دراسات

كرد وأتراك.. إرث الماضي وثقل الحاضر

تحليل: د. أحمد محمد إنبيوه

على طول تاريخ الاشتباك الإنساني بين الكرد والترك بداية من الدولة العثمانية وما قبلها حتى، حتى ظهور الدولة القومية التركية، وما تلاها وإلى الآن. على طول هذا التاريخ تنوعت العلاقة بين التداخل الإنساني، والتداخل المصالحي لتشكل واحدة من أعقد التركيبات السياسية علي المستوى التاريخي وعلى مستوى العلاقات الدولية. إذ أن بصمات الماضي، ظلت ساكنة دوما في نسيج هذه العلاقة الطويلة المركبة. وربما يستجلب هذا أسئلة لأذهان المتابع لتاريخ ذاك الإرث، أسئلة تدور حول تفكيك الجانب الجيوسياسي، والجانب الهوياتي، أسئلة من قبيل: هل كان الكرد على ميعاد دائم مع الحالة الصراعية التي وسمت بها السردية الكردية حسب كثير من المتابعين؟ وهل ناوش الوئام واقع فرضته مصالح الضواري الكبرى، الممثلة في الكيانات الثقيلة في المنطقة الواقعة ما بين كردستان القديمة والأناضول حديثًا؟  

تقدم دراسة عن تاريخانية العلاقة الكردية-التركية/التركية-الكردية، أفق قراءاتي جديد لإشكالية ومأزومية السردية الكردية عموما وفي الفضاء التركي بخاصة؛ إذ إنها تقدم وجها مغايرا لما يتم تداوله في الدوائر الرسمية والأكاديمية التركية، فعلى مر السنين، قدم الأكاديميون والمسؤولون الحكوميون مجموعة كبيرة من العوامل لتفسير الانتفاضات الكردية في تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي. وتراوحت هذه العوامل بين “الرجعية الدينية” و”التخلف” إلى “التدخل الأجنبي” و”عدم المساواة الاقتصادية” و”المظالم القائمة على الهوية” )[1](. غير أن السبب الجوهري، لم يتم التطرق إليه كثيرًا، السبب الجوهري الذي يمكن القول أنه المتمثل في الضرر العميق الذي لحق بجذور التعايش في تربة الزمن الحداثي، فما عادت الأرض بوجهات نظر دولتية شوفينية بقادرة على احتمال هذا القدر من التنوع الهوياتي والإثني الذي ساد القرون السابقة للقرن العشرين. ولهذا، سنحاول هنا تقديم قراءة تتابع رحلة جذور التعايش وانتقالها لفضاءات الصراع والتذويب القسري الممنهج.             

بدايات وجذور ممتدة

أخد الكرد مساحتهم متصاعدة في الفضاء السياسي، ربما مقترنة مع الفتوحات العربية، “إذ أخذ الكتاب العرب يتحدثون عنهم وعن واقعهم السياسي والاجتماعي بخاصة، وإن مقاومتهم خلال الفترة الأولى للفتوحات العربية جعلت الكتّاب العرب يهتمون بهم، ويهتمون بالتعرف إليهم عن كثب كي يتمكن القادة العرب من التعامل معهم فيما بعد. من فيمكن القول أن كثير من المعلومات في تلك الفترة مستقاة من الكتابات والمصادر العربية، التي قدمت لنا سردًا عن الكرد وأدبياتهم وعاداتهم وتقاليدهم بالإضافة إلى جغرافية بلادهم” ([2]). وتلك ببساطة كانت محاولة أولى للاقتراب بالمعرفة من الأخر الكردي زمنذاك.

إذن، باتت الأراضي الكرديةُ مع الإسلامِ في مركزِ تعقيداتِ هذه التناقضاتِ الجديدةِ الشائكة (ستَدخلُ هذه الأراضي قائمةَ الأدبياتِ باسمِ “كردستان” اعتباراً من القرنِ الحادي عشر). حيث صارت كردستان ميداناً يَستعرضُ فيه العربُ والفُرسُ والكُردُ والسريانُ والأرمنُ قِواهم، ليَلحَقَ بهم الأتراكُ بعد فترةٍ قصيرة. كما كانت ميداناً أساسياً للصِّدامِ بين البيزنطة والإمبراطوريةِ الإسلامية (والساسانيين من قبل). وغالباً ما كان الكُردُ متداخلين مع الأرمنِ شمالاً، ومع السريانِ جنوباً، ومع الرومِ غرباً، ومع الفُرسِ شرقاً. وعلى الرغمِ من تكوينِهم الشعبَ الأكثرية، إلا إنهم كانوا على تماسٍّ دائمٍ مع تلك الشعوبِ الجارة، وبالأخصِّ مع قِواها داخل المدن. وبينما كانوا يحظَون بوجودِهم كشعبٍ رعويٍّ وزراعيّ، فقد كان الأرمنُ والسريانُ يَكسبون وجودَهم كشعبَين مُقتاتَين على المدينةِ والحِرَفِ الحرة وهكذا كان قد نشأَ فيما بينهم تقسيمٌ تاريخيٌّ للعملِ أيضاً. لذا، كانت العلاقاتُ تكافليةً تبادُليةً أكثرَ منها متناقضة… كما حقَّقَ الأتراكُ في بلادِ الأناضولِ الغَلَبةَ والتفوقَ إزاء الرومِ بنحوٍ بارزٍ وإزاء الأرمن نسبياً. إلى جانبِ تحقيقِ الكردِ الغَلَبةَ والتفوقَ بنحوٍ مثيلٍ في كردستان تجاه الأرمنِ والسُّريان ([3]).

إذ عاشَ الكردُ بالتداخلِ مع القومَين الأرمنيِّ والآشوريّ، وباشروا معاً في العديدِ من المبادراتِ الحضاريةِ والثقافية. هذا وبالإمكانِ تشخيصُ مثلِ هذه العلاقاتِ تاريخياً من خلال وجودِها الممتدِّ إلى أعوامِ 2000 ق.م. فعلى الرغمِ من جميعِ نزاعاتِ الإماراتِ على السلطةِ والمُلك، إلا إنّ العلاقاتِ الثقافيةَ عِيشَت بكثافةٍ بين الشعوبِ الأرمنيةِ والكرديةِ والتركمانيةِ والسريانيةِ حتى مطلعِ القرنِ التاسعِ عشر. وقد غَلَبَ الطابعُ التكافليُّ على هذه الأواصرِ التي تصاعَدَت في الحقلَين الماديِّ والمعنويِّ–الثقافيِّ على حدٍّ سواء، ولَم تُلاحَظ المساوئُ التي غَيَّرَت مسارَ مصيرِ تلك الشعوبِ من الجذور. في حين انحصرَ الصراعُ بين الطبقاتِ العُليا، التي غالباً ما أُلِّبَت على بعضِها بعضاً على خلفيةِ منافعِها، ليتحولُ الصراعُ بعدَها إلى اشتباكٍ وصِدام. أما بين الطبقاتِ التحتية، فقد قُوبِلَ الاختلافُ الدينيُّ والمذهبيُّ بتقديرٍ ووِد، ولَم يُعتَبَر عائقاً أمام علاقاتِ الصداقةِ والأخوّة ([4]).

حقيقة، إنه بداية من تلك الفترة آنفة الذكر، كانت المنطقة التي مارس فيها الكرد نفوذا جيوسياسي متنامي، تشهد تغييرات هيكلية في بنى القوى المالكة للفعل السياسي والعسكري، كالإمبراطوريات البيزنطية والعثمانية الوليدة ودولة المماليك. وساهم وقوع الكرد في قلب هذا الأتون الجغرافي الفائر، في لعبهم أدورا مهمة، بل وفي تشكل ما بات يعرف بعد ذلك بكردستان.  إنّ الهجماتِ الآتيةَ من الشمالِ والغرب، والتي ابتدأت مع الإسكندر واستمرت مع روما ووريثتها الإمبراطورية البيزنطية مستهدفةً الإمبراطورياتِ الإيرانيةَ والبرسيةَ والبارثيةَ والساسانيةَ على التوالي؛ كانت تؤدي إلى حروبٍ دارَت رحاها في مناطقِ الحياةِ الأوليةِ التي تقطنُها مجموعاتٌ غالباً ما كانت من أصولٍ كردية. هذه الغاراتُ الهجوميةُ التاريخيةُ الآتيةُ من الشمالِ والجنوبِ والغرب، قد احتدّت وتضاعفَت من الجهةِ الشرقية، بعدَما هجمَت الإماراتُ التركيةُ ومن ثم إمبراطورياتُها اللاحقةُ على الإمبراطوريةِ الإيرانية، فدَكَّتها من أركانِها.. وقد واجَه الكردُ الإماراتِ والسلطناتِ والأنسابَ القَبَلِيّةَ التركيةَ في ظلِّ هكذا أحوالٍ وظروف. كانت كِلتا القوتَين خبيرتَين وقتاليتَين. ورغم اشتعالِ بعضِ شراراتِ الاشتباكِ في أولى حالاتِ تماسِّهما، إلا أنّ الصداقةَ والوفاقَ كانا الجانبَ السائدَ بينهما. ذلك أنّ كِلا الطرفَين كانا في مَسيسِ الحاجةِ إلى ذلك. بينما تفضيلُ الصراعِ قد يتسببُ بخسائر استراتيجيةٍ لكِلَيهما إذ قد يَنتهيان معاً. يُدرَكُ من هذا أنّ كِلا الطرفَين كانا يتحليان بالوعيِ في هذه الوِجهة ([5]).

وشكل القرن الثاني عشر محطة بارزة في تاريخ كردستان والكرد ففيه برزت كردستان ككتلة جغرافية، وفيه تبوأت أسر كردية، مكانة بارزة في العالم الإسلامي وازدهر التأليف باللغة الكردية، وازدهرت كنيسة كردستان المركزية “الكنيسة النسطورية” وأرسلت البعثات التبشيرية في كل اتجاه”. وتمكنت كردستان في النصف الثاني من القرن الخامس عشر من التغلب على رواسب الغزوات التركية والمغولية نهائيا. وشكلت كتلة مستقلة تميزت بلغة واحدة وثقافة واحدة وحضارة واحدة، ولكنها منقسمة إلى مجموعة إمارات. ورغماً عن ذلك كان الشعور بالانتماء إلى بلد واحد حاضراً، ولو على الأقل في وجدان الأدباء. فمثلاً “الملا أحمد الجزيري، أحد شعراء القرن السادس عشر من إمارة جزيرة بوتان ويعتبره البعض روشار الكرد)، يقدم نفسه على النحو التالي:

أنا وردة جنة بوتان

أنا مشعل ليالي كردستان ([6]).

من جهة ثانية. كان السلطانُ ألب أرسلان من أسرةِ الأوغوز السلجوقية، والحائزُ على لقبِ السلطانِ من الخليفةِ العباسيّ، يبحثُ عن حليفٍ له في كردستان، كي يفتحَ أبوابَ الأناضول. كان يُبرمُ العلاقاتِ مع الإماراتِ والقبائلِ الكرديةِ القويةِ في عهدِها، استعداداً لمعركةِ ملازكرد  عامَ 1071. ونتيجةً لذلك، فقد عثرَ على الحلفاءِ الذين بحثَ عنهم لدى السلطنةِ المروانية، التي تَتَّخِذُ من ميافارقين (سيلوان) مركزاً لها. وجمعَ من العديدِ من قبائلِ المنطقةِ قوةً تُساوي قواتِ قبيلتِه. إذن، وعلى عكسِ ما يُعتَقَد، فحربُ ملازكرد لَم تَخُضها القواتُ المجموعةُ من الأنسابِ التركيةِ فحسب ضد الإمبراطوريةِ البيزنطية. بل كانت معركةً مُوفَّقةً خاضتَها أيضاً قواتُ القبائلِ والإماراتِ الكرديةِ بكَمٍّ يُعادلُ تعدادَ القواتِ الأولى بأقلِّ تقدير. من هنا، فإذ ما حَلَّلنا معركةَ ملازكرد بمنوالٍ سديد، فسيُدرَكُ المنطقُ الاستراتيجيُّ الأساسيُّ الكامنُ في العلاقاتِ الكرديةِ–التركية. الوضعُ كالتالي باختصار: كان الكردُ بحاجةٍ إلى حلفاء أشداء للتمكنِ من الحفاظِ على وجودِهم وتطويرِه في وجهِ الغاراتِ الرومانيةِ والبيزنطيةِ الآتيةِ من الغربِ والشمال. وقد رأوا ذلك في القوى العربيةِ–الإسلامية. هذه الحاجةُ الأمنيةُ هي إحدى الدوافعِ الأوليةِ وراء اعتناقِهم السريعِ للإسلامِ بناءً على العلاقاتِ التي عقدوها مع القوى العربية إلى حين وفودِ الأنسابِ التركيةِ إلى المنطقة. وحاجةُ هذه الأخيرةِ إلى موطنٍ جديد، إما أنها كانت ستزجُّ بهم في حربٍ مع الكرد، صائرين بذلك قوةً محتلة؛ أو أنهم -في حالِ استحالةِ ذلك- كانوا سيشيّدون أماكنَ سكنٍ مستقرةٍ بعد الاتفاقِ مع الكردِ لدحرِ الإمبراطوريةِ البيزنطيةِ غرباً. هكذا خاضَ كِلا الطرفَين معركةَ ملازكرد بناءً على هذا المنطقِ الاستراتيجيّ. أي أنّ الحربَ كانت –بكلِّ تأكيد– معركةً مشتركةً بين الكردِ والأتراكِ في وجهِ الإمبراطوريةِ البيزنطية. نتائجُ هذه الحربِ ساطعةٌ جلياً: فقد فُتِحَت أبوابُ الأناضولِ أمام الأنسابِ التركية، ليبدأَ بذلك عهدٌ تاريخيٌّ جديد. في حين تَخَلَّصَ الكردُ من قوةٍ تاريخية مُعيقةٍ طالما قَمَعَتهم وفرضَت عليهم التراجعَ منذ قرونٍ عديدة. وقد أدى الإسلامُ وظيفةَ المؤونةِ المغذيةِ لهذه العلاقة. فالحربُ المشتركةُ المُخاضةُ تحت الكساءِ الإسلاميّ، كانت في واقعِ الأمر ترمي إلى حمايةِ وتطويرِ وجودِ كِلا الشعبَين اللذَين تطغى عليهما الخصائصُ القَبَلِيّةُ والعشائرية. وفشلُها في ذلك الحين كان سيعني فُقدانَ كِلا الشعبَين لوجودِهما، واضمحلالَهما. لكنّ التاريخَ الرسميَّ يُرجِعُ حربَ ملازكرد دوماً إلى عظمةِ السلطانِ التركيّ، مُخفياً بذلك جوهرَها. إنها حربُ الكردِ أيضاً بقدرِ الأتراكِ على الأقلّ. وعدمُ تدوينِ ذلك في التاريخِ الرسميِّ لا ينفي وجودَ واقعٍ كهذا ([7]).

كان سيبقى هذا المنطقُ سارياً إلى يومِنا الراهنِ في العلاقاتِ الكرديةِ–التركية، حتى ولو أَفسَدَته النزاعاتُ والصِّداماتُ بين الفينةِ والأخرى. حيث ستحافظُ هذه الاستراتيجيةُ الجديدةُ على مفعولِها مع استقرارِ الأتراكِ في دواخلِ بلادِ الأناضول. وستتذكرُ كِلتا القوتَين أنهما لَن تتمكنا من إحرازِ النجاحِ في لحظاتِ التاريخِ الحرجة، إلا عندما تتَحَرّكان معاً.. فقد استطاعَ السلطانُ العثمانيُّ سليم الأول إيقافَ توسعِ الإمبراطوريةِ الصفويةِ بمنظورٍ مثيلٍ من التحالف.. ففي معركةِ جالديران الدائرةِ عامَ 1514م ضد توسعِ إمبراطوريةِ السلالةِ الصفويةِ الإيرانية، كانت قواتُ الإماراتِ والقبائلِ الكرديةِ تزيدُ عدداً على الإنكشاريين الموجودين في جيشِ السلطانِ سليم. وقد تُوِّجَت المعركةُ بالنصر جغرافياً وعسكرياً بناءً على التحالفِ العثمانيِّ–الكرديّ.. من هنا، لا يمكنُ تدوينُ تاريخِ وجودِ كِلا المجتمعَين بشكلٍ صحيح، ما لَم تُستَوعبْ ماهيةُ العلاقاتِ التي عقدَها الكردُ مع الأقوامِ والإماراتِ والسلطناتِ والأنسابِ التركية بمنوالٍ سليم. حيث ينبغي الفهم على أفضلِ وجهٍ أنّ الكردَ لَم يَقبَلوا بهذه الاستراتيجيةِ في علاقاتِهم مع الأتراك كي يتعرضَ وجودُهم إلى الخطرِ بالعنفِ العسكريّ أو بالانصهارِ في بوتقتِهم. بل لكي يُحافظوا على وجودِهم ويُنَمُّوه معاً بنحوٍ أقوى ([8]). وهذا ما سنطلع عليه بعد برهه، على نحو في شيء التفصيل.   

الكرد بين القوى الكبرى بعد القرن ١٦

أصبحت بلاد الكرد في بداية القرن السادس عشر محوراً للصراع بين الامبراطوريتين العثمانية والفارسية، فالشاه الصفوي أراد حماية مذهبه الشيعي ونشره في المحيط، وأراد العثمانيون التصدي لطموحاته من جهة ثانية، وذلك عن طريق التمدد والتفرغ لغزو محيطهم، ولم يسمح وجود الكرد، بين هذين العملاقين لهم بالاستقرار والاستمرار كقوة مستقلة إزاء كماشة الصراع هذه. وقد هزم الأتراك وبمساندة بعض الكرد أهل فارس في معركة جالديران عام ١٥١٤م، وأصبحت معظم الإمارات الكردية تحت السيطرة العثمانية، إلا أنها تمتعت بحكم ذاتي، وساهم في هذا الأمر، وهندسه الأمير البدليسي الذي نقل فرمانا سلطانياً وعطايا ورايات ووعداً بالإبقاء على استقلالية الأمراء الكرد الذين وقفوا بجانب السلطنة في حربها ضد الصفويين. ودخلت إقطاعيات کردستان دائرة النفوذ العثماني عن طريق الديبلوماسية. بعد نجاح مهمة إدريس البدليسي كونه عالماً مشهوراً وجليلا وكذلك مكانة أبيه الشيخ حسام الدين الذي كان قائداً روحيا وصوفيا ([9]).

وقسمت كردستان الموزاييك المتعددة الإثنيات والتي تسكنها قبائل متنقلة: مسلمون يهود ومسيحيون، وهم مزارعون مستقرون وتجار. كما سكنها أتراك وعرب وأقليات إسلامية أخرى. عايش الكرد القوتين الكبيرتين العثمانية والصفوية اللتين تشكلتا من عدة إثنيات، ولم تظهر إثنية واحدة، وكانوا أيضاً يتصارعون على تكتلات المواطنين، التي كانت قائمة على أسس دينية وتعليمية وليس على أسس إثنية. ورغما عن وجود المنطقة بين الامبراطوريتين إثر معركة جالديران، ظلت الإمارات الكردية تلعب دورها المميز حتى حوالي مئة سنة (ذات سلطة محلية) ومنها إمارات بوهتان، هكاري، يهدنيان، سوران وبابان في تركية ومكري وأردلان في الدولة الصفوية، وخضعت تلك التي في الدولة العمانية لإشراف تركي مباشر ١٨٣٧ – ١٨٥٢ ، حيث تدخلت السلطة المركزية في الشؤون الداخلية للإمارات الكردية. وقد بدأ السلطان محمود الثاني عام ١٨٣٧ إدخال إصلاحات هامة، ممهداً لإدخال الإدارة المدنية إلى كردستان، من أجل إعادة تنظيم وتعزيز الامبراطورية، ولاقت هذه الإجراءات معارضة الأمراء الكرد، لأنهم اعتبروا هذا تعديا على سلطاتهم، ونظموا ثورات ضد العثمانيين دامت أكثر من ربع قرن من الزمن. وأخمدها العثمانيون ودمروا الإمارات التي تتمتع بالحكم الذاتي واحدة فواحدة وبمساعدة مستمرة من جنود كرد ([10]).

ودام السلام في كردستان ضمن هذه الخصوصية لمدة ثلاثة قرون تقريبًا؛ حيث كان العثمانيون يسيطرون على بعض المواقع الاستراتيجية على التراب الكردي، لكن بقية البلاد كان يحكمها أمراء ومشايخ كرد إضافة لبعض الإقطاعيات المتوارثة. وقد ضمت كردستان سبعة عشر إمارة أو حكومة تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية حتى أن بعض الحكام كانوا يمتلكون مقومات الاستقلال فيصكون النقود باسمهم وتلقى خطب الجمعة باسمهم أيضًا. وقد عدد الرحالة التركي المشهور “أوليا جلبي” عام ١٦٨٢ تسعة ولايات، شكلت مجتمعة كردستان في زمنه. غير أن هذه الوحدة لم تدم طويلًا كما سنشير للصراع العثماني الصفوي. .        

كان الكــرد إذن عنصــرًا مهمـًـا فــي الدولــة العثمانيــة، فهــم مشــاركون فــي الدولــة بكتلتهــم البشــرية الكبيــرة وبأرضهــم الجبليــة الصعبـة (كردســتان)، ولكــن مــا زاد مــن أهميتهم هــو وقـوع كردســتان علــى الحــد الشـرقي للدولــة والمجــاورة لإيــران والتــي شــاءت الأقــدار أن تحكــم مــن قبــل ســلالات مختلفــة. مـن جهـة أخرى، وكما رأينا، اختلفـت طبيعـة إلحـاق كردسـتان بالدولـة العثمانيـة عـن بقيـة الأماكـن، إذ لـم يتم ضمها مـن قبـل العثمانييـن، بـل إن الإمارات الكرديـة (انضمـت) إلى الدولـة العثمانيـة نتيجـة مصلحـة مشـتركة جمعـت بينهـا؛ وهـي تنامـي الدولـة الصفويـة الفتيـة التـي أصبحـت خطـار حياتيـا علـى كليهمـا. ونتيجــة لمــا ســبق، ذهبــت الدولــة العثمانية الى تطبيــق سياســة خاصــة تجــاه كردســتان، سياســة طالمــا اتبعتهــا الــدول والسـلالات الأخـرى التـي وقعـت كردسـتان داخـل حدودهـا، وهـي سياسـة تـرك كردسـتان للكـرد وعـدم التدخـل فيهـا، ولكـن الأمـر الجديـد هـو أن العثمانييـن قـد أدرجوا هـذه السياسـة فـي إطار تنظيماتهـم الإداريـة والسياسـية وأصدروا قوانيـن خاصـة بالإمارات الكرديـة، اعترفـوا فيهـا بالحكـم الذاتـي للإمارات الكرديـة. إلا أن هـذه القوانيـن سـرعان مـا تحولــت إلــى حبــر علــى ورق وبدأت الدولــة بتطبيــق السياســة المركزيــة علــى كردســتان، الأمــر الــذي أدى إلــى أن تتحول كردستان من عامل استقرار وقوة إلى عامل من عوامل ضعف الدولة العثمانية.. إذن، فقد اختلفت السياسة العثمانية تجاه كردستان عن سياستها تجاه معظم المناطق والأقاليم العثمانية الأخرى لأسباب عديدة تأتي في مقدمتها أنه كانت السيطرة العثمانية على كردستان نتيجة انتفاضة قامت بها الإمارات الكردية على الحكم الصفوي في كردستان وتمكنت من طردها منها، وقد طلبت تلك الإمارات الدعم من الدولة العثمانية لتقديم العون لها مقابل انضمامهم للحكم العثماني ([11])..   

أتت أولى المحاولات العثمانية لتنظيم علاقاتها مع الإمارات الكردية في حقبة ما بعد معركة جالديران ١٥١٤ مباشرة، إذ كلف السلطان سليم الأول (١٥١٢-١٥٢٠) مستشارة الملا إدريس البدليسي (١٤٥٢-١٥٢٠) بإيجاد نظام إداري في كردستان بسبب خبرته بأحوال المنطقة ومعرفته بأمرائها. ففي فرمان موجه إليه في أواسط ١٥١٥ ذكر السلطان لملا إدريس “إنك على دراية بأحوال الأمراء الذين أتوا من ديار بكر وتعرف بأحوالهم وألقابهم ومقادير ما يخصص لهم من السناجق في تلك الولاية.. ينبغي أن تكتب البراءات السلطانية عن أحوال السناجق التي خصصت لكل أمير وكيفية توجيهها، مع تسجيل نسخ من تلك البراءات مع تفصيلها ومقدار إقطاعاتهم في دفتر خاص وإرساله إلى سدتي السعيدة ليكون كل شيء مفهومًا ومعلومًا، مع مذكرة تفصيلية عن السناجق التي وجهت إلى الأمراء وكيفية توجيهها ووجه كتابة ألقابهم، ويجب توخي الدقة في تحديد أماكن سناجقهم لكي لا يؤدي هذا التوزيع والتخصيص إلى تزلزل وتخلخل ما بينهم من أسس الارتباط” .. أسفرت المفاوضات غير المباشرة بين أمراء الكرد والسلطان العثماني عن إيجاد صيغة اتفاق بين الطرفين ساعدت بموجبها الدولة العثمانية في تطهير مناطقهم من السيطرة الصفوية مقابل قبولهم بالسيادة العثمانية ([12]).

من جهة أخرى قاد السلطان سليمان القانوني ( ١٥٢٠-١٥٦٦) حملته الأولى إلى الشرق في عام ١٥٣٤، تمكن من خلالها السيطرة على مدينة بغداد، ومقابل الدعم الكبير الذي قدمته الإمارات الكردية للحملة ونظراً الاستراتيجية موقع الإمارات الكردية التي تقع على حدود اعتى أعداء الدولة العثمانية، فقط أصدر السلطان احد أهم فرماناته المتعلقة بالنظام الإداري العثماني في كردستان، نظم فيها طبيعة العلاقات بين السلطات العثمانية والإمارات الكردية، إذ أشار في فرمانه إلى أن : الأمراء الكرد الذين أظهروا يد القوة والشجاعة في المعارك أو الذين قبلوا باسترحامنا وأعلنوا عن إخلاصهم للدولة العثمانية.. كل واحد منهم سيحتفظ بالولايات والقلاع الواقعة تحت تصرفهم منذ قديم الأيام، وسترسل لهم، كل على حده، براءات تعترف فيها بأوطانهم وحكمهم، وبموجب هذه البراءات فان كل ما في أيديهم من الولايات والقلاع والمدن والقرى والمزارع وجميع محصولاتها تسجل باسمهم كتمليك وإحسان وتنتقل منهم إلى أبنائهم. ولا يتعرضون إلى أي تدخل أو تعرض من الخارج. وعند وفاة الأمير ستتحول إمارته بكامل حدودها بموجب كتاب التمليك السلطاني الممنوح له إلى أبنه، وإذا كان له أبناء متعددون فإنهم سيتشاركون الأراضي والقلاع. واذا لم يتوصلوا إلى تسوية بينهم فانهم سيلتزمون بما يتفق عليه أمراء كردستان وتبقى أملاكهم تحت تصرفهم إلى أبد الدهر، واذا كان الأمير بلا وريث أو أقرباء فان حكم الإمارة لن يوجّه إلى شخص خارج الإمارة ولا يمنح إلى أي شخص اجنبي، بل سيجتمع أمراء كردستان ويتفقون فيما بينهم وسيختارون أميراً أو احد أبناء الأمراء الكفوئين، وهم مخولون في اختيار أي شخص يختارونه. وفي المقابل يشارك أمراء الكرد في ديار بكر وبغداد بالاتفاق مع جميع عساكرهم وعرباتهم العسكرية في اجتياح العدو ([13]).            

 تحولت بلاد الكرد إذن، إلى مسرح نزاع بين هاتين الدولتين القويتين. فالصفويون الذين نجحوا في انتزاع معظم أراضي كردستان من السلالتين التركمانيتين اضطروا للتخلي عن مكتسباتهم للعثمانيين. لكن تعتبر معركة جالديران عام 1514 نقطة تحول مهم في تاريخ الكرد. فبالرغم من تمكن العثمانيين من الانتصار على الصفويين، فإنهم لم يتمكنوا من القضاء عليهم وكسر شوكتهم نهائياً. لكن هذا الانتصار أجبر الصفويين على التخلي عن معظم المناطق الكردية التي كانت تحت سيطرتهم وعلى مدى ثلاثة قرون، استمر النزاع – وإن بشكل متقطع – بين الدولتين، هذا النزاع أرخى بظلاله على أرض كردستان فتحولت إلى مسرح له، وتحول الكرد كشعب إلى وقود له أيضاً ([14]). والمثير إذن أن العثمانيين اتبعوا طريقة تعامل مع الكرد مناقضة جداً لتلك الطريقة التي اتبعها الفرس بقيادة الشاه اسماعيل الذي – وفاقاً للمصادر التاريخية – أقدم أثناء تراجعه عن المناطق الكردية إلى تدمير المدن والأرياف الكردية بطريقة ممنهجة، وألقى القبض على أحد عشر قائداً كردياً ونفاهم إلى أذربيجان. على العكس من ذلك، عمد السلطان التركي إلى إظهار الاحترام للكرد، وانتهج في التعامل معهم سياسة بعد النظر إلى حد الوثوق بالزعيم الكردي إدريس البدليسي، كما رأينا آنفا، ومن ثم تم تكليفه إدارة شؤون إقليم كردستان، بما يشبه إدارة حكم ذاتي ضمن الإمبراطورية العثمانية، وقد تأكد ذلك في الفرمان الذي أصدره السلطان العثماني ) ( عام 921هـ / 1515م). وفي عام 1639م عقد الطرفان السلطان مراد الرابع والشاه صفي الدين معاهدة زهاب، والتي تم بموجبها تقسيم بلاد الكرد إلى الأبد، بين هاتين الإمبراطوريتين. سياسة الود والصداقة التي انتهجها السلطان سليم الأول تجاه الكرد، وبعد تيقن العثمانيين أن الفرس ما عادوا يشكلون خطراً عليهم سرعان ما تحولت حقيقة إلى نقيضها، إذ أقدم العثمانيون بين عامي 1650-1730م، على إلغاء الأغلب الأعم من بنود اتفاقية الحكم الذاتي في منطقة ديار بكر – فان (وان). واكتملت عملية تصفية هاتين الإمارتين الكرديتين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ([15])..

ومن ناحية أخرى، وبسبب طبيعة كردستان ووعرة أراضيها، بقي النظام العشائري القبلي سائدا حتى أوقات متأخرة من القرن التاسع عشر، وأيضًا بقيت جبرا من الكيانات السياسية الأكبر، لكي يراوح الشعب الكردي في مكانه وفي مستواه الحضاري، ولهذا كان ثمة إصرار سياسي على أن تبقى تلك العلاقات العشائرية والإقطاعية قائمة.. لقد كتب الكثير عن العشائر والقبائل الكردية، وأحصى ف. ديتل في كتابه “رحلة إلى الشرق”، في أواسط القرن التاسع عشر نحو (٢٥٠) عشيرة كردية.. وتشي تلك الأرقام بأن الدولتين العثمانية والصفوية لم تسمحا بتطور الشعب الكردي ([16])

انهيار التعايش.. الدولة والقومية فرض التشرذم وإفناء الخصوصية الكردية

     على درب العلاقة التركية الكردية كان ثمة محطات فارقة محورية مؤسسة لراهن هذه العلاقة المركبة والتاريخية. ربما كانت السنوات الواقعة بين الحرب العالمية الأولى والثانية، هي السنوات الحاسمة في بلورة شكل القضية الكردية، وعلاقاتها بالكيانات السياسية الدولتية التي تمخضت عن التفاهمات الدبلوماسية والعسكرية التالية للحرب العالمية على سبيل التحديد. ومن ثم، ولدت المقاومة الكردية كقرينة متلازمة لمحاولات التذويب الإجبارية، وفرض الثوب الحداثي قسرًا على الجسد الكردي الرافض للإفناء الهوياتي. إنّ الحِراكَ الكرديَّ القائمَ في الفترةِ ما بين أعوام 1925م و1940م، والذي سُعِيَ إلى وصمِه بالتمردِ الرجعيِّ على نظامِ الجمهورية؛ هو حِراكٌ يهدفُ مضموناً إلى الحفاظِ على الوجودِ الذاتيِّ في وجهِ الفاشيةِ التركيةِ البيضاء، وإلى التصدي لحملةِ تصفيةِ الهويةِ الكردية. فالكردُ كشعبٍ كانوا قد ساهموا من القلب في حربِ التحريرِ الوطنيةِ وفي تشييدِ الجمهوريةِ على حدٍّ سواء. ومساهمتُهم كعناصر أصليين منصوصٌ عليها في وثائقِ جميعِ الاجتماعاتِ المهمة، وفي معاهدةِ أماسيا ووثائقِ مؤتمرَي أرضروم وسيواس، وفي العديدِ من قوانينِ البرلمانِ التركيّ، بل وحتى في دستورِ تركيا الأساسيِّ لعامِ 1921م. فما يُشَكِّلُه التحررُ الوطنيُّ بالنسبةِ للشعبِ التركيّ، إنما يحملُ معانٍ مشابهةٍ بالنسبةِ للشعبِ الكرديِّ أيضاً. حيث لَم تُؤَسَّس الجمهوريةُ باعتبارِها جمهوريةَ الأثنيةِ التركيةِ الخالصة، بل شُيِّدَت اعتماداً على البنى الأثنيةِ التعدديةِ وفي مقدمتِها الكرد. وقد أُضفِيَت عليها مثلُ هذه المعاني حينها ([17]).

وعندما تمّ تبنّي التيارِ التركياتيِّ للتقاليدِ الاتحادية، والذي يرتكزُ إلى مفهومِ الأثنيةِ الواحدةِ كأيديولوجيةٍ رسمية؛ أُقصِيَت جميعُ العناصرِ المؤسِّسةِ الأخرى كأمرٍ لا مهرب منه. وأدت أبسطُ مطالبةٍ لهم بحقوقِهم إلى الإبادة. أما زيادةُ عددِ السكانِ الكرد، والمصاعبُ الناجمةُ عن ذلك لدى محاولةِ القضاءِ عليهم؛ فلعبَ دوراً ليس بقليلِ الشأنِ في تقديمِ التنازلاتِ من الميثاقِ الملليّ، والتخلي عن الموصل وكركوك لصالحِ الهيمنةِ البريطانية، وفي الاتفاقِ مع بريطانيا بشأنِ الإقرارِ بتصفيةِ الكردِ حركةً ووجوداً. بمعنى آخر، وكيفما استُخدِمَ التحالفُ مع ألمانيا في إبادةِ الأرمن، فقد استُخدِمَ الاتفاقُ مع بريطانيا بصددِ الموصل–كركوك في إبادةِ الكرد. أي إنّ القوى الخارجيّةَ لَم تُقَدِّمْ دعمَها لصالحِ الكردِ في التمرداتِ الكردية، مثلما يُزعَمُ ويُرَوَّجُ له كثيراً؛ بل قدّمَته لصالحِ النظامِ الفاشيِّ ضد الكرد، بما في ذلك دعمُ روسيا. كانت العناصرُ الفاشيةُ قد شنَّت حرباً خاصةً علنيةً ومستترةً ضد الكردِ. وكانت ظاهرياً تدافعُ عن قيمِ الجمهوريةِ في وجهِ العناصرِ الرجعيةِ المُناهِضةِ للجمهورية. علماً أنه لَم يَكُنْ للكردِ أيُّ حِراكٍ مضادٍّ للجمهورية. بل كانوا يطالبون بحقِّهم في المساواةِ والحرية، والذي وُعِدوا به أثناء التحريرِ الوطنيّ، ولو بشكلٍ سطحيّ. ولهذه المطالبِ جذورُها التاريخيةُ التي كانت تبدأُ – كما أشرنا سابقنا في هذه الدراسة – من معركةِ ملازكرد 1071م إلى معركتَي جالديران 1514م ومرج دابق 1516م، وتمتدُّ منهما إلى حربِ التحريرِ الوطنيةِ فيما بين 1919–1922م؛ لتُخَلِّفَ وراءَها حوالي تسعةِ قرونٍ عاش فيها الكردُ مع الغيرِ جنباً إلى جنبٍ كشعوبٍ صديقةٍ ومتجاورة، مُؤَمِّنين بذلك سيرورةَ سلطةِ الدولةِ معاً. بينما لَم يَكُن لإقصائِهم أيةُ ذريعةٍ أو حجةٍ تاريخيةٍ أو اجتماعية. إلا إنّ الكردَ كانوا يجهلون الحقيقةَ الفاشيةَ للحداثةِ الرأسمالية. وكانوا عاجزين عن استيعابِ الورشةِ الفاشيةِ المنتصبةِ في وجهِهم. بل كانوا يتحركون بموجبِ قانونِ الدولةِ التقليديةِ المشتركةِ وشعوبِ الجوار، ويُعَوِّلون على ذلك ([18]).

