
“من يقود الذكاء الاصطناعي سيصبح حاكم العالم” بهذه الكلمات علق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2017 على سباق الذكاء الاصطناعي الذي احتكرته واشنطن عن طريق عملاقة التكنولوجيا في “وادي السليكون”، ليمثل نموذج “ChatGPT” التابع لشركة “OpenAI” رمزًا للريادة الأمريكية على سوق الذكاء الاصطناعي، في وقت بدت بكين متعثرة في تقديم بديل ينافس النموذج الأمريكي، الذي لا يتوفر في الصين.
وسعت واشنطن، التي كانت واثقة من تفوقها، للحفاظ على ريادتها من خلال تعزيز إدارة الرئيس الأمريكي السابق بايدن القيود على تصدير الرقائق والتكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، في محاولة لكبح تقدم بكين في هذا المجال، ولكن إطلاق نموذج “DeepSeek” قلب الموازين وأدهش وادي السليكون والعالم بأسره، إذ تؤكد الشركة الصينية أن نموذجها القوي يتميز بتكاليف أقل بكثير مقارنة بالمليارات التي أنفقتها الشركات الأمريكية على تطوير الذكاء الاصطناعي.
إنجاز DeepSeek لم يكن الأول
فاجأ مختبر الذكاء الاصطناعي الصيني “DeepSeek” العالم بإطلاق نموذجه الجديد “R1″، الذي يتمتع بأداء يماثل النماذج العالمية الرائدة، لكن بتكلفة تدريب أقل بكثير، وحيث وصف الرئيس التنفيذي السابق لشركة المعالجات “إنتل”، بات غيلسينغر، هذا الابتكار بأنه “حل عالمي المستوى”، في سياق ذاته أدرج مؤشر “Artififcal Analysis” لجودة نماذج الذكاء الاصطناعي النموذج الصيني في المركز الثاني ضمن قائمة أفضل عشرة نماذج عالميًا، متفوقًا على العديد من المنافسين .
لم يكن هذا الإنجاز الأول للمختبر الصيني، المدعوم من شركة High-Flye إحدى كبرى صناديق الاستثمار في الصين سابقًا، فقد أثبت تفوقه المستمر في مجال الابتكار في الذكاء الاصطناعي من خلال نماذجه مفتوحة المصدر، والبداية كانت مع نموذج “DeepSeek V2” الذي أحدث صدمة في قطاع الذكاء الاصطناعي الصيني، ليس فقط بسبب أدائه القوي، ولكن أيضًا بسبب تسعيره التنافسي، حيث وفر أداءً يماثل كبار المنافسين، ولكن بتكلفة أقل بكثير.
بحلول ديسمبر 2024، عزز نموذج الذكاء الصيني مكانته في سوق الذكاء الاصطناعي العالمي بإطلاقه نموذج V3، الذي تفوق على نموذج “Llama 3.3” المقدم من عملاق التكنولوجيا “ميتا” في جميع المقاييس الأساسية، مثل الاستدلال، البرمجة، والتفكير الكمي، كما كان على قدم المساواة مع نموذج Claude 3.5”” من شركة الأمريكية الناشئة “Anthropic”، لكن الإنجاز الأبرز جاء مع إطلاق نموذج “R1”، الذي ظهر بعد أربعة أشهر فقط من إصدار شركة OpenAI نسخة مبتكرة من نموذجها الأقوى “ChatGPT” في سبتمبر 2024، ليؤكد مرة أخرى قدرة الصين على الابتكار السريع في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.
صدمة استراتيجية وجيوسياسية
على المستوى الدولي، شكل DeepSeek صدمة استراتيجية وجيوسياسية بقدر ما شكل زلزالًا لأسواق المال في مختلف أنحاء العالم، لأنه ببساطة غير قواعد اللعبة في المجال الذي ضخ فيه المستثمرون الأميركيون مئات المليارات من الدولارات، حيث أعلن الرئيس ترامب دعمه لشركات “وادي السليكون” للذكاء الاصطناعي في المستقبل المنظور، عبر مشروع “ستارجيت” الذي أعلن عنه قبل انهيار أسهم البورصة الأمريكية مباشرة، وتصل استثماراته إلى 500 مليار دولار تضخها شركات OpenAI و”Soft Bank” و”Oracle” على مدى السنوات الأربع المقبلة، بالتزامن مع إعلان ترامب للمشروع أصدر قرارًا بالتراجع عن الأمر التنفيذي الذي أصدره سلفه بايدن بشأن الذكاء الاصطناعي، وكان يهدف إلى تقليل المخاطر التي يفرضها على المستهلكين والعمال والأمن القومي.
