دراسات

التطور الفكري للحماية الذاتية من الفردية إلى الجماعية .. سد تشرين نموذجاً

تحليل: د. علي ثابت صبري

نتابع جميعًا الأحداث الدائرة على الأراضي السورية تطورها وتناقضها، ونرصد أيضاَ المشاريع التوسعية الاستيطانية وخصوصاً المشروع التركي المنعوت بالعثمانية الجديدة في شمال وشرق سوريا كبداية. إلا أن المقاومة الكردية وثباتها، وصولاً إلى لعبها دور فاعل ومهم في مواجهة الزحف التركي المتعثمن. حيث ارتكزت هذه المقاومة على أسس مختلفة، يرجع الفضل فيها للدور المحوري الذى لعبه السيد / عبدالله أوجلان عبر إعادة قراءة تاريخ القضية الكردية في مفهومها الشامل لتاريخ شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط، حيث يحتل الشعب الكردي موقع متميزاً تاريخياً وحضارياً.

ومن هنا، كانت معركة الوعي و التي تشكل من خلالها وعي الحقيقة أو الكردايتية، فجاءت الرؤي الأوجلانية لتؤكد على أن الشعب الكردي كشعب حضاري ينفتح بارتياح على شعوب المنطقة في تعاون وتشارك و تسامح، في كلمة من الممكن قيام حضارة ديمقراطية، لذا، تسلح الشعب الكردي بسلاح مختلف هذه المرة في مواجهة المخططات التركية هو سلاح الوعي، ولعل المقاومة الكبيرة للشعب الكردي خصوصاً ومكونات شمال وشرق سوريا عموماً في حماية سد تشرين بأرواحهم كتف بكتف مع قوات سوريا الديمقراطية هو تطور كبير في فكر المقاومة الكردية الديمقراطية وبالتكامل مع شعوب المنطقة، وهو ما سوف نسلط عليه الضوء.   

مظلوم دوغان شهيد القضية

لعل واقعة مظلوم دوغان( عضو حزب العمال الكردستاني) داخل السجون التركية مدافعاً عن قضية شعب، مثلت ضربة البداية لمقاومة الشعب الكردي ضد الفاشية التركية المتجذرة منذ نقضها العهود المقطوعة مع الكرد والغدر بهم، مثل استشهاد مظلوم دوغان صرخة في وجه الظلم والاستبداد وإشارة قوية لضرورة المقاومة أي كان شكلها، فقد ضحي بروحه تعبيراً عن رفضه لكل الممارسات التركية ضد الشعب الكردي، والشكل الذى عبر به دوغان عن رأيه كان صادماً بالنسبة للجميع، ففي 21 آذار / مارس 1982 تزامناً مع عيد نوروز،  قام مظلوم دوغان في سجنه بإشعال ثلاثة عيدان ثقاب، إذ أضرم النار في جسده ليرتقي شهيداً، وهذه العيدان الخشبية أضاءت درب شعب مكلوم بالمآسي، وأصبحت ولادة عشق لشعب دُفن في أغوار التاريخ وشُرّد عبر الأزمنة، وأرسل نوراً يبرق منه الأمل وينعش به قلب الكرد بروح المقاومة ليخلق حياة من المقاومة.

مثلت صرخات دوغان وصمة عار في جبين الإنسانية التي شاهدت وسمعت ما فعلته الفاشية التركية ولاتزال تجاه الشعب الكردي، ومثلت أيضاَ إيذاناً ببدء المقاومة إيماناً بتاريخ الكرد وإسهاماتهم الفاعلة بالحضارة الإنسانية، ولا أبالغ في وصف التعبير الدوغانى بأنه كان شرارة البدء الفعلية لمقاومة الشعب الكردي.

