
المتابع للمشهد السيبراني الأمريكي سيجد تحوّلًا جيوسياسيًا دقيقًا يُثير العديد من التساؤلات حول التوازن بين الأولويات الأمنية والمصالح السياسية، ففي ظل تقارير متضاربة حول “وقف العمليات السيبرانية الهجومية ضد روسيا وتراجع التركيز على تهديداتها”، يتجلى أن الولايات المتحدة في عهد “ترامب” قد بدأت تعيد ترتيب أولوياتها في المجال السيبراني ضد روسيا التي لطالما اعتبرت من أخطر الخصوم السيبرانيين، نظرًا لقدراتها المتطورة والعمليات المُنظَّمة التي يُعتقد أنها تنفذها لدعم مصالح الدولة أو لتحقيق أهداف سياسية.
الأوامر السرية والإنكار الرسمي
منذ مطلع مارس الجاري، تواترت أنباء عن إصدار وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث تعليماته إلى قيادة العمليات السيبرانية الأمريكية “USCYBERCOM” بوقف العمليات الهجومية ضد روسيا، في خطوة ارتبطت بمحاولات إدارة ترامب التفاوض مع موسكو لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من نفي وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية “CISA” الرسمي لتغيير استراتيجيتها، أشارت تقارير لصحف كـ”الجارديان” البريطانية و”واشنطن بوست” الأمريكية إلى توجيهات سرية بإعادة تخصيص الموارد بعيدًا عن مواجهة التهديد الروسي، مع تركيزٍ أكبر على الصين، ويعزز هذا التناقض شكوكًا حول مدى تنسيق السياسات بين الأجهزة الأمنية الأمريكية، خاصةً في ظل تصريحات مسؤولين كليستل فرانز، نائبة مساعد وزير الخارجية، التي أغفلت ذكر روسيا كتهديد رئيسي خلال اجتماعات الأمم المتحدة، بينما أكد الحلفاء الأوروبيون والبريطانيون استمرار خطر هجماتها السيبرانية على أوكرانيا والبنى التحتية الغربية.
ولا تزال روسيا تمثل تهديدًا مستمرًا للأمن السيبراني العالمي، فخلال الأشهر الماضية، شن قراصنة روس هجمات على كيانات دبلوماسية في كازاخستان، ومواقع حكومية إيطالية، والبنية التحتية السيبرانية في أوكرانيا، بجانب ذلك، نجحت العمليات الروسية في التأثير على الرأي العام الأمريكي، بل وحتى على نتائج الانتخابات، حيث يظهر ترامب بتصريحاته وأفعاله متأثرًا بحملات التضليل الروسية، حيث كثيرًا ما تبنى وجهات نظر تتماشى مع الروايات الرسمية الروسية وروج لهذه المواقف علنًا منذ ولايته الأولى وهذا يؤكد فعالية العمليات المعلوماتية الروسية، التي تنفذ بشكل أساسي عبر الفضاء السيبراني، ليس فقط في التأثير على المواطنين الأمريكيين العاديين، ولكن أيضًا على رأس السلطة التنفيذية.
من الفجوات الاستخباراتية إلى تأكل الردع
تخفيض أولوية روسيا كتهديد سيبراني يمثل مغامرة خطيرة قد تضعف القدرات الدفاعية الأمريكية على المدى الطويل، فالاعتماد على سياسة “الردع بالهجوم” كان حجر زاوية في منع الهجمات الكبيرة، بينما التراجع عنه يعطي خصومًا ذوي خبرة عالية في الحرب السيبرانية مساحةً أكبر للمناورة، كما أن هذا القرار يعقد العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، الذين يرون في موسكو تهديدًا وجوديًا، ويُعزز شكوكًا حول جدية الولايات المتحدة في القيادة العالمية، دون إعادة تقييم عاجلة لهذه السياسة، قد تضطر واشنطن لدفع ثمن باهظ في حال تحول الهجمات الروسية من استهداف البنية التحتية إلى تهديد الأمن القومي بشكل مباشر. وقد تنعكس الأثار الاستراتيجية والأمنية للسياسات الأمريكية في المؤشرات التالية:
- فجوة في المراقبة والاستخبارات السيبرانية:
تعليق مراقبة الأنشطة الروسية يضعف قدرة الولايات المتحدة على رصد الهجمات الاستباقية، مثل تلك التي نفذتها جماعات مثل “LockBit” و”SVR” و”GRU”، والتي استهدفت سابقًا مؤسسات حيوية أمريكية، كما أن وقف العمليات الهجومية يحرم واشنطن من أداة استراتيجية لردع موسكو، مما قد يشجعها على توسيع نطاق هجماتها، خاصةً في ظل استمرار دعمها العسكري للغزو الأوكراني.
- تأثير سلبي على أوكرانيا:
تعد أوكرانيا الضحية المباشرة لهذا التحول، حيث تعتمد كييف على الدعم السيبراني الأمريكي في صد الهجمات الروسية. ففي مارس 2024، تزامن قرار تعليق العمليات مع هجوم روسي على منطقة كورسك الأوكرانية، مما يخلق ارتباطًا محتملًا بين التراجع الأمريكي وتصعيد موسكو عسكريًا وسيبرانيًا.
- استغلال الخصوم:
بالنظر إلى الصين، الخصم الرئيسي الآخر، قد تستغل بكين هذا الفراغ لتعزيز هجماتها، كما حدث في ديسمبر 2024 باختراقها أنظمة وزارة الخزانة الأمريكية، كما أن روسيا والصين قد تتعاونان في استهداف البنى التحتية الأمريكية، خاصةً مع إمكانية استخدام موسكو قراصنتها لدعم بكين في أي مواجهة مع تايوان.
- تآكل الثقة والمعنويات:
أثار القرار غضب بعض المشرعين الأمريكيين، مثل السناتور تشاك شومر، زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي اتهم ترامب بمنح بوتين “تصريحًا مجانيًّا” للهجوم على المصالح الأمريكية، كما أن تراجع الروح المعنوية داخل الأجهزة الأمنية قد يؤدي إلى هروب الكفاءات أو تجنيد عملاء روس أو صينيين لموظفي حكوميين ساخطين.
تداعيات عالمية في الفضاء السيبراني
في الوقت الذي تسعى فيه إدارة ترامب لتحقيق اختراق دبلوماسي مع روسيا، يظل السؤال الأكبر: هل تستحق المكاسب السياسية المؤقتة المخاطرة بتهديد البنية التحتية الحيوية العالمية؟ بينما تنكر الوكالات الرسمية أي تراجع عن ردع السيبرانية الروسية، تشير الوقائع إلى أن واشنطن قد تكون فتحت الباب أمام عصر جديد من الفوضى السيبرانية العالمية، والتي انعكست في التالي:
- تعزيز القدرات العدائية الروسية
في حال انخفاض الضغوط الأمريكية على الأنشطة السيبرانية الروسية، قد تنتهز روسيا هذه الفرصة لإعادة تخصيص مواردها وتكثيف هجماتها على المستوى العالمي، سواء على البنية التحتية الأمريكية أو على حلفائها، وهذا قد يفتح المجال أمام جماعات المجرمين السيبرانيين، الذين سيجدون في هذا التراجع فرصة للتوسع في عملياتهم، وربما العمل مع جهات خارجية لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.
- إعادة ترتيب التوازن في الفضاء السيبراني
قد يؤثر هذا التراجع أيضًا على ميزان القوى العالمي في المجال السيبراني، إذ إن تقليص العمليات الهجومية الأمريكية يمنح خصومًا لها، مثل روسيا والصين وإيران، الفرصة لاستغلال الاضطراب السيبراني الناتج عن هذا التحول الاستراتيجي، وفي السياق ذاته، قد تستغل فترة الانتقالية في الأولويات السيبرانية للولايات المتحدة للقيام بعمليات استباقية تعطل قدرة الولايات المتحدة على إعادة توجيه مواردها بشكل سريع وفعال.
إن تخفيض أولوية التهديد الروسي في الأجندة السيبرانية الأمريكية ليس مجرد تحول تكتيكي، بل هو قرار استراتيجي تتداخل فيه الاعتبارات السياسية مع الأولويات الأمنية، في حين قد تسعى الإدارة الأمريكية الحالية لتحقيق مكاسب دبلوماسية قصيرة المدى، فإن الثمن من الممكن أن يكون تقويضًا للأمن السيبراني العالمي، وتمكينًا للخصوم من تحقيق اختراقات يصعب احتواؤها، وتعيد هذه الأزمة للأذهان بأن الفضاء السيبراني هو ساحة صراع دائمة، وأن أي تراجع عن المواجهة قد يترجم ليس فقط إلى خسائر تقنية، بل إلى أزمات جيوسياسية أمنية وديمقراطية طويلة الأمد.