في السياق ذاته، وصف مارك أندريسن، رجل الأعمال المؤثر في وادي السليكون ورأس المال الاستثماري، صدمة ظهور النموذج الصيني DeepSeek على الأسواق الأمريكية بأنها تشبه صدمتهم باختراق القمر الصناعي الروسي “سبوتنيك” للفضاء متفوقًا على الولايات المتحدة، حيث اعتبر النموذج الصيني “واحدًا من أكثر الاختراقات المذهلة” في مجال الذكاء الاصطناعي، والسيناريو يتكرر للمرة الثانية بعد فقدان الأسهم الأميركية أكثر من تريليون دولار من قيمتها السوقية وسط عمليات بيع مدفوعة بحالة الذعر التي انتابت الأسواق من التفوق الصيني، لتدعم الإدارة الأمريكية استثمار مليارات الدولارات في نموذج شراكة بين القطاعين العام والخاص، لاستعادة الهيمنة التكنولوجية الأمريكية.
وفي دراسة نشرها معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، أظهرت أن الأبحاث الصينية المنشورة في مجالات التكنولوجيا الحرجة تلاحق الولايات المتحدة منذ ما يقرب من عامين، وليس من قبيل المصادفة أنه في نهاية عام 2024، أظهرت بكين للعالم تقدمها في كل من القدرة العسكرية في شكل مسيرات مقاتلة جديدة والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج في مجال الذكاء الاصطناعي، على الرغم من القيود الأمريكية على صادرات رقائق ومعاملات نماذج الذكاء الاصطناعي.
بينما تواصل الدول الغربية مناقشة التوازن بين الاقتصادات المفتوحة بالكامل والاستراتيجيات الصناعية والتكنولوجية الوطنية مع مشاركة حكومية أكبر، فقد دمجت الصين بالفعل صناعتها مع استراتيجيتها الوطنية التي تقودها الحكومة، ومن الواضح أنها أصبحت تشكل ثقلًا تكنولوجيًا بفضل ذلك.
قمة باريس نقطة تحول
إن الصعود السريع ل DeepSeek يسلط الضوء على التحدي المتزايد الذي يواجه صناع السياسات في الولايات المتحدة، فالنماذج الصينية أصبحت قوية بشكل متزايد وبدون ضمانات، ويمكن أن تهدد الأمن القومي والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة.
وقد اشتد هذا التحدي مع دعم كل من الحكومتين الأمريكية والصينية لشركات الذكاء الاصطناعي، فقد أبدت قيادات الحكومة الصينية اهتمامًا واضحًا بالنموذج الصيني، والذي أكدته دعوة رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ للرئيس التنفيذي لشركة “DeepSeek” ليانغ وينفينج، لتقديم ملاحظات حول مسودة تقرير عمل الحكومة، بالإضافة إلى الإعلان عن صندوق استثمار في الذكاء الاصطناعي بقيمة 8.2 مليار دولار، مما يضيف موارد مالية لتشغيل نماذج صينية آخرى موفرة للتكاليف.
وفي الوقت نفسه، ضاعفت الولايات المتحدة جهودها للفوز بسباق الذكاء الاصطناعي، حيث حذر الرئيس الأمريكي ترامب خلال مؤتمر للحزب الجمهوري في ميامي من أن “DeepSeek” يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار لشركات التكنولوجيا الأمريكية، لأنه يجب التركيز على المنافسة للفوز، وتستعد شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية الرائدة للتعبئة لمواجهة التنين الصيني، حيث نشرت شركة “ScaleAI” إعلانًا على صفحة كاملة لترامب تصرح “عزيزي الرئيس ترامب، يجب على أمريكا أن تفوز بحرب الذكاء الاصطناعي”.
وعلى الرغم من تسارع المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فإن قمة باريس مجال الذكاء الاصطناعي التي مقرر عقدها هذا الشهر، يمكن أن تكون نقطة تحول في التوافق بشأن مخاطر ذلك الصراع، حيث إذا وقعت المزيد من الشركات الصينية على أطر السلامة جنبًا إلى جنب مع نظيراتها الغربية، فسوف تبث طاقة أمل جديدة كمسار نحو التخفيف من مخاطر سباق الذكاء الاصطناعي، وبينما تكافح الولايات المتحدة والصين لبناء قوة دفع للتوصل إلى اتفاق على المستوى الحكومي، يمكن للشركات على جانبي المحيط الهادئ إقامة جسر تواصل لحوكمة الذكاء الاصطناعي، حتى تبني الحكومات معاهدات راسخة.
سيناريوهات مستقبلية
السيناريو الأول: التصعيد التقني وحرب باردة الجديدة
يعد السيناريو الأكثر قابلية للتحقق في ظل استمرار التوترات التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، حيث تشهد الساحة العالمية تصعيدًا حاداً في مجال الذكاء الاصطناعي، ومع تبني الرئيس الأمريكي ترامب تشديدًا على كافة الأصعدة في مواجهة الصين لتوسعة حظر تصدير الرقائق المتقدمة وفرض تعريفات جمركية ومحاصرة الشركات الصينية عالمًا، تعتمد بكين على شركات محلية لتطوير بدائل وطنية، وهذا التصعيد يقود إلى انقسام السوق العالمي إلى معسكرين: نماذج مغلقة المصدر بقيادة “OpenAI” الأمريكية، ونماذج مفتوحة المصدر بقيادة “DeepSeek” الصينية، لنشهد تباين في المعايير والأخلاقيات، وزيادة التوترات في مناطق استراتيجية مثل تايوان، حيث تتصاعد المنافسة على موارد أشباه الموصلات.
السيناريو الثاني: الهيمنة الأمريكية عبر الاستثمار الهائل
بتمويل مشترك بين القطاعين العام والخاص، يحقق مشروع “ستارجيت” الأمريكي اختراقات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي العام، وتواصل الولايات المتحدة التوسع في فرض عقوبات على الشركات الصينية المتورطة في مشاريع ذكاء اصطناعي عسكرية، مما يعزز تفوقها التكنولوجي، وتهيمن التكنولوجيا الأمريكية على الأسواق العالمية، لكن هذا التفوق يأتي على حساب زيادة الفجوة الرقمية بين الدول الغنية والفقيرة.
السيناريو الثالث: التفوق الصيني عبر الابتكار التخريبي
بفضل استثمارات ذكية في البحث والتطوير، تنجح الصين في تطوير رقائق متقدمة باستخدام تقنيات بديلة مثل الحوسبة الكمومية أو البصريات، متجاوزة الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، مما يتيح النماذج الصينية المفتوحة المصدر رخيصة التكلفة الانتشار بوتيرة متزايدة في الدول النامية، مما يعزز النفوذ الاقتصادي والسياسي للصين عبر مبادرة “الحزام والطريق”، مما يُضعف موقع “وادي السليكون” كمركز للابتكار التكنولوجي، ويُحوِّل مركز الثقل العالمي إلى آسيا.
السيناريو الرابع: التحول نحو تعددية قطبية
في خطوة مفاجئة، قد تنجح قمة باريس للذكاء الاصطناعي التي تعقد يومى 10و11 فبراير الجارى في إطلاق مبادئ دولية لأمان الذكاء الاصطناعي، مع توقيع الصين والولايات المتحدة على اتفاقيات تُنظم استخدام هذه التقنيات في المجالات الحساسة، مثل الأسلحة ذاتية التشغيل، مما يفتح الباب لشركات أمريكية وصينية أن تعقد شراكات للبحث وتطوير التقنيات الموفرة للتكلفة، مما يعزز التعاون بدلاً من التنافس.
ويعزز ذلك السيناريو وجود إطار عمل عالمي يقلل من المخاطر الوجودية للذكاء الاصطناعي، مع الحفاظ على التنافس في المجالات غير العسكرية، مع إمكانية ظهور قوى تكنولوجية جديدة مثل الاتحاد الأوروبي والهند، وتطور نماذج ذكاء اصطناعي مستقلة تُضعف الثنائية الأمريكية-الصينية، في وقت من الممكن أن تمثل تحالفات إقليمية مثل مجموعة “البريكس” تبني نماذج مفتوحة المصدر لتجنب التبعية لأي معسكر، مما يخلق نظام عالمي لا مركزي للذكاء الاصطناعي، مع معايير متنافسة تُقلل من مخاطر الاحتكار، لكنها تزيد من تعقيد التوافق التقني.
سباق الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والصين ليس مجرد تنافس تقني، بل هو صراع على تشكيل النظام العالمي الجديد، فالعوامل الحاسمة التي ستحدد الاتجاه تشمل القدرة على الابتكار التخريبي، ودور القطاع الخاص، والاستقرار الداخلي للدول، ورد فعل الدول الأخرى، الفائز الحقيقي سيكون من ينجح في دمج الابتكار مع الاستراتيجية الجيوسياسية الفعالة.