مقالات

التقارب الأمريكي – الروسي في عهد “ترامب” مدخلاً للتوتر في أوروبا

تحليل: د. فرناز عطية

منذ فوز “ترامب” في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة ، وقدومه للبيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية، وهناك تخوف أوروبي من الاستراتيجيات والسياسات التي من المتوقع أن يتبعها مع أوروبا، لاسيما مع الأزمة الأوكرانية، وما يتعلق بـ” حلف شمال الأطلسي”، وتصريحاته في فترته الرئاسية السابقة حول ضرورة انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الحلف، واستنزافه للأموال الأمريكية، لصالح أوروبا، ناهيك عن التقارب الروسي الأمريكي مؤخرًا وموقف “ترامب” من الأزمة الأوكرانية، بل ومن الدول الأوروبية، حيث قدم خطة سلام لوقف النزاع في أوكرانيا يسعى لفرضها بالقوة، قوبلت برفض وتحفظ أوروبي واضح، تضمن 20 نقطة خلافية جذرية، ومع ذلك يصر على أن الاتفاق بات وشيكًا بشأن أوكرانيا، وذلك يرجع لتركيز “ترامب” بصورة أساسية على العلاقات الثنائية الأمريكية الروسية انطلاقًا من سياسة (أمريكا أولاً)، إضافة إلى اتهامه “زيلينسكي” بالدكتاتور الذي فشل في إجراء انتخابات بعد انتهاء فترته، وأنه لابد من أن يتدارك الأمر وإلا سيصبح بلا وطن، ومن ناحيته قايض “زيلينسكي” ترك منصبه بانضمام بلاده لحلف شمال الأطلسي وهو ما رفضته الولايات المتحدة، وهنا يبدو جليًا توتر العلاقات بين الولايات المتحدة بإدارة “ترامب” وبين دول القارة العجوز، ويمكن إرجاع ذلك لعدة أسباب:

  • سعي ” ترامب ” لتهميش أوروبا وللإنهاء السريع للحرب في أوكرانيا، بالرغم من موقف الدول الأوروبية المتحفظ على خطته لوقف الحرب.
  • الصدام بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مجلس الأمن بخصوص قرار بشأن الأزمة الأوكرانية، لإنهاء الحرب، حيث خلا القرار من تحميل روسيا مسئولية العدوان واعترضت عليه عدد من الدول الأوروبية.
  • النفعية والانتهازية التي يتبعها “ترامب” والتعامل بعقلية التاجر، مما زعزع الثقة بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وأعلى من شأن المصلحة الأمريكية الروسية، فقد عرضت موسكو دعمه ومشاركته في صفقة “المعادن النادرة” في أوكرانيا وكذا الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، ويذكر أن كييف فقدت السيطرة على نحو 40% من مواقع المعادن النادرة بسبب التقدم الروسي في بعض المناطق الشرقية والجنوبية، ويعقد هذا الواقع الجيوسياسي أي محاولات مستقبلية لاستغلال تلك الثروات، مما دعا “ترامب” للتأكيد على أنه ينبغي استعادة أموال الولايات المتحدة التي أنفقتها على الأزمة الأوكرانية، حيث لم يعترض على الاقتراح الذي يقضي بتنازل “كييف” عن مساحات شاسعة من الأرض لموسكو، بل وطالب بما قيمته 400 مليار جنيه إسترليني من الثروة المعدنية في أوكرانيا، مقابل ما حصلت عليه الأخيرة من سلاح أمريكي.
  • التهديد الأمريكي بسحب القوات العسكرية الأمريكية من أوروبا، وبالتالي التخلي أمنيًا عن أوروبا وسط مخاوف أوروبية من القوى الروسية العسكرية، ويذكر أن “ترامب” في ولايته السابقة هاجم الدول الأوروبية من حيث انفاقها الدفاعي وتسلحها كألمانيا.

وقد أدى الموقف الأمريكي اتجاه الدول الأوروبية إلى، أدت تداعيات، أهمها:

  • وصول رسالة إلى أوروبا بأن “ترامب” سيجعل القارة العجوز مكشوفة أمام ما يعتبره الأوروبيين ” أطماع روسية”، حيث أكد “ترامب” بأن أوروبا يجب أن تعتمد على نفسها أمنيًا.
  • تخفيض الاعتماد على الأسلحة الأمريكية، وضمان احتفاظ القارة الأوروبية بمجمعها الصناعي العسكري الخاص، وعدم اعتمادها بشكل مفرط على واشنطن، وعدم إنفاق أموال دافعي الضرائب الأوروبيين على الإنتاج المرخص للمعدات الأمريكية، فعلى سبيل المثال، يتنافس نظام باتريوت الأميركي بشكل مباشر مع نظام سامب/تي الفرنسي الإيطالي الذي تصنعه شركة إم بي دي إيه، فضلاً عن الجيل التالي من النظام الذي يجري تطويره حالياً .
  • سعي الدول الأوروبية من خلال المفوضية الأوروبية، بتقديم مساعدات مالية لمشتريات الغاز الطبيعي في أوكرانيا، ودعم الاستثمار في بناء الطاقة المتجددة بها، مما يحقق تكامل سوق الكهرباء مع الاتحاد الأوروبي بحلول ربيع 2027، فضلاً عن المزيد من التكامل في قطاع الغاز في الاتحاد الأوروبي “.
  • تنافس الدول الأوروبية على دعم ميزانيات التسلح والإنفاق الدفاعي وسباق الأسلحة، حيث تم الحديث عن توسيع المظلة النووية الفرنسية، مع العلم أن فرنسا تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم بواقع 290 رأسًا نوويًا، فقد خصصت منذ عام 2018 نحو 37 مليار يورو لتعزيز قدراتها النووية، وعلى غرار باريس تعهد ” كير ستارمر ” رئيس الوزراء البريطاني بزيادة الإنفاق الدفاعي لـ2.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول 2027، قبيل محادثات مرتقبة مع الرئيس الأميركي في واشنطن، وهي أكبر ميزانية تسلح لبريطانيا منذ الحرب الباردة، كما تتطلع هولندا إلى إنتاج صواريخ باتريوت بموجب ترخيص، في حين تتطلع بولندا إلى المشاركة في تصنيع معدات كورية جنوبية.
  • تطلع فرنسا إلى لعب دور قيادي في حماية الأمن الأوروبي، مستخدمة سلاحها النووي كورقة ضغط، حيث تدرس نشر مقاتلات حربية مزودة بأسلحة نووية في ألمانيا، وهو تطور غير مسبوق يعكس حجم المخاوف الفرنسية من تراجع الدور الأمريكي في القارة، وهذا لتحقيق عدة أهداف، هي:
  • محاولة الضغط على الولايات المتحدة وروسيا.
  • دفع بريطانيا لاتخاذ موقف مماثل.
  • جعل موسكو تعيد النظر في علاقاتها بأوروبا.
  • محاولة باريس أن تجد موطئ قدم في معادلة القوى الجديدة.
  • تزايد فرص صعود اليمين المتطرف في أوروبا، ومخاوف من أن يلقي بظلاله السيئة على المدى البعيد على العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

ولكن في المقابل نجد أن أوروبا في حقيقة الأمر لن تستطيع أن تفك ارتباطها بالولايات المتحدة الأمريكية في مجال التسلح، وذلك لعدة أسباب، كالتالي:

  • الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها أوروبا، وتحول دون الوفاء بكم التمويل الذي يتطلبه سباق التسلح، حتى الدول الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا تعاني من تبعات ارتفاع تكاليف الطاقة والتضخم، وهو ما يقلل من قدرتها على تمويل مشروع دفاعي مستقل.
  • فرنسا تعد الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي النووية الكبيرة بعد خروج بريطانيا منه، ومع ذلك فإن الوضع الحالي لا يسمح لفرنسا بلعب دور دفاعي أكبر بمفردها، حيث تمتلك قوة نووية لكنها محدودة، فهي تعتمد على مقاتلات حاملة للرؤوس النووية، كما أن استمرار الحرب في أوكرانيا والاضطرابات السياسية في ألمانيا يحول دون قدرتها على لعب مثل هذا الدور.
  • من الصعوبة بمكان أن تنشئ الدول الأوروبية منظومة دفاعية متكاملة مستقلة، بسبب اعتمادها الكبير على الدعم العسكري الأميركي منذ فترة كبيرة.

ومما سبق نجد أن أوروبا لن تستطيع أن تأخذ موقفًا صارمًا من خطة “ترامب” للسلام بين روسيا وأوكرانيا، نظرًا لما تم توضيحه من عدم إمكانية تخليها عن التسلح الأمريكي، وصعوبة فك الارتباط بينها وبين الجانب الأمريكي في هذا المجال وفي المجال الاقتصادي، فوفق المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن الصناعة الدفاعية الأمريكية لها حضورها بين الأعضاء الأوروبيين في الناتو، عبر تعاقدات مع الأنظمة الأميركية تصل إلى 34%، إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي لاتزال تعاني منها أوروبا، على الرغم من تغليب “ترامب” لمصالحه مع روسيا على حساب الأمن والمصالح الأوروبية، مما يجعل أوروبا تتنبه إلى ضرورة بناء استراتيجيات جديدة تقلل من اعتمادها على الولايات المتحدة، وتعزز نفوذها السياسي والعسكري، وضرورة تطوير سياسات أكثر استقلالية في مجالات الدفاع والطاقة، وتحسين علاقاتها بروسيا والصين والبحث عن بدائل لتعزيز أمنها القومي والاقتصادي، لاسيما في عصر “ترامب” وفي ظل سياسته  المعروفة بـ”أمريكا أولاً”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى