ثقافة

جكرخوين .. الشعر والأرض وصناعة الهوية

تحليل: هدير مسعد عطية

عندما يتمثل الهم العام في جسد وعقل رجل واحد، وعندما تتحول الكلمات إلى أيقونات وعلامات، عندما يتحول الرجل إلى سردية في القلب، لا سردية على الهامش، عندها ندرك أننا نتعامل مع علامة مهمة في سياقاها الإنساني والتاريخي. فكما أن التاريخ تصنعه الأحداث الكبيرة، تصنعه وتصيغه أيضا كلمات، وبعض الكلمات التي سجلت بين أوتارها وأبياتها النثرية الشعرية أجزاء من ملحمة الكرد، جادت بها قريحة جكرخوين، رجل الوجدان والكلمات والنضال والمشوار السياسي. لنقترب إذن أكثر حتى نعرف من هو، ولماذا يحتل مساحة معتبرة من الوجدان الكردي، ألنضاله أم لكلماته؟    

الإنسان قبل الشاعر

جكرخوين هو اسم مستعار يعني “القلب الدامي”. واسمه الحقيقي شيخموس حسن. وُلد جكرخوين في قرية تسمى هساري \ حصاري في محافظة ماردين الحالية في جنوب شرق تركيا في عام 1903. وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره – خلال الحرب العالمية الأولى – انتقلت أسرته إلى عامودة، وهي بلدة كردية في شمال شرق سوريا. وبعد ذلك بفترة وجيزة، توفي والداه. وكان لديه “أخ شبه ملا” وأخت. وكان جكرخوين يعمل لدى زوجة أخيه وأخته. وكان يعتني بحيواناتهم ويعمل في مزارعهم. ولم يكن أمامه من خيار في تلك الحالة الا أن يمتهن الرعي، كالكثيرين من أترابه. أمضي جكرخوين طفولته يتيماً متشرداً، وبالرّغم من ظروفه القاسية والصعبة تلك إلاّ أنه جعل العلم والمعرفة هدفاً وغاية له، فسبق رفاقه في أنهاء دراسته الدينية، التي بدأها في سن العشرين تقريبًا، وأمضى شبابه في الحجرات الدينية والكتاتيب. وحصل على الإجازة (الشهادة) في سن الثامنة والعشرين تقريبًا، وأصبح مُلّا. وقد تلقى تعليمه في الغالب في عامودة؛ إلا أنه سافر إلى أماكن عديدة خلال دراساته في المدرسة الدينية في المناطق الكردية، بما في ذلك العراق وإيران وديار بكر في تركيا. وبحكم خدمته كملا من عام 1928 حتى عام 1936 في القرى، شهد محن الفلاحين ومعاناتهم وكفاحهم اليومي من أجل تأمين القليل الذي قد يعينهم على الاستمرار. وبعد أن شهد قمع تمرد الشيخ سعيد في عام 1925، فقد اتخذ اسم جكرخوين كاسم جديدا. وشارك في تأسيس الجمعيات الكردية: “جيوانكورد” (الأكراد الشباب) في عام 1938 لتعزيز دراسة اللغة والتاريخ الكرديين وفي عام 1946 جمعية الحرية والوحدة الكردية، والتي أُسست بأهداف سياسية. كما أصبح جكرخوين ناشطًا في السياسة والحركة الشيوعية في سوريا.

عاش جكرخوين طفولته في أجواء من الدخان والبارود، بعد اخماد الكثير من الثورات والانتفاضات إثر بروز المسالة الشرقية، وسعي كثير من الأقوام والأعراق المنضوية تحت لواء السلطنة العثمانية للانفصال، وبالتالي كانت عمليات وحملات الابادة والمجازر والتهجير والتتريك من أبرز عناوين تلك المرحلة، بكل تجلياتها وألوانها المختلفة. وكان لاهتمامه بالأدب الكلاسيكي للأدباء والشعراء الكلاسيكيين من أمثال طاهر همزاني ووملاي جزيري وفاكي تيرات وأحمد خاني وبرتو هكاري ونالي و سوى ذلك من أسماء، كان من شأن تلك السياقات أن تذهب به للاقتراب من الشعر تبعًا لما تملي عليه الحالة السائدة، خاصة بعد أن ملئت جعبته وأخاديد ذاكرته من صور وذكريات وحالات تشحذ لديه همم الكتابة والتعبير. وكان من شأن، الصراعات الفكرية وبالتوازي مع أحداث ووقائع هامة وملموسة، أن تدفعه نحو الاطلاع على التيارات والأيدولوجيات السائدة والتفاعل معها ومنها الأيدولوجية الماركيسة، خصوصا بعد التلاقي الحاصل بين الرموز والعناصر الاقطاعية -الدينية مع “الكمالية” نسبة الى كمال آتاتورك، والتسبب في نسف البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية الى حد ما، على حساب الآمال والطموحات الكردية والأقوام الأخرى. وذلك بعد تجاوز معاهدة “سيفر” التي عقدت عام 1920، والتي استبدلت بمعاهدة لوزان في عام 1923 والتي تجاوزت كل ما ورد في نصوص وبنود “سيفر” المتعلقة بمستقبل الأقوام الغير التركية بعد انهيار السلطنة العثمانية. وعلى إثر اخماد الثورات والانتفاضات الحديد والنار، نزح جكرخوين، مع أفواج هائلة من الكرد واتخذوا من الجزيرة السورية موطنا لهم و تحديدا بلدة “عامودا”. ورغم أنه اشترك في ثورة الشيخ سعيد البيراني، الا أنه التفت الى الشعر والثقافة بعد ذلك، كوسيلة تعبير مثالية تسمح بشن حملات لاذعة وحادة على الرموز الاقطاعية والدينية، بعد أن شهد ما تم ارتكابه من جانبهم من أعمال، رافقت ذكرهم وسيرتهم دوما. وفي المقدمة التي كتبها الصحفي واللغوي المتنور جلادت بدرخان في بداية ثلاثينيات القرن العشرين للديوان الأول ” الجمر والحرف” الذي صدر في دمشق لجكرخوين يورد بعض ما كان رائجا وجاريا بين جكرخوين والرموز المذكورة من أمثال “حاجو آغا” الذي كان رغم كل ذلك، يقول له: “بإمكانك أن تنال منا، بسيفك الحاد بإبراز أعمالنا وافعالنا ولكن فقط اترك الدين والتدين بعيدا”. وكان من شأن قصيدة حادة له في هذا الشأن، أن تسبب بسحب الاعتراف به كرجل دين.

هذه المواقف والانتقادات الحادة اللاذعة لتلك العناصر و الرموز بلا هوادة من جانب جكرخوين، كان من شأنها أن تلمع صورته و أسمه بين قاعدة شعبية واسعة، و التي ترجمها في عدم تردّده في الانضمام الى حزب ” خويبون” الذي تأسس في “بحمدون” اللبناية عام 1927 بزعامة الجنرال احسان نوري و بله ج شيركو وجلادت بدرخان وكاميران بدرخان و قدري جان و نور الدين ظاظا و حسن هشيار وكريكور مادويان وسواهم، والتي كان من شأنها أن قامت حركة فكرية و ثقافية تمثلت ببعض الخطوات، مثل اصدار بعض المجلات و الصحف من قبيل مجلة”هاوار” في دمشق، وجريدة “روجا نو” في بيروت، سواء باللغة الكردية أو الفرنسية والتي فتحت المجال أمام جكرخوين للكتابة و التأليف و نقل ذلك الى المجال العملي بتأسيس “النادي الثقافي في عامودا” عام 1931 واستطاعته ابراز أسماء وعناصر شابة آنذاك وباتت فيما بعد من الأسماء الهامة في الأدب والثقافة الكردية من أمثال ” تيرج” نايف حسو وملا بالو ورشيد كرد وسواهم. والأهم من ذلك هو مقدرته على احداث خطوة نوعية في ادخال الأدب والشعر والفن إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية وأن يظهر فاعلا حتى في الأوساط التي لا تملك قسطا وان كان يسيرا من الثقافة والتعليم. ويأتي النجاح الذي حققه جكرخوين، في اختراقه الأوساط المختلفة وكذلك تجاوزه للكثيرين، الذين قالو كثيرا “ولم يفعلوا الا قليلا”، نتيجة تميزه في كتاباته وأشعاره التي أخذت الجانب الاجتماعي بالاعتبار وكذلك البعد الانساني وآفاقه الواسعة والتي تجلت في التغني بقضايا الشعوب المضطهدة والتي تسعى وتسير نحو التحرر والاستقلال و السلام. فقد تغنى بفلسطين وفيتنام والجزائر وكوبا وأنغولا ولم ينسى حتى الاميركيين السود الذين عانوا من جراء سياسات تميزية.

مارس جكرخوين السياسة، وأُعتبر صاحب فكر “متجدد” وربما يمكن اعتباره ناشطاً اجتماعياً. من هناك دخل الحقل السياسي وأصبح في مقدمة تشكّل أولى الأحزاب الكردية السورية بالإضافة إلى ما هو معروف عنه، كشخص متكلم، فصيح اللسان، يتمتع بحس دعابة وتهكّم عالي. والمرويات والحكايات التي تتحدث عنه، تشرح لنا جانب الدعابة والتمرد في شخصية جكرخوين. وقف ضد الاقطاع وسلطة الآغاوات، قام بشحن الفلاحين وطالب بالعدالة، كما اعتبر نفسه منتميا للتيار الديموقراطي. لم يكن مُلا تقليدياً ملتزماً بالتعاليم الدينية. تقول إحدى المحكيات إنه، بعد صدامه مع أهل قرية، صار إماما فيها، وقبل تركه للقرية نهائيا اعترف بأنه كان يؤمهم للصلاة من دون وضوء لعام كامل. كما عُرف جكرخوين بسرعة بديهته. فحين سأله رجل يشاركه المجلس “ما الفرق بينك (أي جكرخوين) وبين الحمار؟”  أجاب جكرخوين: “هذه المخدة” الفاصلة بينه وبين الرجل. ركزّ جكرخوين في نشاطه ونتاجه على القضية الكردية. طالب بدولة مستقلة للكرد، انضم للحزب الشيوعي السوري للمطالبة بالحقوق القومية للكرد السوريين، فاصطدم مع الشيوعيين بعد مطالبتهم له بالتخلي عن الفكر القومي. أسس نوادٍ ومجلات وساهم في نشر الثقافة والشعر، مركّزاً على جانب واحد هو التغني بكردستان واللغة الكردية. 

انضم إلى الحزب الشيوعي السوري في عام 1949 وبالتالي ربط نفسه بالحركة الشيوعية الدولية، وأصبح مؤيدًا قويًا لحملة الاتحاد السوفيتي ضد الاستعمار الغربي. وقد أدت مثل هذه الأنشطة إلى اعتقالات متعددة، كان أولها في عام 1949. وفي نهاية المطاف انفصل عن الشيوعيين في عام 1957 بسبب مبدأ ما، حيث جعل تحرير شعبه هدفه الرئيسي وانضم إلى الحزب الديمقراطي الكردي السوري كبديل. انتقل جكرخوين إلى العراق في عام 1958 وأصبح محاضرًا في اللغة والأدب الكرديين في جامعة بغداد في الفترة من 1958 إلى 1963. وفي عام 1961، نشر كتابًا للقواعد النحوية الكردية، وفي العام التالي قام بنشر قاموس كردي من مجلدين.  ونشر جكرخوين أيضًا قصة بعنوان جم وجول بري في عام 1947، وريسا الداري في عام 1956، و”الأمثال” في عام 1958. ونُشرت مجموعته من التقاليد الشفهية الكردية بعد وفاته في السويد. وقد استقر في ستوكهولم في عام 1979، حيث توفي في 22 أكتوبر 1984.

كان جكرخوين شخصية مؤثرة دون شك، لها تأثيراتها على جوانب مختلفة، كتب الشعر ومارس السياسة وأسدى النصائح الدينية وأصلح بين المختلفين. وفي الجوانب كلها كان جكرخوين يدور في فلك القومية الكردية وقد دعا للتمسك فيها كثيراً. لعل أشهر ما قاله “إن لم تصبحوا جسداً واحداً، ستموتون واحدا واحد” (قاصدا الوحدة السياسة) وهو شعار يستخدم كثيراً في المناسبات الكردية. في الشعر أيضا كتب للقومية ومجّد لها، ودافع عنها. ووجد العديد من الفنانين الكُرد قصائده مناسبة للغناء، فهي غنائية في بنيتها. يعتقد البعض أن نتاج جكرخوين الثقافي وتوجهه السياسي منطقيان نظراً إلى خلفيته العلمية ضمن سياق نشوء الدول القومية وانهيار الإمبراطوريات الذي عاصره جكرخوين، أي في الزمن الذي عانى فيه الكرد من بطش الدولة العثمانية قُبيل انهيارها، وكان جكرخوين من ضحاياها.

وبالبحث في قيمة ومكانة جكرخوين، نجد أن الأدب ليس في مقدمة هذه الأسباب بالضرورة. فالأساس، هي الجوانب السياسية والاجتماعية وليست الأدبية بالضرورة. بالتالي، دراسة جكرخوين كشخصية كردية تاريخية، مؤثرة ومميزة، تستدعي أن تسبقها مراجعات أدبية لنتاجه، كخطوة أولى نحو الابتعاد عن قدسيته. جكرخوين كان شاعراً بسيطاً، تعلّم على يد فقهاء وأئمة، وتحول هو نفسه لإمام. وفي وقت احتاج فيه الفلاحون والفقراء إلى شخصية تتكلم بلسانهم وتعرف أحوالهم وتديرها، وتنقل لهم أفكار العالم بطريقة مبسطة كان هو موجوداً ليأخذ هذا الدور.

لقد كان جگرخوين شاعرًا يعيش دائمًا بين الشعب، يشاركهم الفرح ويبكي لبكائهم، ويجعل من آلامهم قضية له. وهو في أعماله لم يكتفِ بالدعوة إلى النضال ضد الاستغلال والإمبريالية فحسب، بل قام أيضًا بالترحال من قرية إلى قرية وبذل جهدًا كبيرًا من أجل توعية الشعب. وكثيرًا ما ألقى الشاعر كلمات مؤثرة بين القرويين، ووصف لهم سبل نضال الشعب الكردي. وفي عام 1954، وبعد الإطاحة بحكومة الشيشكيلي في سوريا، رشح أهل القامشلي جكرخوين لعضوية البرلمان. وقد أوضحت جريدة “أس سارا”، وهي نشرة للديمقراطيين السوريين واللبنانيين، في مقال نُشر عام 1954، القيمة الكبيرة لما قام به جكرخوين. وكتبت الجريدة أن جكرخوين كان يُنظر إليه كعدو من قبل أصحاب الأراضي والموظفين الحكوميين في شبابه بسبب نضاله ضد الإقطاع؛ ولكن شباب الأكراد الوطنيين الثوريين كانوا متوحدين من حوله وقدموا له الدعم وحموه. وكتبت صحيفة “أس سارا” أيضًا أن جكرخوين كان وطنيًا مخلصًا وداعية للديمقراطية؛ وعارض التحريض على الحرب، وناضل من أجل تحرير الشعب من الهيمنة الاستعمارية.

حاول جكرخوين أن يكتب التاريخ شعرًا. ولهذا نجد أن انتفاضة ١٩٢٥ احتلت مكانة متميزة في شعره، حتى أنه خصص قصائد خاصة لها، كما منح قائدها الشيخ سعيد بيران مكانة خاصة، وذلك رغبة منه في توثيق الحدث التاريخي شعرًا، مدركًا لأهمية الشعر في نفوس الناس، وقدرة الشعر في الحفاظ على ذاته وعلى الحدث. وعمومًا في الأحداث التي يعاصرها الشاعر، فإنه لا يرهق ذاكرته كثيرًا، ويتخلى أحيانًا كثيرة عن حيثيات الأحداث، ويحاول بقدر المستطاع أن يختزلها في صور شعرية قد تكون رمزية أحيانًا وذات دلالات متعددة، وقد تكون واقعية ولكن بإيحاءات متعددة أو واقعية لا تحتمل التأويل أحيانًا أخرى، فالشاعر يحاول أن يخط تلك الأحداث بلغة جميلة مفعمة بالخيال، قادرة على مشاعر المتلقي، والتموضع فيها إلى أمد طويل. ويصرح جكرخوين بمدى تأثره بثورة الشيخ سعيد والأحداث التي رافقتها والتي تلتها، ويؤكد أيضاً بأنّ الشخص الذي أثر في سلوكه بشكل مباشر وعميق هو الشيخ محمد مهدي شقيق الشيخ سعيد بيران، حيث جعله ينظر إلى الدين بمنظار واقعي بعيداً عن الخرافات والأشياء التي لا تمس جوهر الدين. وكان قد تعرف عليه في الموصل لأول مرة عندما كان فيها طلباً للعلم واستكمال تعليمه الديني قبل أن يلتقي به في عامودا، وتناقشا كثيراً في القضايا القومية وأيضاً في الأمور الدينية، وكيفية خدمة الشعب الكردي للنهوض من التخلف إلى حياة أفضل.

الشعر وبناء القومية

يُعدّ جكرخوين رائدًا من رواد الشعر الكردي الحديث. فتمثل معاناة الشعب الكردي، والتركيبة الرجعية التي تعيق تقدم المجتمع الكردي وهذه التركيبة والحب والطبيعة والوطن الأم، والحرية والاشتراكية، كانت هي المواضيع الرئيسية في شعره. إن دراسة الباحث والكاتب الشعبي الكردي الشهير، أورديكسان جليل، حول جكرخوين قد نُشرت في عام 1966 في يريفان باللغة الكردية وبالأبجدية الكيريلية. وفي كتابه، يلخص جليل حياة الشاعر ونضاله، ويقدم أمثلة من شعره، ويدرس نظرته إلى الشعر.

يُصنّف جكرخوين ضمن مدرسة الشعر الكردي المعاصر الذي بدأ مع بداية الحرب العالمية الأولى، ويذهب البعض لتسميتها بالمدرسة التنويرية، فهي المدرسة التي اخذت على عاتقها التنظير القومي Nationalism. وكلّ ما سبق هذه الحقبة يبقى ضمن تصنيف القصيدة الكلاسيكية التي تعود جذورها للقرن العاشر الميلادي مع الأخذ في عين الاعتبار التحولات التي خضعت لها القصيدة الكردية طوال تلك العقود. فنوعان من الشعر الكردي استحوذا على القصيدة الكردية الكلاسيكية، القصيدة الملحمية Dengbêj وهي النوع الأشهر ربما، والقصائد صوفية الطابع التي مزجت لغات العربية والفارسية وشيء من التركية مع اللغة الكردية، ولعل أشهر شعراء هذا النوع ملايه جزيري وأحمد خاني والكثير غيرهم. أما بالنسبة للشعر المعاصر، يبقى جكرخوين، مع أسماء أخرى، الاسم الأوسع انتشاراً والأكثر تأثيرا خلال قرن من الزمن قولب خلالها الشعر ضمن قصيدة مقفاة محدودة التأويل، مواضيعها ومفرداتها محدودة وقليلة، بالإضافة إلى ضعف صُورها الجمالية والفنية.

كتب جكرخوين قصيدة “من أنا – Kime Ez” والتي غناها المغني شفان برور بتصرف فصارت “من نحن”، لتكون علامة للأحزاب التقليدية لافتتاح مناسباتها بها بعد النشيد الوطني، أو لاستهلال تظاهرة ما، لتمسي نشيداً أكثر منها قصيدة أو أغنية، تلعب دور التجييش من أجل حمل لواء القومية والتغني بها. لغويا، لا تختلف معظم قصائد جكرخوين عن قصائد نظيره سليمان العيسى بسطحيتها وعن لغة الجواهري بعنفها، حيث للكلمة معناها الوحيد الذي نسمعه، والجملة لا عمل لها سوى إكمال ما بعدها.

من أنا؟

كرديٌ كوردستاني

كلي ثورات وبراكين

أنا كلي ديناميت

أنا نار وجمر

أنا أحمر كالإيتون

وصلت النار إلى المقذوف

عندما سأنفجر

العالم سيهتز

الجمر والنار

سيقتلان العدو
من أنا؟

أنا الكردي رأسي حديدي (عنيد)

حتى اليوم العدو يخاف مني

رائحة الرصاص

دخلت أنفي

أريد وسيلة 

أنفجر منها

مرة أخرى مثل الرجال 

ادخل الجبل

لا أريد أن أموت

أريد أن أحصل عليها

كردستان نفسها

أرض الميديين

من أنا؟

تلك القصيدةٌ مثالٌ على قصائد عديدة على هذه الشاكلة من توقيع جكرخوين. القافية في أشعاره تتكرر مرات عدة، ويستمر التعبير عن الفكرة ذاتها طوال القصيدة التي ستطول من دون تقديم فكرة أخرى. وقد لعب جكرخوين، كغيره من الشعراء الشعبيين دورا محوريًِا في “تحريك الشعب الكردي وإيقاظه من سباته”. وكان تأثير قصائده قويًا في كرد الجزيرة. ويختلف جكرخوين عن النخبوية الكردية؛ فهو كان يفضل الوقوف على كرسي في وسط ساحة عامة يمجّد ماضي الكرد ويرثي حاضرهم، ويتنبأ لهم بمستقبل مشرق.  يجتمع “التقليد” و “الحداثة” في شعر جكرخوين. فقد كان تحت تأثير الشعراء الأكراد الكلاسيكيين. ومما لا شك فيه أن مصدر هذا التأثير هو دراسته في المدارس الدينية. أما اللغة البسيطة المستخدمة في شعره، من ناحية أخرى، فكانت مدينة بالشعر الشعبي الذي جمعه خلال أسفاره في المناطق الكردية.

لقد كان جكرخوين شاعرًا كلاسيكيًا وحداثيًا، وصوفيًا، وفي نفس الوقت ملحدًا، ووطنيًا واشتراكيًا؛ ولكن، قبل كل شيء، كان باحثًا عن الحقيقة، وهي مهمة قادته إلى استكشاف جميع زوايا الوطن الكردي وجميع طبقات المجتمع الكردي. لقد خرج من تقليد الشعر الكردي الكلاسيكي. وكان تعلُمه للأصول الكلاسيكية مدينًا بلا شك لدراسته في المدارس التقليدية (المدارس الدينية). وكان الشعر الشعبي مصدرًا قويًا آخر للإلهام، والذي كان يجمعه بشغف أثناء رحلاته ذهابًا وإيابًا في جميع أنحاء كردستان. ويبدو أن اللغة البسيطة قد لعبت دورًا مهمًا في إمكانية وصول شعره إلى الجماهير. وفي أعقاب ظهور مجموعته الشعرية الأولى، كتب عالم كردي فرنسي اسمه توماس بوي مراجعة في مجلة روجا نو الكردية الفرنسية التي كان يصدرها كاموران بدرخان في بيروت. ويشير بوي إلى أن شعر جكرخوين، المكتوب بلغة واضحة وبسيطة ونقية من التركية والفارسية والعربية، يمكن للجماهير الوصول إليها. ويصف بوي جكرخوين بأنه ثوري بسبب استخدامه للأسلوب الشعبي. وفي مقدمة الطبعة الأولى من ديوان جكرخوين، أشار الشاعر قدري جان إلى أن ديوان جكرخوين سيسد الفجوة التي تركها خاني وملاي جزيري. وقد ظهر شعره في صفحات مجلتي هاوار وروناهي، التي نشرها جلادت بدرخان في دمشق في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وظهر ديوانه الأول (مجموعة الشعر) في دمشق. وقد أُعلِن عن نشر ديوانه الأول في صفحات مجلة روناهي. وفيما بعد ظهرت بعض القصائد التي تشيد بشعره. وإحدى القصائد الشيقة، والموجهة إليه، تقول ما يلي:

جكرخوين أنت متعلم جدًا، أنت في مقام العلماء

جكرخوين أنت من الوطنيين، أنت شاعر الأكراد

بأشعارك أيقظت العديد من الشباب النائمين

وبجهودك، أصبح بعضهم فدائيين.

صدرت مجموعتاه الشعريتان الثانية والثالثة في عامي 1954 و1973 على التوالي. ويمكن اعتبار مجموعاته الشعرية الثلاث الأولى هي قمة إنجازه. وكما أُشير سابقًا، فقد تشكلت مسيرة جكرخوين الشعرية من داخل الشعر الكردي الكلاسيكي الذي اطلع عليه خلال تعليمه في المدرسة الدينية. ويذكر أنه عندما كان يدرس في المدارس الدينية، كان يحمل دواوين ملاي جزيري وأحمد خاني وقصائد شعراء أكراد آخرين. ويشير جكرخوين إلى أنه كان من طبيعته (فطريًا) أن يحب الشعر الكردي. وتعمل قصيدته التي تحمل عنوان هوزان وشاعير الكرد (الشعراء الأكراد) بمثابة مختارات موجزة من الشعر الكردي الكلاسيكي يذكر فيها جميع الشعراء الأكراد الكلاسيكيين ويشدد على أهميتهم: ملاي بوطي وخاني وفقي تيران وسياه بوس وخليل السردي وسليم هيزني وفقيه رشيد وشيخ عبد الرحمن الأختابي وملاي باتي وبيرتو هيکاري وملاي خاسي وبريفكاني وميرميه وسيادي ليجي ويوسف كيناني. بيد أن خاني هو الأكثر تأثيرًا بينهم جميعًا.

تنبغي الإشارة إلى العديد من الخصائص الأسلوبية الهامة لشعر جكرخوين. فبداية، اللغة المستخدمة في شعره بسيطة وواضحة بالنسبة للناطق العادي بالكردية الكرمانجية. وثانيًا، فبما أن شعره موزون ومنمق جيدًا، فإنه من السهل حفظه وإنشاده، لا سيما من جانب الأشخاص المتعلّمين في المدارس الدينية الذين تتمثل طريقتهم الأساسية في التعلم في الحفظ، أي حفظ النصوص. وفي الواقع، يُعتبر الحفظ “أهم عامل في التعليم في المدرسة الدينية”. وكشاعر يساري وشيوعي، فإن جكرخوين مزج بين المذهب الواقعي الاجتماعي والرومانسية. وقد أوضح جدانوف (1896-1948)، الذي كان أحد واضعي أسس الواقعية الاجتماعية السوفيتية، أنه لا يجوز للأدب أن يتخلى عن الرومانسية، ولكن يجب أن تكون هذه الرومانسية، رومانسية ثورية، وتكون متوافقة مع الواقعية الاجتماعية. ولهذا السبب أيضًا، فإن جكرخوين حتى عام 1949 كتب أشعارًا بوصفه شاعرًا وطنيًا مستندًا على المذهب الرومانسي، ولكن بعد أن قبل بالأفكار الشيوعية، بدأت ملامح الواقعية الاجتماعية تظهر مع الرومانسية في أعماله. ولذلك أيضًا، فإنه كان يدعم في قصائده الفكرة الطبقية ويحث الفقراء والعمال على الوقوف في وجه الرأسماليين. ولهذا السبب أيضًا، فإن إحدى القضايا التي ركز عليها جكرخوين أكثر من غيرها هي الأفكار الطبقية وتوعية الطبقة الفقيرة والعمالية.

وقد حاول جكرخوين بكل قلبه دعم النضال من أجل تحرير الشعب الكردي. فعلى سبيل المثال، أثناء الحكم الذاتي في عام 1961 في جنوب كردستان، قام بإنشاء قسم اللغة الكردية العليا في جامعة بغداد، وإلى جانب ذلك، كان يقوم أيضًا بإعداد البرنامج الثقافي الكردي في إذاعة بغداد. وفي الفترة من عام 1959 وحتى عام 1963، أقام جكرخوين في بغداد. وبالإضافة إلى الأشعار السياسية (الوطنية والاشتراكية)، فقد كان يكتب جكرخوين أيضًا قصائد عن الحب، والتي كانت تعبر في أغلب الأحيان عن آلام ومعاناة الحب، ولكنها كانت تصف أحيانًا أخرى البهجة والابتهاج بالحب.

وقد استخدم العديد من المغنين الأكراد قصائده في أغانيهم. وقد نُشرت ثمانية دواوين لجكرخوين، كما كتب كتاب “تاريخ كردستان” ومعجمًا للغة الكردية وكتبًا حول التراث الشعبي الكردي. وبفضل عمله ونتاجاته، فقد لعب جكرخوين دورًا كبيرًا للغاية في تثقيف الجماهير في كردستان. ويمكن للمرء أن يراه رمزًا وطنيًا. وقد قضى جكرخوين معظم حياته في القامشلي، ولكنه اضطر لاحقًا إلى مغادرة وطنه والذهاب إلى ستوكهولم. وفي ستوكهولم، توفي الشيخ جكرخوين في 22 سبتمبر 1984. وقد جرت مواراة جكرخوين الثرى في فناء منزله في القامشلي بحضور عشرات الآلاف من الأكراد المحبين لشعره. دذا فإم هذه الشخصية العظيمة في الأدب الكردي، ينبغي ألا تُنسى أبدًا.

للمزيد يمكن الرجوع إلى :

إبراهيم إبراهيم: جكرخوين وتوثيق الحدث التاريخي ثورة ١٩٢٥ والشيخ سعيد بيران

https://www.academia.edu/81609570/جكرخوين_وتوثيق_التاريخ_شعرا_جديد?uc-sb-sw=45193567

بشير أمين: هل أفسد جكرخوين الشعر الكردي؟ 

جكرخوين .. الداعية إلى اليقظة القومية

https://www.pukmedia.com/AR/details/?Jimare=119

جوردي غورغاس: الحركة الكردية التركية في المنفى، ترجمة جورج البطل، دار الفارابي، بيروت، ٢٠١٣  

عبدالمنان خلباش: في مئوية الشاعر جكرخوين: تشابك وتداخل الأدب والأيدولوجيا والجغرافيا

https://elaph.com/Web/Archive/1047102245740140500.htm

Metin Yuksel: “I cry out so that you wake up:” Cegerxwîn’s Poetics and Politics of Awakening, Middle Eastern Studies, 50(4), i. https://www.academia.edu/20842820/_I_cry_out_so_that_you_wake_up_Cegerxwîns_Poetics_and_Politics_of_Awakening

https://www.kitapindi.com/siir/orixane-celil-cegerxwinin-yasami-ve-siir-anlayisi

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى