الكرد من الإمارات الكردية إلى الإدارة الذاتية واستشراف المستقبل
تحليل: أ.د. إبراهيم محمد علي مرجونة/ أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية

مع تتبع تاريخ الكرد ومواضع التوطن وقيام الكيانات المستقلة التى صاحبها علاقات متنوعة تنم عن قراءة الواقع التاريخي بشكل جيد وامتلاك رؤية سياسية متميزة لأن إدارة المجتمع الكردي نفسه خلال حقبة الدويلات الكردية المستقلة في ظل الخلافة العباسية تشبه إلى حد كبير مشروع الإدارة الذاتية في الوقت الراهن مع اختلاف الحقب الزمنية بينهم
أن بداية ظهور الكرد كان فى إقليم الجبال، واستوطنوا فى الأجزاء الجبلية، وانتشر الكرد فى مناطق عديدة فى فارس، وكونوا ما يقرب من مائة حى خاص بهم وسكن بعضهم فى مناطق عديدة من الموصل وديار بكر وديار ربيعة، ومن أبرز صفاتهم القوة الحربية والشجاعة.
كذلك سكن الأكراد السلاسل الجبلية العالية فى أرمينية وفى أجزاء متعددة من أذربيجان، بالإضافة إلى انتشارهم فى مناطق شتى من العراق القديم، والأهواز، إيران القديمة وغيرها من المناطق الكثيرة الأخرى، وعندما اتيحت لهم الفرصة كان لهم نظام ادارة قائم على التعايش واحترام الآخر وقبول التنوع والاختلاف وصارت لهم مساهمات حضارية ضمن الدول الإسلامية الكبيرة ، وفي الوقت الراهن تأتي فكرة الإدارة الذاتية لأوجلان لتؤكد استمرارية الموروث السياسي والثقافي والحضاري وتضمن معيشة الكرد بثقافتهم ضمن الدول الموجودة . ([1])
كانت إحدى القواعد الإدارية المهمة التي رسخها المفكر عبد الله أوجلان هي فكرة التعايش بين الشعوب وفق فكر الأمة الديمقراطية، وهو ما ظهر جلياً في تجربة الإدارة الذاتية في التعايش بين الكرد والعرب والشركس والسريان والأرمن مع الحفاظ على هوية كل منهم، مما يفتح باب التساؤلات حول جوهر وماهية التعايش بين المكونات داخل فكر الأمة الديمقراطية.
إن حل القضية الكردية من وجهة نظر أوجلان وفق الحل الديمقراطي القائم على مفهوم الأمة الديمقراطية، يستند إلى اعتماد الحقيقة العلمية بوجود كردستان كحقيقة استمدت نفسها، من خلال نيلها هذا الاسم من منطقة جغرافية استمدت اسمها من تسمية سكانها الذين سموا بهذا الاسم من الشعوب الأخرى، وهي غير قابلة للمساومة بهدف إنكار وجود الأمة الكردية، أو التنكر لحقوقها، وقد فشلت كل المحاولات التي اتبعتها الدول القومية حين اختارت الحلول التصفوية والإبادة بأنواعها، منع هذه التسميات لتلك الجغرافيا وساكنيها من الانتشار والتداول. ([2])
وأكد فتحي محمود، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية في كتابه “العلاقات العربية الكردية”، أن أوجلان رأى عدم اعتماد مفهوم وفق الحل الديمقراطي القائم على مفهوم الأمة الديمقراطية، الانفصال عن الدولة كخيار وحيد لا بديل عنه للحل يمكن تصوره واعتماده، والحل الديمقراطي لا يتبنى مفهوم الدولة المستقلة كشرط لا يمكن تجاوزه، ولا يميل إلى تبني الحلول الدولتية الفيدرالية أو الكونفيدرالية كتصور مسبق للدولة القومية المشيدة، ولكنه لا يرفضها كخيارات يمكن لها أن تطرح على الساحة في رحلة البحث عن الحل الديمقراطي كمقدمة ومدخل صحيح للنفاذ إلى الحل الجذري، كون الفيدرالية تفسح المجال أمام إدارة المجتمع لذاته ديمقراطيا، ويتبنى مشروع الفيدراليات و الكونفدراليات الديمقراطية للمجتمعات، ويقدمها إلى الأمام كحل جذري في القضايا جميعاً.
أن مشروع أوجلان يقوم على مبدأ اعتراف الدولة بإرادة الفرد كأمة يحق لأبنائها إدارة أنفسهم بأنفسهم دون أن تتدخل الدولة في هذه القضية التي ستكون معنية فقط بالمجتمع الكردي وحده، مبيناً أن سلطات الدولة تتوقف عند حدود معينة حين تلامس إرادة الفرد في تلك الإدارة الذاتية، والحل الديمقراطي يستند إلى شرط أساسي يتطلب أن تلتزم الدولة القومية بالديمقراطية أسلوب ومبادئ وسلوك وقيم فعلاً لا قولاً.
فلما كانت الدولة القومية عاجزة عن تقديم الحلول الديمقراطية بحكم طبيعتها الاستبدادية فالمهمة على الأغلب ستكون ملقاة على عاتق القوى الاجتماعية التي يجب عليها أن تبحث عن تلك الحلول وتتبناها بسبب تمنع الدولة القومية وعجزها من خلال التوصل إلى حالة وفاق وطنية تصاغ مضامينها في عقود اجتماعية تكون دستوراً للدولة يحدد العلاقة بين المجتمع والدولة، وذلك الدستور يعين المجالات ويحدد المسؤوليات. ([3])
أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تعد نموذجاً لمحاولة تطبيق مفهوم الأمة الديمقراطية ولذلك تعيش حالة من السلام والأمن والتعايش المشترك بين المكونات كما أن الكومينات التعاونيات تعد الخلية الصغرى والأساسية في تنظيم المجتمع وعلى هذا الأساس تشكلت الكومينات في المزارع والقرى والأحياء على اعتبار أن الكومين هو لب الإدارة الذاتية نشأت من هذه الكومينات مجالس الأحياء والمدن والمقاطعات وصولاً إلى هيكلة الإدارة الذاتية، ومن الممكن حسب رؤية أوجلان الاستفادة من التشارك والتعايش الذي ضمن بقاء وازدهار واستمرارية الحضارة الإسلامية ، ولكن من يفهم مشروع الأمة الديمقراطية والإدارة الذاتية عليه أن يكون مطلع على التاريخ الإسلامي والدويلات الكردية فسيجد ويلاحظ المشتركات وخاصة الاختلاف في الوحدة. ([4])
فقد باتت مناطق شمال وشرق سوريا تنظم على أساس سبع إدارات ذاتية لكل منها خصوصيتها بحسب سكان منطقتها واجتمعت هذه الإدارات السبع في الستة من سبتمبر\ أيلول عام 2018 تحت سقف الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وفقا للنسق العقد الاجتماعي تتألف بنية الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من مجلس تنفيذي ومجلس تشريعي ومجلس قضائي مفوضية عليا للانتخابات ومحكمة دستورية عليا ومجالس محلية وهناك لجنة مشكلة الآن لدراسة تطوير هذه المنظومة.
أن التعايش بين المكونات، مبيناً أنه قد أقرت القوى والأحزاب والشخصيات والفعاليات المجتمعية والمؤسسات المدنية التي أعلنت الإدارة الذاتية الديمقراطية عقداً اجتماعياً ينظم أسس العلاقة بين تكوينات المجتمع القومية الإثنية والدينية في مناطق روج آفا وشمال سوريا وشرقها حافظ من خلاله على مؤسسات الدولة الوطنية الموجودة وقامت الإدارة بتشكيل مئات المؤسسات والمجالس في القرى والأحياء والمدن علاوة على تأسيس مستوى متقدم في الحماية الذاتية عبر وحدات حماية الشعب والمرأة التي تحولت إلى قوات سوريا الديمقراطية من شعوب مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية من كرد وعرب وسريان الآشوريين.
إن مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية لا تقبل مفهوم الدولة القومية والعسكرية والدينية والمركزية في الإدارة والحكم المركزي ومنفتحة على أشكال التوافق مع تقاليد الديمقراطية وتعددية يستطيع جميع المجموعات الاجتماعية والهويات الثقافية والاثنية والوطنية أن تعبر عن ذاتها من خلال تنظيماتها واحترام الحدود السورية ومواثيق حقوق الإنسان والحفاظ على السلم الأهلي والعالمي.
لقد حققت شمال وشرق سوريا فكر أوجلان ومبادئ ميثاق العقد الاجتماعي وبناء المجتمع الديمقراطي من خلال الإدارة الذاتية الضامنة للعدالة الاجتماعية وإقامة مجتمع متمدد فقد توحدت أهداف كل مكونات مجتمع الإدارة الذاتية الديمقراطية من كرد وعرب وسريان وأرمن وشيشان وغيرهم على أساس قاعدة الوحدة في التنوع واتفقت مع إرادة بقية مكونات الشعب السوري لتكون مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية ضمن سوريا التعددية الديمقراطية كنظام سياسي وإداري للمجتمع وتجسيدا لهذه الإدارة. ([5])
ونتجول الآن في قراءة وتتبع لتاريخ النظم الإدارية للإمارات الكردية، فقد ظهر الكرد في الدولة الإسلامية بهُوية مميزة منذ قيام الدعوة الإسلامية وعرف عن جابان الكردي أنه من صحابة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ثم كان لهم تواجدهم الإداري المتميز في ظل الخلافة الأموية إلى أن صارت لهم إمارات مستقلة تنعم بالحكم الذاتي مع التبعية الإسمية للخلافة وحدث ذلك إبان حكم الدولة العباسية.
وكانت تجربة الكرد ضمن الدول الإسلامية الكبيرة تحت مظلة الخلافة في القرون الوسطى الإسلامية تجربة مهمة جدا لأنها أمنت تطور الثقافة والأدب الكردي وحفظت العلوم والفنون التي برعوا فيها وأظهرت كيف أن الكرد عاشوا وفق ثقافتهم وخصوصيتهم وهويتهم ضمن الدول الإسلامية ، والان يبحث الكرد عن ثقافتهم وهويتهم ولكنهم يتصادمون مع العقليات والذهنيات القادمة من الغرب والآحادية والتى صنعت التشزم وتهميش الآخر،وكما يشير اوجلان دائما أننا يمكننا التشارك والتعايش وبذلك تبنى الحضارات.
والسؤال المطروح كيف نجحت الإمارات أو الدويلات الكردية في الحكم الذاتي والمساهمة في البناء الحضاري والقدرة على التعايش خلال القرون الوسطى الإسلامية؟
وجاءت النظم الاقتصادية الكردية خلال تلك الحقبة الإسلامية لتؤكد على نظرية أن من يمتلك قوته يمتلك قراره فتباينت وتنوعت وتعددت الانشطة الاقتصادية الكردية وأحسن رأس الهرم الإداري في الإمارات الكردية إدارتها مما انعكس بشكل جلي على الهيكل الإداري وساعد في نجاح الحكم الذاتي.
فقد اعتمد الأكراد على الرعى بشكل أساسى ورئيسى؛ فكانوا يخرجون إلى المراعى فى الشتاء والصيف، وعمل بعضهم أيضاً فى الزراعة والصناعة والتجارة وكانت لهم هوية اقتصادية وإدارة منمازة منذ ظهورهم المؤثر على مسرح الأحداث السياسية وحتى خلال حقبة الإمارات المستقلة فجاءتالإدارة الإقتصادية للإمارات الكردية متمثلة في الرعي : اعتمدت الإمارات الكردية علي حرفة الرعي بشكل أساسي ، ويُمثل الرعي لها حرفة اقتصادية أساسية ، لا يمكن الاستغناء عنها ، وهذا ما دعاهم إلي تتبع المراعي ، والبحث عنها صيفاً ، وشتاءً([6]).
وقد كانت قوة الأكراد تقاس بمدي تحكمهم في المراعي ، وطرق الرعي ، وكثيراً ما حدثت صراعات ، ونزاعات حول السيطرة علي هذه المراعي([7]).واحتل الرعي المرتبة الأولي لدي أغلب الدويلات الكردية .
لذلك تحركت القبائل الكردية إلي مناطق السهول في فصل الشتاء ، وإلي الجبال في الصيف ، بسبب قلة المراعي في السهول في تلك الآونة([8]).وبلغت نسبة العاملين بالرعي من الأكراد ما بين رجل إلي عشرة رجال من البيت الواحد كانوا يخرجون إلي المراعي في المشتي ، والمصيف([9]). وعرف عنهم التعايش وحسن العلاقات مع جميع الجنسيات والثقافات المختلفة.
وقد عمل أكراد الدويلة الروادية الكردية بالرعي ، واعتمدوا عليه كمهنة رئيسية([10])،أما عن أهم مناطق الرعي عندهم فكانت فوق سلاسل جبال زاجروس ، وفي مدينة تبريز وأيضاً في أعالي آذربيجان([11]) ، هذا بجانب بعض المناطق في أرمينية([12]).
كذلك قام أكراد الدويلة الشدادية الكردية في آران وبعض مناطق أذربيجان وبحيرة أرمينية وكانوا يقضون الشتاء علي الهضاب التي تمتد علي نهر الزاب الأعظم وأحياناً كان أكراد الروادية يستخدمون هذه المناطق في رعيها([13]).
وعلي الرغم من ازدهار الزراعة في المناطق السهلية ، والأودية بداخل الدولة الدوستكية- المروانية الكردية ؛ بسبب التربة الخصبة ، ووفرة المياه([14]) ، إلا أن الرعي كان له نصيب أيضاً فعمل الكثير من الأكراد الدوستكيين به ، وكانوا يرعون في المناطق الجبلية، وحول مدينة آمد وميافارقين([15]) . وكان للرعي مكانة هامة ، وضرورية لدي أكراد الدويلة العيارية الكردية ، وإمتهن به الكثير منهم ، وكانوا يرعون في المناطق الجبلية ، ويزرعون في الأودية ، والسهول([16]).
وقد انحصرت معظم أعمال أكراد الدويلة الحسنوية في عملين : الأول : رعاية الغنم، والماعز في المرتفعات ، والمناطق الجبلية فكانوا يأخذون قطعانهم إلي المراعي الجبلية في الصيف ، ويعودون للقري ، والوادي في الشتاء . ونال الرعي أهمية كبيرة لديهم ، وإحتل مكانة متميزة . ومردود ذلك إلي كونهم مجتمعاً قبلياً يمثل الرعي أهمية خاصة لديهم ، فهو موروث عندهم من قديم الأزل([17]).
وقد امتلك الأكراد عدداً كبيرً من الحيوانات مثل الأغنام ، والإبل ، والماعز([18]) ، هذا بجانب الجاموس ، والبقر ، والخيول([19]) ، وكانت هذه الحيوانات تعتمد علي المراعي في غذائها([20])، ومثلت هذه الحيوانات أهمية كبري للأكراد ، ولاقتصادهم.
وسكن الأكراد الرعويون في خيام تنصب في أماكن الرعي([21]) .وكانت خيامهم منسوجة من شعر الماعز الأسود ، وكانت تقام علي شكل صفوف طويلة([22]) ، وتم استخدام الخيام في السكن بسبب كثرة تنقل الأكراد من مكان لآخر بحثاً عن المراعي صيفاً ، وشتاءً([23]).
ومن خلال كل ما سبق يتضح لنا : أن حرفة الرعي كانت تعد من أهم الحرف الاقتصادية لدي الأكراد وعلي الرغم من معرفة الزراعة ، والاعتماد عليها في بعض المناطق ، إلا أن الرعي ظل يحظي بمكانة ، وأهمية كبري . ويعود السبب في ذلك إلي أن الكردي بطبيعته بدوي يعشق الجبال ، والصحراء ، كما يعشق الحيوان وركوب الخيل والرعي([24]) ، وكان الكردي يري أن العمل في الرعي يجعل الإنسان قوي الشكيمة ، شجاعاً ، يستطيع التعامل مع الطبيعة ، ومخاطرها([25]) ، ثم جاءت الزراعة في المرتبة الثانية بعد الرعي من حيث الأهمية .
أما الزراعة : ففي حقيقة الأمر أن للزراعة أهمية كبيرة لدي أي شعب ؛ لأنها تحقق نوعاً من الاستقرار، وتحول الحياة من بدوية إلي حضرية بالإضافة لتحقيقها رواجاً اقتصادياً ، فكانت الزراعة ذات أهمية كبيرة عند الأكراد ، وتلت الرعي في الأهمية ، وكانت تصعد إلي المرتبة الأولي في بعض المناطق ، وقد عرف الأكراد الزراعة ، وعملوا بها منذ وقت مبكر ، وكانوا منقسمين إلي فئتين : الأولي : تعمل بالرعي ، والثانية : تزرع في المناطق الصالحة للزراعة ذات الخيرات الوفيرة([26]).
وعمل أكراد الدويلة الروادية الكردية بالزراعة ، وجاءت في المرتبة الثانية بعد الرعي، وزرعوا القمح ، والشعير ، وغيرها من المحاصيل الأخرى في مناطق متفرقة من آذربيجان([27])، فعرف عن هذا الإقليم ، إنه يمتلك الأرض الخصبة والخيرات الوفيرة بجانب امتلاكه للعديد من الجبال([28]).
كذلك اهتم أكراد الدويلة الشدادية بآران بعمليات الزراعة ، وأعطوها الكثير من الاهتمام وشق حكامها القنوات ، والترع لري الأراضي([29]) ، وساعد علي ازدهار الزراعة لديهم : وجود نهر الرس ، والأودية ، والسهول الخصبة في كنجة ، وآني وغيرها من المدن الأخرى([30]) والتف أغلب سكانها حول المناطق الزراعية ، وتوطنوا بجوارها([31]).وكانت الزراعة تأتي بعد الرعي أيضاً لدي الأكراد الشداديين ، وعمل بها العديد من الأكراد فزرعوا العنب ، وأشجار الخشب([32]).وقد أولي الأكراد الحسنوية اهتماماً كبيراً بالزراعة ، فاحتلت مكانة متميزة ، وجاءت في المرتبة الأولي أحياناً ، وتلتها حرفة الرعي ، وقد حقق الأكراد الحسنوية رواجاً اقتصادياً نتيجة خراج المحاصيل الزراعية ، وهذا أعطاهم استقراراً اقتصادياً([33]).
وبلغت الزراعة أزهي عصورها في عهد (بدر بن حسنويه الكردي) 369هـ/979م فأصلح المجاري المائية ، وحفر آباراً جديدة واهتم بزراعة القمح ، والشعير ، وغيرها من المحاصيل([34]).
كذلك عمل الأكراد العيارية بالزراعة ، وساعدهم علي ذلك وجود مناطق كثيرة في حلوان صالحة للزراعة ، ووجود مصادر للمياه متمثلة في أنهار ، وآبار([35]) . وأهم المحاصيل الزراعية لديهم كانت أشجار التين ، والنخيل ، والرمان([36]).
وقد عمل أكراد الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية بالزراعة في مناطق عديدة في بلادهم ذات التربة الخصبة ، والخيرات المتعددة([37]) . وأهم المناطق الزراعية مدينة آمد([38])، بالإضافة لبعض المدن الأخرى ، مثل : ميافارقين ، ونصيبين ، وديار ربيعة ، ووجود نهر موارد الفرع الشرقي لنهر الفرات ساهم في ازدياد المناطق الزراعية([39]).
وأهم المحاصيل الزراعية التي زرعها الأكراد : القمح ، والشعير ، والذرة ، وأشجار العنب ، والبساتين([40]) ، والتبغ ، والنخيل ، وقصب السكر ، والتوت ، والرمان([41]) . وقد حققت الدويلات الكردية أموالاً كثيرة من الخراج المفروض علي المحاصيل الزراعية ، وساعدت الزراعة علي تحقيق الاستقرار الداخلي الذي ضمن لها الأمن ، وكانت هذه الدويلات تدفع خراجاً سنوياً للخلافة العباسية([42]).
أما إدارة التجارة الكردية :فقد ازدهرت التجارة في البلاد الكردية ، وعمل العديد من الأكراد بالتجارة([43]) ، وتاجروا في التوابل ، والبخور ، والخيل ، والحمير ، وكانوا علي علاقات تجارية مع الهند ، وغيرها من البلدان الأخرى([44]).
وقد ساعدت الطبيعة علي رواج عمليات التجارة في بلاد أذربيجان موطن الدويلة الروادية الكردية ، بسبب تعدد الطرق التجارية ، ونمو شجر البلوط ، والعديد من المحاصيل في أنحاء متفرقة بداخل أذربيجان ، هذا بجانب إنتاج أصناف من الثياب المصبوغة بالقرمز([45]).
وكذلك اهتمت الدويلة الحسنوية الكردية بالتجارة ، وأنفق (بدر بن حسنويه) عام 386هـ/996م حوالي (خمسة آلاف دينار) لغفارة طرق التجارة لخراسان([46]) وأقام خاناً في مدينة همذان عاصمة دويلته ، لتسهيل عمليات البيع ، والشراء ، ولتوفير البضائع ، والمنتجات التي يحتاجها أهل همذان([47]) ، وعمل أكراد الدويلة الشدادية بالتجارة ، ويمثل بحر قزوين أهم الطرق التجارية لديهم([48]).
وقد اعتمد الأكراد العيارية في بداية أمرهم علي قطع الطرق ، واعتراض القوافل التجارية المارة بهم ، وأسر رجالها ، ثم بعد ذلك أمنت طرق التجارة عن طريق دفع مبالغ مالية تكون بمثابة رسوم تدفع إلي (أبي الفتح محمد بن عيار الكردي) حاكم هذه الدويلة ، وأعقب ذلك العمل بالتجارة من قبل الأكراد العيارية أنفسهم ، وأمنت لهم دويلتهم طرق التجارة ، وساعدت علي رواجها([49]).
وكذلك كانت ديار بكر مقر الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية من أهم المناطق التجارية ، حيث أفادها موقعها الاستراتيجي وتحكمها في الطرق الممتدة من بغداد ، والشرق من جهة ، وسوريا والأناضول من جهة أخرى([50]) وامتلك الأمير أبو علي حسن بن مروان الكردي عام 380هـ/990م طرق التنقل من هضبة الأناضول إلي السهول([51]) ، وبلغت التجارة أوج مجدها علي (عهد نصر الدولة المراوني) واعتبرت مدينة ميافارقين عاصمة التجارة في تلك الآونة([52]).
وجاءت الصناعة وتأثرت الدويلات الكردية بجيرانها في مجال الصناعة ، وأتقن الأكراد العديد من الصناعات، ولكن اعتمادهم علي هذه الحرفة لم يكن بشكل أساسي .
واشتهر أكراد الدويلة الروادية الكردية بأذربيجان بصناعة النسيج ، وكانت مدينة أربل أهم المراكز الرئيسية لهذه الصناعة ، وعرفوا أيضاً صناعة السجاد ، والجلود من صوف الأغنام([53]) ، بالإضافة إلي بعض الصناعات اليدوية الأخرى التي ظهرت في مدينة تبريز التي أصبحت من أهم المراكز الفنية ، والصناعية([54]).
وقد مارس أكراد الدويلة الشدادية العديد من الصناعات ، ومنها علي سبيل المثال السجاد، والأواني الفخارية([55]) وأكثر من عمل بالصناعة هم البدو الرحل لا المزراعين ، وكان السجاد علي رأس مصنوعاتهم([56]).
وقد تشابهت الصناعات لدي جميع الدويلات الكردية ، واحتل النسيج ، وصناعة الجلود قمة الصناعات ، وإن اشتهرت صناعات النسيج عند أكراد الدوستكين بزخارفها الحية والنباتية([57]) هذا بجانب تميز مدينة آمد بصناعة الصوف والكتان والطيالة والثياب الموشاه والمناديل([58]).
كذلك تفوقت الدويلة الحسنوية بصناعة الخزف الجيري بجانب الصناعات الأخري السابق ذكرها ، واعتبرت مدينة همذان مركزاً رئيسياً لهذه الصناعات وازدهرت الحياة الاقتصادية بداخل هذه المدينة وتحسنت أحوالها([59]).
وعرف الأكراد العملة وسكوها في مدينة همذان وكانت عملتهم ذهبية وفضية وسرعان ما انتشرت هذه العملة في إقليم الجبل([60]).
وظهرت مهارة فنية لدي الأكراد العيارية في صناعاتهم الخزفية ، وأوانيهم الفضية([61])، والنسيج ، وعلي الأخص المنسوجات الحريرية([62]).
وقد دخلت هذه الصناعات ضمن العمليات التجارية راجت في العديد من المدن منها أربل، وحلوان ، وهمذان ، وعلي الأخص ميافارقين ، وآمد ؛ لسيطرتها علي أغلب طرق التجارة([63]).
وعلي الرغم من تعدد الصناعات في أماكن عديدة داخل مناطق الأكراد إلا أن حرفة الصناعة لم يمارسها الأكراد بشكل أساسي ، وكانت تأتي بعد انتهائهم من أعمالهم الزراعية، والرعوية . والهدف من وراء التصنيع كان توفير احتياجاتهم الضرورية . أما عن بقية متطلباتهم فكانوا يشترونها من المدن المجاورة لهم([64]).
كانت الحياة الاقتصادية بجميع مقوماتها لدي الدويلات الكردية المستقلة، ومما ساعد على تأصيل الهوية الكردية أن الاقتصاد المستقر والمهارات السياسية في التعايش السلمي والمشاركات مع كل دول الجوارخلقت بيئة حضارية وتميز في الأدب والثقافة والفكر الكردي ([65]) .
ومن مزايا الكرد في عصر الأمارت خلال حقبة الخلافة العباسية النظام الإداري:فمما لاشك فيه أن السمات الحضارية للدويلات الكردية تشابهت مع بعضها البعض ، وأحياناً كانت العناصر الحضارية الموجودة بدويلة كردية هي نفسها الموجودة بدويلة كردية أخرى . والشيء اللافت للنظر : أن هذه السمات الحضارية كانت تزدهر ، وتتفوق في دويلة كردية دون أخرى وجميعها قائم على الاستفادة من التشارك والتعايش .
غاية القول أن النظام الإدارة تميز بحكم الإمارات الكردية حكماً ذاتياً من قبل الكرد مع الحفاظ على التبعية الإسمية للخلافة العباسية وظلت الإمارات ساعد أيمن في يد الخلافة وقبلت جميع الاطياف والجنسيات والمعتقدات تحت مظلتها في حالة من التعايش السلمي والتنوع الحضاري وقبول الآخر.
أما عن النظام الإداري بداخل الدويلات الكردية ، فقد كان الأكراد في بداية أمرهم يعيشون تحت تأثير النظام القبلي ، ويحكمون من خلاله([66]) وكان علي رأس هذا النظام شيخ القبيلة ، أو (رئيس القبيلة) – وكانت له سلطة مطلقة علي جميع أفراد القبيلة([67]) ، وكانت له سلطة روحية عليهم ، بجانب سلطته السياسية([68]).
وقد تشعبت القبيلة إلي عدد من الطوائف ، وكان علي كل طائفة أمير يحكمها ، ويدير شئونها([69]) ، وبداخل القبيلة كان هناك احترام ، وتقدير للمشايخ ،ورجال الدين([70]).
وكانت هناك قواعد ثابتة موجودة بداخل كل قبيلة مثل : (الدية والفصل والتحكيم). ومضمون الدية أن من قتل يُقتل ، أو يقوم بدفع دية يقبلها أهل القبيلة ، وأما الفصل فهو يهدف إلي الفصل في المنازعات التي تنشب بين الأفراد . والقاعدة الثالثة وهي التحكيم، ويكون في كافة الشئون المتعلقة بالقبيلة([71]).
وعند قيام الكيانات ، والدويلات الكردية المستقلة ظلت تحت تأثير النظام القبلي ، ومردود ذلك يرجع إلي : أن هذه الدويلات قامت نتيجة اتحاد بعض القبائل ، والعشائر مع بعضها البعض مكونة دويلات مستقلة([72]).
وقد دخل النظام الإداري في مرحلة جديدة بإدخال بعض التعديلات عليه إبان حكم الدويلة الدوستكية – المروانية في ديار بكر ، وفي عهد الأمير (أبي علي حسن بن مروان الكردي) 380هـ/990م عندما استحدث نظام إداري جعل من الحاكم ، أو الأمير رأساً للدويلة الكردية، والهرم الإداري وتكون بيده مقاليد الأمور بداخل ولايته ، وكان أفراد عائلته يشتركون معه في الحكم وشاركهم الآخرين في الهيكل الإداري وامتازت الإدارة بالتنوع وقبول الآخر والتعايش السلمي والاستعانة بكل الكفاءات داخل نطاق حكم الدولة ([73]).وجاء بعد الأمير في الهرم الإداري الحاجب ، أو الوزير ، وكانت له مهابته ، وعليه تنظيم أمور الدولة ، والعمل علي إحداث نوع من الاستقرار الداخلي ، ويلي الوزير عارض الجيش ، وكان عليه إدارة كافة شئون الجيش([74]).
والعناصر المكونة للجيش الكردي كانت كلها من الأكراد ، وعرف عنهم أنهم قبل الدخول في قتال يقومون برفع الروح المعنوية للجيش ، عن طريق قراءة الآيات القرآنية ، وذكر بعض الشعر الحماسي([75]).ويلي عارض الجيش في النظام الإداري القضاة وكانوا يحتلون مكانة هامة ، ومتميزة ، ولا يتم التدخل من قبل الأمير في أعمالهم([76]).
ومن خلال هذا النسيج الإداري حكمت الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية ، ثم انتقل هذا النظام ، وطبق في باقي الدويلات الكردية (الروادية – الحسنوية – الشدادية – العيارية)، ولكن روح النظام القبلي كانت سائدة بداخل هذا النسيج والصفات القبلية انتشرت بين الأكراد.
يُعد النظام الإداري أحد الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها الدويلات الكردية في العصور الإسلامية وذلك من أجل تنظيم شؤونها الداخلية والخارجية، فقد شهدت هذه الدويلات تطورات ملحوظة في بنيتها الإدارية، متأثرة بالنظم الإسلامية التي شكلت الهيكل الأساسي للحكم. ومن خلال دراسة النظم الإدارية لهذه الدويلات، يمكننا التعرف على كيفية إدارة الشؤون السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، بالإضافة الى طبيعة العلاقة بين الحكام والرعية.
كان هناك استقلال إداري نسبي رغم ارتباط بعض الإمارات الكردية بالدول الإسلامية الكبرى مثل العباسيين والسلاجقة، إلا أنها احتفظت بدرجة من الاستقلال الإداري، حيث أدارت شؤونها الداخلية بشكل مستقل
وكان هناك أيضًا تأثر بالنظم الإسلامية حيث تبنت هذه الدويلات الكثير من الأنظمة الإدارية المستوحاة من النموذج العباسي، خاصة في الدواوين والقضاء والضرائب، وجود تنظيم إداري متقدم، ولم تكن هذه الدويلات مجرد كيانات قبلية، بل امتلكت أنظمة حكم متماسكة، تشمل الدواوين، الجيش، والضرائب، ما يدل على مستوى متقدم من الإدارة تجلت مظاهر التشارك والتعايش والأخذ والعطاء والمشاركة وحققت الإمارات الحرية للكرد والوحدة للعالم الإسلامي وكانت أشبه ب الإدارة الذاتية التي يتحدث عنها السيد أوجلان.
اعتمد القضاء على المزج بين الشريعة الإسلامية والأعراف القبلية، حيث لعب هذا التوازن دورًا مهمًا في تحقيق الاستقرار الداخلي داخل الدويلات الكردية. فقد كانت الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع، بينما ساهمت الأعراف القبلية في معالجة القضايا المحلية بما يتناسب مع طبيعة المجتمع الكردي، مما عزز من فعالية النظام القضائي وساعد في حل النزاعات بطرق تتماشى مع القيم السائدة واحتر جميع الثقافات والاختلافات العقائدية والعرقية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
وكان للجيش دورًا محوريًا ، حيث كانت القوة العسكرية عنصرًا أساسيا في استقرار وحماية الدويلات، حيث اعتمدت على الإقطاع العسكري والمرتزقة في بعض الحالات، لم تكن الدويلات الكردية كيانات منعزلة عن محيطها، بل حرصت على إدارة علاقاتها الخارجية بفعالية من خلال علاقات نشطة، اعتمدت هذه الدويلات على المفاوضات وعقد المعاهدات مع القوى الإقليمية المختلفة، سواء لتقوية التعاون السياسي والاقتصادي أو لضمان الاستقرار وحماية المصالح، وقد ساعد هذا النهج في تأمين موقعها، مما منحها قدرة أكبر على التكيف مع التغيرات والتحالفات الدولية في ذلك الوقت.
أحث الكرد نظماً إداريةً متطورة ، حيث تأثرت بالنموذج الإسلامي العام لكنها حافظت على خصوصيتها المحلية وعكست هوية مستحدثها. شملت الإدارة دواوين متعددة لتنظيم الشؤون المالية والعسكرية والقضائية، كما كان هناك تفاعل مع القوى الكبرى، ورغم الاستقلال النسبي الذي تمتعت به بعض الدويلات، إلا أن العديد منها ظل خاضعًا لنفوذ الدول الإسلامية الكبرى ولكن هذه النظم ادارة الأزمات وحقت توازان محلي واقليمي ودولي لأنها حافظت على حقوق الغير.
اعتمدت الدويلات الكردية على نظام الإمارة الوراثية، حيث كان الحكم ينتقل بين أفراد العائلة الحاكمة وفق تقاليد راسخة تضمن استمرار السلطة داخل الأسرة الواحدة. وقد أسهم هذا النظام في تحقيق نوع من الاستقرار السياسي، لكنه في بعض الأحيان أدى إلى صراعات داخلية بين أفراد الأسرة على الحكم. كما أن وراثة السلطة كانت تخضع لموازين القوى داخل الإمارة، مما جعل بعض الحكام يسعون إلى تعزيز شرعيتهم من خلال تحالفات سياسية أو دعم من القوى الإقليمية المحيطة، وكان لكل إمارة ديوان خاص يُعنى بشؤون الإدارة والضرائب.
اتسمت الدويلات الكردية بنظام إداري منظم يهدف إلى تحقيق السيطرة الفعالة على الأراضي التابعة لها، وضمان إدارة الموارد بكفاءة. ولذلك، قُسمت الإمارات إلى وحدات إدارية أصغر، مثل الولايات والقرى، حيث كان لكل وحدة حاكم محلي يُعيَّن إما من قبل الأمير مباشرةً أو يكون من زعماء القبائل الموالين للحكم. وكان هؤلاء الحكام المحليون مسؤولين عن تنفيذ القوانين، وإدارة الشؤون اليومية، والمحافظة على الأمن والاستقرار في مناطقهم، مع التزامهم بتوجيهات السلطة المركزية.
كما اعتمدت هذه الدويلات على نظام جباية ضريبي واضح، إذ كانت الضرائب تُجمع لصالح الدولة من مختلف الفئات السكانية، وتُستخدم في تمويل شؤون الدفاع، ودعم البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية للسكان. وكانت هذه الجباية تتم وفق قواعد محددة تضمن استدامة الموارد المالية، حيث فُرضت الضرائب على الأراضي الزراعية، والتجارة، وأحيانا على بعض المهن والحرف. ولعب هذا النظام الضريبي دورًا رئيسيا في تعزيز قوة الدولة، إذ ساعد في تمويل الجيوش، وإنشاء الحصون، وتطوير الطرق والأسواق، مما دعم الاستقرار الاقتصادي والسياسي داخل هذه الإمارات.
وكانت الدويلات الكردية بها نظام عسكري محكم حيث شكَّل الجيش أحد أهم ركائز الحكم في الدويلات الكردية، حيث كان الأداة الرئيسية لحماية الإمارة من الغزوات والحفاظ على الاستقرار الداخلي. وتكوّن الجيش عادةً من وحدات نظامية مدربة، إضافة إلى قوات قبلية كانت تُستدعى عند الحاجة لتعزيز الدفاعات أو خوض المعارك. وكانت هناك وحدات عسكرية متخصصة تتولى حماية الحاكم والقصور، إلى جانب قوات حرس الحدود التي كانت مسؤولة عن تأمين المناطق الخارجية ومواجهة أي تهديدات محتملة، وفي بعض الفترات، لجأت بعض الإمارات الكردية إلى الاستعانة بالمرتزقة، سواء من المقاتلين المحليين أو من خارج حدودها، بهدف تعزيز القوة العسكرية أو تعويض أي نقص في الجنود. وقد كان توظيف المرتزقة استراتيجية مفيدة في مواجهة الحروب المفاجئة، لكنها أحيانًا شكّلت عبئًا اقتصاديًا على الدولة، خاصةً في أوقات السلم. ومع ذلك، ظل الجيش الدعامة الأساسية التي اعتمدت عليها هذه الدويلات لضمان بقائها في مواجهة القوى الإقليمية المنافسة.
حافظت الدويلات الكردية على علاقة متوازنة مع الخلافة الإسلامية، حيث اعترفت بعض الإمارات بالخلافة من الناحية الشكلية، لكنها احتفظت بحكم شبه مستقل. كان هذا الاعتراف يُستخدم غالبًا كوسيلة لضمان الشرعية السياسية، دون أن يوثر ذلك فعليًا على استقلالية القرار الداخلي لتلك الإمارات، ولتأكيد ولائها الرمزي للخلافة، كان الحكام الكرد يرسلون الهدايا والضرائب السنوية، مما ساعدهم على تجنب النزاعات مع السلطة المركزية في بغداد أو القاهرة، حسب الفترة الزمنية. وفي المقابل، كانت الخلافة تمنح بعض الإمارات نوعًا من الحكم الذاتي، طالما أنها لم تشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الدولة الإسلامية الكبرى. هذا النهج سمح للدويلات الكردية بالحفاظ على استقلالها الفعلي، مع تجنب الصدامات المباشرة مع القوى الإسلامية الكبرى. ([77]).
نستنتج مما سبق أن: الإمارات الكردية في العهد الإسلامي تمتعت باستقلال إداري نسبي، وكانت للكرد هويتهم وثقفاتهم وخصوصيتهم رغم ارتباطهم بالخلافة الإسلامية من الناحية الشكلية، فقد طورت هذه الإمارات نظمًا إدارية مستقرة ومنظمة، حيث اعتمدت على الحكم الوراثي داخل العائلات الحاكمة، مع تقسيمات إدارية واضحة ضمنت إدارة فعالة للمناطق التابعة لها، كما كان النظام المالي يعتمد على نظام الجباية الضريبية، ما ساعد في تمويل الدفاع والبنية التحتية، بالإضافة إلى ذلك، لعب الجيش دورًا أساسيا في استقرار وحماية هذه الإمارات، سواء عبر الجيوش المحلية التي كانت تشكل القوة الأساسية للحكم، أو من خلال الاستعانة بالمرتزقة لتعزيز القوة العسكرية عند الحاجة، وحرصت هذه الإمارات على إدارة علاقاتها مع القوى الإقليمية عبر المفاوضات والتحالفات، مما ساعدها على الحفاظ على توازنها السياسي واستقلالها النسبي في ظل الخلافة الإسلامية.
والشىء اللافت للنظر بعد تأمل الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل نجد أن التجربة الإدارية للكرد في ظل الخلافة العباسية حققت نجاح غير مسبوق للأمة الكردية حيث حصُلت الإمارات الكردية على الاستقلال و كان أشبة بالنموذج الفيدرالي، أو “الحكم الذاتي” في العصر الحديث حيث ضمن التعايش السلمي مع كل الأعراق والقوميات والتبعية للخلافة العباسية والاستقلال الذاتي خلال الحقبة العباسية قدم نجاحات على الأرض برغم التنوعات الثقافية والاجتماعية التي تزخر بها المناطق الواقعة تحت سيطرة الإداراة الذاتية للكرد.
أخيرا، يمكن القول بأن الإمارات الكردية في العصر العباسي تمتعت بالإدارة الذاتية ، لما كانت الإدارة الذاتية قادرة على الصمود في ظل التحديات العديدة والتنوع والتبايين الفكري والثقافي والأيديولجي، ، أما في العصر الحالي تبقى تجربة نجاح الإدارة الذاتية مرهونة بالعديد من العوامل الداخلية مثل قدرة الإدارة على توليد الموارد الذاتية، واستمرار الحفاظ على التوازن بين المكونات الثقافية المختلفة في إدارة شؤون المجتمع، والخارجية مثل قدرتها على استيعاب شبكة التحالفات الجديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والضغوط الناجمة عن التحولات في بنية النظام العالمي ، والتغيير في أولويات القوى العالمية بالمنطقة ، والاستفادة من التشارك والتعايش ولاسيما أن الإمارات الكردية في العصور الوسطى الإسلامية تمتلك شواهد غير قيلية على النجاحات والتأثير في الحراك السياسي والحضاري وقدمت نماذج يحتذى بها في الفكر والأدب والسياسي وعلماء في مجالات شتى.
ويبقى شىء مهم أن نجاح الكرد تحت مظلة الخلافة الإسلامية على مر عصورها في تقديم التعايش السلمي والاسهامات الحضارية المتنوعة والمختلفة وكانت لهم بصمتهم حتى في العمارة والفنون كل ذلك تحت إدارة ذاتية في استقلال عن الخلافة مع الحفاظ على التبعية لها والصالح العام ووحدة الدولة فكانوا أداة بناء ولم يكونوا ابداً معول هدم ،لذا لو اتيح المناخ والبيئة المناسبة للإدارة الذاتية للكرددون عرقلة محلية أو إقليمية أو دولية سيكون لها نجاحات غير مسبوقة وتسطر تاريخ جديد لاستكمال ما مضى من تعايش سلمي تحت شعار تنوع لا اختلاف.
الهوامش:
( [1] ) إبراهيم محمد على مرجونة :الكرد في العصر العباسي ،دار التعليم الجامعي ، الإسكندرية ، مصر 2021م، ص 3-30
( [2] ) فتحي محمود: العلاقات العربية الكردية ،مؤسسة الأهرام الصحفية المصرية ، القاهرة ، 2021م ، 123صفحة ، مقال سيد مصطفى:” تجسدت بالإدارة الذاتية.. كيف رسم القائد أوجلان قواعد العيش المشترك بين الشعوب، القاهرة الأربعاء, ١٥ نوفمبر ٢٠٢٣ ANF NEWS.
( [3] ) فتحي محمود: العلاقات العربية الكردية ،المرجع السابق
( [4] ) العقد الاجتماعي، فقرة السلطة والإدارة الديمقراطية ، الكتاب الخامس ،صفحة 36، فقرةKCK أبعد التحول الى أمة ديمقراطية ، ص 405.
( [5] ) فتحي محمود: العلاقات العربية الكردية ،مؤسسة الأهرام الصحفية المصرية ، القاهرة ، 2021م ، 123صفحة ، مقال سيد مصطفى:” تجسدت بالإدارة الذاتية.. كيف رسم القائد أوجلان قواعد العيش المشترك بين الشعوب، القاهرة الأربعاء, ١٥ نوفمبر ٢٠٢٣ ANF NEWS.
( [6] ) ابن الصابوني : تكملة الإكمال في الأنصاب و الألقاب ، حققه و علق عليه مصطفي جواد ، مطبعة المجمع العلمي العراقي ، العراق ، 1377هـ ، 1957 ، ص 104.
و كذلك: كي ليسترانج : بلدان الخلافة ، المرجع السابق ، ص 104.
( [7] )Hugh Kennedy : OP. Cit . , P. 264.
( [8] ) جاسم محمد الخلف : المرجع السابق ، ص 411.
( [9] ) الاصطخري : المسالك والممالك ، تحقيق محمد جابر عبد العال ، مراجعة محمد شفيق غربال، الأدارة العامة للثقافة ، الجمهورية العربية المتحدة، ص 68.
( [10] ) Hugh Kennedy : OP. Cit . , P. 259.
( [11] ) عبد العليم رضوان : في جغرافية العالم الإسلامي ، جـ1 ، الطبعة الخامسة ، الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 1991، ص 278-279.
( [12] ) كاظم حيدر : المرجع السابق ، ص11.
( [13] )Hugh Kennedy : OP . Cit ., P250.
( [14] ) ابن خرداذبه : المسالك والممالك، المثتي ، بغداد ، 1889، ص 95.
( [15] ) كي لسترانج : المرجع السابق ، ص 41-43.
( [16] ) Mahrdad . R. Izady : Baundaris and Political Geography ,USA, 1992, http:// anthro-intro.htm., P.2 , Net.
-وكذلك : ب . ليرخ : دراسات حول الأكراد وأسلافهم الخالدين ، المرجع السابق ، ص 15.
( [17] ) Vera Saeedpour : Meet The Kurds ,1999. http :// www. Exec/ obidos/ subst/ home / home . htmi. P.3. Net .
-وكذلك: ليرخ : المرجع السابق ، ص 15.
( [18] ) الاصطخري : المسالك ، ص 115.
( [19] ) محمد فتحي الشاعر : الأكراد في عهد عماد الدين زنكي ، دار المعارف القاهرة ، 1991، ص 15.
و كذلك The World Book Encyclopedia ( Kurdistn) VII, London 1992., P.344.
( [20] ) Hugh Kennedy : OP. Cit . , P. 259
( [22] ) ب – ليرخ : المرجع السابق ، ص 15.
( [23] ) الاصطخري : المسالك ، ص 115.
( [24] ) أحمد تاج الدين : الأكراد تاريخ شعب و قضية وطن ، الطبعة الأولي ، الدار الثقافية للنشر ، القاهرة ، 2001، ص 44.
– و كذلك The World Book Encyclopedia : VII, Op. Cit ., P.344.
( [25] ) محمد فتحي الشاعر : المرجع السابق ، ص 26.
( [26] ) ابن الفقيه : مختصر البلدان ، دار صادر ، بيروت ، لبنان، 1302هـ ، ص 289.
( [27] ) ابن الفقيه : مختصر البلدان ، ص 289.
( [28] ) المقدسي : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، الطبعة الثانية، مطبعة بريل، ليدن، 1909، ص384.
( [29] ) ب. ليرخ : المرجع السابق ، ص 16.
( [30] ) محمد أمين زكي : خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتي الآن ، ترجمة محمد على عوني، مطبعة السعادة ، القاهرة، 1936م، ص 91.
( [31] ) محمد جاسم الخلف : المرجع السابق ، ص 412.
( [32] ) The World Book Encyclopedia : VII, Op. Cit P.344.
( [33] ) غياث الدين بن همام الحسيني : تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد و بشر ، جلد دوم ، ص438 وكذلك :
محمد أمين زكي : تاريخ الدول والإمارات الكردية في العصر الأسلامي، جـ2، ترجمة محمد على عوني، مطبعة السعادة، القاهرة ، 1367هـ، 1948، ص84.
( [34] ) ابن كثير : البداية والنهاية ، جـ11، ص378.
( [35] ) ابن حوقل : صورة الأرض ، ص 369.
( [36] ) كي ليسترانج : بلدان الخلافة الشرقية ، المرجع السابق ، ص 226.
( [37] ) ابن خراذبة : المسالك والممالك ص 95.
( [38] ) ابن الفقيه : مختصر البلدان ، ص 53.
( [39] ) عبد الرقيب يوسف : تاريخ الدولة الدوستكية في كردستان الوسطي ، الطبعة الأولي، مطبعة اللواء، بغداد، 1972، ص15،16.
( [40] ) ب.ليرخ : المرجع السابق ، ص 16.
– The World Book Encyclopedia : VII, Op. Cit ., P.344.
( [41] ) Encylopaedia Britannica : OP.Cit. , V13 . P.520
( [42] ) فتحي أبو سيف : المرجع السابق ، ص197.
( [43] ) المقدسي : أحسن التقاسيم ، ص 395.
( [44] ) ماركوبولو : رحلات ماركوبولو ، جـ1 ، ص 70.
( [45] ) كي ليسترانج : المرجع السابق ، ص 218.
( [46] ) محمد حسن الزبيدي : العراق في العصر البويهي ، المرجع السابق ، ص 185.
( [47] ) الصابئ : تاريخ الصابئ ، جـ8 ، ص 453.
( [48] ) علي حسني الخربوطلي : تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي، دار المعارف، القاهرة ،ص 70.
( [49] ) محمد حسين الزبيدي : المرجع السابق ، ص 70.
( [50] ) كليفورد.أ.بوزورت : الأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي ، المرجع السابق ، ص 87.
( [51] ) Hugh Kennedy : OP. Cit . , P. 265
( [52] ) الفارقي : تاريخ الفارقي ، ص 166.
( [53] ) Encylopaedia Britannica : OP.Cit. , V13 . P.520
( [54] ) م.س. ديماند : الفنون الإسلامية ، ترجمة أحمد محمد عيسي ، مراجعة أحمد فكري ، نشر بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين ، دار المعارف، مصر ، 1985 ، ص 215.و كذلك
Gerard chaliand: op.cit , p.139.
( [55] ) ب.ليرخ: المرجع السابق ، ص 17.
( [56] ) حسن نور عبد النور : “سجاد الأكراد بإيران دراسة أثرية فنية ” ، بحث نشر ضمن حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية ، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت ، الرسالة 165، الحولية الحادية والعشرون ، 1422هـ/2001م ، ص 16.
( [57] ) نعمت إسماعيل علام : فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية ، الطبعة الثالثة ، دار المعارف ، الإسكندرية ، 1982م، ص 89.
( [58] ) محمد حسن الزبيدي : المرجع السابق ، ص 144.
( [59] ) م.س. ديماند : المرجع السابق ، ص 144.
( [60] ) الاصطخري : المسالك ، ص 120.
( [61] ) نعمت إسماعيل علام : المرجع السابق ، ص 78.
( [62] ) م.س.ديماند : المرجع السابق ، ص 33.
( [63] ) Hugh Kennedy : OP. Cit . , P. 265
( [64] ) ب.ليرخ : المرجع السابق ، ص 17.
( [65] ) مازن بلال : المسألة الكردية ( الوهم و الحقيقة) الطبعة الأولي، بيسان للنشر، بيروت، 1993 ص 143.
و كذلك مينورسكي : الأكراد ملاحظات وانطباعات ، المرجع السابق ، ص 31.
( [66] ) المسعودي : التنبيه والإشراف ، مطبعة بريل ، ليدن ، 1893م ، ص 89.
( [67] ) كاظم حيدر : الأكراد من هم وإلي أين ، الطبعة الأولي ، منشورات الفكر الحر ، بيروت ، 1959م ، ص 23.
( [68] ) جاسم محمد الخلف : جغرافية العراق ، الطبيعية والبشرية ، الطبعة الثانية ، البيان العربي جامعة الدولة العربية ، 1961م ، ص 409.
( [69] ) الظاهري : زبدة كشف الممالك و بيان الطرق و المسالك ، صححه بولس راويس، المطبعة الجمهورية ، باريس ،1892،ص 136.
( [70] ) الحنبلي (قاضي القضاة أبو اليمين مجير الدين) : الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ، جـ2 ، منشورات المطبعة الحيدرية ، النجف ، 1388هـ/1968م ، ص 153.
( [71] ) جاسم محمد الخلف : المرجع السابق ، ص 409.
( [72] ) حميد رضا جلائي : المشكلة الكردية ، ترجمة و تقديم محمد علاء منصور ، سلسلة الدراسات الدينية و التاريخية ، مركز الدراسات الشرقية ، جامعة القاهرة، 2000، ص 56.
([73]) Hugh Kennedy : The Prophet and The Age of The Caliphates , Lpndon, P. 264.
([75] ) Majid Khdduri : War and Peace in the Lowe of Islam, London 1955., P.91
( [76]) Hugh Kennedy : OP. Cit . , P. 264.
( [77]) محمد أمين زكي :تاريخ الدول والإمارات الكردية في العصر الإسلامي، ترجمة محمد على عوني،مصر ، 1945، ص85-95،ص120-230، ص 150-160.