معصوم قورقماز والكفاح المسلح  

لم يكن العمل الدوغانى إلا شرارة كردية لمواصلة الكفاح وتطوير آلياته، فكان القيادي معصوم قورقماز دوراً فعالاً وحمل على عاتقه مهمة قيادة الكفاح المسلح. ففي الـ 15 من آب/ أغسطس 1984، حيث نفذت مجموعة من الكريلا أول عملية ضد جيش الاحتلال التركي في ديهي بمنطقة شمزينان في شمال كردستان، وأطلق أول رصاصة هزت عرش الديكتاتورية التركية وكسرت حاجز الخوف، وأعلنت بداية مرحلة جديدة من النضال في التاريخ الكردستاني. واعتبر الشعب الكردي هذا اليوم ميلاداً وانبعاثاً جديداً له، لأنه كسر طوق العبودية والاستسلام. وبعد عامين من التنظيم والتسليح في مناطق مختلفة من شمال كردستان، وفي 28 آذار/ مارس 1986، استُشهد القيادي معصوم في معركة ضد جيش الاحتلال التركي في جبل كابار.

المرأة الكردية والكفاح المسلح

تُمثل المرأة واحد صحيح في فكر السيد عبدالله أوجلان، ومثلت داعماً أساسياً ومحورياً في فكر المؤسس، ولعبت المرأة الكردية (نموذج شرقي فريد) دوراً كبيراً في تأسيس حزب العمال الكردستاني ، حيث انضمت بفضل جهود السيدات اللاتي نشرت فكر القائد بين صفوفهن ، وتُعد بسي آنوش المولودة في 1960 في قرية إسمابورو في ناحية بازارجخ في مرعش، والتي حدث لها تحول بعد المجزرة التي ارتكبتها القوات شبه العسكرية التابعة للدولة التركية في مدينة مرعش، فانضمت إلى صفوف الحزب، حيث شاركت في الأنشطة الأولية لتنظيم حزب العمال الكردستاني في مرعش، كما تنقلت بين القرى وجمعت الشعب الكردي، وخاصة النساء، حول النضال من أجل الحرية. إلا أنه بعد الانقلاب العسكري الدموي في تركيا 12 أيلول/ سبتمبر 1980، ومناهضته لكل التيارات السياسية وعلى رأسها اليسارية، أصبحت بسي آنوش إحدى المطلوبات من قبل قوات الدولة التركية إلى جانب العديد من رفاقها، بعد ذلك توجهت إلى الجبل مع مجموعة من رفاقها، كما أصبحت واحدة من أولى المقاتلات في حركة حزب العمال الكردستاني. استشهدت بسي آنوش جراء معركة ضد جنود أتراك بالقرب من قرية موسولار في 17 آذار/ مارس 1981م، وفي الوقت نفسه، أصبحت الشهيدة الأولى لحركة حزب العمال الكردستاني.

واصلت أخريات الكفاح وعلى رأسهن خانم ياور كايا (هاوا) والتي انضمت إلى صفوف حركة التحرر الكردستاني عام 1980، بعد انقلاب 12 أيلول وعندما اعتقل العديد من الأشخاص من عائلتها ورفاقها، اختبأت في آمد لفترة وتوجهت إلى سوريا عبر روج آفا ، ومنها إلى لبنان بدعوة من قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان، بعد التدريب السياسي والعسكري، عادت إلى كردستان وأصبحت واحدة من أوائل الثوار المرأة،  بعد أن بدأ الكفاح المسلح في دهي وشمزينان في 15 آب/ أغسطس 1984م، انتقلت من جنوب كردستان إلى بوطان وأصبحت واحدة من مقاتلات قوات تحرير كردستان (HRK). ووفقاً لمصادر حزب العمال الكردستاني، في 28 حزيران/ يونية 1985م، وفي محيط قرية بانا في دهي، استشهدت مع رفاقها الكريلا الذين قاوموا ضد جيش الاحتلال التركي، حيث لجأت الدولة التركية مثل جميع رفاقها الكريلا الذين استشهدوا في ذلك الوقت، رمت بجثمانها في وادي قصابا.

إلا أن ساكينة جانسيز (سارة) مثلت نموذجاً فريداً ، فقد ولدت البطلة الشهيدة في قرية عرش الخليل في ديرسم عام 1958، درست حتى المرحلة الثانوية في ديرسم، وتعرفت على الأفكار الثورية في شبابها، خلال السبعينيات شاركت في أنشطة عمالية واعتقلت في أزمير لحملها لافتة كتب عليها “الحرية للكرد” واحتجزت في السجن لعدة أشهر. بعد إطلاق سراحها من السجن، عادت ساكينة جانسيز إلى كردستان وكانت ضمن هؤلاء الأشخاص الذين أسسوا حزب العمال الكردستاني في 27 تشرين الثاني 1978، في خاربيت، وأثناء قيامها بالأعمال التنظيمية لحزب العمال الكردستاني، اعتقلت من قبل قوات الدولة التركية، رغم أنها تعرضت للتعذيب لعشرات الأيام، إلا أنها لم تعترف بكلمة واحدة، ثم تم إرسالها إلى سجن آمد، حيث سيتعرض العديد من أعضاء حزب العمال الكردستاني والمتعاطفين معه لأعمال وحشية مماثلة، بصفتها ثائرة قادت المقاومة في السجن، أصبحت شرف وكرامة الشعب الكردي، أطلق سراحها في عام 1991 وتوجهت إلى جبال كردستان. وقد عملت بجد على تنظيم الشعب الكردي والنساء الكرديات، اغتيلت ساكينة جانسيز في 9 كانون الثاني عام 2013 مع اثنين من رفاقها فيدان دوغان وليلى شايلمز في العاصمة الفرنسية باريس، لقد تركت ساكينة جانسيز إرثاً من المقاومة ليس فقط للنساء الكرديات، بل لجميع النساء المضطهدات، حسب قولها، فقد كانت حياتها دائما مليئة بالحروب، ضحت بحياتها من أجل حرية المرأة وتحرير الشعب الكردي ، وتركت لنا مذكراتها الملهمة (حياتي كلها صراع).

هذه محطات مهمة ورئيسية في مسار حركة المقاومة الشعبية الكردية، وغيرها الكثير والتي ضحى خلالها أبناء الشعب الكردي في مواجهة الفاشية التركية، أسس فيها أوجلان لتنظيم نضالي قتالي وشعب منظم ومقاتل، وصابر على الوصول لهذه الغاية.

وبالاستناد و الاستفادة من هذه الخبرة والتجربة النضالية الكردية، رأينا التحام الشعب الكردي ومعه مكونات شمال وشرق سوريا بجانب صفوف قوات سوريا الديمقراطية لحماية سد تشرين على نهر الفرات، وهى الملحمة المهمة في تاريخ النضال والمقاومة الكردية-العربية-السريانية ، والتي أثبت نجاح النظرية الأوجلانية في البحث عن الكردايتية وأخوة الشعوب والتي أفرزت شعباً واعياً بتاريخه ودوره وهويته ، وهو ما انعكس على التحام الشعب مع قواته في سد تشرين. 

لماذا تشرين ؟

يقع سد تشرين في منطقة منبج الواقعة ضمن محافظة حلب، سوريا على نهر الفرات تم بناء السد في عام 1999 بهدف توليد الكهرباء وتنظيم تدفق المياه للري، يبعد عن مدينة حلب 115 كم وعن الحدود التركية 80كم، لكن في حال تعرضه للضرر أو الانهيار، فإن ذلك قد يكون له عواقب كارثية على المناطق المحيطة به. ويعتبر السد ذو أهمية استراتيجية، لتحكمه في مياه نهر الفرات ومن ثم الضغط على وريا والعراق مائياً، وكذلك العمل على توسيع النفوذ التركي تنفيذاً للعثمانية الجديدة، أضف أيضاً الدور المهم للسد في توليد الكهرباء وري الأراضي الزراعية في المنطقة. مما يترب عليه الإضرار بالاقتصاد السوري خاصة في المناطق التي تعتمد على السد في توفير المياه والري، مما يهدف إلى محاولة إضعاف مناطق شمال وشرق سوريا اقتصادياً ( الإدارة الذاتية).

بطولة شعب ( شعب مناضل .. شعب مقاوم)

فمنذ بدء هجمات جيش الاحتلال التركي ومرتزقته، التي يشنها عبر الطائرات الحربية والمسيرات على سد تشرين منذ 8 ديسمبر، توجه أهالي شمال وشرق سوريا بكافة مكوناتهم العرقية والدينية، من الكرد والعرب والسريان، إلى سد تشرين ويخوضون مقاومة لا مثيل لها ضد الاحتلال التركي ومرتزقته، وذلك من خلال فعاليات المناوبة على السد بهدف حمايته من الانهيار والمخاطر التي قد تحدث في حالة انهيار السد ، وهنا انعكاس واضح لأفكار السيد عبدالله أوجلان الخاصة بمعركة الوعي والدفاع المشروع ضمن مفهوم الحرب الشعبية الثورية.

ورغم ارتكاب الاحتلال التركي مجازر مروعة بحق المدنيين في سد تشرين، واستشهاد حولي 50 شخصاً بينهم صحفيين وأطفال ونساء وكبار السن، إلا أن صمود الأهالي أمام هذه الهجمات كان بمثابة رسالة قوية للعالم( شعوب مناضلة . شعوب مقاومة). حيث تحدوا المجازر بعقد حلقات الدبكة التي تمثل رمزاً للحرية، وأصروا على البقاء والمقاومة والنضال. لا يستطيع أحد كسر إرادة هذا الشعوب التي وحدتها الذهنية والإرادة المشتركة وحب الحياة الحرة، التي تقاوم وتتعايش رغم المجازر كل يوم، ويطالب بحقوقهم في العيش بسلام، وفقاً لمبادئ الأمة الديمقراطية والتعايش المشترك، ونستطيع القول أنه لولا مقاومة سد تشرين لكانت تركيا فرضت وصايتها وأجندتها على كل سوريا وليس على جزء منها، فمقاومة سد تشرين هي ضمانةالسيادة ووحدة سوريا شعباً وأرضاً.

ووصلاً لما سبق فإن النهج المسلح الذي انتهجه حركة حرية كردستان والشعب الكردي يرتكز على رؤية السيد عبد الله أوجلان “إذا كنا نمتلك كل قوة العالم، فلن نهاجم أي شخص، وإذا اجتمع العالم كله ضدنا، فلن نتخلى عن حقوقنا الديمقراطية المشروعة”، مما ترتب عليه،  تطور المقاومة الشعبية المسلحة على أساس ( قوات تحرير كردستان  (HRK)، وجيش التحرير الشعبي الكردستاني (ARGK)، وصولاً لفلسفة الدفاع الذاتي كمبدأ أساسي للأمة الديمقراطية (قوات الدفاع الشعبي (HPG)).

 أما تجربة (قوات سوريا الديمقراطية مع مكونات المنطقة في إقليم شمال وشرق سوريا) وقيامها بدور تاريخي في هزيمة داعش ومقاومة الاحتلال والحفاظ على وحدة سوريا فهي أيضاً تجسيد لمبدأ الدفاع الذاتي ضمن مشروع الأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية تماماً في مثل هذا الإطار ( مشروعية الحماية الجوهرية وسرعة الردع وعدم البدء). ولقد نجحت أفكار ورؤي السيد /عبدالله أوجلان في تطوير مفاهيم: ( الشعب الحر، والمرأة الحرة، والمجتمع الديمقراطي، والأمة الديمقراطية، والسياسة الديمقراطية)، ومهدت الطريق أمامهم لضرورته في تقدم المجتمع والإنسان. ونجاح هذه المفاهيم وتطبيقها عملياً، انعكس إيجاباً على تطور الحرب الشعبية الثورية المسئولة عن اعادة اكتشاف شعب مقاوم ومدافع ومقاتل وغير باغي، وتطور المقاومة الفردية لتصبح جماعية، وهو التطور المهم في مراحل النضال الكردي التي يقودها فكر السيد أوجلان والذى يمثل حجرة عثرة أمام المشاريع التركية الاستيطانية والتوسعية على حساب الشعب الكردي و شعوب المنطقة، وعند هذا الحد، نستطيع القول بأن رفاق أوجلان ومواليه  والحاملين فلسفته مختلفين عن سابقيهم من أبناء الشعب الكردي ومكونات المنطقة الذى قاوموا ضد الفاشية التركية في صورها المختلفة ( العثمانية، الأتاتوركية، والأردوغانية -التي تعد مزيج منهما)، فهم يمتلكون الوعي والإرادة والتنظيم وأخوة الشعوب وريادة المرأة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى