
بعد هدنة هشة دامت لفترة وجيزة من الهدوء، ازدادت التنبؤات حول سعي إسرائيل لخرق هذه الهدنة والإسراع باستئناف الحرب على غزة، حيث صعد “بنيامين نتنياهو” رئيس الوزراء الإسرائيلي من استخدام لغة الحرب، فالجيش الإسرائيلي يتبنى استراتيجية عالية المخاطر، من خلال التأكيد على أنه سيتم إعادة نشر قوات عسكرية في غزة، ويقدر عددها بعدد أكبر من العدد الذي تواجد بالقطاع سابقًا، وقد صاحب ذلك منع دخول المساعدات الإنسانية لغزة، ووجود خطة لتهجير الفلسطينيين منها، وصولاً إلى قرار مفاجئ من الحكومة الإسرائيلية بقيادة “نتنياهو” باستئناف الحرب، بالرغم من التداعيات السلبية على الأوضاع السياسية والاقتصادية داخل إسرائيل، فقد شنت القوات الإسرائيلية غارات جوية مكثفة على مناطق متعددة من القطاع، ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا بين قتيل وجريح، وأعلن الدفاع المدني في القطاع مقتل أكثر من 470 فلسطينياً، بينهم أطفال ونساء، والعدد في ازدياد جراء ضربات جوية شنها الطيران الحربي الإسرائيلي في قطاع غزة منذ استئناف إسرائيل للقصف الجوي 18 مارس 2025.
توقيت ودوافع استئناف الحرب:
جاء قرار استئناف الحرب في غزة بشكل مفاجئ، ولكنه يحمل عدد من العوامل والدوافع الني انطوت خلف كواليس اتخاذ القرار، وأدت بدورها لاشتعال فتيل الحرب مرة أخرى، وكان أبرزها:
- تزامن القرار مع إقالة “بنيامن نتنياهو” لـ” رونين بار “رئيس جهاز الأمن العام “الشاباك”، وهي سابقة ذات أصداء سياسية وأمنية هامة في إسرائيل، وبرر الأول أن السبب وراء الإقالة، هو سعي “بار” لابتزاز رئيس الوزراء لإبقائه في منصبه، عبر اختلاق تحقيق “وهمي” على حد تعبير “نتنياهو” من خلال قضية (قطر جات) التي يتهم فيها رئيس الوزراء ومساعديه بتحويل أموال من قطر، وهو ما أدى بدوره لإشعال المظاهرات الشعبية في إسرائيل ضد “نتنياهو” لإصراره على تمرير ممارسات وقرارات بشكل غير ديموقراطي.
- جاء إعلان قرار استئناف الحرب إثر إقالة الإدارة الأمريكية “آدم بولر” المبعوث الأمريكي المسئول عن متابعة ملف الأسرى الإسرائيليين، وذلك في إبان تصريحات البيت الأبيض عن الدخول في مفاوضات مباشرة مع “حماس”، بخلاف ما هو معلن من قبل “ترامب” من تهديدات وتوعدات لحماس والشرق الأوسط بجعله جحيم في حال عدم عودة الرهائن، ولكن “بولر” بعد لقائه بأعضاء من “حماس”، صرح بأنهم لم يكونوا شياطين في إشارة إلى إمكانية التوصل إلى حل سلمي ينهي الحرب الدائرة، وهو ما يرفضه “نتنياهو”، حيث أن مثل هذه المفاوضات المباشرة من المقرر أن تعطي “لحماس” نوع من الشرعية، كما يخشى “نتنياهو” من التوصل إلى حل يلزم بلاده بوقف إطلاق النار طويل الأمد، وهو ما يتناقض مع المخططات والرؤى الإسرائيلية لحكومته اليمينية المتطرفة في الفترة الحالية، والتي تميل لهدنة مؤقتة لاستعادة الرهائن، والوصول للمرحلة الثانية ولإنهاء الحرب بشروطها، وتحول دون أن تقوم “حماس” باستعادة قوتها.
- تخوف حكومة “نتنياهو” من بعض التغييرات الإيجابية في الموقف الأمريكي تجاه خطة إعادة “الإعمار المصرية ” لقطاع غزة والمقرر تنفيذها مع وجود أهالي غزة بالقطاع، والتي اكتسبت زخماً دبلوماسياً كبيرًا، وتأييدًا عربيًا وأوروبيًا، مما ينذر باحتمال ضياع الفرصة أمام حكومة “نتنياهو” واليمين الصهيوني المتشدد بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة وفق رؤية “ترامب”، مما دفع “نتنياهو” بالإسراع بإعلان استئناف الحرب على غزة دون مبررات ولا مقدمات تذكر.
- حرص “نتنياهو ” على التأكيد لـ”ترامب” الرئيس الأمريكي أن إعادة إشعال الحرب في غزة، وتهجير أهالها يحقق ويدعم مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومصلحة “ترامب” شخصيًا ليظهر في ثوب صانع السلام في العالم، حيث ينهي الحرب في غزة بتهجير الفلسطينيين خارجها من جهة، ومن جهة أخرى يدعم إسرائيل في إجراءات الضم غير القانوني للضفة الغربية، وهو ما ينهي ملف القضية الفلسطينية برمته، ويقدم جليل الخدمات للصهيونية العالمية، ويعبد الطريق أمام خريطة جيوسياسية جديدة للشرق الأوسط تنحو نحو تحقيق إسرائيل الكبرى.
- محاولات “نتنياهو” الإفلات من تهم الفساد والرشاوى الموجهة إليه، وذلك من خلال السعي بكل الطرق لزيادة فترة تواجده في السلطة لتجنب المحاكمة، والتذرع بالحرب وعدم استقرار الأوضاع في البلاد، وتصنع الأزمات الأمنية، لاسيما مع قرار النيابة العامة بالموافقة على تأجيل محاكمته على خلفية استئناف الحرب في غزة.
- تخوف “نتنياهو” من انسحاب وزراء اليمين المتشدد من الائتلاف الحكومي الخاص به، لاسيما بعد خروج” بن غفير” وزير الأمن الداخلي، وعودته إلى الحكومة بعد قرار استئناف الحرب على غزة، فضلاً عن تهديد “سموتريتش” وزير المالية بالاستقالة في حالة عدم العودة للحرب، مما جعل “نتنياهو” يسعى لمغازلة واجتذاب اليمين المتشدد لاتلافه من خلال استئناف الحرب، ودليل ذلك تعيينه لرئيس الأركان الجديد “إيال زامير” المهادن له ليقوم بتنفيذ رؤيته من دون نقاش أو تعديلات، وهو ما ظهر من خلال الإعلان عن بداية عملية عسكرية جديدة في غزة، ولكنها محدودة للسيطرة على محور (نتساريم) الذي يقسم غزة للسيطرة على التحركات شمالاً وجنوبًا، وذلك تجنبًا لإسقاط حكومته الائتلافية، وحدوث انتخابات مبكرة، مما يعني فقدانه للسلطة، والدفع بمحاكمته.
- اختبار قدرات رئيس الأركان الجديد “إيال زامير” وقدرات قواته، لاسيما بعد الخطة التي وضعها وتقدم بها لحكومة “نتنياهو” والتي تقضي بإمكانية هزيمة “حماس” في عملية برية جديدة ذات طابع مختلف تنفذ خلال شهرين، بغض النظر عن المشكلات التي تعاني منها قوات الجيش الذي أنهكته الحرب، والتصعيد في جبهات متباينة.
- رغبة ” نتنياهو” وحكومته في وجود هدنة لتتنفس الصعداء، وبناء قواته ولملمة جنود الجيش، وتنظيمهم من جديد.
- سعي “نتنياهو” لإنهاء المشكلات الداخلية لحكومته، لاسيما الخاصة بالموازنة؛ حيث تعجز حكومته عن إقرار الميزانية، وأزمة فقدان الثقة مع من يعرفون في إسرائيل “بحراس العتبة” وهم: كبار المسؤولين المهنيين في إسرائيل، وبوجه الخصوص من هم في سلك الجيش والقضاء والأمن ، حيث أدى التصادم بين “نتنياهو” وحكومته مع كل هؤلاء؛ إلى جملة من الإقالات لعدة وزراء ومسئولين كوزير الحرب السابق “يوآف غالانت” ورئيس الأركان “هرتسي هاليفي”، وكذا إقالة “رونين بار” مؤخرًا رئيس الشاباك، وبدء إجراءات إقالة “جالي بهراب ميارا” المستشارة القانونية للحكومة، إلى جانب إشكالية قانون تجنيد “الحريديم” والتبعات المترتبة عليه.
- محاولة “نتنياهو” تحييد السخط الشعبي الداخلي على سياساته الداخلية التي تضرب بالأسس الديمقراطية عرض الحائط، وتتعارض مع بعض القوانين، حيث تستأنف حاليًا الاحتجاجات الشعبية ضده سواءً بسبب الانقلاب القانوني أو من أجل الضغط عليه، وعلى حكومته لإنهاء الحرب وتبادل الأسرى، لاسيما وأن خرق الهدنة واستئناف الحرب قد يفضي إلى حرب طويلة، مما يعني قرارًا صريحًا بإعدام من بقوا على قيد الحياة من الرهائن الإسرائيليين بعد 16 شهراً على حرب لا طائل من ورائها ولم تحقق الأهداف التي اشتعلت من أجلها وهي القضاء على تنظيم “حماس”، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية، حيث الوضع المتأزم داخل قوات الخدمة الاحتياطية والانهاك الذي يعيشه الجيش الإسرائيلي الذي يخوض حرباً منذ حوالى عام ونصف، إلى جانب إغلاق مطار بن جوريون نتيجة استئناف الحرب وما يترتب عليه من مشكلات اقتصادية، إضافة إلى عنصر الهجرة العكسية.
ومما سبق يتبين لنا جليًا أن ” نتنياهو ” يشعل نيران الحرب في غزة بين فينة وأخرى لتحقيق مصالح شخصية له، وليس لتحقيق مصلحة عامة للشعب أو لدولة إسرائيل كما يدعي، فهو لا يهتم بمصير الأسرى ولا بحياتهم، لاستئنافه حربًا لا يعرف متى تنتهي، ولا مصير الرهائن فيها، وبالتالي فإن استمرار “نتنياهو” على رأس السلطة في إسرائيل، سيزيد الوضع تأزمًا لاسيما مع الدعم اللامحدود من قبل “ترامب” وحكومته، مما يجعل سيناريو التهجير القسري أو الطوعي لأهل غزة هو الأقرب، فإما المغادرة، أو الموت، لاسيما مع ما صاحب استئناف الحرب على غزة من خطط وصفقات لتهجير الفلسطينيين في أصقاع مختلفة من العالم فتارة إلى مصر، والأردن، وتارة إلى أرض الصومال، فجعبة “نتنياهو” و”ترامب” مليئة بخطط لا تنتهي للتهجير في إصرار على الحصول على الأرض خاوية من أهلها، وهو ما يهدد ليس فقط الفلسطينيين بل الوطن العربي كله والشرق الأوسط المستهدف لإنشاء دولة إسرائيل الكبرى.