إذن، وحسب الرؤية التي تنفذ لجوهر سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، كانت تلك السنوات حاسمة أيضًا وبالأساس على مستوى العلاقة الكردية – التركية. إذ أنه وُلِدَت فرصةُ تشييدِ جمهوريةٍ ديمقراطيةٍ في الأناضولِ بُعَيدَ حربِ التحريرِ الوطنية، التي خاضَها الأتراكُ والكردُ في مستهلِّ عشرينياتِ القرنِ العشرين، وذلك على أنقاضِ الدولةِ العثمانيةِ وضمن إطارِ الميثاقِ الملليّ. فخُطِيَت أُولى الخطواتِ في هذا الاتجاهِ في معاهدةِ أماسيا عام 1919 وفي مؤتمرَي أرضروم وسيواس. حيث انعكسَت فيها بسطوعٍ جليٍّ المزايا الديمقراطيةُ للنظامِ الذي كان سيُؤَسَّسُ في أولِ دستورٍ (1921) للبرلمانِ التركيّ، الذي افتُتِحَ عام 1920. وقد أَجمَعَت الغالبيةُ الساحقةُ في البرلمانِ التركيِّ على “قانونِ الحكمِ الذاتيِّ الكردي” المُذَيَّلِ بتاريخِ 10 شباط 1922. وقد تحدثَ مصطفى كمال في الاجتماعِ الصحفيِّ الذي عقدَه في إزميت مطلعَ عامِ 1924 عن أوسعِ آفاقِ “الاستقلالِ الذاتيّ”، أي عن شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ غيرِ المستندِ إلى الحدود، كنموذجِ حلٍّ معنيٍّ بالكرد. لكن، وفي فترةِ الوفاقِ مع بريطانيا ضمن نطاقِ الميثاقِ الملليِّ حول كردستان العراقِ، بدأَ خطوُ الخطواتِ على سياقِ أخطرِ العمليات التي استهدفت الكرد. وثنائيةُ “إما الجمهورية أو الموصل وكركوك”، التي فرضَتها بريطانيا على رئاسةِ مصطفى كمال، كانت تُشَكِّلُ المبادرةَ السياسيةَ الكامنةَ وراء تلك العملية. وفي النتيجة، باتَ إنكارُ كردستان وإبادتُها من نصيبِ الجمهوريةِ التركية، مقابل التخلي عن الموصل وكركوك لبريطانيا. وقد حَوَّلَت هذه الثنائيةُ الجمهوريةَ إلى قناعٍ مُمَوِّهٍ لديكتاتوريةِ الحزبِ الواحدِ بوتيرةٍ عليا. فشُدَّ الحبلُ حول رقابِ الكردِ، خاصة مع انتفاضة الشيخ سعيد بتاريخ 1925([19]).

حقيقة، يمكن القول أن الجذور ألقت بظلالها دومًا على راهنية تشابك العلاقة بين الكرد والترك، فلَطالما فضَّلَ الكردُ تاريخياً العيشَ في حالةِ تحالفٍ أقرب ما يَكُونُ إلى الشراكةِ مع الأتراكِ كلما قابلوهم، نظراً لتقاطعِ المصالحِ الاستراتيجية. وقد ارتَضوا بنمطِ العيشِ هذا لتناسُبِه مع مصالحِهم، وليس لأنه تمَّ غزوُهم أو أنهم أُرغِموا عليه. وما يؤكدُ صحةَ هذه الحقيقةِ هو أنّ معاركَ ملازكرد (1071) وجالديران (1514) والريدانية  (1517) وحربَ التحريرِ الوطنيةِ (1919–1922) قد جرى خوضُها بفواصل زمنيةٍ تكادُ تمتدُّ لخمسةِ قرونٍ بأكملِها، وأنّ النصرَ فيها قد أُحرِزَ بشكلٍ مشتركٍ على خلفيةِ نفسِ الحججِ الاستراتيجية. أي إنّ العلاقاتِ التركيةَ–الكرديةَ ما برحَت مرتكزةً إلى الرضا المتبادَلِ مدى التاريخ، وقائمةً على أعمدةٍ دينيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ استراتيجيةٍ حصينة. لكن، ومع حصارِ الكردِ بطوقِ الإنكارِ والإبادةِ من جانبٍ واحدٍ وعلى حينِ غرّة عبر الفاشيةِ الكمالية، بدأوا بحمايةِ وجودِهم واللوذِ عنه. وعليه، لا يمكنُ وصفُ هذا السياقِ حتى بالعصيان. حيث لَم يستطع الكردُ النأيَ بأنفسهم من التعرضِ لمزيدٍ من السحقِ بالهجومِ المُسَلَّطِ عليهم، بغرضِ تجريدِهم من الهويةِ الأثنيةِ والوطنية، أي بهدفِ القضاءِ عليهم وتصفيتِهم. إنّ حملةَ الإنكارِ والإبادةِ المستمرةَ ضدّهم جسدياً وفيزيائياً حتى عامِ 1938، غالباً ما نُفِّذَت بعدَ ذلك بأساليبِ الصهرِ والإذابة. وهكذا مُحِيَ الكردُ بطابعِهم الكرديِّ من جميعِ الساحاتِ العسكريةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافية. بل وحُظِرَت حتى الأسماءُ الكردية، فباتوا عاجزين عن التحدثِ بلغتِهم حتى في الأسواق. لقد كانت تُشادُ دولةٌ قوميةٌ نمطيةٌ قَوامُها المواطَنةُ النمطية. جليٌّ أن المؤسسة التي تمخضت عن تلك السنوات، ضربَت بجذورِها بحيث كادَ لَم يَبقَ فكرٌ أو نخبةٌ سياسيةٌ أو أوساطٌ يمينيةٌ أو يساريةٌ أو إسلاميةٌ أو ليبراليةٌ إلا وتأثرَت بهذا النموذجِ على مدى تاريخِ الجمهورية. وقد استمرّ هذا النظام حتى عام 1980، على الرغم من تطبيقه بممارساتٍ مختلفة ([20]).

تأطير العلاقة.. بناء منظور تفسيري  

يمكن القول، بعد الغوص في الأدبيات المؤسسة للسردية التاريخية الكردية، أن وشائج الربط في العلاقة التركية الكردية، تكونت على أرضية تاريخية وسوسيولجية مركبة، في ظل فضاءات هادئة حينا وعاصفة أحيانا. هذه العلاقاتُ التاريخيةُ والاجتماعيةُ المُعَمِّرةُ تسعةَ قرون، والمعتمدةُ على الانسجامِ في بوتقةِ نفسِ الأمةِ بقدرِ اتسامِها بالطابعِ الاستراتيجيّ؛ قد تمَّ تفنيدُها في عشرينيات القرن العشرين. ارتبط دياليكتيك هذه العلاقة بشكل جوهري على خطُّ ميزوبوتاميا–الأناضول، بوصفه العمودِ الفقريِّ للعلاقة جيوسياسيًا. وكما أن البنية الحداثية القومية شهدت تمترسات، فقد تحركَت الشريحةُ الكرديةُ العليا، أي الزُّمَرُ المعنية بشؤونِ السلطةِ والدولة، منذ عهدِ السلطان ألب أرسلان وحتى مصطفى كمال، وفق منظورِ ثقافةِ السلطةِ والدولةِ المشتركة، وتشبَّثَت بهذا الموقفِ أكثر. ورغمَ أنّ عدمَ تحقيقِهم الوضعَ والضمانَ المطلوبَين لاختلافاتِهم الثقافيةِ يُعزى إلى بُناهم الطبقية؛ إلا إنّ الشعبَ بذاتِ نفسِه وَجدَ ثقافةَ الدولةِ المشتركةِ أنسب لمصالحِه، سواء استراتيجياً أم تاريخياً واجتماعياً ([21]).

   كان ثمة تحالف شبه تقليدي تركي كردي، وذلك قبل أن تغطي تيارات القومية الحداثية الشوفينية الفضاء السياسي العام، عقب ذوبان النموذج العثماني ونهاية الدولة إجمالا في عشرينيات القرن العشرين. “إنّ تصيير الجمهوريةِ مناوئةً للكردِ قد أخلَّ بالتحالفِ التقليديّ، فأُقصِيَ الكردُ كلياً من النظامِ القائم. أما المشروعُ المقدَّمُ إلى الشريحةِ الكرديةِ الفوقية، فيستندُ إلى المبدأِ الأساسيِّ الذي يتجسدُ في إمكانيةِ صونِها لوجودها كأفرادٍ–مواطنين أتراك، مقابل التخلي عن كردايتيتِها وعن هويتِها الكردية. بل ويتعدى ذلك بالغاً حدَّ تلقينِها أنّ السبيلَ إلى اكتسابِ القوةِ والارتقاءِ في أروقةِ النظامِ يمرُّ من إعلاءِ شأنِ التركياتيةِ البيضاء وتطويرِها، مقابل إنكارِ الكردايتيةِ وإبادتِها.. وهكذا يُصاغُ “القانونُ الفولاذيُّ” لكينونةِ الوجودِ ضمن الجمهورية. في حين إنّ الموقفَ الذي أَبدَته الشريحةُ العليا بادئَ ذي بدءٍ من خلالِ اعتراضِها وتمردِها الجزئيّ، قد تحوَّلَ إلى طاعةٍ أفرزَتها تمشيطاتُ “التأديبِ والتنكيل” الصارمةِ التي سيَّرَها النظام. ولَربما كانت هذه المرةَ الأولى في تاريخِ المجتمعِ الكرديّ، التي تَضمَنُ فيها الشريحةُ العليا (الاستثناء لا ينفي القاعدة) وجودَها مقابلَ تعريضِ وجودِ مجتمعِها الذاتيِّ الذي تنتمي إليه للإنكارِ والإبادةِ والاجتثاثِ من الجذور.  أما الشرائحُ الشعبيةُ الأخرى، التي أمسَت بلا رأسٍ أو قائد، فهي بمنزلةِ المادةِ الشيء، ومنفتحةٌ على كلِّ أشكالِ الإنكارِ والإبادةِ والإذابة. في حين إنّ أبسطَ تَماسٍّ مع الكردايتيةِ يعني الموتَ المحتوم. بالمقابل، فالتخلي عن الكردايتيةِ باتَ السبيلَ الوحيدَ للنجاةِ والحياة. وهكذا، تدورُ المساعي للقضاءِ على الكردايتية، ليس من جهةِ كونِها ظاهرةً فحسب، بل وبكلِّ ما تشتملُ عليه من رموزٍ ومُسَمَّيات. ويدخلُ مشروعُ التطهيرِ الثقافيِّ الخفيِّ المُسَلَّطِ على الكردايتيةِ طيلة تاريخِ الجمهورية جدولَ الأعمال، ويرى النورَ خطوةً وراء خطوةً ويوماً بعد يوم (يسري هذا المشروعُ على كافةِ الثقافاتِ الأخرى أيضاً. ولكنه صُمِّمَ أساساً من أجلِ الكردايتية). وأمسَت الغايةُ الأوليةُ التي تَصبُّ فيها جميعُ السياساتِ الداخليةِ والخارجية، هي الامتثالُ لذاك “القانون الفولاذيّ”، والسهرُ على خدمتِه. ونظراً لتطبيقِه خِفيةً بنسبةٍ كبرى، فإنّ الأحزابَ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ المُشادةَ والعالَمَ الاقتصاديَّ والسياسيَّ المُعاشَ يصبحُ متمحوراً حول “القانونِ الفولاذيِّ” ذاتِه، دون إدراكٍ منها، ودون التفاتٍ إلى تلك السياسات. كما تُقَيَّمُ التنظيماتُ الخارجيةُ أيضاً بناءً على خدمةِ “القانونِ الفولاذيِّ” نفسِه؛ من قبيل: هيئة الأمم المتحدة، حلف الناتو، والاتحاد الأوروبيّ. كما إنّ حصةَ هذا القانونِ مُعَيِّنةٌ في الانقلاباتِ والمؤامراتِ والاغتيالات، وفي شتى أنواعِ التعذيبِ والاعتقال” ([22]).   

ولهذا، وحتى التسعينيات، كان من النادر أن يشير الناس علنًا إلى “الكرد” كفئة إثنية في تركيا. تم تجنب استخدام كلمة “كردي” في الوثائق الرسمية وكذلك في الخطاب العام والسياسي السائد. ويمكن أن تُظهر الصحف الرئيسية مدى قلة استخدام كلمة “كردي” في تلك الفترة. فضلت الصحف الرئيسية تجنب الكتابة عن الكرد كفئة إثنية، وإذا كان لا بد من الإشارة إليهم، كانت تتجنب وصف أي جماعة داخل تركيا بأنها كردية. على سبيل المثال، في عامي 1984 و1985، نشرت الصحيفة اليومية الرئيسية حرييت 25 مقالًا فقط يمكن اعتبارها متعلقة بالكرد داخل تركيا. من بين هذه المقالات، استخدمت ثلاث مقالات فقط، أي 12%، كلمة “كردي” مرة واحدة على الأقل. شهد هذا الوضع تحولًا جذريًا بين عامي 1991 و1992. خلال هذين العامين، نشرت حرييت ٦٥٨ مقالًا متعلقًا بالكرد في تركيا، استخدم نصفها تقريبًا، أي 304 مقالًا، كلمة “كردي” مرة واحدة على الأقل. بالمقارنة مع فترة 1984-1985، يشير هذا إلى زيادة بمقدار 26 ضعفًا في عدد المقالات، وزيادة تقريبًا بمقدار أربعة أضعاف في نسبة المقالات التي تشير إلى “الكرد” .. في غضون عامين فقط، اكتسبت مصطلحات مثل “كردي”، “كردي تركي”، أو “تركي من أصل كردي” رواجًا في الإعلام السائد والحوارات العامة. اعترف الرئيس ديميريل بنهاية عام 1991 بـ”الواقع الكردي”. أما اليوم، فإن البحث باستخدام كلمة مفتاحية واحدة مثل “كردي” في المواقع الإلكترونية للصحف التركية الرئيسية يكشف عن أكثر من 2000 مقال يتضمن هذه الكلمة خلال السنوات الأخيرة ([23]).

قبل التسعينيات، كان الخطاب العام السائد يعكس قمع الهوية الكردية والوعي الإثني لدى الكرد. كان هذا القمع يثبط أيضًا تطوير تعريفات متنافسة بين الكرد والأتراك. بالمقارنة، يحمل الخطاب السائد الجديد إمكانات لتعزيز التصورات المتنافسة والمتكاملة على حد سواء. ويرجع ذلك إلى زيادة ظهور فئة “كردي” التي قد تسهم في تشكيل تصورات متنافسة بين الكرد والأتراك بناءً على التطورات السياسية الداخلية والخارجية. كان لأزمة الخليج الأولى دور كبير في تسريع هذا التحول. ساهمت التغيرات الأمنية في شمال العراق، إلى جانب تمرد حزب العمال الكردستاني، في زيادة تسليط الضوء على الفئة الكردية. وفي إطار سياسة خارجية أكثر نشاطًا، أعلن الرئيس التركي آنذاك تورغوت أوزال عن أصوله الكردية، مما فتح الباب أمام تغييرات أخرى. يشير سرعة التغيير في استخدام المصطلحات إلى عدم وجود معارضة كبيرة له على مستوى المعتقدات الفردية الخاصة. وفقًا لنظريات “التغير المتسلسل”، يمكن أن يحدث تحول سريع ومستدام في الخطاب عندما لا يواجه مقاومة على مستوى الهوية الفردية الخاصة. على الرغم من أن هذا التغيير الخطابي يبدو أنه بدأ من قبل فاعلين في الدولة، إلا أن التحليل يكشف عن وجود وعي مسبق بفئة “كردي”، حتى خلال الثمانينيات، وإن كان ذلك في سياق “الكرد الخارجيين” مثل الكرد العراقيين. هذا يدل على أن الأفراد ربما كان لديهم وعي ناعم بقبول الفئة الكردية، وهو ما ساهم في تسريع هذا التحول عند ظهوره في المجال العام ([24]).

وعن المستقبل

ستَكُون الجمهوريةُ التركيةُ في القريبِ المنظور أمام مفترقِ طرقٍ بكلِّ ما للكلمةِ من معان. فالجمهوريةُ التي وُجِّهَت في مرحلةِ التأسيسِ صوبَ الحربِ المناوِئةِ للكردِ على يدِ بريطانيا، سوف تَجِدُ نفسَها –مع الأسفِ الشديدِ– في خضمِّ مأزقٍ خانقٍ أشدّ حِدّة، من خلال عدائِها للكرد، والذي يُوَجَّه ثانيةً من قبل القوى الكبرى. وبالأصل، فقد مرّت العقودُ الثلاثةُ الأخيرةُ من سياقِ الجمهوريةِ الثانيةِ مشحونةً بالتخبطِ في هذا المأزق. أي إنّ ما جرى لَم يَكُن “حرباً منخفضةَ المستوى” فحسب. بل وكان يجسدُ تغلغُلَها وتحَلُّلَها حتى في أدقِّ خلايا القِيَمِ الاجتماعية. لقد تمَّ عيشُ تفسخٍ وتناثرٍ اجتماعيٍّ أشدَّ وطأةً بكثير من الانهيارِ أو التحلحل. أما الطريق الثاني المفارق للعنف. الطريقُ الثاني البائنُ في المفترقِ الذي ينتصبُ أمام الجمهورية، هو الطريقُ الذي سيتمُّ قطعُه بإعادةِ تعبيدِ أرضيةِ الجمهوريةِ بالوحدةِ الديمقراطيةِ التي شهدَتها حربُ التحريرِ الوطنية. ذلك أنّ ما جعلَ الجمهوريةَ جمهوريةً حقة، هو التحالفُ السائدُ في الحربِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ خلال أعوام 1919–1922. وقد أدى الطعنُ في هذا التحالفِ المناهِضِ للهيمنة في نهايةِ المآلِ إلى ضياعِ فرصةِ الجمهوريةِ الديمقراطية، وإلى تأسيسِ السلطاتِ الفاشيةِ. ولكن، جليٌّ جلاءَ النهارِ أنّ هذا الطريق، الذي جُرِّبَ مراتٍ ومرات، وباءَ بالفشلِ في كلِّ مرة؛ لا يُمكنُ أنْ يَكُونَ الطريقَ الحقيقيّ للجمهورية. في حين إنّ طريقَ الجمهوريةِ الديمقراطية، والذي كان ينبغي السيرُ عليه منذ البداية، هو السبيلُ الوحيدُ لاستتبابِ السِّلمِ المجتمعيِّ وحلِّ القضايا العالقةِ في المرحلةِ المقبلة ([25]).

ربما هذه هي الوصفة المناسبة لتضميد الجراح وإنهاء عقود من العنف والرغبة في الإفناء لصالح مساحة متزايدة من التعايش الديمقراطي. ذلك أن القبول بالكينونة الديمقراطية لكامل البنية المجتمعية، يسمح بتواشج تركي كردي، إنما ليس على أساس عنصري فوقي قومي شوفيني متعصب، بل على أساس تفهمي لتمايز ماهيةِ الحقائقِ التاريخيةِ والاجتماعية، ولإدراكِ أنّ الدولتيةَ القوميةَ مصيدةٌ من مصائدِ الرأسمالية القاتلة المتوحشة، الفانية لكل تمايز. حسب تعبيرات أوجلان. وإنّ صياغةَ حلِّ القضيةِ الكرديةِ بالمقارباتِ السلميةِ والسياسيةِ مع الدولةِ القوميةِ التركيةِ أولاً، ومع الدولِ القوميةِ الإيرانيةِ والعراقيةِ والسوريةِ ثانياً، بل وحتى مع الدولةِ الفيدراليةِ الكرديةِ أيضاً؛ أمرٌ غيرُ واردٍ إلا باعترافِها بحقِّ الشعبِ الكرديِّ في أنْ يَكُونَ أمةً ديمقراطية ([26]).     

إن استبدال الهوية القومية التركية ذات الطابع الإثني بهوية مدنية ذات طابع جغرافي أو ديني ليس ضروريًا ولا كافيًا لحل المأزومية الكردية. ولكي تكون أي استراتيجية هوية فعّالة في تحقيق الوحدة، يجب أن تكون مصحوبة بسياسات اجتماعية واقتصادية تخلق مصالح مشتركة فعلية بين الأتراك والكرد )[27](.  بالمنتهى، ربما من المفيد أن يحتفظ الكرد بتصورات ذاتية للهوية والعلاقة مع الفضاء التركي، تحمل قدرًا من التنوع.  فطالما أن الخطابات والسياسات الرسمية، وكذلك مواقف الفاعلين السياسيين الداخليين والخارجيين المؤثرين ووسائل الإعلام، تعكس تعريفات متنافسة للهويات، فإنه يمكن توقع تغييرات جوهرية في تصورات الذات لدى الكرد الأتراك. أما إذا حافظ الكرد على تصورات حصرية متنوعة للهوية الكردية وتحفل بتاريخ التعايش، فإن التحولات الكبرى ربما تكون مرجحة إذ كان ثمة من يقرأ التاريخ ويصغى لإيقاعاته.  


[1] Mohammed, S. J., & Romano, D. (2023). The Kurdish Conflict in Turkey: The Central Role of Identity Recognition (or Lack Thereof). Ethnopolitics, p1–18. https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/17449057.2023.2275229#abstract

[2]  وديع جويدة: الحركة القومية الكردية نشأتها وتطورها، ترجمة مجموعة من المترجمين، قدم له مارتن فان بروينسن، إشراف وتدقيق غازي برو، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٣، ص ٥٦      

[3] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس قضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٩٥

[4]  نفسه: ص ٩٦

[5]  نفسه: ص ٩٢

[6] أحمد محمد محمد: كرد الدولة العثمانية تاريخهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ١٨٨٠ – ١٩٢٣، سيييريز للطباعة والنشر، دهوك، ٢٠٠٩، ص ٣١       

[7]  عبد الله أوجلان: المرجع السابق ص ٩٢

[8] نفسه: ص ٩٤

[9] أحمد محمد محمد: المرجع السابق، ص ٣٢

[10] نفسه: ص ٣٣

[11]  نزار أيوب حسن: كردستان في المشاريع الإصلاحية العثمانية المبكرة قانوننامة سلطاني لعزيز أفندي في القرن السابع عشر أنموذجًا، Kurdiyat – Yıl/Sal/Year: 2021 Sayı/Hejmarê/Issue: 3، ص ٢٠٣

https://dergipark.org.tr/tr/download/article-file/1665786

[12]  نفسه: ص ٢٠٤

[13] نفسه: ، ص ٢٠٤   

[14] وديع جويدة: المرجع السباق، ص ٦٣

[15] نفسه: ص ٦٤

[16]  مارك سايكس: القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية، ترجمة خليل علي مراد، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ٢٠٠٧، ص ٥    

[17] عبد الله أوجلان: المرجع السباق ص ٢٣٥

[18] نفسه: ص ٢٣٦

[19] نفسه: ص ٣٨٢

[20] نفسه: ص ٣٨٣

[21] نفسه: ص ٣٩٧

[22] نفسه: ص ٤٠١

[23] Murat somer: Turkey’s Kurdish Conflict Changing Context and Domestic and Regional Implications, The Middle East Journal, 58(2), 2004, p246 

[24] Ibid, p247

[25] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ٣٨٦

[26] نفسه: ص ٤٠٢

[27] Murat somer: op cit, p244   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى