لبنان والدخول الى العصر الأميركي
د.رائد المصري/أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

نالت حكومة نواف سلام في لبنان ثقة المجلس النيابي بما يقارب المئة صوت، بعد فائض من النقاشات، منها ما أكَّد على مضمون البيان الحكومي، ومنها ما طالب بتعديله، خاصة لجهة حق لبنان بالدفاع عن أراضيه بوجه أي إعتداء، وبذلك تكون الحكومة قد تجاوزت أخطر الكمائن البرلمانية، لتخرج بشبه إجماع كما كانت قد تشكلت بشبه إجماع، لكن ما ينتظرها من محطات كثيرة، يبدو أكثرها تعقيداً، لناحية ما يتعلق بإعداة إعمار ما هدمه العدوان الإسرائيلي، وما خلَّفه من إحتلال وبقائه في نقاط خمسة، وتمتد الى سبع نقاط، مع ما خرج من مواقف إسرائيلية، عبَّرت عن نية تل أبيب إقامة منطقة عازلة، بدعم وتأييد أميركي من دون معرفة تفاصيلها ومساحتها وأسلوب إقامتها.
رئيس كتلة الوفاء للماقاومة النائب محمد رعد أبدى_ بكلامه في البرلمان ومنح الثقة للحكومة_ مرونة حزب الله بالتعاطي مع العهد الجديد رئاسيا وحكومياً، على قاعدة التلاقي والشراكة بين الجميع، وهو ما توافق مع رؤية رئيس حزب الكتائب سامي الجميل حين دعاه(رعد) الى حوار صريح وشفاف، حول كل القضايا بما فيها السلاح، التي يدخل فيه إشكالية كبيرة وإنقسام داخل الجسم اللُّبناني، وبنتيجة ذلك تجاوزت الحكومة المَطَب وإمتحان الثقة، لكن ما ينتظرها وما يهم الناس في لبنان، هو قضية إنتشالهم من الضائقة المعيشية والمالية، التي خلفتها الحروب وأتت بنتائج وخيمة على الجميع.
فمن المبكر الحكْم على مسيرة الحكومة، وبأن لا مصالح تحكم بين القوى والأفرقاء السياسيين، وهناك بروز للتوافق الضمني بين مكونات نواب الأمة ومرجعياتها السياسية، لناحية الإلتزام بما ورد في البيان الوزاري، وترجمته عملياً، وما إذا كانت حكومة سلام على قدر الثقة بالأفعال، والتي عليها الإستعداد لتجاوز العقبات الكأداء على مستوى المرحلة، من مواجهة الموضوع الأمني شبه المستعصي، في ظل الخروقات الإسرائيلية المتواصلة للسيادة اللُّبنانية، وصولاً الى الإنطلاق بالعمل على الإصلاح والإنقاذ، وهما أحد أسُس عناوين الحكومة أولاً بأول، حيث ثمَّة معضلة مستحيلة لجهة تطبيق القرار 1701 ومندرجاته، المتعلقة بسلاح حزب الله، في وقت يتفاعل الخطر الإسرائيلي على الداخل اللبناني، من خلال ما ورد من تهديدات، وهو ما يدفع الحزب للتمسّك بالسلاح، إستنادا الى شرعية المقاومة المنصوص عليها بالمواثيق الدولية، وهذا ما يرفضه أفرقاء كُثُر داخل لبنان، مشدّدين على أحقية الدولة وحصريتها لإمتلاك وحمل السلاح، وحتى الدفاع عن لبنان بالإمكانات المتوافرة، وهي(أي الدولة) معروفة التسليح للجيش اللبناني، وهذا قد ينعكس على ملفات أخرى، مرتبطة بشروط المساعدات والإعمار والإصلاحات الإدارية والمالية، التي تضعها الدول الدائنة والمانحة، في محاولة لوقف عجلات الحكومة التي ستعمِّر عاماً واحداً، فمدة سنة وثلاثة أشهر غير كافية، لإتمام ما هو مطلوب منها في بيانها، ولذلك سيحاول رئيس الحكومة تدوير زوايا الملفات المأزومة، بما يحافظ فيه على مضمون بيانه الوزاري من جهة، وما يرضي المجتمع الدولي من جهة أخرى، وهي مهمة صعبة بكل الأحوال .
إن معوقات تطبيق البيان الحكومي سيواجه اليوم بعقبات، تبدأ بالسلاح ولا تنتهي بالإصلاحات المطلوبة، خاصة على مستوى الفساد الإداري المستشري والمستحكم بمفاصل الدولة، حيث معايير الدعم والمساعدات، مرهونة فقط بأجندة مشروع الرؤية الأميركية الداعمة للمشروع الإسرائيلي بكل قوة، ولهذا شكَّلت زيارة رئيس الجمهورية جوزيف عون للسعودية أهمّية كبيرة، كونها محطّة جديدة في مسار تنقية وتنظيم العلاقة الثنائية، التي طالما كان يشوبها الجفاء والتوتّر، حتى حصلت التطوّرات الإنقلابية التي شهدتها المنطقة ولبنان، المتمثلة بالعدوان الإسرائيلي الذي دفع الحزب إلى الخروج من منطقة جنوب الليطاني، وصولاً إلى سقوط النظام السوري، وضرب حصار برّي على إمدادات حزب الله عسكرياً وماليّاً، وهو ما أعطى إندفاعة سعودية تجاه الملفّ اللبناني، لكنّها لا تزال تحت الإختبار والترقّب.
إنّ لبنان لا يزال في عين العاصفة، والأمور لم تستقر بعد محلّياً ولا في البُعد الإقليمي، لأنّ المنطقة تشهد مخاضاً عسيراً، تلعب به الإدارة الأميركية الجديدة بأسلوب خشن جداً، وقد لا يُعفي لبنان من تبعاته وتداعياته، وتنطلق المؤشرات من الجنوب السوري، ولا تنتهي بجنوب لبنان، الملتهِب والمعرَّض للإعتداءات الإسرائيلية شبه اليومية، عبر الخروقات والإغتيالات المستمرة، ناهيك عن أنّ ورشة إعادة الإعمار لا تزال معلّقة، ولن تكون مجّانية، وهي مرتبطة بدفتر شروط صعب مفروض على لبنان، فثمّة قرار دوليّ وخليجي واضحً، يقضي بتعليق المباشرة بورشة إعادة الإعمار، إلى حين نزع سلاح الحزب بالكامل، تطبيقاً لتفسير القرار 1701 الذي يشمل شمال الليطاني، فمع توقيع وقف إطلاق النار دخل لبنان العصر الأميركي، خصوصاً ما دلَّت عليه القمة اللبنانية – السعودية، والتي حملت شروطاً كثيرة، منها البدء بالإصلاحات المطلوبة دوليّاً وفق مبادئ الشفافيّة وتطبيق القوانين، والتطبيق الكامل لاتّفاق الطائف، وكذلك القرارات الدولية ذات الصلة، وبسط الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية.
ومع توقيع إتّفاق وقف إطلاق النار ودخول لبنان العصر الأميركي، بيومياته التفصيلية، ستواجه حكومة نوّاف سلام، تقييديْن الأوّل ناجم عن الغرق في تفاصيل اليوميّات والملفّات المعقّدة الموروثة، والثاني عن الضغط الذي ستمارسه الدول الغربية، وتحديداً واشنطن، تحت عنوان ضرب وتفكيك منظومة حزب الله، التي كان أوّل مؤشّراتها منع الطائرات الإيرانية من دخول الأجواء اللبنانية، ويُنتظر أن تخضع كلّ التعيينات القضائية والأمنيّة والإدارية لجهاز فحص أميركي مسبق، كما وأنه حتى الآن لا يبدو أنّ إسرائيل بوارد الإنسحاب من النقاط الخمس التي تحتلّها في جنوب لبنان، إذ أنّ الدبلوماسية التي تتسلّح بها الحكومة اللبنانية ومعها العهد، هي الخيار الوحيد المتاح راهناً، لكن يجب تكثيف هذه المساعي والضغط أكثر على الإدارة الأميركية، لتحديد جدول زمني للإنسحاب، قد يكون المخرج الدبلوماسي الممكن لإحراج إسرائيل، تحت عنوان الحؤول دون إعادة تشريع العمل المقاوم من جديد.
لكن ثمَّة رهان على قرار إعلان المرشد الإيراني علي خامنئي حظره إجراء أيّ تفاوض مع الإدارة الأميركية، فالمعلومات الواردة ديبلوماسياً، تؤكّد أنّ المفاوضات الأميركية – الإيرانية، قد قطعت شوطاً مهمّاً، وهو ما يسمح بإستعادة التفاوض والتحضير لاتّفاق ثنائي شامل، لا يستثني حلفاء إيران في المنطقة من تبعاته ومنها حزب الله، فأيُّ إتّفاق سيتمّ التوصّل إليه بين اشنطن وطهران، سيتضمّن وقف إيران تسليح حلفائها في المنطقة، ومنهم بطبيعة الحال الحزب، لكن من دون أن يعني التجريد من الموقع السياسي، حيث يعتقد المراقبون أنّ إتّفاقاً من هذا النوع، قد يعطي الشيعة في لبنان في السياسة ما خسروه وما سيخسرونه من السلاح والتمويل.
لأما بالنسبة لإسرائيل، فهي تخوض حرباً غير محدودة، بل حرب مفتوحة، ويمكن تسميتها بحرب وجود، إذ تعتبرها فرصة لن تتكرّر لإقامة إسرائيل الكبرى، وتغيير وجه المنطقة عن بكرة أبيها، وتل أبيب لا تخوض هذه الحرب وحدها، بل أن واشنطن معها وخلفها، حيث المشروعان الأميركي والإسرائيلي صارا في قالب واحد، فيما التنفيذ يقع على عاتق نتنياهو وحكومته المتطرّفة، أما الإدارة والقيادة وتوفير الدعم والإسناد تتكفّل بها واشنطن.
أخيراً، ليس هناك ما يدل عن إمكانية وقف حرب إسرائيل ضدَّ حزب الله، كون الحزب غير قادر اليوم الرد على عمليات الإغتيال والغارات التي يتعرَّض لها كوادره، وهو بالأصل غير راغب بالرد حالياً، لأسباب تتعلق بوضعيته الميدانية، بعد حرب المساندة ضد إسرائيل، والتي خسر فيها كبار المسؤولين والقادة فيه، وآلاف الشهداء والجرحى، وضربت له البُنى التحتية، ومواقع ومراكز عسكرية ومخازن السلاح والذخيرة، في حين ينبري مسؤولون في الدولة اللبنانية الجدد على إختيار النهج الديبلوماسي مع الدول المؤثرة والفاعلة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا والدول العربية، كضامن لإتفاق وقف اطلاق النار، من أجل لجم إسرائيل، لحملها على الإلتزام بوقف إطلاق النار، وتنفيذ القرار الدولي ١٧٠١ كاملاً، لكنها محاولات لم تُسْفر الى اليوم عن وقف هذه الإستهدافات الإسرائيلية، تحت ذريعة أن الحزب لا يزال يقوم بنشاطات عسكرية في بناء قوته وتسليح مواقعه، ولم يلتزم بتنفيذ اتفاق وقف اطلاق النار، وهو ما يحتِّم على إسرائيل الرد على خروقات الحزب وضربها، بحسب التوصيف الإسرائيلي، ليبقى الخيار الوحيد المتاح أو المسار المرسوم عربياً ودولياً بالنسبة لحزب الله، هو التجاوب مع متطلبات تنفيذ إتفاق وقف إطلاق والقرار الدولي بلا تردد، وهو خيار صعب ربما، لكن المصادر الديبلوماسية في لبنان ودنيا العرب تعتبر، أن هذا يُسقط جميع حجج وإدعاءات إسرائيل أمام المجتمع الدولي، لتبرير حربها على الحزب، وكذلك لإنعدام خيار آخر، متاح لوقف حرب الإستنزاف الإسرائيلية ضدَّ حزب الله حتى الآن.