
أطلق قائد ومؤسس حزب العمال الكردستاني PKK عبد الله أوجلان بتاريخ 27 فبراير 2025 دعوةً “تاريخيةً” طالب فيها الحزب بعقد مؤتمرٍ عام تمهيداً للتوجه نحو الاندماج في العمل السياسي بتركيا، والتخلي عن السلاح وحل الحزب نفسه. واستجابة لهذه الدعوة أصدرت اللجنة التنفيذية للحزب بيانا في أول مارس الجاري أعلنت فيه أن الحزب لن يقوم بتنفيذ أيةِ عملياتٍ مُسلحة ما لم تشن القوات التركية أية هجمات ضده، وهي الدعوة التي لاقت أصداءً سياسيةً واسعةً إقليمياً ودولياً، وهو ما يُعد أحد المستجدات البارزة التي لا ينبغي لأي مراقبٍ لشؤون الشرق الأوسط تجاهلها، بل يمكن أن تكون هذه الخطوة إحدى “المحطات المفصلية” في عملية التحول الجيوستراتيجية التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن شريطة أن تتعامل معها السلطات التركية كجزءٍ من التعاطي مع واحدة من أهم التحديات التي تواجه الدولة التركية على كافة المستويات. والحال نفسه بالنسبة لكافة الدول التي تشتبك مع القضية الكردية، التي لا تقتصر على تركيا لتشمل أربعاً من الدول الإقليمية المهمة في الشرق الأوسط وهم العراق وسوريا وتركيا وإيران، حيث يتقاسمون فيما بينهم الوجود الكردي، بل تتجذَّر في عُمْقِ مُدركات النخب الحاكمة بهذه الدول – تاريخياً – رؤيةٌ قومية متشددة تجاه أي حراك كردي “أو غير كردي” باعتباره يمثل تهديدا لجغرافية كلٍ منهم. وإن كان الواقع يؤكد أن هذه المدركات المرتبكة لا تقتصر على الكُرد وحدهم بل يتشارك معهم كافة المكونات العرقية (غير الحاكمة) في هذه الدول مثل البلوش والأذر والأرمن والتركمان والآشوريين السريان وغيرهم، الأمر الذي يعكس سياقاً أوسع من التشدد القومي المسيطر على أنظمة الحكم في الدول أربع، وبطبيعة الحال يرزح الكرد في معاناة تاريخية جرَّاء ذلك.
دعوة أوجلان للسلام وجدية الأتراك
الزخمُ الكبير الذي أحدثته دعوةُ أوجلان ما بين ردود الفعل (الإقليمية والدولية) والشكل العام لاستجابة الدولة التركية لكل ذلك يثير بالضرورة تساؤلاً حول السياق العام الذي أسفر عن هذه الدعوة “التاريخية” ومدى جِدِّيةِ الدولة التركية في فيما يخص التعامل معها.
وللإجابة على هذا السؤال “المُرَكَّب”، تجدر العودة إلى الوراء حيث نشأة حزب العمال الكردستاني وتأسيسه؛ فبعد خبرةٍ عاشها عبد الله أوجلان ورفاقه في مطلع سبعينات القرن العشرين، تنقَّل خلالها بين العديد من التنظيمات الثقافية مثل “المراكز الثقافية لثوار الشرق” DDKO وتنظيم الشباب الثوري DevGenc، كما تعرَّف خلال هذه الفترة على تنظيمات من قَبيل “جبهة حزب التحرير الشعبي لتحرير تركيا” THKO، وجيش تحرير العمال والفلاحين التركي TIKO وغيرها. وفي هذه الأثناء ظهر اسم حزب العمال الكردستاني PKK للمرة الأولى بإحدى قرى مدينة ديار بكر في نوفمبر 1978. وبالفعل عقد الحزب مؤتمره الأول في يوليو 1981، وأعقبه بمؤتمر ثانٍ بدمشق في أغسطس 1982 ثم أعلن في 15 أغسطس 1984 تأسيس وحدات عسكرية باسم “قوات تحرير كردستان”، ثم تأسَّست لاحقا (في مارس 1985) منظمة جديدة هي “جبهة التحرير الشعبية الكردستانية” بقيادة مؤسس الحزب عبد الله أوجلان وزعيمه[1]. وخلال كل ذلك كانت الاشتراكية هي النهج العلمي الذي التزم به أوجلان ورفاقه. وقد لعب البعد الفلسفي دوراً في هذا الإطار حيث يقول أوجلان: “ولئن كُنَّا اليوم نلقي نظرةً إلى الوراء للعمل على إعادة تقييم PKK، فإن الفضل في ذلك يعود إلى التحول الفلسفي، الذي لا يعتبر الفصل بين الذات والموضوع أمراً مطلقاً، بل يبدي العناية الكبرى كي لا يتسم بالمطلقية”، إذ انشغل “ثوار كردستان”، وهو الاسم الذي راق لأوجلان ورفاقه أن يُطلق عليهم في هذه المرحلة، بالتحولات الفكرية التي كانت تسود العالم في هذه الأثناء حيث كانت الرأسمالية الغريبة “الناهضة” آنذاك تعتمد على ركائز فلفسية تقوم على التمييز بين الذات والموضوع ما يفضي إلى “نسبية الحقيقة” وهو ما كان يصطدم بمثالية الثوار المتطلعين لتجاوز وتلافي آثار الرأسمالية الضارة بالمجتمع. وقد امتزج ذلك بطبيعة الحال بالطابع النقدي لشخصية عبد الله لأوجلان الذي أوصله للاستقرار في فَلَك الاشتراكية. الأمر إذن يرتبط بالتحولات والظروف العالمية خلال مطلع السبعينات حيث طَغَت الرأسماليةُ التجارية، والتحولات الصناعية وترسَّخت ذهنية تعظيم الربح لمداه الأقصى، بل تزامن ذلك مع “الثورة الثقافية” الناشئة والتي بلغت ذروتها عام 1968. وكانت هناك أيضا الأزمة العالمية التي كان يعيشها النظام الرأسمالي والتي انعكست بدروها على الداخل التركي؛ وما الانقلابان العسكريان اللذان وقعا في 12 مارس 1971 و12 ستمبر 1980 سوى تجلياً لذلك. وفي هذا المناخ نشأ حزب العمال، بل وتحققت لديه درجةٌ كبيرةٌ من المناصرة الجماهيرية إما تأثراً بخطاب الحركات الثورية السائدة حول العالم آنذاك أو الخطاب الحقوقي ومفردات العدالة الاجتماعية المتضمَّنة في النهج الاشتراكي الذي تبنَّاه حزب العمال في ظل مناخٍ من السلطوية والانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه الفترة. وقد تعزَّز كل ما سبق بأحداثٍ مأساويةٍ ارتبطت بانقلاب 12 سبتمبر مثل مجازر مرعش وجورم وباخجلي أفلر التي قُتِلَ خلالها الكثير من الشباب الثوريين، الأمر الذي رسَّخ قناعةً لدى أوجلان ورفاقه بضرورة الانتقال خارج البلاد فكانت سوريا هي المقصد حيث انتقل إليها في يوليو 1979. ومع هذا الانتقال بلغت القضية الكردية مرحلةً جديدةً انتقلت فيها من كونها مشكلة إصدار مجلة أو صحيفة أو تأسيس جمعيةٍ إلى تنظيمٍ حزبي مدعوم ببنيةٍ عملياتيةٍ ذات خلفية أيديولوجية تجازت السياق العشائري الذي حكم النضال الكردي على مَّرِ تاريخه، بل خرج الحزب من الدائرة المحلية التركية لينتشر على الساحة الدولية، فطوَّر علاقاته مع الاتحاد السوفيتي وأحزاب اشتراكية أخرى في أوروبا حتى أصبح “ثالث قوة ديناميكية في الشرق الأوسط بعد إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية” بحسب وصف أوجلان عند تقييمه لهذه المرحلة. ولعل من دلالات المكانة التي وصلت إليها PKK هو ذلك التحالف العدائي الذي تشكَّل بين القوى القومية والرأسمالية مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران في مواجهة النهج الاشتراكي الثوري. حتى أن أوجلان نفسه تعرض للعديد من محاولات التصفية الجسدية، والتي تمثل أبرزها في تفجير طنٍ كامل من الديناميت في 6 مايو 1996، وصولا إلى اعتقاله في فبراير 1998، وهي العمليةُ الي يصفها أوجلان بـ “رغبةٍ مشتركةٍ في إبقاء القضية الكردية تسبح في بحر العقم واللاحل”[2]، وذلك في إيحاء منه لما حدث بالفعل بالمؤتمر الذي عقد في القاهرة عام 1920 لتداول القضية الكردية.
لم يكن اعتقال أوجلان نهاية للأزمة بقدر ما شكَّل فصلاً جديداً لها؛ فلا الدولة التركية أوقفت عملياتها العسكرية على مدى العقود الأخيرة ضد حزب العمال الكردستاني ولا توقف الأخير عن أسلوب “الكفاح المسلح” رغم وجود محاولات وحوارات تفاوضية كانت تجري بين أوجلان والسلطات التركية خلال سنوات اعتقاله في سجن “إيمرالي” بجزيرة مرمرة، والتي تمخَّضَت أبرزها عن اتفاق “لم يكتمل” في عام 2013 (سنتعرض له في السطر القادمة).
السَرد السابق والمقتضب لمسيرةِ حزب العمال الكردستاني وصولاً لدعوة أوجلان في 27 فبراير المنصرم، والتي حملت عنوان “نداء السلام والمجتمع الديمقراطي” قد دشَّنَت لمرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ في تاريخ حركة الوعي الكردي بالشرق الأوسط والمهجر أيضاً، وهو ما عكسته الاستجابة السريعة لحزب العمل لدعوة أوجلان، والتي أعلن خلالها عن وقف إطلاق النار. غير أن محتوى البيان الصادر عن الحزب قد ترك الباب مفتوحا أمام التزام الجانب التركي للتعامل مع مبادرة أوجلان ليرمي بالكرة في ملعب الجانب التركي، حيث ربط التزاماته بعدم إقدام الجانب التركي على أي تحرك عسكري. بل إن هناك نقطة أخرى، قد تكون الأهم في هذا السياق، وهي مسألة إلقاء السلاح والتي ربط الحزب تحقيقها – وفقا للبيان – بالإشراف المباشر والعملي من جانب أوجلان حتى يتمكن من متابعة هذه المسألة بدقة وضمان ألا تحدث أية اضطرابات مُعِيقة في هذا الصدد[3].
الكُرةُ إذن باتت في الملعب التركي، لاسيما وأن ثمةَ خبرات تفاوضية “تاريخية” شهدتها سنوات حكم رئيس الوزراء نجم الدين أربكان (1996 – 1997) الذي سعى لفتح مسارٍ تفاوضي غير مباشر لكنه لم ينجح بسبب الانقلاب العسكري الذي أطاح به عام 1997. كما أنه مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002 كان السياق الإقليمي يمر بتحولاتٍ استراتيجيةٍ عميقة تمثَّل أبرزها في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وصعود النموذج الفيدرالي بالعراق مع ظهور تجربة “إقليم كردستان العراق”، وتمركز مقاتلي حزب العمال الكردستاني فيه الأمر الذي أدركت معه حكومة “العدالة والتنمية” بمثابة تهديد للأمن القومي التركي. وفي عام 2008 أطلقت شخصيات من دول مختلفة لوقف القتال مقابل أن تحقق الحكومة التركية ملموسة في طريق السلام. وبالفعل وافق عبد الله أوجلان من معتقله، حيث انطلقت جولةٌ تفاوضيةٌ في أوسلو مقابل وقف إطلاق النار لمدة 6 شهور، وتوقفت الحكومة التركية عن مهاجمة معاقل حزب العمال الكردستاني. وقد ارتفعت الآمال بشأن هذه التطورات حتى أن الأمم المتحدة طرحت نفسها آنذاك بأن تكون راعية لهذه المفاوضات التي تم اختيار العاصمة النرويجية أوسلو مقراً لها. وقد انطلقت الجولة الأولى بين قيادات الحزب وقادة من المخابرات التركية بموافقة رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان. ورغم استمرار هذه المفاوضات بشكل سري لمدة 3 سنوات إلا أنها توقف عندما قام أعضاء الوفد التفاوضي بتسريبها والكشف عنها، وهو ما فسَّره البعض حينها بصراعات داخلية بين أردوغان وحركة “خدمة” ورئيسها فتح الله غولن، الذي توفى بالولايات المتحدة في 20 أكتوبر الماضي.
خبرةٌ تفاوضية أخرى يمكن الإشارة إليها تعود إلى عام 2013، حيث تم الاتفاق على وقف إطلاق النار لأجلٍ غير محدد والعمل على ثلاثة مراحل؛ تمثَّلت الأولى في انسحاب مقاتلي الحزب من الأراضي التركية إلى الأراضي العراقي، وقد تم ذلك بالفعل في 8 مايو من نفس العام، لكن هذه الخطوة توقفت بسبب اعتراض الحزب على تسيير طائرات تجسُّسٍ تركية فوق رؤوسهم، وهو ما فسَّره قادةُ الحزب باعتباره “إهانة” من خلال تجسيد الأمر على أنه هزيمة وليس “انسحاب بموجب اتفاق سلام”، ولم يتحقق حينها سوى نحو 20% من عملية الانسحاب المقررة والتي أعلن الحزب عن توقفها في 6 سبتمبر من نفس العام. كما تزامن ذلك مع شروع السلطات التركية في بناء جدارٍ حدودي على الحدود مع سوريا في مدينة نصيبين جنوب شرق البلاد[4]، وقد وصف الأكراد ذلك بأنه خطوة تهدف لمنع المجتمعات الكردية من تعزيز الروابط فيما بينها عبر الحدود، وهو ما عكس حينها انعداماً للثقة بين الجانبين، لاسيما مع تباطؤ الحكومة التركية في تنفيذ وعود إصلاحية كانت قدمتها بشأن تعزيز حقوق الأكراد في استخدام لغتهم وحق إطلاق أسماء كردية على قراهم الأمر الذي يؤكد إشكالية انعدام الثقة المذكورة. وتمثَّلت المرحلة الثانية في التزام أنقرة بإجراء إصلاحات داخل الدولة وتعزيز الديمقراطية على أن يكون ذلك عبر خطوات تتخذها الحكومة التركية مثل تعديل الدستور، وتخفيض شرط الحصول على 10% من الأصوات لدخول البرلمان إلى 4%، وتعديل قانون مكافحة الإرهاب وإطلاق سراح عناصر الحزب من السجون التركية، ووقف العمليات العسكرية للجيش التركي، والتوقف عن بناء السدود والقواعد العسكرية في المناطق المحاذية لجبال قنديل. وأخيرا في المرحلة الثالثة يتم عودة عناصر الحزب من دون سلاح بعد صدور عفوٍ عنهم وانخراطهم في الحياة المدنية، ودخولهم العملية السياسية وبقية الأعمال الحرة التي لا تخالف القانون. وفي هذا الإطار، اعتمد البرلمان التركي في يوليو 2014 (بتأييد 237 مقابل 37 معارضين) قانوناً جديداً لإحياء المفاوضات مع حزب العمال، وقد نَصَّ هذا القانون على “شمول السياسيين والدبلوماسيين ورجال المخابرات الضالعين في التفاوض مع حزب العمال بالحصانة، بالإضافة لتسهيل عملية تأهيل مسلحي حزب العمال الذين يلقون أسلحتهم ويعودون إلى ديارهم، وغيرها من الإجراءات التي تضمن إنهاء العمليات العسكرية بين الحزب والقوات التركية[5]. وقد أُحِيط الاتفاق المذكور بإطارٍ عامٍ لحل القضية الكردية، تم الإعلان في بنودٍ عشرةٍ، عُرِفَت بـ “بيان نوروز”، عكست رؤية أوجلان لحل القضية ما بين التأكيد على أهمية السياسة الديمقراطية من خلال وضع دستورٍ ديمقراطيٍ يحتوي على ضمانات ديمقراطية وقانونية لخلق المواطنة الحرة وتحقيق المساواة، كما أعقبها بيان داعم من جانب أوجلان[6]. ومع ذلك، عاودت القوات التركية ، في عام 2015، شَن غاراتٍ جويةٍ ضد معسكرات حزب العمال شمالي العراق لتنتهي المفاوضات بلا آفاق تذكر أمام عملية السلام. ومنذ ذلك، لم تتوقف القوات التركية عن شن عمليات عسكرية حملت مُسميات مختلفة في كل من سوريا والعراق مثل عملية “درع الفرات” (خلال الفترة 24 أغسطس – 29 مارس 2017) و “غصن الزيتون (خلال الفترة من يناير – مارس 2018)، و”نبع السلام” (أكتوبر 2019)، والمخلب – القفل (منذ أبريل 2022 – حتى الآن)[7].
منطق الفرصة التاريخية
دعوة أوجلان إذن تتواكب مع التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية …إلخ التي تسيطر على الشرق الأوسط بما يفرض على النظم السياسية والنخب الحاكمة ضرورة التعامل معها كـ “فُرصةٍ” تاريخيةٍ يمكن البناء عليها. فتركيا، وهي صاحبةُ النصيبِ الأكبر من ديناميات وزَخَم القضية الكرُدية تاريخياً تواجه أزمات مُركَّبة ترتبط جميعُها بالحرب الدائرة منذ أربعة عقود مع حزب العمال الكردستاني، في حين لم تتمكن مؤسستُها العسكرية من حسمِ المعارك الممتدة مع قوات الحزب رُغم تفوقها العسكري كونها تمتلك وتدير واحداً من أقوى جيوش العالم[8]. لكن، وفي المقابل، أسفر الصراع عن عشرات الآلاف من القتلى من الجانبين، فضلا عن خسائر قتصادية تقدر بما يزيد عن 300 مليار دولار على مدى العقود الماضية تشمل الإنفاق العسكري وتعويضات الضحايا بالإضافة إلى أضرارٍ متواصلة تصيب قطاع السياحة التركي وتراجع الاستثمارات الأجنبية في المناطق المضطربة بسبب عدم الاستقرار الأمني. وبشكلٍ عام، يعاني الاقتصاد التركي من أزمة هيكلية وصلت خلالها المؤشرات الاقتصادية لمستويات متراجعة، “اضطر” على إثرها أردوغان لرفع سقف وعوده الانتخابية بإجراء إصلاحات تتصل في مجملها بالسياسات المالية ومعالجة أسعار الفائدة التي انعكست على مؤشرات اقتصادية مثل التضخم الذي وصل لـ 71.6% وفقاً لصندوق النقد الدولي، والبطالة التي تجاوزت 11%. والحال نفسه بالنسبة للعملة الوطنية (الليرة) التي فقدت 93% من قيمتها مقابل الدولار على مدار العقد الماضي بما في ذلك 38% منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، و9% في الربع الأول من عام 2024.
يتوازى ذلك مع أزمةٍ سياسيةٍ تتجلَّى في حالة الاستقطاب والاختناق التي تعيشها الساحة السياسية التركية. وكان الحزب الحاكم قد مُنِيَ بتراجعات ملحوظة أمام معارضه الرئيس “حزب الشعب الجمهوري”، وهو ما اعترف به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه حينما علَّق على نتائج الانتخابات التي أجريت في 2024 حينما قال: “نتعهد بمراجعة أداء حزبنا”[9] ثم أعقب ذلك بخطوات غير معهوده على سلوكه تجاه خصومه السياسيين حيث لجأ التقى بعدد منهم مثل أوزغور أوزال ورئيسة حزب الجيد ميرار أكشينار أملا في تخفيف الاختناق السياسي الراهن تمهيدا لإجراء تعديلات دستورية يطمح إليها أردوغان بموجبها يمكن لأردوغان أن يترشح لفترة رئاسية جديدة.
بجانب ذلك، أشارت نتائج أحدث استطلاع رأي أجرته مؤسسة SAROS في فبراير المنصرم والتي بينت أن 69% من الأتراك تؤيد فكرة عقد انتخابات مبكرة قبل عام 2025، وبموجب هذا الاستطلاع تصدر حزب الشعب الجمهوري القائمة بواقع 31.3% متقدما على حزب العدالة والتنمية (الحاكم). وفي الإجمال كشفت نتائج الاستطلاع عن عدم رضا من جانب المستطلعين لأداء حكومة الحزب الحاكم[10]. أما على الصعيد الأمني، فلا تنفصل الدولة التركية عما المشهد المتأزم في الشرق الأوسط وهو ما كشف عنه أردوغان نفسه حينما قال أن الأمن القومي لبلاده يوجه تهديدات من جانب إسرائيل، وهو ما تعزز بإضافة الحرب التي تخوضها المؤسسة العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني لأكثر من 9 سنوات في المناطق الحدودية مع كل من سوريا والعراق.
وفي المقابل، يتعزز منطقُ “الفرصة التاريخية” بحالة النضج السياسي التي أضحى عليها المكون الكردي في تركيا، مثل حزب الشعوب الديمقراطي الذي أثبت كفاءةً ملحوظةً في الممارسة السياسية حينما تجاوز العتبة الانتخابية في انتخابات عام 2015 بحصوله على أكثرَ من 12% من المقاعد البرلمانية. ورغم ملاحقة النظام الحاكم للحزب وإصراره على حَلِّ الحزب من خلال لائحة اتهام وافقت عليها المحكمة الدستورية التركية في يونيو 2023، هناك أيضا حزبُ “المساواة والديمقراطية للشعوب” الذي يسيطر على 57 مقعداً في البرلمان الحالي، كما اضطلع بدورٍ ملحوظٍ في السياق العام الذي قاد إلى دعوة أوجلان الأخيرة. وكان ممثلوا الحزب قد قاموا بعددٍ من الزيارات المكوكية المهمة في هذا الصدد خلال الشهور الأخيرة، بدأت بزيارة أوجلان في معتقل إيمرالي بتاريخ 28 يناير 2024، وأخرى في 22 يناير من العام الجاري، ثم أعقبها اجتماعات مع ممثلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في 15 فبراير الماضي، أعقبها زيارةٌ للحزب الديمقراطي الكردستاني في إقليم كردستان العراق ولقاء زعيمه مسعود البارازني، كما التقى الوفد مع رئيس الإقليم نيجيرفان البرزاني حيث نقل رسائل من أوجلان للمسؤولين في الإقليم، وصولاً إلى اضطلاع ممثلي الحزب بالإعلان عن الدعوة التاريخية نيابةً عن أوجلان أمام العالم عبر وسائل الإعلام. ما سبق وغيره، يؤكد على مستوى النضج السياسي الذي بات يمتلكه المكون السياسي الكردي في تركيا فضلاً عن المسؤولية التاريخية التي تحلَّى بها أوجلان في دعوته المذكورة. السياق العام لدعوة أوجلان بات يوفر فرصة تاريخية أما صانع القرار التركي لإعادة النظر في المقاربات التقليدية التي اعتمد عليها في التعامل مع القضية الكردية تاريخياً.
الخاتمة
لعب السياق الإقليمي دوراً في نشأة حزب العمال الكردستاني والتحولات التاريخية التي نشأت عليها سواء على مستوى المراجعات الفكرية أو ترتيب الهياكل التنظيمية أو حتى صياغة الاستراتيجيات سواء خلال سنوات الأولى بالداخل التركي، أو بعد انتقاله لسوريا أو حتى بعد خروجه فيما بعد. وقياساً على ذلك جاءت الخطوة الأخيرة مدعومة بالتحولات الاستراتيجية التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن. غير أن هذا التحول سوف يظل مرهوناً برشادة الدولة التركية في التعامل مع دعوة أوجلان لإلقاء السلاح ودعم تحوله نحو العمل السلمي وتوفير الضمانات اللازمة لذلك.
وانطلاقاً من كونها “محطة تاريخية” يتعين التعامل “دعوة السلام” التي أطلقها عبد الله أوجلان أخيراً في ضوء الخبرات والدروس التاريخية المستفادة، والتي يأتي في مقدمتها أن “المسألة الكردية” منذ بدايتها إنما تتصل بفلسفة الحكم في الدولة القومية التركية والتي لم تصل للمستوى المأمول فيما يخص إدارة التنوع الثقافي والعرقي المُشَكِّل للمجتمع التركي، الأمر الذي يؤكد على أهمية إحداث نقلةٍ نوعية نحو دمقرطةٍ حقيقيةٍ للحياة السياسية والاجتماعية في تركيا، بما يتوازى – ولا يتقاطع – مع الإطار العام الذي قدمه أوجلان سواءً في “بيان نوروز” عام 2013، أو “دعوة السلام” الأخيرة.
بجانب ذلك، لم يعد بالإمكان المُضي في الخطاب السياسي والإعلامي القومي المتشدد من قِبَل النخبة التركية سواءً تجاه أوجلان ومن خلفه حزب العمال الكردستاني. وكان الرئيس التركي قد هدد بـ “سحق” حزب العمال الكردستاني إذا لم يلتزم بدعوة أوجلان فيما يخص حله وإلقاء السلاح[11]، وهو ما يتعارض مع مبدأ “حسن النوايا” الذي يتعين على الدولة التركية الالتزام به توفيراً لأجواء الثقة ولضمان عدم تكرار فشل اتفاق عام 2013. فاستخدام مفردات تهديدية مثل “سحق” تنطوي على آثار سلبية بطبيعة الحال. وقد أكدت على ذلك استجابة حزب العمال والتي اشترطت تهيئة الظروف المناسبة من الجانب التركي والتي في القلب منها إطلاق سراح أوجلان تأكيداً على مبدأ “حسن النوايا”، وهو ما لا ينفصل عن أهمية الإفراج عن عبد الله أوجلان حتى يمكنه المساهمة بدورٍ “مطلوب” في تنفيذ إجراءات “إلقاء السلاح” بما يتوافق مع الدعوة المذكورة.
أخيرا، فإن التعامل البناء مع دعوة أوجلان من شأنه أن يعزز إمكانات إحلال السلام بما يحقق مكاسب مرجوة للأتراك من بينها تخفيف العبئ عن المؤسسات الأمنية، وتعزيز الاقتصاد جنوب شرق البلاد الذي تقطنه أغلبية كردية، فضلا عن تخفيف التوتر الاجتماعي، والحال نفسه بالنسبة للأكراد الذين يعيشون في مظلومية تاريخية قد آن الأوان لتجاوزها.
[1] أنظر: عبد الفتاح على يحي، حزب العمال الكردستاني في تركيا، نشأته وتطوره، في خليل على مراد وآخرون، القضية الكردية في تركيا وتأثيرها على دور الجوار، مركز الدراسات التركية، جامعة الموصل، 1994، ص 122.
[2] عبد الله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، المجلد الخامس القضية الكردية، ترجمة زاخو شيار، مركز القاهرة للدراسات الكردية، القاهرة، 2017.
[3] يرصد عبد الله أوجالان ثلاثة فصول في كتابه “مانيسفتو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” على نحو 300 صفحة لشرح النقاشات والتحولات التي أفضت لولادة حزب العمال الكردستاني، والتي تراوحت فيما مجملها بين الظروف الإقليمية والتحولات التي كانت تمر بها البيئة الدولية في آتون الصراعات المصاحبة للحرب الباردة وما ارتبط بها من تحولات أيديولجية كشفت عنها التجربة وتحديدا في يخص النظرية الماركسية التي انطلق منها أوجالان في أطروحاته النقدية. أنظر: عبد الله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، مركز القاهرة للدراسات الكردية، القاهرة، 2017.
[4] كرم سعيد، أردوغان والأكراد: أسباب ومعوقات التسوية، ورقة منشورة، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 15 مارس 2015.
[5] احياء مفاوضات السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، https://2u.pw/9nVIoxmu
[6] للمزيد حول تفاصيل اتفاق عام 2013، وبنود بيان نوروز وموقف الدولة التركية منها انظر: على ناجي، بنادق السلام: تركيا وPKK من أوسلو إلى إمرالي، (لندن: دار الحكمة، 2016)
[7] أنس شواخ، فاعلية الضربات الجوية التركية ضد حزب العمال الكردستاني في سوريا، ورقة منشورة، مركز جسور للدراسات، يناير 2024.
[8] تشير التقارير بأن ميزانية الدفاع لدى تركيا تتجاوز 25 مليار دولار، وقدرات بشرية تتجاوز 625 ألف جندي (عامل واحتياط)، وسلاح جو متقدم يضم أكثر من 1000 طائرة مقاتلة، وقوات بحرية تحتل المرتبة الـ 20 عالميا. أذكر: كانت تركيا قد أعلنت عن خططها لزيادة ميزانية الدفاع والأمن لعام 2025 إلى 47 دولار وفقاً لمقترح حكومي، أنظر: https://2u.pw/VD7fcb1A
[9] أردوغان يعلق على نتائج الانتخابات البلدية بعد تقدم المعارضة بالمدن الكبرى، الجزيرة نت، https://2u.pw/1sgsGEIZ
[10] جريدة زمان التركية، 3 مارس 2025
[11] جريدة الشرق الأوسط، 2 مارس 2025