دراسات

الإعلان الدستوري: محاولة إصلاح أم إعادة إنتاج الاستبداد؟

تحليل: الباحث السياسي/ محمد صابر

تمر سوريا السياسي بتحولات سياسية كبرى مع إصدار الإعلان الدستوري الجديد، الذي يُفترض أن يؤسس لمرحلة انتقالية عقب سقوط نظام “بشار الأسد”. وبينما يُروَّج لهذا الإعلان كخطوة نحو إعادة بناء سوريا، فإن التدقيق في مضمونه يُظهر ملامح إعادة إنتاج الحكم الفردي والاستبداد، من خلال تركيز السلطة بيد الرئيس، وغياب أي آليات حقيقية للفصل بين السلطات، وتهميش المكونات غير العربية، ما يثير تساؤلات حول مستقبل العملية السياسية في البلاد.

يأتي هذا الإعلان وسط تصعيد أمني خطير في الساحل السوري، حيث تتزايد حدة الاشتباكات بين القوات الحكومية المؤقتة وفلول النظام السابق، إضافة إلى تصاعد الهجمات ذات الطابع الطائفي. هذه التوترات تطرح تساؤلات حول مدى ارتباط التصعيد بالمواقف الرافضة للإعلان الدستوري، وما إذا كانت هذه المواجهات جزءًا من محاولة لفرض واقع جديد على الأرض يُعقّد المشهد السياسي.

وتأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل لمناقشة مدى قدرة الإعلان الدستوري على إرساء أسس حقيقية للانتقال السياسي، ودراسة أوجه القصور فيه، مع تحليل أبرز مواقف القوى الداخلية والخارجية، إضافة إلى استشراف السيناريوهات المحتملة لمستقبل سوريا في ضوء هذه التطورات.

انتقادات عديدة:

منذ صدور الإعلان الدستوري الجديد، لم يتوقف الجدل حوله، حيث تتعالى أصوات المنتقدين من مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، محذرين من أنه لا يمثل خطوة حقيقية نحو بناء دولة ديمقراطية، بل مجرد إعادة إنتاج لصيغة الحكم الفردي بآليات جديدة. في الوقت الذي كان السوريون ينتظرون إطارًا سياسيًا يوفر توزيعًا متوازنًا للسلطة وضمانات حقيقية للحريات العامة والمشاركة السياسية، جاء هذا الإعلان ليكرس سلطة مركزية مطلقة بيد الرئيس، مع غياب واضح لأي ضمانات لمحاسبته أو الحد من نفوذه.

علاوة على ذلك، فإن الإعلان جاء دون توافق وطني حقيقي، حيث لم يُعرض على استفتاء شعبي، ولم يشارك في صياغته ممثلون عن كافة القوى السياسية والاجتماعية، مما يجعل شرعيته محل شك كبير. يضاف إلى ذلك أن الإعلان لم يضع أي آليات واضحة لتنفيذ بنوده، مما يجعله بمثابة مجرد “إطار نظري” لا يحمل أي التزامات فعلية تجاه الإصلاح السياسي.

الأخطر من ذلك هو أن الإعلان يحمل في طياته إقصاءً واضحًا لبعض المكونات الأساسية في سوريا، خاصة الأكراد والدروز، حيث لم يتطرق بأي شكل لحقوقهم السياسية أو الثقافية، كما أبقى على هوية الدولة كـ”جمهورية عربية”، ما اعتبرته المكونات الأخرى تجاهل كبير للتنوع العرقي والديني الذي يُشكل جزءًا أساسيًا من النسيج السوري. هذه السياسات قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات الداخلية بدلًا من حلها، وتُعزز مشاعر التهميش والإقصاء بين الفئات غير العربية، مما قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من التوترات السياسية والاجتماعية.

إضافة إلى كل ذلك، فإن الإعلان لم يُحدد أي رؤية واضحة لمسار العدالة الانتقالية، ولم يضع ضمانات حقيقية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات السابقة، مما يثير مخاوف من أن المرحلة المقبلة قد تشهد إفلاتًا من العقاب، واستمرارًا لأنماط الحكم السلطوي، فبدلًا من أن يكون الإعلان وثيقة تؤسس لمرحلة انتقالية قائمة على المصالحة الوطنية، يبدو أنه قد صُمم لضمان استمرار السلطة الحاكمة دون إحداث تغيير جوهري في بنية النظام السياسي. ومن اهم الانتقادات الموجهة للإعلان الدستوري في سوريا ما يلي:

  • تركيز السلطة المطلقة بيد الرئيس: أعطى الإعلان رئيس الجمهورية صلاحيات غير محدودة تقريبًا، حيث يتمتع بالتحكم الكامل في تعيين مجلس الشعب والسلطة القضائية وإدارة السلطة التنفيذية، مما يجعله الحاكم الوحيد دون أي آليات فعلية للمساءلة أو المحاسبة، وبالتالي فإنه لا توجد أي نصوص دستورية تمنح البرلمان سلطة محاسبة الرئيس أو عزله، ما يعني أن الحكم سيكون فرديًا بالكامل، مما يتناقض مع المبادئ الديمقراطية حيث ستصبح السلطة التشريعية بالكامل في قبضة السلطة التنفيذية. فلم يعد الرئيس فقط الحاكم الفعلي، بل أصبح المصدر الوحيد للشرعية السياسية، وهو ما يُعيد إنتاج النمط الشمولي الذي حكمت به سوريا لعقود.
  • .غياب التوافق الوطني والتعددية السياسية: لم يكن الإعلان الدستوري نتاج حوار وطني شامل، بل جاء بقرار أحادي من السلطة الحاكمة، دون إشراك قوى المعارضة أو ممثلين عن مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية. حيث أن غياب التعددية السياسية في صياغة الإعلان يُضعف شرعيته، كونه لم يُطرح للاستفتاء الشعبي، ولم يحظَ بدعم واسع من الأطراف الفاعلة في المشهد السوري.
  • إقصاء المكونات غير العربية وفرض هوية أحادية للدولة: أبقى الإعلان على تسمية “الجمهورية العربية السورية”، متجاهلًا وجود مكونات أخرى مثل الأكراد والآشوريين والتركمان وغيرهم، مما يعزز الطابع القومي الأحادي للدولة. كما أن الإعلان لم يتطرق بأي شكل إلى حقوق الأقليات أو لغاتها أو ثقافاتها، ما يثير مخاوف من استمرار سياسات التمييز والإقصاء ضد غير العرب. وبالتالي، لقد جاء الإعلان الدستوري مخالفًا للاتفاق الذي تم توقيعه بين الحكومة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية، والذي نص على ضمان تمثيل جميع المكونات السورية. إلا أن الإعلان الدستوري ألغى أي ذكر للكرد أو التركمان أو السريان، كما أنه لم يعترف بالحقوق الثقافية واللغوية لهذه المكونات.
  • غموض مسار العدالة الانتقالية والمحاسبة: لم يضع الإعلان أي آليات واضحة لمحاسبة المتورطين في الجرائم والانتهاكات السابقة، مما يعني أن المسؤولين عن الجرائم قد لا يخضعون لأي مساءلة. وقد يؤدي تجاهل ملف العدالة الانتقالية إلى فقدان الثقة في العملية السياسية برمتها، ويُعزز مخاوف الضحايا من أن المرحلة القادمة لن تختلف كثيرًا عن سابقتها. كما أن الرئيس يتولى تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، مما يجعل أعلى سلطة قضائية في البلاد خاضعة تمامًا للسلطة التنفيذية.
  • عدم وضوح آليات التنفيذ والتطبيق: لم يتضمن الإعلان أي خطوات تنفيذية محددة لكيفية تطبيق مواده، مما يجعله أقرب إلى وثيقة رمزية لا تحمل أي التزامات فعلية،  مع عدم توافر التفاصيل حول آليات الرقابة والمحاسبة وبذلك قد تتعامل الحكومة الانتقالية معه بمرونة كبيرة، دون تنفيذ جوهري للإصلاحات التي تم النص عليها.
  • تثبيت استمرارية الحكم الفردي تحت غطاء “مرحلة انتقالية”: رغم وصف الإعلان بأنه مؤقت، فإنه يمتد لخمس سنوات، وهي فترة كافية لترسيخ النظام السياسي الجديد ومنع أي تعديلات جوهرية لاحقة، خاصًة مع غياب أي آليات واضحة تضمن الانتقال السلس إلى دستور دائم، ما يجعل من الإعلان إطارًا فضفاضًا يُمكن تمديده لفترات أطول، مما يجعله مدخلًا لإدامة النظام الحالي بدلاً من كونه مرحلة مؤقتة.

المواقف تجاه الإعلان:

يمثل الإعلان الدستوري السوري الجديد مرحلة حاسمة في مسار الانتقال السياسي، لكنه في ذات الوقت يكشف عن استمرار النهج السلطوي الذي لطالما هيمن على البلاد بالرغم من أن هذا الإعلان يُصوّر على أنه خطوة نحو إصلاح شامل فإنه يحتوي على العديد من النقاط التي تعيد إنتاج الحكم الفردي وتكرس سلطة الرئيس دون ضمان آليات رقابية حقيقية. كما أن غياب التوافق الوطني الشامل وإقصاء بعض المكونات الأساسية مثل الأقليات الكردية والدرزية يُشكل خطرًا على استقرار الدولة، مما يجعل عملية الانتقال السياسي عرضة للانقسام والصراعات الداخلية.

حيث يظهر الإعلان ميلًا واضحًا نحو إعادة إنتاج النظام المركزي السلطوي، بدلًا من التأسيس لمرحلة انتقالية قائمة على التعددية السياسية والمساءلة، فبينما يُروج له على أنه خطوة نحو الاستقرار يتجاهل الإعلان مطالب فئات واسعة من الشعب السوري، ويستبعد المعارضة السياسية في ظل غياب أية ضمانات للفصل بين السلطات. لذلك، شهد الإعلان الدستوري ردود أفعال متباينة، حيث رحبت به بعض القوى باعتباره خطوة نحو إعادة الاستقرار، بينما رفضته قوى أخرى باعتباره إعادة إنتاج لمنظومة الحكم الفردي. ويمكن تقسيم هذه التفاعلات إلى ثلاثة مستويات رئيسية على النحو التالي:

  • المواقف المحلية:  انتقدت معظم القوى المحلية الإعلان، حيث رفضته المعارضة السياسية والمسلحة باعتباره “وثيقة مفروضة من السلطة” دون توافق وطني. وانتقده الكرد والدروز بسبب غياب أي إشارة للمكونات غير العربية، مما يعكس توجهًا مركزيًا يقصي فئات واسعة من المجتمع السوري. واعتبرته قوات سوريا الديمقراطية انقلابًا على التفاهمات التي تم التوصل إليها مع الحكومة الانتقالية، بما يستدعي إعادة النظر في علاقاتها مع دمشق.
  • المواقف الإقليمية: رحبت تركيا بالإعلان، حيث اعتبرته خطوة تعزز الطابع العربي للدولة السورية، وهو ما يتوافق مع مصالحها الإقليمية في تحجيم النفوذ الكردي في الشمال السوري. بينما أبدت إيران تحفظها، معتبرة أن الإعلان لم يضع ضمانات واضحة للحفاظ على مصالحها داخل سوريا، خاصة فيما يتعلق بدورها العسكري والاقتصادي في البلاد.
  • المواقف الدولية: انتقدتالولايات المتحدة الإعلان بشكل غير مباشر، حيث ركزت تصريحات مسؤوليها على ضرورة أن يكون الدستور القادم شاملاً ولا يقصي أي فئة من المجتمع السوري. أما روسيا، فقد تبنت موقفًا متحفظًا، حيث لم تؤيد الإعلان بشكل صريح، لكنها لم تعارضه، مما يعكس رغبتها في الحفاظ على نفوذها دون الدخول في صدام مع الحكومة الانتقالية.

السيناريوهات المستقبلية:

رغم إعلان الحكومة الانتقالية أن هذا الإعلان يمثل خارطة طريق للمرحلة المقبلة، إلا أن الواقع يشير إلى أنه قد يفتح الباب أمام مزيد من الصراعات الداخلية، خاصة مع استمرار حالة الرفض الواسع له. وفي هذا السياق، يمكن استشراف عدة سيناريوهات رئيسية لمستقبل الإعلان على النحو التالي:

(1) سيناريو فرض الإعلان كأمر واقع: إذا تمكنت الحكومة من السيطرة الكاملة على الأوضاع الميدانية، فقد تستطيع فرض الإعلان كمرجعية قانونية، مستغلة الدعم الإقليمي والدولي المشروط. يتطلب هذا السيناريو القضاء على أي مقاومة داخلية، واحتواء المعارضة السياسية والمسلحة، وهو أمر غير مضمون في ظل حالة التوتر المتصاعدة، ويعني نجاح هذا السيناريو أن الإعلان قد يصبح إطارًا ثابتًا للحكم، مما قد يؤدي إلى ترسيخ نظام سياسي مشابه للنظام السابق، ولكن بوجوه جديدة. 

(2) سيناريو التصعيد السياسي والميداني: قد يؤدي رفض المعارضة وبعض المكونات الاجتماعية للإعلان إلى تصعيد سياسي وميداني، خاصة في الشمال والساحل السوري، ومع تزايد عمليات الرفض الشعبي، يمكن أن يؤجج ذلك مظاهرات واحتجاجات واسعة، وربما عمليات مسلحة ضد الحكومة الانتقالية. هذا السيناريو قد يشمل تدخل بعض القوى الإقليمية عبر دعم فصائل مسلحة لتحقيق مصالحها، مما قد يعيد سوريا إلى مربع الصراع المسلح.

(3) سيناريو التعديل التدريجي للإعلان تحت الضغط الدولي: إذا تصاعدت الضغوط الدولية، قد تجد الحكومة الانتقالية نفسها مضطرة إلى تعديل بعض بنود الإعلان، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الصلاحيات وضمان التعددية السياسية، ويمكن أن يشمل ذلك تقليص صلاحيات الرئيس، وتوسيع دور البرلمان، وإدراج ضمانات واضحة لحقوق المكونات غير العربية. وقد يكون هذا السيناريو هو الأكثر واقعية، حيث يتيح للحكومة إضفاء شرعية أوسع على الإعلان دون التراجع عنه بالكامل.

ختامًا، يمكن القول أن الإعلان الدستوري في سوريا ليس مجرد خطوة قانونية، بل هو جزء من معادلة سياسية وأمنية معقدة تحددها توازنات الداخل والخارج. وبينما يتم تقديمه كإطار لإدارة المرحلة المقبلة، فإن فرص نجاحه تظل رهينة بعوامل متعددة، وفي حال نجاح الإعلان الدستوري في التمهيد لمرحلة انتقالية مستقرة، فإنه قد يفتح المجال أمام حلول سياسية أكثر شمولًا، تمهد لعملية إعادة الإعمار وترتيب المشهد الداخلي وفق أسس جديدة. ومع ذلك، فإن فشل التوافق حوله قد يؤدي إلى مزيد من التعقيد السياسي، وربما إعادة إنتاج الصراع بصيغ جديدة أكثر تعقيدًا.

ويظل الملف السوري في الساحل رمزًا للتحديات الكبرى التي تواجه سوريا اليوم؛ فهو يمثل نقطة التقاء بين الصراعات الداخلية والانقسامات الطائفية، وبين التدخلات الخارجية التي تسعى لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة. وبينما يواصل مختلف الأطراف تمديد النفوذ، يبقى السؤال المحوري قائمًا حول مدى قدرة السوريين من إعادة بناء مستقبلهم على أسس حقيقية تضمن وحدة الشعب واستقلال القرار السياسي، أم أن الساحل سيظل مسرحًا لصراعات لا تنتهي، تحمل آثارها على الأجيال القادمة، إن الإجابة على هذه التساؤولات تتوقف على مدى قدرة الأطراف المحلية على تجاوز الفوضى، وتحقيق توافق سياسي حاسم يدعم مسار الانتقال ويعيد رسم مستقبل سوريا وفق رؤية شاملة ومستدامة.

ومع استمرار هذه التحديات، يبقى السؤال الأبرز هل ستتمكن سوريا خلال المرحلة الانتقالية بقيادة الرئيس السوري “أحمد الشرع” من تحويل هذا الإعلان إلى إطار يعكس إرادة الشعب السوري ويضمن مشاركة الجميع، أم أنه سيظل مجرد وثيقة تكرس سلطة فردية وتعيد إنتاج النظام الاستبدادي بوجه جديد؟ ستعتمد الإجابة على مدى قدرة القوى المحلية والإقليمية على تجاوز الانقسامات التاريخية، وتوفير آليات تنفيذية ورقابية تضمن انتقالاً حقيقيًا نحو دولة ديمقراطية تعددية، بعيدًا عن التدخلات الخارجية التي تعيد رسم معادلة النفوذ في سوريا. وفي النهاية، سيكون مستقبل سوريا معلقًا على مدى استجابة العملية الانتقالية للتحديات الداخلية وتكيفها مع المتغيرات الدولية، مما سيحدد إذا ما كانت سوريا ستشهد تحولاً سياسيا حقيقيا أم ستظل أسيرة لنه غلات التي أدت إلى أزمة طويلة الأمد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى