دراسات

الانطلاق من اللافراغ .. آفاق الانتقال الديمقراطي بعد الأسد

تحليل: د. أحمد محمد إنبيوه

بعد السقوط السريع والمثير وربما العجيب لنظام الأسد في غمار أيام قليلة، نبتت مباشرة براعم أسئلة تدور حول عملية انتقال ديمقراطي محتملة في هذا الجسد المثخن بالجراح منذ عشرات السنون، لا منذ ٢٠١١ فقط. أسئلة تحاول أن ألا تبارح أو تتجاهل التعقيدات المركبة للمشهد السوري عشية السقوط وقبله؛ حول شكل هذا النظام السياسي الذي يمكن أن يحوي بداخله نسيج اجتماعي وهوياتي واثني متنوع وثري، دونما انجرار لفخ التحيز الاجتماعي أو السياسي. أسئلة تدور حول تصميم عملية انتقال سياسي ديمقراطي تظل وفية لمبادئ “العدالة الانتقالية”: من مساءلة وجبر للخواطر وتعويضات، وذلك حتى لا يتفجر المجتمع من داخله، جراء محاولات الانتقام العشوائية التي قد تنشأ إن لم تتحقق العدالة. أسئلة تحاول مناوشة المستقبل وتحيل المنجز الثوري إلى بنى سياسية وتمثيلية وقانونية على الأرض الممارسة.         

ولهذا فإن أي تفكير في أبجديات الواقع السوري المرتبك والمركب ما بعد وقبل سقوط الأسد، حري به أن يأخذ في حسبانه أدبيات الانتقال السياسي، جنبا إلى جنب مع التفكير في خصوصية الواقع السوري. كذا، الاتكاء على الميراث الضخم من العمل التنظيري والسياسي، والمدونات التي تمت مراكمتها في الفضاء الثوري السوري منذ العام ٢٠١١، حول الخطوة التالية لنهاية منظومة القمع البعثية. وحتى يغدو هذا التفكير ناضجًا، لابد له أيضًا أن يأخذ في الحسبان الإرث التاريخي العالمي لتجارب التحول من الديكتاتورية، والصراع المسلح لبناء فضاء سياسي تشاركي لا يتقيد بالتقسيمات الاثنية والطائفية. إرث يتجنب السقوط في وهده الدولة المتشظية كما في الحالة العراقية، التي كان ثمة رغبة محمومة وسريعة في الانعتاق السريع من ربقة الماضي السلطوي، ظنا أن الإسراع كفيل بوأد الانقسام. فكان التشظي ذاته هو الحاكم، فحسب مايكل أوهانلون “ليس من السهل تحقيق الاستقرار في بلد تخلّص لتوه من حكم ديكتاتوري وحرب طاحنة” ([1]).  لهذا فربما الدرس الأهم من التجارب المحيطة بسوريا على الأقل، لتحقيق انتقال سياسي بأقل قدر من الخسائر، هو التريث في البناء مع الأخذ في الاعتبار تجارب التحول الديمقراطي، وطبقات المعرفة التي تمت مراكمتها منذ ٢٠١١، حول سيناريوهات ما بعد سقوط الأسد. أما وقد سقط الأزل. فربما الأخطر حاليا هو البناء على السقوط.

في سنوات ما بعد الحراك الثوري مباشرة، إبان ثورات الربيع العربي، كان ثمة رؤية للتحول الديمقراطي، طرحت من قبل بعض أطياف الطيف السياسي المعارض. اشتملت على تسع ملفات حساسة ومهمة: النظام السياسي، وآليات وضع دستور جديد، ووضع نظام انتخابي نسبي، والتعددية الحزبية في سوريا المستقبل، وإصلاح القضاء وضمان استقلاليته بوصفه سلطة ثالثة، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وبناء جيش وطني حديث ومحترف، وطرح رؤية اقتصادية أكثر تحررًا وانفتاحًا. وشارك في إعداد خطة التحول الديمقراطي تلك نحو ثلاثمئة شخصية سورية، من سياسيين ممثلين لمختلف الطيف السياسي السوري، وباحثين وأكاديميين، ومنشقين سياسيين وعسكريين عن النظام، ورجال أعمال، وقضاة، وعلماء دين، ومهنيين، وقانونيين، وناشطين حقوقيين، وثوار مدنيين ومسلحين ([2]).     

ولأول وهلة كانت لحظة السقوط تبدو فاصلة قاطعة لإرث كامل من بنى سياسية، قلبها وجوهرها نظام الرأي الواحد. إضافة إلى هذا، لا يمكن الادعاء بأي حال بأن آثار السقوط قد انتهت. إذ أن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا لا يزال يعيد تشكيل البلاد ومنطقة الشرق الأوسط الكبرى. ورغم سيادة شعور استعادة الحرية. ومع ذلك، ترك القمع السكان في حالة ضعف وهشاشة. وهذا لا ينفي كون سوريا الآن أضحت متاحة للجميع. وهذا، قد يفسر الكيفية التي سيحاول بها المجتمع المدني إعادة بناء الديمقراطية من خلال “النضال من الأسفل”.  حقيقة، أصبح لدى القطاع الأعرض من السوريين، ولأول مرة منذ عقود، أمل حقيقي في المستقبل، وبناء مجتمع أكثر مساواة وديمقراطية واجتماعية. ومن الواضح أن هناك خوفًا، ولكن الخوف كان موجودًا بالفعل على مدى العقود الخمسة الماضية. ولكن هناك على الأقل فرصة ينبغي اغتنامها. ومع وجود هذه الفرصة التي ينبغي اغتنامها، هناك الكثير من التحديات القائمة. أولًا وقبل كل شيء، على الصعيد الداخلي، فإن الجماعات وفصائل المعارضة المسلحة، مثل هيئة تحرير الشام أو الجيش الوطني السوري، بعيدة كل البعد عن كونها ديمقراطية. وعلى النقيض من ذلك تمامًا، فقد أظهرت سلوكًا وسياسات استبدادية في الماضي. وبالتالي، ستكون هناك حاجة إلى إعادة بناء الحركة الديمقراطية، وتنظيمات شعبية جديدة، ونقابات عمالية، ومنظمات نسوية، وإلى إعادة بناء النضال بشكل أساسي من الأسفل، من أجل بناء إمكانية قيام هيكل سياسي بديل، وهيكل اجتماعي. ومرة أخرى، هناك نوع آخر من التهديد. هناك أيضًا الانقسام العرقي بين العرب والكرد والذي يجب معالجته. ومن المؤسف أن تركيا تلعب دورًا سلبيًا – حتى الآن – في تذكية الصراع ودفعه باتجاه أبعاد هوياتية وإثنية )[3](.

إن السوريين، بوجه عام، لديهم الكثير من الأمل، ولكن توجد أيضًا تناقضات وتحديات في المساحة التي فتحها سقوط النظام. ومن الواضح أنه سيكون هناك الكثير من العمل لإعادة البناء الذي يتعين القيام به بين القطاعات الديمقراطية والتقدمية في المجتمع لتشكيل كتلة لموازنة قوة هيئة تحرير الشام، في حال جنحت لمصالحها وأيدولوجيتها الخاصة، وقررت فرضها جبرًا. وسوف تتوقف التطورات في الأسابيع والأشهر القادمة على قدرة الجماعات الديمقراطية والاجتماعية على التطور، وأيضًا، على التطورات الإقليمية والدولية، لأن الكثير من البلاد، على الرغم من اختلافاتها، تريد أيضًا رؤية شكل من أشكال الاستقرار الاستبدادي يعاد فرضه على سوريا، وهو ما يعني بشكل أساسي احتواء الضرر للمنطقة.  إذن، عاد الأمل، ولكن هناك الكثير من التحديات. وسوف يتوقف الأمر، غالبا، على ميزان القوى داخل البلاد والقدرة على تشكيل كتلة ديمقراطية تقدمية، تتحدى الانقسام العربي الكردي، وعلى القدرة على تحدي هذه القوى المحلية الاستبدادية، وأيضًا القوى الإقليمية والدولية، لأنه لا يهم أيًا منها المصالح الأفضل للطبقات الشعبية السورية. وبينما يمتلك الشرع مفاتيح القصر الرئاسي، فإن النشطاء والسياسيين المعارضين في المنفى يستعدون أيضًا لهذه اللحظة، ويكتبون تمارين نظرية حول الشكل الذي قد يكون عليه الحكم في فترة ما بعد الأسد، ويشاركون في المحادثات الدستورية ويكتشفون الدور الذي ستلعبه أحزابهم في العصر الجديد في سوريا.. والأهم، أن الديمقراطية، كصيغة نهائية، يجب أن تكون مبادرة سورية وليست منتجًا مستوردًا، ولكن بعد خمسة عقود من الحكم الاستبدادي، سيستغرق الأمر وقتًا – ربما عامًا أو عامين – لبناء الإطار السياسي والبنية التحتية المادية اللازمة لإجراء انتخابات متعددة الأحزاب ([4]).

الروح السائدة في فضاءات ما بعد البعث، سيادة الرغبات الجماعية للبناء السياسي المؤسس على مبادئ تسمح للجميع بالمشاركة، في هيكليات البناء والتنظير له. ذلك أنه في أزمنة غياب اليقين السياسي والسيولة السياسية، تغدو كل الثوابت الكبرى محل إعادة إنتاج أو ربما مسائلة. وهذا ما يسمح بإنتاج مقاربات فكرية وعملية تؤسس لمرحلة ما بعد الانقسام والحرب، وتنهي سيادة البارود والدم، لصالح التفاهمات والمواءمات، ويعطي الفرصة لغلبه الأنساق القانونية والبنى السياسية المعبرة عن الإرادة الجماعية.  والمثير في الواقع السوري ما بعد العام ٢٠١١، أنه شهد تجارب لا يمكن تسميتها بالمطلق بالشكل الديمقراطي، لكنها كانت كفيلة بلفت الأنظار؛ تجارب كالإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا وإدلب. ورغم وقوعها لدى البعض كطرفي نقيض، لكنها تقدم تجربة حقيقية يمكن الانطلاق منها والبناء على أخطائها وربما إنجازاتها حتى. ولذا، نحن هنا سنحاول إعادة قراءة أحد هذه التجارب، لكن من زاوية تفسيرية جديدة عينها على الاستفادة منها كخبرة حية تصلح للانتقال الديمقراطي والاتجاه بطريق، سوريا حقيقة وفعلا وكيانات ونظام سياسي وعدلي وتجربة سياسية جامعة لكل السوريين.

وحتى نفهم هذه التجارب. سنحاول التعمق أكثر فيما تعنية محاولة الانعتاق من سياقات الديكتاتورية والاقتراب أكثر من فضاء سياسي واجتماعي موسوم بدرجة عالية من العدل السياسي. وذلك بالمقارنة والاستعانة بالأدبيات النظرية والعملية للانتقال السياسي ما بعد الديكتاتورية. تعتبر الانتفاضات الجماهيرية، والتي تشعل آمال وأحلام التحول الديمقراطي، ضد الحكم الاستبدادي أحداثًا نادرة وغير متوقعة. إلا أن الإطاحة بالدكتاتور ليست سوى الخطوة الأولى. إذ، ثمة مهام شاقة تنتظر القوى المؤيدة للديمقراطية بعد الإطاحة بالدكتاتور، فمعظم الانتفاضات الجماهيرية ضد الحكم الاستبدادي لم تؤد بالضرورة إلى الديمقراطية. فوفقًا لجيدس ورايت وفرانتز (2014)، لم يتبع سوى 41% من الانتفاضات الجماهيرية التي أطاحت بالدكتاتوريات بعد الحرب العالمية الثانية تحول إلى الديمقراطية. وتواجه القوى المؤيدة للديمقراطية عددًا لا يحصى من القرارات الصعبة بعد الإطاحة بالدكتاتور، على سبيل المثال، حول ما إذا كانت ستنخرط في السياسة الرسمية، أو ما إذا كانت ستلاحق أو تتصالح مع نخب النظام القديم، أو ما إذا كانت ستتحد خلف زعيم واحد مؤيد للديمقراطية أم ستشجع التعددية السياسية. وما الذي يمكن أن تفعله الجهات السياسية الفاعلة في أعقاب انهيار النظام الاستبدادي لتيسير الانتقال الديمقراطي؟ وكيف يمكنها التعلم من الحالات التاريخية الأخرى؟  ([5]).

من بين مجموعة الأدوات المتاحة للممارسين في مجال حل النزاعات لإدارة الصراعات المستعصية، لا يوجد أداة أكثر ديمومة على المدى الطويل – ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على مخاطر – من إنشاء ورعاية الديمقراطية. فالديمقراطية واعدة لأن المبادئ والمؤسسات والقواعد المرتبطة بالممارسة الديمقراطية تسعى إلى إدارة الصراعات الاجتماعية الحتمية في المجتمعات المنقسمة بشدة وكذلك في المجتمعات الأقل صراعًا. وتوفر الديمقراطية إجراءات يمكن التنبؤ بها، يمكن من خلالها اتخاذ القرارات الجماعية دون التعرض لخطر أن تعني خسارة معركة سياسية مصيبة كبرى أو سجنًا أو حتى فقدان الأرواح. والديمقراطية، كنظام لصنع القرار السياسي، هي من نواح كثيرة نظام لإدارة الصراعات حيث تكون النتائج غير معروفة ولكن القواعد الأساسية للعبة توفر ساحة آمنة للتنافس فيها.. ولهذا السبب، فقد تحولت العديد من المجتمعات المنقسمة بشدة في مرحلة ما بعد الحرب في التسعينيات إلى الديمقراطية كوسيلة للخروج من الصراع المستعصي. فمن السلفادور (1994) إلى تيمور الشرقية (2002)، أصبحت البلدان التي كانت عالقة في السابق في صراع عنيف دولًا ديمقراطية ناشئة – وإن لم تكن “موحدة” تمامًا ([6]).

بعض المشكلات المتأصلة في التحول إلى الحكم الديمقراطي بعد صراع مطول، وكيف يمكن لأنواع مختلفة من الديمقراطية أن تؤثر في العلاقات بين الجماعات المتصارعة. واستكشاف الآثار المترتبة على هذه الروابط الأساسية بين الديمقراطية وإدارة الصراعات في مجتمعات اليوم المنقسمة بشدة، والتي تتجاوز العنف من خلال عملية سلام منظمة. يمكن إدراك الوصول إليها عبر شقين: أولاً، على الرغم من العديد من التجارب والمصاعب المتعلقة بالديمقراطية في مجتمعات اليوم المتعددة الأعراق، فلا يوجد شكل آخر من أشكال الحكم – بما في ذلك تقاسم السلطة غير الديمقراطي، أو السيطرة الاستبدادية القائمة على الحزب، أو حكم الجيش، أو القوة الساحقة لديكتاتورية ما – يمكن أن يوفق المصالح الاجتماعية المتنافسة على نحو أكثر فعالية. ولهذا السبب، فإن فهم الكيفية التي قد تساهم بها أنواع الديمقراطية وممارساتها في الصراع المستعصي أو تساعد على تفاقمه هو مصدر قلق بالغ الأهمية. ثانيًا، من بين الطرق الممكنة لإنشاء ديمقراطية، لا توجد مجموعة مثالية واحدة من المؤسسات أو الممارسات التي يمكن أن تضمن أن تساعد الديمقراطية في إدارة الصراعات المستعصية في المجتمعات المنقسمة بشدة. وفي الوقت نفسه، وبالنظر إلى المعرفة العميقة للممارسين حول صراع معين، والإحساس البديهي القوي بشأن كيفية عمل أي مؤسسة أو ممارسة ديمقراطية معينة في سياق ما، فإن بإمكان الممارسين المساعدة في تشكيل خيارات الأطراف المتنازعة في مجتمعات اليوم المنقسمة بشدة بطرق تعزز التسوية والمصالحة وإدارة الصراعات ([7]).

في العديد من المجتمعات المنقسمة بشدة اليوم، تلجأ الأطراف إلى الديمقراطية في سياق التفاوض بشأن اتفاقيات السلام للخروج من الصراعات المستعصية. وقد دأب المجتمع الدولي على مساعدة هذه الجهود، من خلال الوساطة في بنود اتفاقيات السلام، وتقديم المساعدة الفنية والمتخصصة في المفاوضات، إلى إيفاد المراقبين للانتخابات الانتقالية، والمساعدة في إنشاء وتدريب الأحزاب السياسية الجديدة أو القائمة. وفي كثير من الحالات، فقد انتقلت جماعات متمردة سابقة (مثل المؤتمر الوطني الأفريقي) من شن الحرب إلى الترشح للانتخابات السياسية. وقد برزت الجهود المدعومة دوليًا لتحقيق الديمقراطية بعد الصراعات الداخلية المريرة، في السنوات الأخيرة، بشكل كبير في أنغولا، والبوسنة، وكرواتيا، وتيمور الشرقية، والسلفادور، وإثيوبيا، وغواتيمالا، وناميبيا، ونيكاراجوا، وأيرلندا الشمالية، وسيراليون، وجنوب إفريقيا، وزيمبابوي، على سبيل المثال لا الحصر. وتُعلق الآمال على أن يحل صندوق الاقتراع محل ساحة المعركة باعتبارها الطريقة الرئيسية التي يتم بها خوض الصراعات الاجتماعية. واليوم، تسعى بلدان مثل بوروندي وسري لانكا وروسيا (الشيشان) وكوسوفو إلى تصميم أنظمة جديدة للديمقراطية للمساعدة في إدارة الصراعات القائمة منذ فترة طويلة ([8]).

الانتقال الديمقراطي قراءة في السياقات النظرية

بعد الثورة\ الحرب، وفناء نظام القمع الشمولي تبرز الحاجة لإعادة استقراء كل البنى النظرية التي تكون البنى والفضاءات السياسية، وتأتي على رأسها الدولة كبناء نظري قائم على مدونات فكرية تمتد لمئات السنون، بقدر ما هي تأسيس فيزيقي. ومن ثم فهي في أوقات اللايقين السياسي والسيولة الفكرية، تقبل بين الفينة والأخرى إعادة التأسيس والتأويل لبعض أنساقها النظرية. ولهذا، لا يمكن القول أن الدولة بالمفهوم الحديث التي يرجعها كثير من المنظرين السياسيين إلى صلح وستفاليا ١٦٤٨، قد غدت كيانا متكاملا تام البناء، إذ ربما أهم ما يميز الدول أنها كيانات حية تنمو وظائفها ومساحات حراكها كلما دعت الحاجة إليها، فهي كيان نامي لا ثابت.  لهذا وفي السنوات الأخيرة، شهدت الفضاءات العامة لفعل السياسة على المستوى العالمي، إعادة إنتاج شعبوية جماهيرية لأفعال فقهية تليدة مثل “السيادة” و”التمثيل السياسي” و “التمثيل الانتخابي”، أي أن كلها دارت حول التساؤل القائل: من يمثلنا، وهل الديمقراطية التي أنتجتها الحداثة هي الصيغة السياسية والاجتماعية الأمثل، حتى تعبر الجماهير عن ذواتها ومصالحها في الفضاء السياسي الدولتي، وهل ثمة بدائل؟

قلما انغمست أدبيات العلوم السياسية المقارنة والعلاقات الدولية في مناقشات بالحدة والمدة التي دارت حول الخلاف بين مؤيدي المدارس الفكرية المختلفة بشأن كيفية بناء أنظمة سياسية مستقرة وديمقراطية في المجتمعات المنقسمة. وخاصة عندما تنبثق هذه المجتمعات من صراعات غالبًا ما تكون طويلة وشديدة، فإن المهمة تكون شاقة في أفضل الأوقات، والسجل التاريخي للنجاح متقطع. ولذلك، فإن السؤال المتعلق بالنهج الأكثر أملًا لتحقيق الهدفين المزدوجين المتمثلين في السلام والديمقراطية ليس مجرد تأمل نظري لا طائل من ورائه، بل هو ذو أهمية فورية ودائمة للبلدان التي تشرع في بناء الدولة بعد الصراع، وغالبًا ما تكون ذات دلالة في تأثيراتها على الأمن الإقليمي والدولي على نطاق أوسع. ولذلك، فإنه لمن دواعي الترحيب أن يواصل علماء العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وكذلك التخصصات ذات الصلة، مثل القانون الدستوري والقانون الدولي، الانخراط في قضية بناء الدولة الديمقراطية بعد الصراع وأن يفعلوا ذلك بطريقة بناءة متزايدة. وليس معنى ذلك القول إن أيًا من المنافسات الدائمة في مجال تسوية النزاعات قد حُلّت، ولكن القول إن المناقشة أصبحت أكثر تطورًا في النتائج التي تقدمها. ويعود ذلك جزئيًا إلى الطابع المتزايد للتخصصات المتعددة في التفاعلات (لا سيما المساهمات التي قدمها علماء القانون)، وجزئيًا إلى القاعدة التجريبية الأكثر ثراءً التي تستمد منها الحجج([9]).

إن الأدبيات الموجودة حول بناء الدولة، لا تتنازع على أهمية تصميم أطر مؤسسية يمكن من خلالها استيعاب النزاعات بين أطراف الصراع المختلفة، بحيث يصبح الحل الوسط السياسي مفضلًا على الكفاح العنيف. وفي الواقع، هناك اتفاق واسع على أنه في المجتمعات المنقسمة على وجه الخصوص، يكون للترتيبات المؤسسية التأثير الأكبر، وأن التصميم المؤسسي يمكن أن يُفضِّل أو يُعيق بشكل منهجي الجماعات الإثنية والوطنية والدينية. وبالتالي، وفي حين أن هناك اتفاقًا على أن السياق الذي يمكن فيه التعبير عن الاختلافات بطريقة سياسية غير عنيفة له أهمية كبيرة، فإن الأدبيات الموجودة لا تتفق على رؤية إجماعية حول ماهية المؤسسات الأنسب لتحقيق ذلك. وفي حين أن جزءًا كبيرًا من المناقشة المتعلقة ببناء الدولة، مشغول بحجج معيارية وبراغماتية حول استصواب وإمكانية تطبيق المؤسسات التوافقية على وجه الخصوص، فإن مهمة بناء الدول الديمقراطية بعد الصراع هي مهمة أوسع نطاقًا. ولذلك، فربما الأهم أولا استكشاف ما يمكن أن يكون “قائمة مهام” لبناء دولة ديمقراطية في فترة ما بعد الصراع. وفي قلب هذه القائمة، وربما الأهم من ذلك، في صميم عملية بناء الدولة بحد ذاتها يقع تصميم المؤسسات السياسية للدولة ([10]).

استمد نموذج إعادة البناء الديمقراطي من ثلاثة مصادر: التجارب المبكرة في فترة ما بعد الحرب الباردة في نشر الديمقراطية؛ والنظرة المتفائلة بالقدر نفسه التي تبناها العلماء الذين قُبلت رؤيتهم على الفور من قبل منظمات التنمية بأن ما يسمى بـ “نظام الحكم” الديمقراطي لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مصالحة سياسية واجتماعية عميقة؛ والنظرة التي شاعت في ذلك الوقت، والتي كانت تشبه الحماس الذي طبع جزءًا كبيرًا من التفكير في أن المؤسسات الديمقراطية قابلة للهندسة. وبحلول التسعينيات، كانت النظرة المتفائلة حول قدرة التدخل الخارجي على تعزيز الديمقراطية قد بدأت تخف في الأوساط الأكاديمية وفي أوساط الممارسين، بالنظر إلى النتائج المتواضعة التي أسفرت عنها معظم المساعدات. ولكن في المجال الأحدث للتحول الديمقراطي، بقي الحماس على حاله. وكانت النتيجة، ظهور ما يمكن وصفه بأنه نهج لينيني لإعادة بناء الدولة من خلال تعزيز الديمقراطية: العزم على هندسة ليس فقط أنظمة سياسية جديدة، ولكن أيضًا مجتمع مدني لدعم تلك الأنظمة، وذلك من خلال التدخل الخارجي والمساعدة. لقد تطور نموذج إعادة البناء الديمقراطي خلال التسعينيات، ليصبح أكثر إرضاءً من الناحية الفكرية، وأكثر إقناعًا من الناحية المنطقية، وأكثر واقعية من الناحية السياسية. واليوم، يلتزم المجتمع الدولي من الناحية النظرية بإعادة بناء البلدان الخارجة من الصراع وفقًا لنموذج ديمقراطي. وفي الواقع العملي، لا يستطيع المجتمع الدولي أن يشير إلى حالات عديدة من إعادة البناء الديمقراطي الناجحة. ويرجع هذا إلى الصعوبة الهائلة في القيام بذلك وإلى حقيقة أن المجتمع الدولي يفتقر في معظم البلدان إلى الإرادة السياسية للمحاولة حقًا. ونتيجة لذلك، هناك تباين متزايد بين النموذج الذي يجري الترويج له والسياسات التي يجري تطبيقها في الواقع. وقد كان هذا المشكل واضحًا لفترة من الوقت، ويحتمل أن يزداد سوءًا. فمع تزايد عدد البلدان المحتاجة إلى جهود إعادة الإعمار، تقل احتمالية أن يكون المجتمع الدولي مستعدًا لتعبئة الموارد المالية والبشرية لتنفيذ هذا النموذج في كل مكان ([11]).

بدأ نموذج إعادة البناء الديمقراطي في الظهور في أوائل التسعينيات، عندما أدى انتهاء الحرب الباردة إلى تسهيل سلسلة من اتفاقات السلام التي وضعت حدًا لصراعات طويلة الأمد في إفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطى. وتشكل أنغولا وموزمبيق ونيكاراجوا والسلفادور وكمبوديا أمثلة على هذه التسويات. وكان أحد العناصر المشتركة في هذه الاتفاقات هو أنه كان من المقرر أن يتم التصديق عليها بإجراء انتخابات ديمقراطية في غضون فترة زمنية كانت تُملى إلى حد كبير بسبب الحاجة الدولية إلى إستراتيجية خروج سريعة أكثر منها اعتبارًا حقيقيًا للمدة التي يستغرقها اتخاذ جميع الخطوات الأولية اللازمة لإجراء انتخابات ناجحة. وتم تقنين فترة زمنية مدتها عامان باعتبارها المدة الزمنية اللازمة للتحضير للانتخابات بعد انتهاء الصراع، بغض النظر عن الظروف الأولية. ولا يزال رقم العامين السحري هذا معنا اليوم. فميثاق لوساكا بشأن جمهورية الكونغو الديمقراطية يدعو إلى إجراء انتخابات في غضون عامين من اختتام حوار وطني؛ بينما يدعو اتفاق بون بشأن أفغانستان إلى إجراء انتخابات في غضون عامين من انعقاد اللويا جيرغا. ومن الواضح أن هذه الاتفاقيات ليست مصممة خصيصًا للظروف بقدر ما يُزعم أنها كذلك.

وكان نموذج إعادة البناء الديمقراطي، بصيغته الأصلية عند التنفيذ، بسيطًا نسبيًا. فقد كان يتكون من جزأين رئيسيين: على الجانب العسكري، تسريح المحاربين السابقين، وبعض الترتيبات لإعادة توطينهم في الحياة المدنية، وتشكيل جيش وطني جديد . وعلى الجانب السياسي، هيكلة نظام ديمقراطي، بما في ذلك صياغة واعتماد دستور، وسن القوانين الضرورية بشأن الأحزاب السياسية والانتخابات، وتسجيل الناخبين، وأخيرًا إجراء انتخابات متعددة الأحزاب (انتخابات ما بعد الصراع). وفي بعض البلدان، مثل السلفادور، جرى تبسيط العملية إلى حد كبير بسبب وجود الهياكل الرسمية لنظام ديمقراطي بالفعل، وإجراء الانتخابات بشكل روتيني؛ وفي بلدان أخرى، وخاصة في كمبوديا وفي البلدان الأفريقية، كان لابد من بدء العملية بشكل أساسي من الصفر، وكانت سنتان فترة زمنية قصيرة جدًا بالفعل. وتحت إشراف دولي، جرى تنفيذ العملية الأولية بنجاح نسبي في معظم البلدان التي نُفذت فيها. وسرعان ما وضعت الجهات المانحة منهجية للإصلاح السياسي بعد انتهاء الصراع، وهي منهجية نجحت إلى حد كاف في قيادة البلدان نحو الانتخابات. ولكن كانت هناك استثناءات: فقد عادت أنغولا إلى الحرب مباشرة بعد الانتخابات. وفي كمبوديا، تم تجنب الكارثة نفسها بصعوبة بالغة من خلال قرار دولي ضمني بالسماح للحزب الحاكم السابق بالدخول إلى الحكومة بالقوة من خلال نظام غريب وغير مستقر من رئيسي وزراء. وكان هذا اعترافًا بأن الانتخابات لا يمكن أن تنقل السلطة بعيدًا عن أقوى جماعة – وهي حقيقة تأكدت لاحقًا عندما استولى هون سين بشكل غير رسمي على السلطة في انقلاب ([12]).

وقد تعلم المجتمع الدولي الكثير حول إعادة بناء الدولة من هذه التجارب المبكرة، ونتيجة لذلك أصبح النموذج أكثر تعقيدًا وأكثر تطورًا. ومن بين الدروس المستفادة كانت الحاجة إلى تكريس المزيد من الاهتمام والموارد ليس فقط لإعادة الإدماج وتسريح المقاتلين السابقين، ولكن أيضًا لإصلاح قطاع الأمن بأكمله، لضمان بقاء الجيش خارج السياسة بشكل دائم. وبدورها، أصبح مفهوم إصلاح قطاع الأمن أكثر تطورًا بمرور الوقت، ليشمل الشرطة والمؤسسات العقابية وأجهزة الاستخبارات والإشراف المدني على القطاع العسكري. وقد تعلم المجتمع الدولي أيضًا المزيد عن أهمية تحقيق المساواة في النتائج بعد إجراء انتخابات ما بعد الصراع وفي ترسيخ الديمقراطية بشكل عام. وقد نما إجماع على أنه ليس كافيًا فقط أن يتم التخطيط وإجراء انتخابات بسرعة، ولكن هناك حاجة إلى جهود لتقوية المؤسسات الديمقراطية الناشئة بسرعة، وإلى المجتمع المدني، ولتحسين قدرة المؤسسات الإعلامية المستقلة والقضاء. وبما أن جميع هذه المجتمعات الخارجة من الصراع تقع في أغلب الأحيان في مناطق لا تتوفر فيها الموارد اللازمة للنمو، وأدرك الخبراء في مجال الديمقراطية أيضًا أن الديمقراطية لا تزدهر في بيئة ذات مركزية عالية في السلطة؛ فإن الحكومات المحلية بحاجة هي أيضًا إلى تعزيزها. باختصار، كان يجب أن يُولى اهتمام أكبر لقضايا الحوكمة بشكل عام وقدرة الدولة على تنفيذ التدابير الاقتصادية والسياسية والاجتماعية اللازمة لترسيخ الديمقراطية.. وهكذا، ظل دور المجتمع الدولي مركزيًا في هذا النموذج. فبالرغم من أنه وُضِعَ في الأصل باعتباره إستراتيجية خروج – يتمثل في أخذ البلد بسرعة نحو الانتخابات ثم الخروج – فإن هذا النموذج تطلب استمرار الوجود والمشاركة الدوليين. ومن المحتمل ألا يتمكن أي بلد في العالم من تنفيذ برنامج إصلاح عاجل في جميع مجالات الحياة العامة. وبالتأكيد لا يمكن أن تفعل الحكومات الضعيفة في المجتمعات الخارجة من الصراع ذلك. ومع ذلك، فقد استمر المجتمع الدولي في وصف ما تحول إلى نموذج “أقصى” لجميع البلدان الخارجة من الصراع. ومع ذلك، فلم يحصل سوى عدد قليل من البلدان على مستوى من الدعم يتناسب مع المهام المنصوص عليها ([13]).

وعلاوة على ذلك، فإن نموذج إعادة البناء الديمقراطي معقد للغاية. وتجادل معظم الدراسات بأن إعادة بناء المجتمعات الخارجة من الصراع لا يمكن أن تنجح إلا إذا جرى تنفيذ الإصلاحات في وقت واحد في جميع المجالات – على مستوى مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وفي المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفي الحكومة المركزية وعلى المستويات المحلية، وما إلى ذلك. ومن الناحية النظرية، فإن التزامن في الإصلاحات سيكون أمرًا مرغوبًا فيه. وفي الواقع العملي، فإنه أمر صعب للغاية في أحسن الأحوال، بل ومستحيل تمامًا دون التزام دولي كبير. وهذا الالتزام مفقود في معظم الحالات، ومن غير المرجح أن يُقدَّم إلا لعدد قليل من البلدان.

“قائمة مهام” بناء الدولة

ثمن إيقان كبير، بمدى صعوبة عملية بناء الدول الديمقراطية بعد الصراع. إن السلام المستدام والدول المستدامة مرتبطان ببعضهما البعض في سياق أوسع من مجرد تصميم المؤسسات السياسية وتأثيرها على المجتمع. فالأمن، بما في ذلك قضايا نزع السلاح والتسريح وإعادة إدماج المحاربين السابقين، وما يرتبط بذلك: من إصلاح قطاع الأمن، ووجود نظام قانوني فعّال، بما في ذلك مسائل الإنصاف عن الجرائم الماضية، والسياسة الاقتصادية والمالية السليمة، وإشراك الجهات الفاعلة المحلية والمجتمع المدني. كل ذلك يشكل جزءًا من عملية بناء الدولة وله تأثير على كل من طبيعة الدولة التي يجري بناؤها واستدامة السلام في داخلها. وبعبارة أخرى، هناك إدراك واضح الآن في أدبيات بناء الدولة وتسوية النزاعات بأن هناك “حدودًا واضحة للهندسة الدستورية وحدها” في تحقيق السلام بعد الصراع.

ذلك أن الأمن هو أكثر من مجرد حالة يدركها الأفراد، بل إنه ينطوي على مطالبة سياسية بالشرعية، أي “تحويل الإكراه إلى أمن من خلال سيادة القانون”. وهكذا، فإن الأمن والشرعية السياسية مرتبطان ارتباطًا وثيقًا: فالقدرة التي تتمتع بها الدولة بعد انتهاء الصراع على توفير الأمن ستحدد بشكل حاسم شرعيتها، وبالعكس، فإن الشرعية السياسية التي تتمتع بها (من حيث الانتخابات ومشاركة أصحاب المصلحة والنخب الرئيسيين) تشكل مدى اعتبار المواطنين أن الأمن يحميهم أو مجرد استمرار للصراع بوسائل أخرى. وعلاوة على ذلك، فإن القدرة القسرية، سواء كانت شرعية أم لا، غالبًا ما تكون محدودة، مما يستلزم توفيرًا دوليًا قد يثير بدوره مشكلات لأن مختلف الجهات الفاعلة المحلية والدولية لا تشترك في نفس الأولويات. ويتضح هذا تمامًا، على سبيل المثال، إذا نظر المرء إلى انشغال الجهات الفاعلة الخارجية بمصالحها الأمنية (الوطنية)، مثل مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية والإرهاب الدولي، مع مصالح الدولة التي يجري إعادة بنائها، ونخبها ومواطنيها، بما في ذلك، من بين أمور أخرى، الخوف من العنف السياسي والجنائي المستمر المرتبط بالصراع الأصلي.

يحتاج صانعو الدولة إلى النظر بعناية في الخيارات المتاحة لهم في هذا السياق – بين مواجهة الوسطاء المحليين للسلطة الذين ربما يكونون قد وفروا مظهرًا من مظاهر الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرتهم أثناء الصراع، وإدماجهم في جهود بناء الدولة. وبينما تشكل الاستراتيجية الأخيرة المتمثلة في “دمج القائمين على تطبيق القانون الذاتي والجماعات الفرعية الإقصائية في ترتيبات ما بعد الصراع… مشكلات كبيرة”، إلا أن مثل هذه التسويات لديها سجل تاريخي في المساعدة على “إضفاء الشرعية على النظام الديمقراطي الجديد”. لا يوجد، بالطبع، نهج واحد يناسب الجميع لتوفير الأمن. ثمة رؤية من التجارب العملية، تُظهر مدى اعتماد معالجة القضايا الأمنية على السياق، ولكنها تسد أيضًا فجوة مهمة في الأدبيات التوافقية التقليدية التي، في تركيزها الضيق نسبيًا على المؤسسات السياسية، كانت تميل إلى إهمال “عدد من القطاعات الحاسمة في الأماكن المنقسمة بعنف، مثل تصميم قوات الشرطة والأمن؛ والتعامل مع الجناة شبه العسكريين؛ ونزع سلاح كل من قوات الدولة والقوات شبه العسكرية؛ والتفاعل بين المسلحين السابقين. والترتيبات اللازمة لمراقبة وقف إطلاق النار” ([14])

وبوجه عام، فإن الأدبيات المتعلقة ببناء الدولة تعترف بأهمية الأمن، والمهام المصاحبة له مثل نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج وإصلاح قطاع الأمن، لتحقيق الديمقراطية، ولكنها تقر أيضًا بأن التركيز الضيق على الأمن لن يكون كافيًا لتحقيق نتائج ديمقراطية في عملية بناء الدولة بعد الصراع. ومن حيث التسلسل، فإن “الأمن أولًا” يعد الآن نموذجًا مقبولًا لبناء الدولة، ولكن هناك أيضًا إدراك بأن “الأمن فقط” لا يمكن أن ينجح في تحقيق النتيجتين المزدوجتين المتمثلتين في السلام والديمقراطية بعد الصراع. إن بناء هياكل ومؤسسات فعالة للحكم، وتنفيذ سياسات للتنمية الاقتصادية، وتعزيز مشاركة نشطاء المجتمع المدني ووسائل الإعلام في جهود بناء الدولة هي جزء لا يتجزأ من قائمة مهام بناء الدولة التي يجري تجاهلها على مسؤولية بناة الدولة. وكما يلاحظ أيضًا، فإن البيئة الآمنة والمساعدة الدولية عاملان حاسمان لإعادة بناء الموارد المالية العامة، وتهيئة مناخ يمكن فيه تعزيز النمو الاقتصادي، وتمكين الدول المتعافية من الصراع تدريجيًا من أن تصبح أقل اعتمادًا على المساعدات وتوفير مجموعة من الخدمات العامة التي ستساهم بدورها في زيادة الشرعية لإطارها المؤسسي. ويشير مكغاري وأوليري، في دراستي حالتهما في العراق وأيرلندا الشمالية على التوالي، إلى الإهمال التقليدي الذي تبنته النظرية التوافقية تجاه إعادة الإعمار الاقتصادي، وأهمية ترتيبات المشاركة العادلة في الثروة في التصميم المؤسسي. وهناك أيضًا رابط مهم بنفس القدر بين الأمن والمؤسسات الفعالة والشرعية للدولة أثبته بيلوني في دراسته حول دور المجتمع المدني في دول ما بعد الصراع. ويلاحظ بيلوني أن منظمات المجتمع المدني يمكنها أن “تعزز التعاون والثقة بين أعضائها والمجتمع ككل، ولكن يمكنها أيضًا أن تثير الفتنة والعنف،” ويرى أن “أفضل السبل لتعزيز ظهور وتنمية المجتمع المدني المحلي في التحولات من الحرب إلى الديمقراطية هو تعزيز الدولة من خلال إنشاء مؤسسات اجتماعية وسياسية مستقرة وفعالة” ([15]).

إذن، يعد تفكيك ماكينة القمع الأمنية بشكل مهني واحترافي، أولى عتبات الانتقال السياسي وبناء الديمقراطية في الفضاءات السياسية ما بعد الصراعية. وفي الحالة السورية ربما يكون هذا الإجراء الحاسم، مفتتح الطريق الطويل لنحو مؤسسة دولة تدير حياة السوريين، ولا يدورن هم في فلكها جبرا. لكن قبل تفكيك القمع وماكينته لابد ممن أولا من أرشفة آلياته وطرق عمله وأدواته البشرية السياسية لفرض طبقة كثيفة من الخوف أحالت الطيف السوري على مدى عشرات السنون، ليكون جبرا طيفا بعثيا ومؤدلجا تمامًا. وذلك من مقتضيات بل من موجبات اجتساس هذا الفيروس العفن وبناء حواجز قانونية وسياسية تمنع العودة إليه؛ فيروس الأمن السلطوي.. الذي تحكم وحكم الجسد السوري. الخلاصة السريعة هنا، أن لا عدالة بدون استيعاب طبقات الظلم، ولا إدراك لهذا إلا بالعودة لأرشيفات القمع.

أرشيف القمع وبناء الديمقراطية في سوريا

لقد سلط سقوط نظام الأسد الضوء على قضية حاسمة ولكن غالبًا ما يجري تجاهلها: مصير سجلات الدولة الأرشيفية في سوريا. فقد ترك المسؤولون السابقون وراءهم الملايين من الوثائق السرية أثناء فرارهم من البلاد أو سعيهم إلى إخفاء المعلومات الحساسة. وقد جرى تدمير بعض السجلات أو نهبها أو حرقها وسط الفوضى عندما تحركت السلطات الجديدة لفرض سيطرتها على دمشق… وفي الفراغ الذي أعقب ذلك، تمكنت وسائل الإعلام الغربية من الوصول إلى بعض السجلات السرية ونشرت تقارير كشفت عن الأعمال الداخلية للدولة السورية في عهد حزب البعث والأسدين. وقد كشفت هذه التقارير عن أمة عملت فيها جهات خارجية فاعلة على تأجيج صراعات خفية داخل سوريا، وسلطت الضوء على الحجم الهائل لجهاز القمع التابع للنظام، الذي أطلق عليه اسم “دولة المراقبة الشبيهة بالستازي في عهد الأسد”، في إشارة إلى جهاز أمن الدولة والشرطة السرية في ألمانيا الشرقية السابقة. ورسمت القصص حول المخبرين المتغلغلين في الحياة اليومية صورة قاتمة لإرث نظام الأسد، الذي بني على التعذيب والمراقبة البشرية في جميع أنحاء البلاد.. وفي حين أن هذه الاكتشافات تقدم لمحة عن الأعمال الداخلية لنظام الأسد، فإن الحفاظ على هذه المحفوظات أمر ضروري لمستقبل سوريا. فهي يمكن أن تكون بمثابة أساس للعدالة الانتقالية وتعزيز المساءلة والمصالحة والتعافي. ولا توثق هذه السجلات القرارات البيروقراطية فحسب، بل تسجل العنف المنهجي والمعاناة الإنسانية التي عانى منها السوريون لأكثر من خمسة عقود في ظل سلالة الأسد. إن السوريين، أكثر من المؤرخين أو الباحثين، يستحقون فهم آليات القمع التي تستخدمها أجهزة الأمن الجبارة التابعة للدولة، بما في ذلك المخابرات العامة والأمن السياسي والمخابرات العسكرية ومخابرات القوات الجوية )[16](.

إلا أن أحد أكبر التحديات التي تواجه الشعب السوري سيكون ضمان قيام السلطات الجديدة بحماية هذه المحفوظات من التدمير أو الاستغلال أو الترحيل غير المصرح به. وتمثل الأمثلة التاريخية من العراق وليبيا حكايات تحذيرية في هذا الصدد. ففي العراق، استولت القوات الأمريكية على سجلات الدولة العراقية خلال حرب الخليج عام 1991 ومرة أخرى بعد الغزو الأمريكي عام 2003 بمساعدة المؤسسين المشاركين لمؤسسة الذاكرة العراقية، كنعان مكية ومصطفى الكاظمي. وقامت إدارة جورج دبليو بوش بمصادرة هذه الوثائق وتسليحها لتبرير المزيد من التدخلات العسكرية في العراق. وقد أوت مؤسسة هوفر في جامعة ستانفورد – وهي مؤسسة لها إرث غامض من القيم والمهام المتطرفة المحافظة – العديد من محفوظات ذلك البلد. وفي ليبيا، أقر صحفيون أجانب بنهب وتهريب سجلات الدولة. وقد أثار هذا الاستيلاء على السجلات الوطنية مخاوف أخلاقية وقانونية بشأن استخدامها. إن الطريقة التي ستتعامل بها القيادة في فترة ما بعد الأسد مع سجلات مماثلة في سوريا ستحدد الثقة العامة وشرعية المؤسسات الجديدة.. وتتمتع محفوظات حزب البعث بأهمية مماثلة. فباعتباره القوة السياسية المهيمنة في سوريا منذ عام 1963، فقد أوقف الحزب العمليات الرسمية فقط بعد وقت قصير من فرار بشار الأسد إلى موسكو في أعقاب استيلاء هيئة تحرير الشام وحلفائها على دمشق في 8 ديسمبر. وقد أعلن الحزب أنه سينقل هياكله المالية والبيروقراطية والأمنية إلى وزارتي المالية والعدل. ومع ذلك، فإن مصير سجلاته يظل غير مؤكد. وتوثق هذه المحفوظات كيف أن نظام البعث قد تغلغل في كل مؤسسة، وراقب المواطنين، ومارس السيطرة على جميع فروع الحكومة. وكما هو الحال في القضية العراقية، فمن المحتمل أن تتضمن وثائق حقبة البعث في سوريا أسماء المخبرين والمتعاونين والمعارضين – الأفراد الذين ربما لم يكونوا على علم بمدى مراقبة حياتهم وتسجيلها. وسوف يتطلب بناء نظام قضائي ذي مصداقية في سوريا ما بعد الأسد الشفافية والمساءلة في التعامل مع هذه المحفوظات. ويجب أن تتجنب الإجراءات القانونية الاستخدام الانتقائي للسجلات لتصفية الحسابات السياسية أو إنشاء أشكال جديدة من القمع. .. . إن سجلات الدولة الأرشيفية هي أكثر من مجرد مستودعات للبيانات التاريخية؛ فهي ترمز إلى الأمن القومي والسيادة والذاكرة الجماعية. وتنتمي هذه الوثائق إلى الشعب السوري، وينبغي أن تكون بمثابة أدوات للتفكير والعدالة والتعافي. وعند حفظ المحفوظات وإدارتها بنزاهة، فإنها تستطيع أن تلعب دورًا محوريًا في تشكيل مجتمع عادل وشفاف يواجه ماضيه ويبني مستقبلًا أكثر مساءلة ([17]).

شمال سوريا.. نموذج لإمكانية الديمقراطية للجميع

إن المخاطر المترتبة على إدخال الديمقراطية بعد الحرب الأهلية عديدة وجسيمة. فالثقة ضعيفة، والقضايا ذات حساسية عاطفية كبيرة، والأطراف مشحونة بالفصائل وغير متماسكة، ويتطلب الأمر الكثير من الأطراف الخارجية لضمان التوصل إلى تسوية. فهل يمكن للديمقراطية أن تنجح في المجتمعات المنقسمة بشدة؟ الأدلة متفاوتة. فهناك نجاحات نسبية مثل جنوب إفريقيا التي تلهم تفكيرنا في التحول الديمقراطي بعد الحرب الأهلية. فقد تمكن البلد من الحفاظ على الديمقراطية الإجرائية مع إحراز تقدم بطيء، ويبدو مطردًا، نحو التوحيد الديمقراطي. ومن ناحية أخرى، فإن المشاكل التي واجهتها كمبوديا (التي عانت من انتكاسات للديمقراطية بعد فترة من تقاسم السلطة الفاشل)، أو البوسنة (التي كافحت للتغلب على التوترات العرقية)، تثبط التفاؤل بشأن الديمقراطية كنظام فعال لإدارة الصراع بعد الحرب.. ويتفق العلماء والممارسون على حد سواء على أن أحد العناصر التي تحدد على الأقل النجاح النسبي للديمقراطية المستدامة في المجتمعات المنقسمة بشدة يتمثل في اختيار مؤسسات وممارسات السياسة العامة بشكل جيد، بما يعزز المفاوضات والمساومة المستمرة بين الجماعات. إذ يمكن لسياسات عامة جيدة من قبيل: عدم التمييز، وتكافؤ فرص؛ أي حصول جميع المجموعات على موارد الدولة، والقواعد الحساسة بشأن استخدام اللغة أن تعزز الثقة وتقلل المخاوف من أن التنافس الديمقراطي على السلطة سيؤدي إلى حكومات أغلبية متعصبة ([18]). أي تنفيذ الإصلاحات بروح وتصميم يرى السياسة فعل عملياتي، إلى جانب كونها فعل سيادي، فالسياسة في مواضع تصميم الدولة ما بعد الصراعية لابد لها تعبر في أحد النواحي السيادة، لتنشغل بالأساس بحياة الناس العادية الذين لا يهمهم من السياسة فقهها بل معاشهم المباشر. وهنا تتبلور إشكالية تصميم بنية نظام موسوم بالديمقراطية لكنه أيضا نظام سياسي احتوائي. يساهم في توصيل قدر من الطمأنينة بعد أزمنة الخوف والقمع وفساد أبجديات الواقع المعاش. من هنا تأتي قيمة تجربتي شمال شرق سوريا، بوصفها تجربة معاش. ورغم أنها لا يمكن توصيفها بداهة، بأنها نموذج للتصميم الديمقراطي بعد صراع وحرب أهلية، لكنها مع ذلك تقوم على أساس نظري ومدونه فكرية ستلقي بظلالها على فضاءات الواقع السوري ما بعد الأسد .

ومن ثم، وأمام مثل هذه التحديات تبرز الحاجة لنموذج من قلب التجربة ذاتها، قد يعمل كمصباح ديوجين هادي في وطأة الانقسام القاتل واحتمالات الانفجار الصراعي على أرضية اثنية وهوياتية محضة، وليس مجرد صراع الاستبداد في مقابل التحرر والديمقراطية. نموذج وجد أرضية تصالحية وحمل قدر من احتواء الاختلاف. إنها تجربة شمال شرق سوريا، التي أخذت قدرا من إعادة النظر بعد سقوط نظام الأسد. إذ بدت الأسس النظرية للتجربة قابله للتأويل في سياقات ومساحات جديدة. ذلك أن الفناء شبه الكامل لأغلب أسس الدولة الشمولية البعثية، يعطي فرصة لإعادة مساءلة المفاهيم الكلاسيكية للدولة بمفهومها وسياقاتها المعرفية الغربية المنشأ. ويذهب بها باتجاه تأويلات جديدة تنتصر لصالح أنساق ديمقراطية تصالحية.  وفي ظل هذه العملية لإعادة التأسيس، ثمة جزر فكري لعبد الله أوجلان، تمت الاستعانة به والاستماع له في بناء تجربة تشاركية جماعية في الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا. جذر فكري، حاول فيه أوجلان بناء سياق نظري لبنية مفاهيمية تنشغل بأسس الدولة التكوينية من منظور أكثر تشاركية وأقل نفيا للآخر المختلف اثنيا وهوياتيًا وثقافيًا.

تؤسس أفكار أوجلان لمدونة فكرية تدور حول تساؤلات عميقة من قبيل: هل تكون الحداثة هي السبيل الوحيد لإنجاز عملية انتقال سياسي، وهل تكون القيم الغربية وحدها هي مدونة الأساس في فهم العالم الحداثي اليوم؟ وكلها أسئلة تتصل بالقلب الصلب لنقض الفكرة القائلة، بأننا في منطقة الشرق الأوسط، كنا في عتبات العصر الحديث جياعا لفعل الحداثة. لذا، فهذه الأفكار كلها تذهب باتجاه البديل. فخلال العقود القليلة الفائتة، كان ثمة محاولات جادة لتأسيس مصطلحي ومفاهيمي جديد يندرج تحت مساق ضخم يسمى “حداثة بديلة”، حاولت التأسيس لحقول قوة معرفية جديدة في فضاءات ثقافية مغايرة للمجال السياسي والنفوذ الأيديولوجي للرأسمالية العالمية. أتى هذا في اللحظة التي سادت فيه الاعتقاد بأن الحداثة وملحقاتها وتبعاتها الجيوسياسية قد حققت انتصارا كاسحا على مستوى النموذج والتطبيق، وتعزز هذا خاصة بعد انهيار النموذج المقابل؛ أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما كان يمثله من ترسانة فكرية مغايرة للنموذج الرأسمالي الحداثي الغربي. إذن تطور أدب كبير حول المفاهيم ذات الصلة “الحداثة المتعددة” و “الحداثة البديلة” أو “الحداثة على نطاق واسع” و “العولمة المتعددة” ومبادئ السيولة والتوطين والتهجين التي تعنيها. من ناحية أخرى، يمثل مفهوم الحداثة المتعددة، دحض للنظريات المنتصرة للحداثة في الخمسينيات، والتي افترضت أن جميع المجتمعات الصناعية ستتقارب يومًا ما. افترضت جميع النظريات الكلاسيكية للحداثة برنامجًا ثقافيًا للحداثة، بوصفها نشأت في أوروبا، كان من المتوقع أن تصبح عالمية بمرور الوقت. ومع ذلك، أظهر تقدم الحداثة أن “الحداثة” و “الغربنة” لم تكن متطابقة ([19]).   

إن تجربة شمال سوريا يمكن إدراجها في إطار الفضاءات غير التابعة للدولة التي تحتلها الحركات المناهضة لها، عادة ما تبني هياكل موازية لتلك الموجودة في الدولة مثل أنظمة المساعدة المتبادلة والعلاقات الاقتصادية الجماعية والحكومات غير الهرمية التي تعمل بشكل مستقل عن الدولة.  وذلك عبر كتاباته ذات العمق الإنساني لا الكردي فقط، كما سنرى في هذه الدراسة. وهي باترونات نظرية ذات ثقل تاريخي واستلاهمي للنضال العام من أجل التحرر، تتحدى نموذج الدولة القومية، مقترحة بدلاً من ذلك الديمقراطية واللامركزية والاستقلالية. وقد أثار التطبيق العملي لهذه الأفكار تساؤلات حول المفهوم الراسخ للدولة القومية، والذي كان بمثابة قوة مهيمنة في السياسة العالمية على مدى القرنين الماضيين. كما أطلق شرارة نقاشات مهمة في الأوساط الأكاديمية وخارجها  ([20]). لكن لنرى أولا التطورات التي لحقت ببنية الدولة الحديثة مفهوما وإطارا للفعل السياسي. 

مصطلح “بناء الأمة”، الذي صيغ عام 1963، يشير إلى مجموعة من الأفكار والمفاهيم المختلفة. والتي يمكن صياغتها كالتالي: “مجموعة واسعة ومتنوعة من السياسات، التي تبدأ من تعزيز الدولة إلى سياسات الهوية وجهود التحول الديمقراطي”. إذا تم أخذ هذا التعريف كأساس لتقييم “درجة” بناء الأمة بين الكرد، فسيكون الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هو أن الصورة متنوعة، حيث حقق الكرد في كل جزء من أجزاء كردستان درجة مختلفة في بناء الأمة. وهكذا، فإن كردستان العراق هي الأكثر تقدمًا، بعد أن حققت تقدمًا في جميع المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه. يركز الكرد في تركيا بشكل رئيسي على سياسات الهوية، بينما الكرد في سوريا هم في المراحل الأولى من توطيد سيادة الدولة، وفي إيران يتخلف الكرد عن الركب في جميع الفئات الثلاث. ومع ذلك، يجب التأكيد على أن الكرد، كاستراتيجية، طالبوا باستمرار بإضفاء الديمقراطية على النظام السياسي للدولة كشرط لا غنى عنه لضمان حقوقهم وامتنعوا عن الانفصال ([21]).

في الواقع، أصبحت مصطلحات “الديمقراطية” أو “الديمقراطي” أو “التحول الديمقراطي” جزءًا لا يتجزأ من الخطاب الوطني الكردي في جميع المناطق الأربع. على سبيل المثال، تحمل الأحزاب الكردية الرئيسية أسماء مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (KDPI) الذي تأسس عام 1945، والحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي (KDP) الذي تأسس بعد ذلك بوقت قصير. يحمل حزب واحد في سوريا وواحد في تركيا الاسم نفسه. وبالمثل، كان الشعار الأساسي في جميع المجالات لفترة طويلة “الإدارة الذاتية للكرد والديمقراطية للدولة”. وهذا يوضح إصرار الكرد على الديمقراطية، لأن حقوقهم الأساسية كانت تداس دائمًا من قبل الأنظمة الشمولية أو الاستبدادية أو العسكرية. يتعين على كل أمة التعامل مع مسألة الهوية الجماعية في عملية بناء الأمة. لكن بالنسبة للكرد كانت هذه المهمة صعبة ومؤلمة بشكل خاص في القرن العشرين. كان هذا لأن جميع الدول المضيفة حاولت – بشكل دوري وبمستويات مختلفة من القوة ومعدلات نجاح مختلفة – تجريدهم من هويتهم كأفراد وكمجموعة ([22]). في هذا الإطار، كانت أطروحات عبد الله أوجلان ومنظومته الفكرية هي جذر التأسيس لعمليات البناء الديمقراطي، فكيف كان هذا؟ لنرى حالًا   

استنادًا إلى المنظر الأمريكي موراي بوكتشين، يطور المفكر عبد الله أوجلان فلسفة تاريخية حضارية، مشبعة بالفكر المادي التاريخي ومنتقدة للتسلسل الهرمي الاجتماعي. يُفهم التاريخ البشري لديه من خلال عدسة جدلية تقوم على التناقض بين إرث السيطرة وإرث الحرية (أي الصراع ضد التنظيم الهرمي للحياة البشرية من أجل تحقيق الحرية). وفقًا لأوجلان، يتجسد إرث السيطرة في الوقت الحاضر من خلال ثالوث: الدولة القومية، والحداثة الرأسمالية، والحضارة الرأسمالية. وعلى النقيض من ذلك، يُمثّل إرث الحرية بما يسميه أوجلان “الأمة الديمقراطية” و”الحداثة الديمقراطية” و”الحضارة الديمقراطية”، والتي تترجم شكليًا إلى نظام “كونفدرالية ديمقراطية”. هنا، تشير كلمة “ديمقراطي” إلى الحكم الذاتي لكل من الأفراد والمجتمعات المحلية، مقابل حكم النخب. على الرغم من تداخل مصطلحات “الحداثة الديمقراطية” و”الحضارة الديمقراطية” وتوليدها لبعضهما البعض، إلا أنها تقدم فروقًا دقيقة. فالأخيرة هي الحضارة التي تقوم على المجتمع الأخلاقي والسياسي، كما عرّفها أوجلان، بينما الأولى هي تجليها المعاصر في ظل الظروف الحديثة ([23]).

في صميم نقد أوجلان لمفهوم الأمة، نجد عداء شديد للدور الذي تلعبه الدولة في فرض التجانس. إذ تسعى الدولة القومية وفقا لأوجلان لخلق ثقافة قومية واحدة تقضي على التنوع الثقافي داخل حدودها. ومن ثم يعتبر أوجلان هذه العملية تسلطًا ثقافيًا وسياسيًا، ويقترح بدلا من ذلك مفهوم “الأمة الديموقراطية”. وعلى النقيض من مفهوم الدولة القومية التي تقوم على الهوية الوطنية الموحدة والموحدة، فإن “الأمة الديموقراطية” لأوجلان هي نموذج سياسي ثقافي يتضمن التعايش السلمي والمتساوي للجماعات الثقافية المختلفة داخل إطار ديمقراطي لا مركزي.  يهدف أوجلان إلى تطوير نظرية للأمة، يمكنها الحفاظ على التعددية والتنوع الاجتماعي والدفاع عنهما ضد “الاستيعاب والإبادة الجماعية” للدولة، التي تُرتكب “باسم مجتمع وهمي موحد” ([24]). لكن كيف ظهر هذا المفهوم، كحل تشاركي ؟ 

الأمة كحل ديمقراطي

  الأمةُ الديمقراطيةُ مفهوم حاول أوجلان من خلاله إعادة فعل السيادة، في لحظات الانتقال الديمقراطي، للجماهير في صيغتها الخام، قبل أن يصبحوا أدوات في بنية الدولة الحديثة. وقد عرفها أوجلان كالتالي: هي قيامُ الشعبِ بذاتِ نفسِه بتحقيقِ تحوُّلِه الوطنيِّ عبر التسيسِ اللازم، ودون الاعتمادِ على السلطةِ أو الدولة. ولا يقتصرُ الأمرُ على التسيس فحسب. بل إنها تجهدُ لإثباتِ جدارةِ الشعبِ في التمكنِ من تحقيقِ التحولِ الوطنيِّ وتكوينِ نفسِه كأمةٍ ديمقراطية، من خلالِ مؤسساتِ الاستقلالِ الذاتيِّ المعنيةِ بحقلِ الدفاعِ الذاتيِّ والميادين الاقتصاديةِ والحقوقيةِ والاجتماعيةِ والدبلوماسيةِ والثقافية، دون اللجوءِ إلى التدولِ أو التحولِ السلطويّ. بينما وحسب مقدساتِ الحداثةِ الرأسمالية، ثمة شكلٌ واحدٌ معقولٌ وممكنٌ للدولةِ في عصرِنا، ألا وهو شكلُ الدولةِ القومية. وعلى عكسِ ما يُعتَقَد، فالدولةُ القوميةُ الكامنةُ في الليبرالية، ليست علمانية. بل إنها الشكلُ العصريُّ المَطلِيُّ بالطلاءِ الوطنيِّ لرؤيةِ الدولةِ الثيوقراطيةِ القروَسطية. وعلى حدِّ تعبيرِ هيغل، فهي الحالةُ المجسَّدةُ للإلهِ الهابطِ على الأرضِ تزامناً مع الثورةِ الفرنسية. وتفسيرُ هيغل هذا محاكمةٌ صائبةٌ للغاية. فبقدرِ ما ننبشُ في الدولةِ القومية، نجدُ أنّ أوثانَ آلهةِ العصورِ الأولى والوسطى تستعرُ بالمِثلِ في أعماقِها. وعليه، لن نستطيعَ فهمَ أو تحليلَ أيةِ قضيةٍ وطنيةٍ أو اجتماعية، ما لَم نستوعب الوجهَ الباطنيَّ للدولةِ القوميةِ بهذا المنوال. لذا، فحلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ هو حلُّ القضيةِ الوطنيةِ الأكثرَ سِلماً وحريةً وعدلاً وخلواً من الدماء، فيما يتعلقُ بالمجتمعاتِ البشريةِ والمجموعاتِ الأثنيةِ ومختلفِ الفئاتِ الاجتماعية، التي مزَّقَتها الحداثةُ الرأسماليةُ إرباً إرباً، وأَغرَقَتها في بحورٍ من الدماءِ عبرَ حروبِ الدولةِ القوميةِ الناشبةِ في غضونِ القرونِ الأربعةِ الأخيرة ([25]).

في مفهوم الأمة الديمقراطية تغدو الإدارة كيان لا دولتي بل يمكن القول إنها تمتاز بنوع من التشاركية التي لا تعطي حائزها سلطات زائدة وقوة مفرطة. لأنّ الإدارةَ فيه ظاهرةٌ شفافة مُسَخَّرةٌ لخدمةِ الحياةِ اليومية. والجميعُ فيه مُؤَهَّلٌ لأنْ يَكُونَ موظفاً إدارياً، في حالِ تلبيتِه المتطلباتِ والمقتضيات. أي أنّ الإدارةَ فيه قَيِّمة، لكنها ليست مقدَّسة. ومفهومُ الهويةِ الوطنيةِ فيه منفتحُ الأطراف، وليس كعضويةٍ أو عقيدةٍ دينيةٍ منغلقة. والانتماءُ فيه إلى أمةٍ ما، ليس امتيازاً ولا عَيباً. بل ويُمكن الانتماء فيه إلى عدةِ أمم. أو بالأصح، قد تُعاشُ فيه قومياتٌ مختلفةٌ متداخلة. إذ بمقدورِ الأمةِ الديمقراطيةِ وأمةِ القانونِ أنْ تعيشا سوية، وبكلِّ يُسر، في حالِ تمكينِ الوِفاقِ بينهما. أما الوطنُ والعَلَمُ واللغة، وإلى جانبِ قيمتِهم العالية، لكنهم ليسوا مقدَّسين. والعيشُ في ظلِّ تشاطُرِ الوطنِ المشترك واللغاتِ والأعلامِ المشتركةِ بشكلٍ متداخلٍ على دربِ الصداقة. نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ.. يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ التي مَزَّقَتها النزعةُ الدولتيةُ القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُ الهوياتِ المتباينةَ بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة ([26]).

ومن ثم، فإن أهم تحول شهدته الحركات الكردية هو أنها “لا تتجه نحو الاستيلاء على سلطة الدولة، أو تركز على الدولة، ولكن على تطوير أشكال بديلة لممارسة السلطة السياسية من خلال التنظيم الذاتي”.  فبمجرد أن “حرروا” أنفسهم من البرنامج الثوري التقليدي المتمثل في الاستيلاء على السلطة السياسية من خلال السيطرة على المؤسسات السياسية المركزية، بدأوا في الترويج لفكرة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القاعدية وبناء مثل هذه المؤسسات أينما أمكنهم. وكان الهدف النهائي هو إقامة الإدارة الذاتية من خلال بناء مؤسسات شعبية، مثل الكوميونات والمنتديات والجمعيات والمجالس. من خلال هذه المؤسسات، يمكن للأفراد والجماعات أن يصبحوا مشاركين فعليين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اليومية، وبالتالي يحلون تدريجياً محل مؤسسات الدولة دون القيام بثورات عنيفة داخل الدولة القومية. إذا لم تتدخل الدولة القومية المعنية بعنف، يمكن للإدارات الذاتية الموازية والإدارة المركزية أن تتعايشا من حيث المبدأ. وكذلك في التطبيق، كما توضح حالات البلديات الذاتية الزاباتية في تشياباس، المكسيك، واتحاد شمال شرق سوريا (إدارة روج آفا). بما أن الحركات الكردية تبنت نهجًا للمشاركة المباشرة في السياسة، فإن القضية الرئيسية بالنسبة لها ليست “مزيدًا من وصول المواطنين إلى حكومة نائية”، ولكن “تغييرًا كاملاً من سياسة القوة” القائمة على علاقات هرمية وبدعم من ثقافة سياسية مناسبة إلى “سياسة المشاركة” التي يتعاون فيها المواطنون المتساوون فيما بينهم لحل مشاكلهم الخاصة.  الفكرة هي أن المجموعات الصغيرة بما يكفي لاتخاذ قرارات وجها لوجه يجب أن تفعل ذلك، ويجب أن يكون التفويض خيارًا فقط إذا لم يكن ذلك ممكنا ([27]).

إذن ونظريًا، يعتمد النموذج الكردي للإدارة الذاتية على مفهوم شعبي جماهيري وليس فعل سيادي دولتي. أساس المجتمع السياسي ليس الهوية الثقافية بل الإقامة، والذي يبدو أنه صيغة مشابهة لمبدأ والدرون حول القرب. يستند مفهوم قرب والدرون إلى المبدأ الكانطي الذي ينص على أن المجتمعات السياسية يجب أن تتشكل من قبل وبين أولئك الذين هم على مقربة من بعضهم البعض لأنهم أكثر عرضة للدخول في صراع. ومع ذلك، يقترح النموذج الكردي أنه يجب تشكيل المجتمعات السياسية بين أولئك الذين يشاركون في جغرافية مشتركة بحكم العيش جنبًا إلى جنب وليس لأنهم أكثر عرضة للصراع. يختلف هذا عن مبدأ والدرون لأن الإدارة الذاتية الكردية تقوم على مبدأ القرب كحق عالمي وطبيعي وليس كاتفاق عقلاني يمكن التوصل إليه بين الكائنات العقلانية. لا يتعين على المجتمعات إثبات أو إقناع الآخرين بأنهم يستحقون الفرصة لإدارة فضائهم السياسي والمجتمعي بأنفسهم، وكذا اتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن حياتهم. بهذا تغدو الإدارة الذاتية حق وليس امتياز ([28]).

إذن وكما رأينا، إن حل الأمة الديمقراطية لا ينفي بالضرورة وجود الدولة القومية من وجهة نظر أوجلان الذي يقول: “إنّ الحلَّ الذي يفرضُه نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ لا يقتضي إنكارَ الدولِ القومية. بل يُحَتِّمُ على هذه الأخيرةِ الالتزامَ بالحلِّ الدستوريِّ الديمقراطيّ. فقرينةُ الدولةِ–الديمقراطيةِ المتداخلةُ في أوروبا الغربية، ليست نموذجَ الحلِّ الوحيد. على العكس، إنها نموذجٌ إشكاليٌّ للغاية، ويعملُ على تأجيلِ حلِّ القضايا. بينما النموذجُ الذي يتعينُ اختبارُه في الشرقِ الأوسطِ هو الحلُّ الدستوريُّ الديمقراطيّ، الذي يتَّخذُ من أمةِ الدولةِ ومن وجودِ الأمةِ الديمقراطيةِ واستقلالِها الذاتيِّ أساساً. وفي حالِ العكس، فإنّ نماذجَ الوحدةِ التي ستظهر، لن تتعدى من حيث أدوارِها نطاقَ الكياناتِ من قبيلِ “المؤتمرِ الإسلاميِّ” و”الجامعةِ العربية”. لا شكّ في عظَمةِ التطورِ الذي سيَكُونُ ثمرةً من ثمارِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطيةِ”، الذي ستُشَكِّلُه الأممُ المنضويةُ تحت النظامِ الدستوريِّ الديمقراطيِّ فيما بينها داخلياً (المقصودُ بمصطلحِ الأمةِ هنا هو الأمةُ العليا أو أمةُ الأممِ المنبثقةُ من وفاقِ أمةِ الدولةِ مع الأمةِ الديمقراطية). فهو لن يدلَّ فقط على استتبابِ السلامِ المستدام. بل وسيُشيرُ إلى أنّ الحشودَ المتحررةَ كلياً من البطالةِ ستشهدُ نهضةً ثقافيةً وإنتاجاً اقتصادياً ملحوظَين من خلالِ تلاحُمِ الاقتصادِ الكوموناليِّ مع الصناعةِ الأيكولوجية. هذا ولا يَحقُّ لأيِّ كائنٍ كان أنْ ينظرَ بعينِ القَدَرِ المحتومِ إلى ما يَعُمُّ المنطقةَ من بطالةٍ وعُقمٍ اقتصاديٍّ وحياةٍ ثقافيةٍ مُحبِطةٍ في عصرِ المعلوماتيةِ والتكنولوجيا. ومَن يتحلى بهكذا رؤية، إما أنه مُصابٌ بالعمى الأيديولوجيّ، أو أنه غارقٌ في الهيمنةِ الأيديولوجيةِ للنظامِ القائم. هذا ولا يُمكنُ للشرقِ الأوسطِ استرجاعُ دورِه الكونيِّ الذي دامَ لأمَدٍّ طويلٍ جداً في التاريخ، إلا تحت رايةِ “اتحادِ الأممِ الديمقراطية”. وبوسعِ الكردِ أنْ ينطلقوا هذه المرة من الحضارةِ الديمقراطية، للقيامِ بدورٍ مماثلٍ لذاك الذي أدَّوه في فجرِ الحضارة. إذ تُقدِّمُ آفاقُ الثورةِ الكردستانيةِ وحلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ شتى أنواعِ القوةِ (الفكرية والجسدية) اللازمةِ لذلك. إنّ الثورةَ الكردستانيةَ هي ثورةٌ شرقُ أوسطيةٍ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. والتحولُ الوطنيُّ الديمقراطيُّ الكرديُّ يعني “اتحادَ الأممِ الديمقراطيةِ الشرقِ أوسطية” ([29]).

تبدو المشكلة الرئيسية بالنسبة لأوجلان هي العجز الديمقراطي في الديمقراطيات البرلمانية، وابعاد المواطنين عن السياسة، والفهم المتجانس للسيادة الشعبية الذي يشرعن حتى الأنظمة القمعية والاستبدادية مثل تركيا وسوريا. لذلك، فإن المشروع الذي تم تطويره يشمل الكوميونات المستقلة ومجالس الأحياء والبلدات ومجالس المدن والمناطق. تتراتبط هذه المجالس تحت كونفدرالية تحل محل الدول القومية المركزية في الشرق الأوسط أو تعيش جنبًا إلى جنب معها. وفقًا لإطار عمل أوجلان، تفتقر البرلمانات الوطنية والمؤسسات السياسية التمثيلية والعمليات الانتخابية إلى آليات تضمن المشاركة الفاعلة لجميع المواطنين. البديل، في روايته، هو ترتيب لا تتدفق فيه السلطة السياسية من المركز إلى الأطراف بل تتدفق من الكوميونات والمجالس والجمعيات إلى الاتحادات الكونفدرالية من خلال التفويض الشعبي. يهدف أوجلان من خلال تصوره للسلطة السياسية في مجتمع سياسي على هذا النحو إلى الحفاظ على إرادة المواطنين الأفراد سليمة؛ لا يتم نقل إرادتهم إلى شخص أو هيئة سيادية تمثل الأمة. يحتفظ المواطنون الأفراد بإرادتهم السياسية ويكونون نشيطين قدر الإمكان في الشؤون العامة المحلية من خلال المشاركة في مجالس ولقاءات المجتمع. من ناحية أخرى، تفوض المجالس سلطتها التنفيذية (وليس إرادتها السياسية) إلى مجالس وجمعيات أعلى، دون التخلي عن وضعها المستقل وسلطتها في اتخاذ قرارات تتعلق بالشؤون العامة المحلية، بما في ذلك الدفاع عن النفس. وعليه، فتصور أوجلان للسيادة خالٍ من المركز. فكلما كان المجتمع أصغر، زادت القوة التي يتمتع بها. يتم تصفية هذه القوة إلى البلدات والمدن والمناطق والكونفدراليات والأمم عبر المندوبين (وليس الممثلين بالمعنى الديمقراطي البرلماني). يحاول أوجلان الحفاظ على تشتت السلطة في جميع أنحاء المجتمع السياسي من خلال بناء مؤسسات مفوضة بين المجتمعات السياسية الأصغر التي تلعب دورًا عندما لا تكون الديمقراطية المباشرة قيد التطبيق. ومع ذلك، لكي تعمل كموزع للسلطة، لا يمكن لهذه المؤسسات أن تكون فردية أبدًا. وهكذا تظهر السلطات العليا المتعددة، في شكل منتديات ومجالس وجمعيات ومؤتمرات، كأعضاء رئيسيين في ممارسة السلطة السياسية ([30]).

ويمكن القول أن الحركات الكردية المهيمنة في تركيا وسوريا تتبعت النموذج الذي وضعه أوجلان؛ فقد سعت إلى تأسيس شكل معدّل من المجتمعات السياسية الأرسطوطالية وجها لوجه والتي تهدف إلى تقويض المركزية السياسية. الهدف هو إلغاء مبدأ وممارسة السيادة الوطنية. يُعرف هذا باسم الإدارة الذاتية الديمقراطية، وهي “إدارة أو حكم من الأسفل” على عكس “الحكم من أعلى”. تؤكد الإدارة الذاتية الديمقراطية أن “اختصاصات أو ممارسات الناس” هي التي يجب أن تحدد ترتيب الشؤون والمكاتب العامة. هنا، لا يشير مصطلح “الناس” إلى فئة ثقافية أو سياسية معينة أو إلى موضوع سياسي كما هو الحال في الشعب الكردي. إنه يشير إلى مجموعة عشوائية من الأفراد والمجتمعات في منطقة جغرافية معينة – السكان، على وجه التحديد. تكمن الفكرة في أن سكان القرى والأحياء والبلدات والمدن يتمتعون بمساحة معتبرة من الإدارة الذاتية الديمقراطية لترتيب شؤونهم العامة ومكاتبهم العامة دون تدخل من الكيانات والسلطات السياسية الخارجية. وهذا هو عكس الحكم الذاتي الإقليمي أو الثقافي الذي يتجلى في الوضع القانوني الذي تعترف به سلطة سياسية أعلى أو تمنحه، وهو الشكل السائد للحكم الذاتي في النظرية والممارسة السياسية المعاصرة. بهذا المعنى – وهذا هو المفتاح – تبدأ الحركة الكردية “بفعل التأسيس”: فهي تعمل كقوة تأسيسية، كقوة تقيم مجتمعًا سياسيًا جديدًا بحسب توصيف ارندت ([31]).

أهم جانب من جوانب الإدارة الذاتية الديمقراطية ينعكس في معارضتها لتكوين مجتمعات سياسية حول فكرة السيادة بمفهومها الدولتي. إذ تعتمد منطقية الإدارة الذاتية الديمقراطية على فكرة أن جميع المجتمعات التي تتعامل وجها لوجه لا تقل أهمية عن السلطة المركزية في الدولة القومية عندما يتعلق الأمر بالمسائل العامة التي تقع ضمن اختصاص ذلك المجتمع. كما أنها تنشئ إدارة عامة على مبدأ اللامركزية وتؤسس للمشاركة السياسية المباشرة. وبالتالي فإن الإدارة الذاتية الديمقراطية توزع ممارسة السلطة السياسية، في جميع أنحاء المجتمع، وحتى أصغر وحدة في التكوين الاجتماعي تغدو متمتعة بدرجة معتبرة من السيطرة على شؤونها العامة ومواردها الطبيعية. يمثل هذا المفهوم دمجًا علميًا بين السيادة والإدارة الذاتية الديمقراطية، لكن بنكهة أكثر شعبية. بعبارة أخرى، لا يتعين على المجتمعات تقديم التماسات أو مطالبات للحصول على الإدارة الذاتية من سلطات الدولة المركزية، بل تقوم بإنشاء سلطات حكومية من القاعدة وتفويض الإدارات على مستوى أعلى من خلال أعمالها وإجراءاتها. ولهذا، يمكن التعامل كل تجمع بشري، على أنه يحمل إمكانية التحول لمجتمع سياسي، وتمارس المجتمعات على هذا النحو السلطة السياسية من خلال الجمعيات الشعبية (أي هيئات المشاركة السياسية المباشر) ([32]).

يهدف المشروع الكردي هنا إلى تعزيز الإدارات المحلية إلى درجة لا يمكن فرض أي قانون أو لغة أو ثقافة أو نظرة للعالم من أعلى عليها. إذن، فإذا لم تمنح أي سلطة الإدارة الذاتية، فلا يمكن لأي سلطة أن تسلبها. علاوة على ذلك، يتمتع كل مجتمع مستقل في النموذج الكردي بحق الدفاع عن النفس. وفي حالة تعرض المجتمع للهجوم أو إجباره على التخلي عن وضعه المستقل، يحق للمجتمع وقوته الدفاع عن نفسه. هذا الجانب من جوانب فهم منطق الإدارة الذاتية الديمقراطي، مهم للغاية لدرجة أنه يغير تعريف ويبر للدولة. لأن كل تجمع سكني يتم صياغته على أنه أساس أنه مستقل ومسلح، ولم يعد احتكار استخدام العنف المشروع تتمتع به الدولة المركزية وفقط. وربما هذا الجانب التأسيسي أو المقترح المفاهيمي، هو الأكثر ثورية من أي شيء أخر هنا هذا في النموذج الكردي. لأنه إذا نجحت الحركة الكردية في إقامة الإدارة الذاتية الديمقراطي، فلا يمكننا عندئذٍ التحدث عن الدولة أو الدولة القومية بعد الآن؛ إذ لن يكون هناك سوى مجتمعات مستقلة مسلحة تمارس السلطة السياسية بشكل مباشر عبر الجمعيات والهياكل المباشرة. ونظرًا لصغر حجمها، فقد تكون فريسة لكيانات سياسية أكبر، فإنها تتعاون وتتصل ببعضها البعض من خلال المجالس وتشكل هيكلًا كونفدراليًا (كما اقترح روسو، على سبيل المثال في العقد الاجتماعي، الفصل الخامس عشر). وبالتالي يشير اسم “الإدارة الذاتية الديمقراطية” المعطى للمشروع بأكمله إلى تشكيل مثل هذا الاتحاد من قبل المجتمعات المستقلة. ولهذا، فإن الإدارة الذاتية الديمقراطية هي العمود الفقري للنموذج الكردي للمجتمع السياسي ([33]).

الإدارة الذاتية قراءة في الواقع

قبل عام 2011، كانت روج آفا أقل من كونها منطقة محددة بوضوح وأكثر من كونها مفهومًا في السعي إلى الهوية الجماعية الكردية. تشير كردستان الغربية، أو “حيث تغرب الشمس” (المعنى الحرفي لكلمة “روجا آفا”)، إلى مكون جغرافي تاريخي لما كان يُعرف يومًا ما باسم كردستان الكبرى، وهو كيان غير معترف به من الحدود التي رُسمت في الحقبة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، فقد أصبحت محددة منذ عام 2011 باعتبارها تشكل ثلاثة كانتونات غير متجاورة تتم إدارتها ذاتيًا: عفرين وكوباني والجزيرة. وتمتد أراضيها فوق شمال سوريا الحالي، من المالكية (ديريك) على الحدود الشرقية مع العراق إلى عفرين على الحدود الغربية مع تركيا. وغالبًا ما يُشار إلى سوريا بأنها موطن القومية العربية. وقد أكد نظام البعث باستمرار على الهوية العربية للدولة. وفي المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال، تركت سياسة التمركز الديموغرافي والسياسي السكان الكرد ممثلين تمثيلاً ناقصًا ومهمشين على نطاق واسع، مع حرمان مئات الآلاف تمامًا من الوضع القانوني والحماية والتمثيل السياسي داخل الدولة السورية. وقد أصبح ما يقرب من 20 في المائة من الكرد السوريين عديمي الجنسية بعد إجراء تعداد سكاني في عام 1962 في محافظة الحسكة. وبحلول عام 2011، قُدر عددهم بنحو 300,000 نسمة ([34]).

وقد استكمل هذا التمييز المؤسسي توافق إقليمي ضمني في جميع أنحاء الشرق الأوسط لكبح أي جهود كردية نحو الهوية القومية العابرة للحدود. فقد انقسم الكرد، مثل العديد من الأقليات الأخرى، بين المشروع القومي الكردي الأكبر وبين النضال من أجل المساواة والتمثيل داخل دولهم المعنية في تركيا وسوريا والعراق وإيران. حقيقة، إن السنوات التي سبقت انتفاضة 2011، كانت ذات أهمية خاصة للسكان الكرد في شمال سوريا. ففي حين أن كرد العراق حققوا درجة عالية من الحكم الذاتي في العراق ما بعد عام 2003، أصبح كرد سوريا أكثر انتقادًا لفشل الحكومة المركزية في الاستجابة للمطالب السياسية والاقتصادية الشعبية، وسط مستويات متزايدة من القمع السياسي. وفي القامشلي (في محافظة الحسكة) في مارس 2004، أثار هذا أعمال شغب اشتبكت فيها قوات الأمن السورية مع الشباب الكرد. وقد تشابهت سرعة تعبئة المجتمع المحلي مع ديناميكيات الأيام الأولى للانتفاضة السورية وما سمي بالربيع العربي. وقد ساعدت هذه الأحداث في تشكيل الوعي السياسي الكردي في روج آفا، والأهم من ذلك أنها تركت أثرًا في تصورات الحكومة المركزية للسياسة الأمنية. وفي السنوات التي سبقت انتفاضة عام 2011، تعاملت الحكومة السورية، التي كانت منشغلة دائمًا بالأمن، مع الكرد على أنهم يمثلون خطرًا كبيرًا على الأمن القومي. وقد تضمن تقرير للبرلمان السوري في ذلك الوقت إشارة إلى المناطق ذات الأغلبية الكردية بأنها نقطة ضعف الدولة، واستمرت الدعوات الكردية إلى الحقوق السياسية والثقافية في مواجهة القبضة الحديدية ([35]).

حدثت الثورة الحقيقية بين كرد سوريا، الذين كانوا حتى وقت قريب، أقلية صامتة معزولة عن بقية العالم. وقد شكك العديد من المحللين في أن مثل هذا المجتمع، الذي يتسم بالتجزئة السياسية والجغرافية، والذي يفتقر إلى نعمة الجبال الحصينة التي تتمتع بها الأجزاء الأخرى من كردستان، يمكن أن يلعب أي دور مهم في المشهد الكردي. لفترة طويلة، تجاهلت الدراسات المتعلقة بالكرد كرد سوريا تمامًا. ولكنهم خلال فترة قصيرة، برزوا كلاعب لا يستهان به. كيف حدث هذا؟ إن العلاقات التاريخية بين كرد سوريا وإخوانهم “الكبار” كرد تركيا، تساعد بشكل كبير في تفسير إنجازاتهم العسكرية والسياسية السريعة. وكانت لعلاقاتهم الأيديولوجية والسياسية والعسكرية مع حزب العمال، الذي تأسس في تركيا عام 1978، أهمية خاصة، حيث حافظ على علاقات مع أبناء قومه في سوريا منذ أيامه الأولى ([36]).

ويجب التذكير بأن الرئيس السوري حافظ الأسد قدم قاعدة سياسية وعسكرية لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان وأنصاره منذ عام 1980وكان هدفه أن يحارب حزب العمال الكردستاني تركيا، خصمه اللدود. وفي أثناء وجوده في سوريا، عمّق أوجلان علاقات حزب العمال الكردستاني مع كرد ذلك البلد. وإذ كان الأسد حريصًا على توجيه طاقات الكرد السوريين نحو عدو خارجي، فقد دفعهم بشكل أساسي إلى أحضان حزب العمال الكردستاني، الذي قام بتدريبهم في جبل قنديل في العراق. اضطر أوجلان وحزب العمال الكردستاني إلى مغادرة سوريا في أعقاب اتفاقية أضنة، التي أبرمها الأسد مع تركيا في عام 1998. ومع ذلك، فقد ترك عقده في سوريا تأثيرًا دائمًا لحزب العمال الكردستاني بين كرد ذلك البلد. وقد تعزز هذا التأثير مع تشكيل فرع سوري كردي خاص في عام 2004، هو حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذي سيظهر كأكثر الأحزاب الكردية نفوذًا في عام 2011. وما أعطاه ميزته على الأحزاب الكردية الخمسة عشر الأخرى التي كانت تندرج تحت مظلة الحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان العراق، هو قوته العسكرية الفعالة، التي تألفت من وحدات حماية الشعب (YPG) ومنظمة النساء فقط، وحدات حماية المرأة (YPJ)، التي تأسست في عام 2012 )[37](.

عندما اندلعت الاحتجاجات الثورية في سوريا عام 2011، اتخذ بشار الأسد خطوة مماثلة لتلك التي اتخذها الرئيس صدام حسين في العراق قبل عشرين عامًا، عندما سحب قواته العسكرية من المنطقة الكردية في العراق. وكما حدث في الحالة العراقية، فقد اتخذت هذه الخطوة في لحظة ضعف شديد؛ وكما كان الحال في العراق، فقد أثبتت أنها حاسمة لإنشاء الحكم الذاتي الكردي. وبدعم من فروعه العسكرية، تحرك حزب الاتحاد الديمقراطي بسرعة لملء الفراغ وفي الوقت نفسه تهميش القوى السياسية الكردية الخمس عشرة الأخرى، التي كانت متحالفة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ولكنها أضعف بكثير من حزب الاتحاد الديمقراطي. إن حقيقة إقامة كرد سوريا على الهامش الجغرافي والسياسي ساعدتهم فقط على المبادرة بعيدًا عن أعين الحكومة الساهرة وكذلك أعين المعارضة السورية. وقد أجبر صراع الأسد من أجل البقاء على غض الطرف عن التطورات في المنطقة الكردية، وحتى على تحويل الكرد إلى حليف من نوع ما ضد جماعات المعارضة الأخرى – وخاصة قوى المتمردين. والجماعات الجهادية المختلفة التي كانت تتنافس لملء الفراغ الذي تركته الحكومة ([38]).

كان وقود الحركة الكردية في سوريا هو سياسة الاستيعاب التي اتبعتها الحكومة المركزية وسياسات التعرّب وطمس الهوية الكردية. وقد تفاقم حرمان كرد سوريا من الحقوق بسبب صعود نظام البعث إلى السلطة في أوائل الستينيات، والذي أسس سياسته الكردية على “العقيدة” سيئة السمعة، والتي شبهها البعض بالإيديولوجية النازية، للمسؤول العربي السوري محمد طلب هلال. وفي كتابه “دراسة عن محافظة الجزيرة”، أثار هلال شبح إقامة دولة كردية في كردستان العراق قد تبتلع كرد سوريا أيضًا. وبناءً على ذلك، اقترح إنشاء (حزام عربي) على طول الحدود السورية التركية العراقية لمنع مثل هذه التأثيرات العابرة للحدود. ومن بين مبادئ عقيدته إنكار الهوية الكردية الخاصة من خلال التعريب وحتى التعمد في غرس (التجهيل) من خلال إغلاق المدارس الكردية، على الرغم من أنها كانت تدرس باللغة العربية. واستمرت هذه السياسات بشكل متقطع حتى اندلاع الاحتجاجات في سوريا، والتي وضعت حدًا لتأثير الحكومة على المنطقة الكردية. إن التطورات التي حدثت فجأة للكرد في سوريا غير مسبوقة في تاريخهم. فبقوة قوامها نحو 10,000 مقاتل من وحدات حماية الشعب، تمكن الكرد خلال فترة قصيرة من السيطرة على 10 مدن كردية بالإضافة إلى جزء من حلب يسكنه الكرد. وتحقق إنجاز مهم آخر في يناير 2013، عندما سيطر الكرد السوريون على منطقة الرميلان الغنية بالنفط. وإذا تمكنوا من التمسك بها، فإن الرميلان قد تمنحهم نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا إضافيًا ([39]).

تمخض عن هذه النجاحات العسكرية التي تكللت بالانتصار على داعش في عين العرب كوباني، في ميلاد ما بات يعرف بالوجود الكردي في شمال شرق سوريا.. وكانت وتيرة بناء المؤسسات متزايدة، وتجري بالتوازي مع توسيع المناطق الخاضعة للسيطرة الكردية. وشملت هذه المؤسسات الأجهزة الإدارية، ونظام المدارس الكردية، ومختلف الهياكل الاجتماعية والسياسية.. وكانت الخطوة الأولى هي إعلان إنشاء الكانتونات الثلاثة، الجزيرة وعفرين وكوباني، بوصفها كيانات ذات حكم ذاتي. ثم في 21 يناير 2014، أنشأ حزب الاتحاد الديمقراطي ما أسماه “الحكم الذاتي الديمقراطي، الذي شمل إنشاء مجالس المدن، وقوة شرطة، وقوة عسكرية. وقد أنبت القواعد العملياتية لهذه الإنجازات على الأرض تأسيس نظري لعبد الله أوجلان؛ إذ طوّر أوجلان هذا النظام، الذي يشار إليه أحيانًا بالطريق الثالث، في كتاب كتبه في السجن عام 2004 بعنوان الدفاع عن الشعب. يوضح الكتاب التحول في تفكير أوجلان من مفهوم الدولة الكردية المستقلة إلى نفي فكرة الدولة القومية ذاتها، والتي يصفها بأنها “ربما أخطر أداة في التاريخ”. ويقترح بدلاً من ذلك نظامًا سياسيًا طوباويًا تتعايش فيه شعوب الشرق الأوسط، مع التركيز على الديمقراطية والاشتراكية ([40])

في مارس 2016، قامت القيادة الكردية في سوريا بتفكيك نظام الكانتونات، معلنة (بالتشارك مع عدة جماعات حليفة) نموذجًا جديدًا من الاتحاد يهدف إلى تقاسم السلطة بين جميع المجتمعات في المنطقة، بما في ذلك الكرد والعرب والتركمان والمسلمون والمسيحيون والإيزيديون. وأشاروا إلى هذا الاتحاد باعتباره “نظامًا ديمقراطيًا فدراليًا”. ووفقًا لمتحدث كردي، فقد اتخذت هذه الخطوة بعد محاولات عديدة من جانب الكرد كي يُستمع إليهم. وقال: “لقد تم رفض وإسكات الشعب الكردي في أحدث محادثات السلام في جنيف. والآن أصبح من حقنا حماية أنفسنا. نحن لا نؤيد تقسيم سوريا، ولكننا نتوقع نتيجة عادلة ومنصفة من محادثات السلام، ولم نر أي شيء”. وفي 5 يوليو 2016، أعلن الكرد السوريون وحلفاؤهم مدينة قامشلي عاصمة للنظام الفدرالي في شمال سوريا وروج آفا، موضحين سبب الاختيار بتجانسها والحاجة إلى تمثيل “جميع الأمم في شمال سوريا”. وفي الشهر نفسه، قُدّم مسودة لدستور جديد استنادًا إلى الدستور الذي اعتُمد في عام 2014 للجمهور. وكان مبدؤه التوجيهي هو إنشاء اتحاد متعدد الإثنيات كجزء من سوريا بدلاً من دولة قومية منفصلة. وقد تماشى هذا المبدأ جنبًا إلى جنب مع مفهوم الحكم الذاتي الديمقراطي، وكان يهدف إلى تحقيق المصالحة بين الأقليات المحلية الأخرى، مع تهدئة مخاوف دمشق والدول الأخرى في المنطقة. لكنه عمّق الصراع مع المنظمة الجامعة لإقليم كردستان العراق في سوريا، والتي دعت إلى إنشاء دولة كردية في حد ذاتها. ومن بين الأمور الجديدة الأخرى المهمة في هذا الجزء من كردستان – والتي استُلهمت أيضًا من أفكار أوجلان – تعزيز دور المرأة في المجتمع، بما في ذلك في الإدارة والنظام السياسي وقوات الأمن. وفيما يمكن أن يطلق عليه ثورة جندرية، فقد سُنّت قوانين جديدة تحظر تعدد الزوجات، والزواج في سن مبكرة، والطلاق من طرف واحد. وقد اعتمد حزب الاتحاد الديمقراطي تعيين رئيسات مشتركات في مختلف مستويات السلطة، مع مشاركة المرأة في عملية صنع القرار. وتشارك النساء الكرديات، اللائي يمثلن ما يقدر بنحو 35% من إجمالي القوات الكردية، مشاركة فعالة في القتال ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة – وخاصة داعش، الذي اكتسبت النساء الكرديات شهرة وإعجابًا عالميًا في محاربتهن له. تسببت التطورات في كردستان سوريا في تحول في الأدوار بين الأجزاء الثلاثة من كردستان. ففي حين أن كرد سوريا كانوا تاريخيًا تحت تأثير “إخوانهم الكبار” في تركيا والعراق، فإنهم ساروا في طريقهم الخاص بعد ثورتهم. وأكثر من ذلك، فقد أصبحوا نموذجًا يحتذى به لكرد تركيا في الوقت الذي كانوا فيه يجسدون النظريات السياسية لأوجلان وينأون بأنفسهم عن النموذج السياسي لإقليم كردستان العراق. ومع ذلك، فإن إنجازات السنوات الخمس قد تتعرض للخطر بسبب التطورات الجيوستراتيجية الجديدة. ([41]).

إن التطورات الحالية المحيطة بسقوط نظام البعث وما نتج عنها من هياكل قوة جديدة تخلق أوجهًا كبيرة من عدم اليقين لمستقبل الكرد في سوريا. وفي مواجهة التهديد، لا سيما من تركيا، يجد الكرد أنفسهم في موقف دفاعي متزايد، ويكافحون من أجل الدفاع عن حكمهم الذاتي والإنجازات التي حققوها. إن أي هجوم واسع النطاق من جانب تركيا وحلفائها قد تكون له عواقب وخيمة. فمن المرجح أن يؤدي مثل هذا الهجوم إلى مقاومة شديدة ويشكل بداية مرحلة جديدة في نضال الكرد السوريين من أجل تقرير المصير. وفي الوقت نفسه، فإن الهياكل الذاتية التي جرى بناؤها يمكن إضعافها أو تدميرها بشدة من خلال الاحتلال. كما تلوح في الأفق أزمة إنسانية، مع مزيد من عمليات النزوح وإعادة تشكيل ديموغرافي بما يضر بالكرد، كما حدث بالفعل في عفرين على سبيل المثال. ومن شأن أي تصعيد أيضًا أن يعيق إعادة إعمار سوريا، وأن يقضي على الآمال في السلام، ويمنع عودة اللاجئين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إضعاف القوات الكردية قد يؤدي إلى توسيع الفراغ في السلطة، مما يسهل عودة تنظيم داعش، الذي يستغل هذه الحالات وفراغات السلطة استراتيجيًا. وقد يفر آلاف من مقاتلي تنظيم داعش المسجونين من السجون الكردية، كما كانت هناك محاولة لذلك في عام 2022. ومن المخاوف الرئيسية الأخرى مجمع مخيم الهول في محافظة الحسكة التي يسيطر عليها الكرد، حيث يُحتَجز عشرات الآلاف من مؤيدي تنظيم داعش وعائلاتهم، ويُعتبرون بمثابة “قنابل موقوتة”. ومن شأن انهيار هذه الهياكل أن يؤدي إلى عواقب مزعزعة للاستقرار ليس فقط على سوريا ولكن على المنطقة بأكملها ([42]).

وبعد، فقد قدمت تجربة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا تجربة مثيرة للمعاش المشترك، وأعطت فرصة مناسبة لاستكشاف مدى إمكانية تحويل الفضاءات والسياقات النظرية لعملية انتقال سياسي وديمقراطي، إلى كيان ملموس ومدرك وله بنية إجرائية ومؤسسية على الأرض. لا يمكن الفصل بأن هذه التجربة هي النموذج الهادي، لكن التعامل معها بوصفها طبقة معرفية مهمة للغاية يمكن البناء عليها في الطريق نحو سوريا الجديدة. سوريا لا تعترف بالفصل الاثني والهوياتي، سوريا تحترم التنوع ولا تخشاه أو تراه مهددا لكيانها وتماسكها الوطني. ومن المهم أن ندرك، أن أي السلطة التي ادعت أنها جماهيرية، كانت في أنساقها الداخلية، سلطة احتلال داخلي، فما حدث في موجات التحرر الوطني التي اجتاحت دول المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين، كان استبدال السيطرة الغربية المباشرة، بسيطرة وطنية مؤَسسة على النسق المفاهيمي الغربي في التحكم والسيطرة والضبط والنظرة الفوقية لجماهيرها وكتلتها الشعبوية الخام.. أي أنها كانت حرب على المجموع لا حرب من أجل المجموع.. سلطة أعادت تأسيس ذاتها بعد التحرر على مقاسات أوليجاركية عسكرية رأسمالية. ولهذا فإننا لا نريد العودة لهذا المربع من جديد، وتبعا لهذا تغدو كل طبقات المعرفة التي ناقضت وناضلت أبنية وأنساق القمع، وقدمت بديلا عملياتيا له تغدو محل دراسة واهتمام جدي.     


[1]  كاتب أميركي: تسريع الانتقال الديمقراطي بسوريا قد يؤدي إلى تكرار التجربة العراقية،

https://www.ajnet.me/politics/2025/1/19/كاتب-أميركي-تسريع-الانتقال

[2]  ندوة خطة التحول الديمقراطي في سوريا، مجلة سياسات عربية، ع ٦، يناير ٢٠١٤، ص ٢٠٨   

[3] After Fall of Assad, “Struggle from Below” Needed to Build a Free & Democratic Syria

https://www.democracynow.org/2024/12/12/syria_joseph_daher

[4] After Fall of Assad, “Struggle from Below” Needed to Build a Free & Democratic Syria

https://www.democracynow.org/2024/12/12/syria_joseph_daher

[5] Jean Lachapelle, Sebastian Hellmeier,Anna Lührmann: How to Build Democracy after Authoritarian Breakdown: Insights from a Mixed Methods Approach

https://v-dem.net/media/publications/wp_122_final.pdf

[6] Timothy D. Sisk: Democracy and Conflict Management

https://www.beyondintractability.org/essay/democ_con_manag

[7] Timothy D. Sisk: Democracy and Conflict Management

https://www.beyondintractability.org/essay/democ_con_manag

[8] Timothy D. Sisk: Democracy and Conflict Management

https://www.beyondintractability.org/essay/democ_con_manag

[9] Stefan Wolff: Building Democratic States after Conflict: Institutional Design Revisited, International Studies Review, March 2010, Vol. 12, No. 1 (March 2010), pp. 128-141

[10] Stefan Wolff: Building Democratic States after Conflict: Institutional Design Revisited, International Studies Review, March 2010, Vol. 12, No. 1 (March 2010), p130

[11] Marina Ottaway: Promoting Democracy After Conflict: The Difficult Choices, International Studies Perspectives, August 2003, Vol. 4, No. 3 (August 2003), pp 315

[12] Marina Ottaway: Promoting Democracy After Conflict: The Difficult Choices, International Studies Perspectives, August 2003, Vol. 4, No. 3 (August 2003), pp 316

[13] Marina Ottaway: Promoting Democracy After Conflict: The Difficult Choices, International Studies Perspectives, August 2003, Vol. 4, No. 3 (August 2003), pp 317

[14] Stefan Wolff: Building Democratic States after Conflict: Institutional Design Revisited, International Studies Review, March 2010, Vol. 12, No. 1 (March 2010), pp 131 – 132

[15] Stefan Wolff: Building Democratic States after Conflict: Institutional Design Revisited, International Studies Review, March 2010, Vol. 12, No. 1 (March 2010), p 133

[16] Marwa Daoudy, Noureddine Jebnoun: A Blind Spot in Post-Assad Syria: The Fate of State Archival Records,

https://arabcenterdc.org/resource/a-blind-spot-in-post-assad-syria-the-fate-of-state-archival-records

[17] Marwa Daoudy, Noureddine Jebnoun: A Blind Spot in Post-Assad Syria: The Fate of State Archival Records,

https://arabcenterdc.org/resource/a-blind-spot-in-post-assad-syria-the-fate-of-state-archival-records

[18] Timothy D. Sisk: Democracy and Conflict Management

https://www.beyondintractability.org/essay/democ_con_manag

[19] Bill Ashcroft: Alternative Modernities: Globalization and the Post-Colonial,

https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&opi=89978449&url=https://journalhosting.ucalgary.ca/index.php/ariel/article/download/33563/27607/0&ved=2ahUKEwi10czGpKCJAxXcSaQEHWH3IncQFnoECCQQAQ&usg=AOvVaw23vgXlRVeaiggtGpeajJ_J

[20] Francesco ventura and Jacopo custodi: Nationality Beyond the Nation-State? The Search for Autonomy in Abdullah Öcalan and Otto Bauer,

https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/14650045.2023.2265308

[21] ofra bengio edited: Kurdish awakening Nation Building in a Fragmented Homeland, university of Texas prees, 2014, p 2 – 3  

[22] Ibid: pp 2 – 3  

[23] Francesco ventura and Jacopo custodi: : op cit

[24] Ibid 

[25] عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس القضة الكردية وحل الأمة الديموقراطية دفاعا عن الكرد المحصورين بين فكي الإبادة الثقافية ، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٥٠٥

[26] نفسه: ص ص ٤٤-٤٥

[27] Hanifi Baris: sovereignty autonomy and citizenship in the Kurdish model of political community, in trevor stack and rose luminiello (edited): engaging authority citizenship and political community, Rowman & Littlefield, London, 2022, pp 109-110

[28] Ibid: pp 109-110

[29] عبد الله أوجلان: المرجع السابق، ص ٥١٠

[30] Hanifi Baris: op cit, pp 111=112

[31] Ibid: pp 113-116

[32] Ibid: pp 113-116

[33] Ibid: pp 113-116

[34] Ghadi Sary: Kurdish Self-governance in Syria: Survival and Ambition, Middle East and North Africa Programme | September 2016, https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/publications/research/2016-09-15-kurdish-self-governance-syria-sary-embargoed.pdf

[35] Ghadi Sary: Kurdish Self-governance in Syria: Survival and Ambition, Middle East and North Africa Programme | September 2016, https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/publications/research/2016-09-15-kurdish-self-governance-syria-sary-embargoed.pdf

[36]  Ofra Bengio: The Meteoric Rise of Kurdistan in Syria – Rojava, Report Title: The Kurds in a Volatile Middle East, Begin-Sadat Center for Strategic Studies (2017), p 18

https://www.jstor.org/stable/pdf/resrep04759.7.pdf

[37] Ofra Bengio: The Meteoric Rise of Kurdistan in Syria – Rojava, Report Title: The Kurds in a Volatile Middle East, Begin-Sadat Center for Strategic Studies (2017), p 19

https://www.jstor.org/stable/pdf/resrep04759.7.pdf

[38] Ofra Bengio: The Meteoric Rise of Kurdistan in Syria – Rojava, Report Title: The Kurds in a Volatile Middle East, Begin-Sadat Center for Strategic Studies (2017), p 19

https://www.jstor.org/stable/pdf/resrep04759.7.pdf

[39] Ofra Bengio: The Meteoric Rise of Kurdistan in Syria – Rojava, Report Title: The Kurds in a Volatile Middle East, Begin-Sadat Center for Strategic Studies (2017), p 20

https://www.jstor.org/stable/pdf/resrep04759.7.pdf

[40] Ofra Bengio: The Meteoric Rise of Kurdistan in Syria – Rojava, Report Title: The Kurds in a Volatile Middle East, Begin-Sadat Center for Strategic Studies (2017), p 22

https://www.jstor.org/stable/pdf/resrep04759.7.pdf

[41] Ofra Bengio: The Meteoric Rise of Kurdistan in Syria – Rojava, Report Title: The Kurds in a Volatile Middle East, Begin-Sadat Center for Strategic Studies (2017), p 23

https://www.jstor.org/stable/pdf/resrep04759.7.pdf

[42] Masood Al Hakari: Rojava Under Pressure After the Fall of Dictator Al-Assad: Turkey and Islamist Allies Threaten the Kurdish Autonomous Region in Syria,

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى