مقالات

إيران تتوسع في المنطقة لإعادة تثبيت حضورها الإقليمي

تحليل: الباحثة السياسية/ شروق صابر

تواجه إيران تحديات جيوسياسية غير مسبوقة مع تراجع نفوذها العسكري في الشرق الأوسط جراء تداعيات العدوان الإسرائيلي الأخير على كل من غزة ولبنان وكذلك سقوط نظام بشار الأسد، وما شكله ذلك من تراجع لتأثيرها المباشر في المعادلات الإقليمية. وتشير تحركاتها خلال الفترة الأخيرة إلى أنها تعتمد استراتيجية مختلفة لتعويض تلك الخسائر، مستندة إلى مقاربة تقوم على تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول المجاورة، بدلًا من الاعتماد المفرط على النفوذ العسكري والميليشيات التابعة لها.

الاتجاه نحو تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى والدول الأوروبية

أكد المرشد الأعلى علي خامنئي في فبراير 2025 أن توسيع العلاقات مع الدول الجارة يمثل السياسة الحاسمة للجمهورية الإسلامية، موضحًا أن إحدى السياسات المعلنة لحكومة الرئيس مسعود بزشكيان هي تمتين العلاقات مع الجيران. يشير ذلك إلى أن إيران تلك الفترة تتبنى نهجًا جديدًا في سياستها الخارجية، يرتكز أدوات بديلة لإعادة تثبيت حضورها الإقليمي، مثل توطيد العلاقات التجارية والدبلوماسية، والانخراط في مشاريع اقتصادية مشتركة مع الدول المجاورة.

في هذا الإطار كثفت إيران في الفترة الأخيرة تحركاتها الدبلوماسية على عدة مستويات، حيث سعت إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الأوروبية، ودول آسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى دول الخليج، في إطار استراتيجية جديدة تهدف إلى إعادة تموضعها على الساحة الدولية. ارتكزت هذه التحركات على الحوار السياسي، والتعاون الاقتصادي، والانخراط في مبادرات دبلوماسية تسعى إلى تحقيق توازن جديد في علاقاتها الخارجية.

– تعزيز التعاون مع القوى الكبرى: تسعى إيران إلى مواجهة الضغوط الأمريكية عبر استراتيجيات متعددة، تشمل تعزيز التعاون مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا. تأتي هذه الجهود في ظل تزايد التوترات بين طهران وواشنطن، حيث تحاول إيران تقليل تأثير العقوبات الأمريكية وتعزيز موقعها الجيوسياسي. تدرك إيران أن الصين تمثل شريكًا استراتيجيًا مهمًا، لا سيما في ظل السياسة الأمريكية التي تهدف إلى احتواء بكين. وقد عززت طهران علاقاتها الاقتصادية مع بكين، مستفيدة من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. كما تم توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي مدتها 25 عامًا بين البلدين، تشمل مجالات متعددة مثل الطاقة، التجارة، والبنية التحتية، مما يساعد إيران في الالتفاف على العقوبات الغربية.

بجانب الصين شهدت العلاقات بين روسيا وإيران تقاربًا كبيرًا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، والذي أدى إلى فرض عقوبات شاملة على موسكو ودفعها إلى مواجهة هي الأشد مع الغرب منذ الحرب الباردة. وتعمل روسيا على بناء مسار تجاري مع طهران يصل إلى الهند بهدف تخفيف تأثير العقوبات. ومؤخرًا وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني مسعود بيزشكيان اتفاقية شراكة استراتيجية جديدة فيما يستعد البلدان لمواجهة تداعيات عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.

يعكس هذا التعاون المتزايد بين إيران وكل من الصين وروسيا رغبة إيران في تجاوز الضغوط الأمريكية عبر تعزيز تحالفاتها مع القوى الكبرى، وهو ما قد يسهم في إعادة تشكيل النظام الدولي وفقًا لمعادلات جديدة. فمن جهة، يوفر لإيران دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا يساعدها في مواجهة العقوبات الغربية. ومن جهة أخرى، يعزز نفوذ الصين وروسيا في منطقة الشرق الأوسط، مما يشكل تحديًا استراتيجيًا للولايات المتحدة وحلفائها.

– توطيد العلاقات مع الدول الأوروبية: تعتمد طهران على استراتيجية تقليل عزلتها الدولية عبر تعزيز العلاقات مع القوى الأوروبية، التي لا تشارك واشنطن في جميع سياساتها المتشددة تجاه إيران. فالدول الأوروبية، رغم انتقادها لبعض السياسات الإيرانية، لا تزال ترى ضرورة إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع طهران، خصوصًا فيما يتعلق بالاتفاق النووي والتعاون الاقتصادي، وهو ما تستخدمه طهران لتوسيع هوامش المناورة الدبلوماسية.

ومع اقتراب موعد مناقشة “آلية الزناد” في أكتوبر 2025، تدرك إيران أن عليها العمل دبلوماسيًا لضمان عدم التوصل إلى إجماع دولي يعيد فرض العقوبات الأممية عليها. في هذا السياق، تسعى إيران إلى تعزيز علاقاتها مع العواصم الأوروبية الكبرى مثل باريس وبرلين، في محاولة لتفادي موقف موحد ضدها.

ورغم هذه الجهود، يظل التقارب الإيراني-الأوروبي محفوفًا بالتحديات، خاصة مع استمرار الضغوط الأمريكية، وقضايا مثل ملف حقوق الإنسان والدعم الإيراني لروسيا عسكريًا. ومع ذلك، تبقى أوروبا بالنسبة لإيران نافذة دبلوماسية مهمة في مواجهة العزلة الدولية المحتملة مستقبلًا، أيضًا تراهن إيران على الدور الأوروبي كوسيط محتمل في أي محادثات مستقبلية بشأن الاتفاق النووي.

أفريقيا وآسيا منفذ آخر لإيران

وجهت طهران اهتمامها نحو دول القرن الأفريقي، والقارة الآسيوية، حيث تسعى إلى تعزيز نفوذها من خلال شراكات استراتيجية، وتحالفات اقتصادية، وتعاون دبلوماسي مع القوى الإقليمية والدول الصاعدة. ويأتي هذا التوجه ضمن محاولات إيران لكسر العزلة الدولية التي فرضتها العقوبات الغربية، والاستفادة من الفرص الاقتصادية والجيوسياسية التي تتيحها هاتان المنطقتان لتعزيز حضورها على الساحة الدولية.

– تحول في العلاقات السودانية-الإيرانية: شهدت العلاقات السودانية- الإيرانية تحولًا لافتًا فبعد فترة من الجمود السياسي، وبعد أكثر من عام على تطبيع العلاقات بين طهران والخرطوم، أجرى وزير الخارجية السوداني علي يوسف زيارة رسمية إلى طهران، والتقى يوم 18 فبراير كلًا من نظيره الإيراني عباس عراقجي ورئيس البرلمان محمد باقر قاليباف وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي أكبر أحمديان، كما التقى يوم 19 فبراير الرئيس مسعود بزشكيان.

تعكس زيارة وزير الخارجية السوداني، علي يوسف، إلى طهران رغبة مشتركة في إحياء التعاون بين البلدين على مختلف الأصعدة. يأتي هذا التقارب في سياق مساعي إيران لتعزيز نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، مستفيدةً من الموقع الاستراتيجي للسودان المطل على البحر الأحمر، وهو ما يحقق جزءًا من أهدافها الجيوسياسية في المنطقة. حيث تعتقد طهران أن تعزيز وجودها في السودان قد يساعدها في مواجهة أي محاولات لعزلها إقليميًا، كما يمنحها قدرة على التأثير في توازنات القوى في البحر الأحمر.

جاءت زيارة وزير الخارجية السوداني لطهران بعد أقل من أسبوع من زيارته موسكو والاتفاق على منح روسيا قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر، وسط تساؤلات بشأن المصالح التي ترغب كل من طهران والخرطوم بتحقيقها على طاولة المباحثات المتواصلة في طهران.

ويمثل إعلان إيران استعدادها للمشاركة في إعادة إعمار السودان وتوفير السلع الأساسية للبلدين مؤشرًا على البعد الاقتصادي لهذا التقارب المتجدد. فالسودان، الذي يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، يسعى إلى تأمين شراكات دولية تساهم في إعادة البناء والاستقرار الاقتصادي، بينما ترى إيران في هذا الانفتاح فرصةً لتعزيز حضورها الإقليمي، مستغلةً الاقتصاد كأداة دبلوماسية، كما فعلت في مناطق أخرى. في ظل هذه المعادلة، قد يجد السودان في إيران شريكًا قادرًا على تقديم دعم فني وتجاري، في وقت تحاول فيه طهران كسر عزلتها الدولية من خلال توسيع شبكاتها الاقتصادية. في المقابل قد يمنح هذا التحول إيران فرصة لتحسين صورتها الإقليمية بعد سنوات من المواجهات العسكرية غير المباشرة، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة، كما أن الضغوط الداخلية، سواء الاقتصادية أو السياسية، قد تؤثر على قدرة طهران على تنفيذ هذا التوجه بشكل فعال.

– توسيع النفوذ في آسيا: تشكل آسيا ساحة استراتيجية حيوية في مساعي إيران لتعزيز مكانتها الدولية، إذ تحتل موقعًا محوريًا ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وتزخر بأسواق ناشئة تمثل منفذًا واعدًا للبضائع الإيرانية. وتسعى طهران إلى توظيف موقعها الجغرافي لربط الدول الحبيسة في آسيا الوسطى ببحر عمان عبر شبكة السكك الحديدية، مما يمنحها دورًا محوريًا في المشهدين الاقتصادي والأمني الإقليميين.

وفي هذا الإطار، كثفت إيران جهودها لتوطيد علاقاتها مع دول القارة الآسيوية. فإلى جانب شراكاتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا، تحافظ طهران على علاقات تجارية وثيقة مع الهند، التي تعد من أبرز مستوردي النفط الإيراني رغم الضغوط الأمريكية لتقييد هذه التجارة. كما يمثل ميناء “تشابهار”، الذي تطوره الهند في إيران، مشروعًا استراتيجيًا يتيح لنيودلهي الوصول إلى أسواق آسيا الوسطى وأفغانستان دون الحاجة إلى المرور عبر الأراضي الباكستانية.

وتعكس الزيارات المتكررة للمسؤولين الإيرانيين إلى دول آسيا الوسطى وأفغانستان ديناميكية دبلوماسية متسارعة تسعى من خلالها طهران إلى تعزيز نفوذها في المنطقة. فقد جاءت زيارة الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، إلى طاجيكستان، وزيارة وزير الخارجية، عباس عراقجي، إلى أفغانستان، كجزء من هذه التحركات المكثفة الهادفة إلى ترسيخ حضور إيران في قلب آسيا الوسطى، وإعادة تشكيل توازناتها الجيوسياسية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

الخليج واحتمالات الوساطة بين إيران وواشنطن

في إطار سعيها إلى التكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية تسعى إيران إلى استثمار تحسن علاقاتها مع دول الخليج كوسيلة لفتح قنوات غير مباشرة مع إدارة ترامب، مستفيدة من التحولات الدبلوماسية الإقليمية لتعزيز فرص الحوار والتفاوض، سعيًا لتخفيف الضغوط وإعادة تشكيل موقعها على الساحة الدولية. وفي فبراير الجاري زار أمير قطر طهران والتقى كلًا من المرشد والرئيس الإيرانيين، وقد تستغل إيران هذا التقارب لتشجيع الدوحة على لعب دور الوسيط أو تمرير رسائل إلى واشنطن. وبالمثل، قد تخطو طهران خطوات مماثلة تجاه الرياض، مستغلة اتفاق المصالحة مع السعودية.

ويبدو أن إيران تدرك أهمية الوساطة القطرية، نظرًا للدور الذي لعبته الدوحة سابقًا في التوازنات الإقليمية والدولية حيث لعبت دور الوسيط بين إيران والدول الغربية، خاصة في المحادثات المتعلقة بالملف النووي الإيراني وتبادل الأسرى بين طهران وواشنطن، فضلاً عن علاقاتها المتشابكة مع كل من واشنطن وطهران.

كما تسعى قطر إلى تجنب أي تصعيد عسكري مع إيران، خصوصًا في ظل التوترات المستمرة في الخليج العربي. لذا تُبقي الدوحة قنوات اتصال مفتوحة مع طهران لضمان استقرار المنطقة، خاصة فيما يتعلق بأمن الملاحة في مضيق هرمز.

وشهدت العلاقات بين إيران وقطر تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث عززت الدوحة وطهران تعاونهما في مجالات متعددة، خاصة الاقتصادية والسياسية، في ظل التغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. وتمتلك إيران وقطر أكبر حقل غاز مشترك في العالم، وهو حقل الشمال/بارس الجنوبي، ما يجعل التعاون في قطاع الطاقة أمرًا حتميًا بين البلدين.

يعكس التقارب الإيراني-القطري مصلحة مشتركة للطرفين في تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، مع استمرار الدوحة في اتباع سياسة متوازنة بين القوى الإقليمية والدولية. ومع ذلك، فإن هذا التقارب يظل محكومًا بحسابات إقليمية ودولية معقدة.

ختامًا، يمكننا القول أن إيران تحاول من خلال تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة التقليل من حدة الضغوط الدولية المفروضة عليها عبر خلق مساحات جديدة للمناوة السياسية في مواجهة السياسات الأمريكية المتشددة، كما أنها تأتي في ظل مرحلة دقيقة، حيث تحاول إيران إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، والاستفادة من أي قنوات دبلوماسية قد تتيح لها تحقيق مكاسب استراتيجية، سواء على مستوى العقوبات الاقتصادية أو التوترات الأمنية في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى