتقال الديمقراطي، وبناء مؤسسات وطنية قادرة على احتواء التنوع وضمان المشاركة السياسية للجميع، ويتطلب ذلك دور إيجابي وتكاملي من المجتمع الدولي لتحقيق الاستقرار وتجنب سيناريوهات الفوضى.
وبناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تناول معضلة الانتقال الديمقراطي والواقع الراهن في سوريا، مع تحليل الديناميات السياسية وبيان التحديات الرئيسية التي تعيق تعزيز التحول الديمقراطي، والتطلع لاستشراف المستقبل وتصور السيناريوهات المتوقعة في ضوء المتغيرات المرتبطة بالمشهد السوري.
آفاق المشهد الراهن:
دخلت سوريا مرحلة جديدة من التطورات التي بدأت منذ اندلاع الثورة السورية، إذ تواجه اليوم تحديات كبرى على كافة الأصعدة، بعد أن فر رئيس النظام السابق تاركًا خلفه تركة ثقيلة من الدمار، الذي لحق بالبلاد كنتيجة طبيعية لسياسات العنف والقمع التي انتهجها في التعامل مع الثورة، بل وعلى مدى مدار فترة حكمه الممتد منذ تولي “حافظ الأسد” وصعود حزب البعث السوري لرأس السلطة.
فقد رفض الرئيس السوري السابق “بشار الأسد” أي فرص قُدمت له لإحداث تغيير يعتمد على الإصلاح وإن كان تدريجيًا، وتراكمت التحديات التي تمنع تحقيق الإجماع السياسي والمشاركة الفعالة لمختلف أطياف القوى السياسية التي قاومت النظام، فبات بناء المؤسسات وتوحيد السلاح في يد الدولة وإنهاء العنف تحدي كبير بل وهو التحدي الأكبر الذي يتطلب مصالحة حقيقية، لكن هذه المصالحة تعيقها التدخلات الدولية المرتبطة بمشاريع قائمة على المصلحة الخاصة لدول إقليمية ودولية على رأسها تركيا، التي أصبحت المفتاح الرئيس والفاعل المحوري والمحرك الخفي الغير مستتر لإدارة هيئة تحرير الشام في أغلب الرؤى والتحليلات.
حيث تسعى أنقرة لشن عملية عسكرية جديدة لتكبيل الجناح العسكري لـ “قوات سوريا الديمقراطية PYD”، مما يعيق بالفعل إمكان توحيد صفوف الشعب السوري، لرغبة أنقرة في أن يسفك السوريين المدعومين من خلالها دماء سوريين من العرق الكردي، فقط لحماية المصالح التركية القائمة على هواجس أمنية من بناء دولة كردية، بل وتذهب لما هو أعمق بكثير في تتريك الشمال السوري الذي عملت عليه تركيا على مدار السنوات السابقة، وفرض توجه سياسي وثقافي معين على المجتمع السوري، وهذا ما يعني احتمال نشوب تجارب مؤلمة شهدتها سوريا خلال هذا الصراع الذي لم ينتهي حتى اليوم وبعد سقوط “الأسد”، مع تزايد احتمال نشوب حرب أهلية بين السوريين من جديد بصناعة وإنتاج تركيين.
فمع محاولة الإدارة المؤقتة طرح قائدها السيد “أحمد الشرع” فكرة الحوار الوطني والمصالحة الوطنية، وأن يتم جمع صفوف السوريين، بينما لم يعلق في نفس الوقت على الهجمات التركية المستمرة على شمال شرق سوريا، بل واستمر في الترحيب بالوجود التركي في الشمال السوري، مع تبادل الزيارات وتعدد اللقاءات بين المسؤولين الأتراك وأعضاء الحكومة السورية المؤقتة، وبالتالي تتصاعد بالأذهان العديد من التصورات والتساؤولات حول حقيقة نية هذه الإدارة.
ففي هذا السياق، تتراوح السيناريوهات حول هيئة تحرير الشام بين كونها تحررت بالفعل من فكر الجهاد المتطرف واتجهت لرغبتها في حماية المؤسسات السورية والدولة السورية وهو سيناريو مطروح لكن تدور حوله شكوك متعلقة بترحيب “الجولاني” بالتواجد التركي في سوريا، وسيناريوهات أخرى عديدة على رأسها أنه لم يتخلى بالأساس عن الفكر المتطرف للقاعدة وينتمي إليها ويخادع الجميع حتى تركيا والغرب، أو أنه بعد تصفية زعماء القاعدة بحث عن بديل يوالي له فوجد في تركيا الشريك المثالي لتحقيق أهدافه، وبين أنه عميل إسرائيلي بالأساس على غرار “إيلي كوهين” المعروف بـ “كامل أمين ثابت”، الذي صعد إلى منصب رئيس الوزراء في سوريا وهو عميل بالموساد الإسرائيلي. كل السيناريوهات مطروحة ولذلك جميع التصورات مفتوحة حول مستقبل الدولة السورية في ظل إدارة تحرير الشام لها، والأمر يتطلب تحقيق المشاركة السياسية لكافة مكونات الشعب السوري، والضغط الدولي على الهيئة لعدم التفرد بالحكم وعدم الانصياع للأجندات السياسية ومشاريع القوى الإقليمية وأطماع دول الجوار في الأراضي السورية.
ولذلك، يجب أن يتم اتخاذ خطوات حقيقية وتطبيق ما يتم الحديث عنه في مسار الحوار الوطني الشامل، على أن تتضمن المصالحة كافة مكونات الشعب السوري، فمازالت الحاجة لاتخاذ خطوات مادية ملموسة قائمة، وتتطلب توفير ضمانات حقيقية، خاصًة فيما يتعلق بنية الإدارة المؤقتة لسوريا.
تحديات التحول الديمقراطي:
تمثل المرحلة الانتقالية فرصة لإرساء أسس نظام سياسي يتجاوز الاستبداد ويمنع نشوء هذا الفساد مستقبلًا، بالاستناد إلى الحكم الرشيد والمشاركة الشعبية واحترام حقوق المواطن ومبادئ المواطنة، لكن يبقى هناك مؤشرات عديدة على غياب الحل الجذري للصراع السوري حتى اليوم، في ظل عدم توافر المصالحة الوطنية الحقيقية وبقاء دور القوى الإقليمية والدولية كطرف رئيس في تعقيد الأزمة وإعاقة الحلول الوطنية في سوريا، خاصًة في ظل غياب موقف واضح من التوترات سواء من جهة الإدارة المؤقتة أو القوى المؤثرة في الصراع السوري. بالتالي، هناك العديد من المعوقات بمختلف الأصعدة أمام التحول الديمقراطي، ويمكن تقسيم أهم هذه التحديات على النحو التالي:
(1) استمرار التدخلات الخارجية: مستقبل سوريا يجب أن يكون للسوريين فقط وتظل الدول الإقليمية والدولية طرفًا رئيسيًا في تعقيد الأزمة وإعاقة الحلول الوطنية، خاصًة مع توافر أجندات وخطط وأطماع لدى بعض القوى المنخرطة في الصراع السوري، وعلى رأسها تركيا وإسرائيل، بعد أن استغلت الأخيرة التطورات مع سقوط نظام “الأسد”، وقامت بتدمير مقدرات المؤسسة العسكرية السورية، والتوسع في احتلال الجنوب السوري متجاوزة القوانين والمعاهدات الدولية، واستمرار التدخل العسكري التركي وتهديد الكرد والبنية التحتية لشمال وشرق سوريا، واستهداف سد تشرين الذي مثل كارثة كبرى تهدد بمزيد من التعقيد بالغ الخطورة في المنطقة.
(2) غياب موقف واضح من التهديدات الإقليمية: حيث تتعامل الإدارة المؤقتة مع قضايا السيادة السورية وأمن الحدود من منطلقات متناقضة قائمة على ازدواجية في المعايير في تداول التصريحات، خاصًة في تعاملها مع التواجد العسكري التركي في الشمال، كما أنها بالرغم من تنديدها بالتوغل الإسرائيلي في مناطق الجولان والقنيطرة، أكد قائدها في تصريحاته أنه لا خلاف له مع إسرائيل، مما يهدد وحدة الأراضي السورية والأمن القومي السوري والعربي بشكل أعم وأشمل.
(3) التدهور الاقتصادي والاجتماعي: تقيد الظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية في سوريا أي جهود للتحول، مع تزايد الحاجة إلى التركيز على الأولويات بتوفير الاحتياجات الأساسية بدلًا من قضايا الإصلاح السياسي، فقد شهد الاقتصاد السوري مراحل تدهور كبير منذ بدء الصراع السوري، ولاسيما بعد فرض قانون قيصر على النظام السوري، وتضييق الحياة على المواطنين المتواجدين في سوريا، وبالتالي هناك حاجة شديدة لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، والتي تشكل حاجزًا كبيرًا أمام إعادة الإعمار والتحول الديمقراطي، وتؤثر بصورة مباشرة على حياة المواطنين لتدهور الظروف المعيشية لحياتهم اليومية، ولكن يبقى الأمر في أيدي القوة المسيطرة على الحكم في دمشق حاليًا وهي الإدارة المؤقتة، والتي عليها أن تقدم ضمانات حقيقية وخطوات مادية في المصالحة الوطنية لتحقيق تقدم سياسي، بما يسمح برفع العقوبات والقيود وإعادة الإعمار وبناء الاقتصاد السوري وانتعاشه من جديد.
(4) تدمر البنية التحتية والحاجة لإعادة بناء المؤسسات: تعاني البنية التحتية والمؤسسات الحكومية من جراء الحرب الأهلية، وتحتاج إلى إعادة تأهيلها بما يجعلها قادرة على ضمان تمثيل حقيقي لكافة مكونات الشعب السوري، دون أي استثناء لأحد المكونات السياسي أو الاجتماعية السورية.
(5) تراجع الثقة الشعبية بالقيادات السياسية: مر السوريين بأزمات وصراع طال لقرابة 14 عامًا، وأدى إلى فقدان الثقة بين كافة القوى السياسية بل والمجتمع الدولي بشأن مدى الجدية في احترام الإرادة الوطنية، وحق السوريين في تقرير مصيرهم بعيدًا عن أي تدخلات خارجية، وبالتالي يشكل موقف الإدارة الجديدة الغير متضح بدقة حتى الآن عائقًا أيضًا أمام إعادة ثقة الشعب السوري وتوحيده والتوجه للتحول الديمقراطي وتعزيز المشاركة الشعبية في تقرير المصير لمستقبل البلاد، تخوفًا من السيناريوهات العديدة المفتوحة أمام مستقبل الدولة السورية. وحتى المعارضة السورية التي اختفت عن الأضواء منذ سقوط النظام السابق، يضعف غياب رؤيتها قدرتها على التأثير في المشهد السياسي. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى القضية الكردية التي تسعى تركيا لقمعها في سوريا، وعلى حساب الوحدة السورية، وما يمكن أن يوضح نية الإدارة المؤقتة ومدى تبعيتها لتركيا وخيانتها للشعب السوري هو هذا الملف، وأن يسمح “الشرع” بأن تُسفك دماء السوريين الكرد على أيدي الجيش التركي أو حتى الفصائل المدعومة من تركيا.
سيناريوهات عديدة:
تؤكد المؤشرات والتطورات انفتاح المشهد السوري على كافة السيناريوهات المطروحة، والتي تتراوح ما بين التفاؤل الحذر واستمرار حالة الجمود، ويمكن توضيح السيناريوهات المتوقعة لمستقبل المشهد السوري، على النحو التالي:
(1) تسوية سياسية شاملة بدعم دولي: في هذا السيناريو، تشير المؤشرات أن تستمر الضغوط الدولية والإقليمية على الأطراف السورية للوصول إلى اتفاق سياسي شامل، بما يضمن تمثيل جميع المكونات السياسية والاجتماعية في حكومة انتقالية. وبالتالي يتم تحقيق الاستقرار من خلال إعادة بناء المؤسسات وإطلاق عمليات إعادة الإعمار، مع استمرار بعض التحديات المتعلقة بعدم القفة بين الأطراف، ولكن قد يتم رفع العقوبات في هذا السيناريو بما يترك مجالًا أمام الاقتصاد السوري للانتعاش والنهوض بقوة، مع دعم مختلف القوى الملتزمة بالمساهمة في إعادة إعمار البلاد.
(2) استمرار الجمود السياسي: ويقوم هذا السيناريو على آثار الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية مع استمرار المفاوضات لمحاولة التوصل لتسوية للأزمة السورية، بعد تعثرها مع استمرار الأوضاع الراهنة، ويؤدي ذلك إلى بقاء الوضع على حاله دون تحقيق أي تقدم سياسي. وأن يستمر الجمود في استنزاف الموارد وزيادة معاناة الشعب وتدهور الاقتصاد والأوضاع المعيشية، مع احتمال استمرار العنف والتوترات الأمنية.
(3) تصاعد الفوضى: في ظل الجمود السياسي وغياب الحلول السياسية، يزداد التفكك الأمني والسياسي مع سيطرة الميليشيات والجماعات المسلحة على المناطق المختلفة والعودة بالأزمة السورية إلى المربع صفر، أو نشوب حرب أهلية من جديد في إطار المشاريع الإقليمية التي لا تتضمن وحدة الأراضي السورية وتوحيد صفوف الشعب السوري بمختلف مكوناته، ما يؤدي إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وتفاقم الأوضاع الإنسانية وتعزيز الفوضى وعدم الاستقرار.
(4) إصلاح تدريجي: يتمثل ذلك السيناريو في إمكان إدخال إصلاحات سياسية محدودة تدريجيًا، مثل توسيع التمثيل السياسي أو إعادة بناء بعض المؤسسات، مما قد يفتح المجال أمام عودة الاستقرار على المدى البعيد. ويعتمد نجاح ذلك على توفر إرادة سياسية حقيقية وحرة ودعم شعبي ودولي مستدامين، خاصًة أن هذه الإصلاحات قد تكون بطيئة وتواجه العديد من المعوقات.
وتأسيسًا على كل ما تقدم سالفًا، يمكن القول أن تحقيق التحول الديمقراطي المستدام يتطلب إعادة صياغة العلاقات الداخلية والدولية في الأزمة السورية، وفقًا لرؤية وطنية شاملة تهدف إلى بناء الثقة بين مختلف مكونات الشعب السوري عبر الحوار الوطني وإطلاق مبادرات شاملة تجمع كافة الأطراف دون أي استثناء. مع تعزيز جهود الإصلاح للمؤسسات السيادية لضمان التمثيل الوطني الشامل بها وضبط التدخلات الخارجية فقط في إطار دعم الجهود الوطنية وليس العكس، بتقليص تأثير القوى الإقليمية ذات الأجندات السياسية القائمة على المصالح الخاصة بها، لضمان استقلال القرار السياسي السوري.
أي أن المستقبل السوري مرهون بتضافر الجهود المحلية والدولية لتحقيق التحول الديمقراطي بصورة حقيقية، مع التركيز على بناء مؤسسات قوية قادرة على مواجهة مختلف التحديات، مما يتطلب رؤية استراتيجية شاملة تستند إلى الحوار، المصالحة، والاستفادة من الدعم الدولي البناء، وكل ذلك يعتمد على ضرورة ألا يسمح السوريين وعلى رأسهم الإدارة المؤقتة المسيطرة حاليًا على القرار السياسي بالتدخلات الإقليمية التي تهدد وحدتهم وتماسك المجتمع السوري.