ثقافة

شوام مصر فى التاريخ الحديث

تحليل: ياسمين السبع

     كانت مصر فى القرن التاسع عشر وتحديدا القاهرة والأسكندرية  مجتمع دولى للأجانب عامة وللعرب خاصة، لاسيما أهل الشام، وهو مصطلح يطلق على أهل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن مجتمعة غير أن العدد الأكبر من الجالية الشامية فى مصر كانوا من مسيحيي سوريا ولبنان، وقد تزايدت أعداد الشوام فى مصر منذ عهد محمد على، وما جاء به من إصلاح وانفتاح لمصر على العالم، الأمر الذى دعى محمد على لاستقطاب شباب الشام من ذوى الشهادات الأجنبية، التى حصلوا عليها من خلال إرساليات بلادهم إلى الدول الأوروبيه ، للمشاركة فى الأعمال المالية وأعمال الترجمة التى امتاز بها السوريون، أمثال انطون مشحرة وميخائيل كحيل ونقولا الترك والقس رفاييل، والذين كان لهم الفضل فى ترجمة العديد من الكتب التى مكنت المصريين من تخطى الحاجز اللغوى للمعرفة ،  وغيرها من المهارات التى أتقنوها وبرزوا في امتهانها .

    ساهم الحكم المصرى للمنطقة وتواجد الجيش المصرى بالأراضى السورية بقيادة إبراهيم باشا فى تطور العلاقات الشامية المصرية إلى حد كبير فاستقر العديد من المصريين بالشام حتى بعد سحب القوات المصرية عام 1840 ، فلم يكن التواجد المصرى للعساكر جميعا بشكل إلزامى وإلا ما بقى الكثير منهم بين الشوام، ليكمل حياته ويتزوج وينجب الأبناء،  كدلالة على تقارب الشعبين بشكل كبير .

    وفى عهد الخديوى إسماعيل ومع زيادة التطور التجارى والعمرانى والاقتصادى، الأمر الذى يتبعه بالضرورة إقامة مشروعات كبرى مثل قناة السويس والمزيد من الأنشطة الأجنبية على الأراضى المصرية، مما زاد من حاجة سوق العمل فى تلك الفترة لمهارات ولغات السوريين، وذلك على الصعيد الوظيفى فبالتالى زادت هجرة الشوام إلى مصر، أما على الصعيد التجارى فكان أغلب السوريين أصحاب تجارة ويفضلون العمل بها، وازدهر استيراد الحرير من دمشق وحلب، وكان التجار الشوام يستوردون السلع من بلاد الهند واليمن، واتجه بعضهم نحو شراء العقارات والأراضى الزراعية فى مختلف مناحى البلاد ، حتى أنه فى عام 1907 كان مجموع ثروات الجالية السورية المقيمة بمصر حوالى 50 مليون جنية تقريبا وهو ما يعادل 10% من مجموع ثروات أرستقراطي مصر قاطبة، وجدير بالذكر أن عدد السوريين المقيمين بمصر فى عام 1907 هو 34 ألف سورى بينما كان تعداد سكان القطر المصرى كاملا 11 مليون نسمة، بينما بلغ عددهم لعام 1920 خمسون ألف نسمه .

     وعلى الجانب الآخر من حاجة مصر للعنصر الشامى فى ذلك الوقت للأسباب المذكورة إلا أنه عانت بلاد الشام كولاية عثمانية من القمع السياسي والفكرى والاستبداد خاصة فى عهد السلطان عبد الحميد، الذى ضيق الخناق على المثقفين والأدباء وأصحاب الرأي، فلم يكن مسموحا بالمشاركات السياسية والحزبية، وهوجمت الصحف وأغلقت واعتقلت اصحابها، وتسيدت الديكتاتورية المشهد ولم يكن هناك متنفس، الأمر الذى لم يتناسب مع النهضة الفكرية والاصلاحية التى برزت فى صفوف المثقفين والأدباء والذى كان وليد انفتاحهم  على الحضارة الغربية من خلال الإرساليات التبشيرية الأوروبية التى فتحت المدارس وأسست المطابع ونشرت الكتب، وأنشأت الجمعيات فى بلاد الشام، فكان من الطبيعى أن يحدث نهضة فكرية ، وصحوة ثقافية.

    وأخذت الأصوات الصحفية والفكرية تنادى بالإصلاح،نظرا لسوء الأوضاع الإقتصادية  والسياسية وتدهور البلاد، بل وإلى أبعد من ذلك حتى نادت بالانفصال التام عن الدولة العثمانية، الأمر الذى كان له صدى قوى وردود فعل عنيفة من قبل السلطان عبد الحميد طيلة فترة حكمه (1876-1909) حيث شن حملة اعتقال وفرض غرامات مالية على أصحاب الصحف وإغلاقها ، وتم تعليق الدستور وحل مجلس النواب، وبات القمع الوحشي هو الأسلوب المتبع للقضاء على أصحاب الفكر فى البلاد  مما دفعهم للهروب إلى مصر بحثا عن المزيد من الحرية فى كنف بلد منفصل إداريا عن الدولة العثمانية.

      بالإضافة لتفضيل الخديوى إسماعيل للشوام عامة ولأدبائهم وفنانيهم خاصة والذى كان جليا للأشهاد، مما جعله يسعى لاجتذاب العنصر السورى من المثقفين والأدباء والصحفيين والترحيب بهم فى شتى ربوع البلاد، بدعم من رجال الفكر ورجال الدولة المصرية، أمثال على مبارك ورياض باشا الذى كان رئيسا للنظار، فكان يرسل المكاتبات لأصحاب الفكر السورى لدعمهم وتشجيعهم، والترحيب بهم فى مصر، ومن ذلك ما أرسله إلى فارس نمر صاحب جريدة المقتطف عندما علم برغبته فى نقل صحيفته إلى مصر عام 1885، فكتب إليه رسالة جاء فيها ” أخبرت أنكم عزمتم على نقل جريدتكم الغراء إلى الديار المصرية فسرنى ذلك لما تحويه من الفوائد الجليلة والنفع الدائم لكل بلاد رفعت راية علومكم فيها فلذلك ترحب مصر بالمقتطف الأغر وتحله محل الكرام الذين اشتهر فضلهم وعمت فوائدهم ” .

    ومن مثقفى سوريا الذين مارسوا أنشطتهم فى مصر نجيب حداد الذى نقل إلى مصر جريدته لسان العرب، وسليم تقلا الذى أسس صحيفة الأهرام سنة 1876 ، وجرجى زيدان صاحب مجلة الهلال التى تأسست سنة 1882 ، وجورج طنوس مؤسس مجلة الكوثر سنة 1899 .

    ولم يعنى ذلك حصولهم على الحرية المطلقة فى مصر، فإذا سمح لهم مناقشة شؤون بلادهم فى الجرائد، فلم يكن مسموح المساس بالذات الخديوية تحت أى مسمى شأنهم فى هذا كشأن المصريين تماما دون أى تفضيل ومن حاول منهم كسر القواعد إما الاعتقال أو إغلاق الجريدة أو اثنتيهما معا .

   وعن دور الأزهر فى حياة الشوام فى مصر، فكان لهم فيه رواق من أكبر الأروقة  وعرف باسم “رواق السادة الشوام” ومنهم من تصدى للإفتاء والتدريس فى الأزهر، كما شغل بعضهم وظائف قضائية ومناصب رفيعة، ومن هؤلاء أبناء عائلة الرافعى الطرابلسية ومنهم الشيخ عبد القادر الرافعى الذى كان شيخا لرواق السادة الشوام فى الأزهر، ثم مفتيا لديوان الأوقاف ثم عضوا فى مجلس الأحكام، حتى عين عقب وفاة الشيخ محمد عبده مفتيا للديار المصرية عام 1905  .

    ولعلنا أمام أمر حساس للغاية، أن يكون مفتى الديار المصرية من غير المصريين، وتحديدا من أبناء الشام، خاصة وأن الشعوب العربية تعتمد على  مرجعيتها الدينية دوما، فمنصب مفتى الديار المصرية ليس مجرد منصب رفيع الشأن وحسب، بقدر ماهو منصب رجل الدين الأول فى الدولة، والذى كانت له كلمة فى تلك الحقبة لها ميزان ثقيل فى ربوع الدول العربية جميعها ، فمسألة قبول الحكومة والشعب لمفتى شامى هذا أمر له مدلول قوى لمدى الرابط بين الشعبين، ومدى ثقة الحكومة المصرية فى رجالها من الشوام، لتسليمهم تلك المناصب الحساسة .

    وعند دخول الانجليز إلى مصر، كان للشوام الفضلى فى التوظيف من قبل الانجليز فى أهم وظائف الدولة، ربما بسبب إلمامهم بلغات عده، لاسيما الإنجليزية والفرنسية، فذكر تقرير ميلنر إحصاء عن نسبة الموظفين فى الوظائف العليا لعام 1905 فكانت 28% للمصريين، و42% للانجليز و30% للشوام .

    ولم يكتفى الانجليز بهذا بل عينوا العديد من الشوام فى الجيش الانجليزى فى مصر والسودان، سواء وظائف عسكريه أو كأطباء ومترجمون بمرتبات متميزة .

    وبناء عليه كان هناك فئة من الشوام موالية للاحتلال، مثل فارس نمر الذى وصف الاحتلال بأنه أكبر نعمه، وامتدح شبلى شميل الاحتلال قائلا ” إن مصر تحت سيطرة الإنجليز انتظم ريها واتسعت زراعتها وأثرى فلاحها وصارت حياته ذات قيمة وانتظمت ماليتها حتى صارت موضع ثقة العموم وبلغت الحرية فيها مبلغا تفتحت له أبواب السجون ” ، غير أن الشيخ على يوسف هاجمهم فى جريدته المؤيد، ومصطفى كامل أيضا، ومن أجمل ما كتب فى هذا الشأن كان عبد الله النديم ،والذى جائت كتاباته ممتلئة بالمودة والعتاب اللطيف ، فجاء فى مقال له فى مجلة الأستاذ عام 1893 ” أنا أخوك فلما أنكرتنى؟! ما الشام ومصر إلا توأمان أبوهما واحد يسوء الاثنين ما ساء أحدهما، فلم تنافر أبناؤهما وانحاز السوريون فى جانب بعيدا عن المصريين ؟ “.

   غير أن الغالبية العظمى من الشوام كانوا من مناهضى الوجود الإنجليزى ومنددين بذلك فى صحفهم ومنها جريدة الأهرام،التى ظلت أقلام كتابها من الشوام والمصريين تأرق الإنجليز،  حتى صدر قرار بإغلاقها أربعة أشهر فى عام 1884 ، وربما من أشهر الأقلام التى نددت بالإحتلال البريطانى، محمد كرد على بصحيفة المؤيد، أديب إسحاق، بشارة تقلا ،داوود بركات وكان رئيس تحرير للأهرام، جرجى زيدان، فكانت مواقفهم مساندة لمواقف مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ على يوسف، وهو أمر ليس بغريب فهم بذلك يدافعون عن حرية بلدهم أيضا .

    وعن أهل الفن من الشوام لدينا أبو خليل القبانى الذى أسس مسرحه بسوريا وأنتقل به إلى مصر، جورج أبيض وهو ممثل ومخرج مسرحى وتنصب كأول نقيب للمثلين فى مصر، عازفة البيانو فيكتوريا ملحمة، والرسام سليم الحداد ، الموسيقار سامى الشوا، الكومديانه بديعه مصابنى،  الروائي أنطون يزبك ، عازف الكمان توفيق الصباغ ، أسمهان وفريد الأطرش، وهم فى غنى عن التعريف، وغيرهم ممن أثروا ذاكرة الفن المصرى وأضافوا له مذاق شامى أحبه المصريون والوطن العربى قاطبه.

  وأخيرا وليس آخرا يمكن القول أن التواجد الشامى فى مصر اتخذ أنماطا عدة على مر سنوات تاريخ مصر الحديث، غير أنه لم ينقطع، ومع توالى الأحداث ومتغيرات المنطقة سياسيا، جاء العدوان الثلاثى على مصر، والذى لم يستطع إسكات إعلامها فى ظل التواجد السورى، وفى صبيحة تدمير محطة الإذاعة المصرية، سمع العالم بأسره الإذاعة السورية تبث ” من دمشق هنا القاهرة ” فجاء الصوت السورى مرمما للإباء المصرى، وفى أحداث سوريا عام 2011 عادت القاهرة تزخر بالسوريين مرة أخرى وعاد التبادل الثقافى والمعرفى وانتشرت بالقاهرة المحال السورية ذات الطابع الشرقى الخالص، وحفظ السوريون شوارع القاهرة عن ظهر قلب، حتى أننى يوما ما فقدت عنوان وجهتى فسئلت أحدهم والذى اتضح لى من لكنته أنه سورى، فوصف لى العنوان بدقة بالغة يصحبها بشاشتهم المعهوده، يحفظ شوارع مدينته ولا احفظها، كمثال على مصريته التى لا فرق بينى وبينه فيها،  وعقب سقوط النظام السورى فى أخر عام 2024 شاهدنا ردود أفعال الشارع المصرى من اعتراض على عودة السوريين إلى بلادهم .  

      واليوم وحين يتجول سائح أوروبى أو إنجليزى فى مصر، ومن خلال النظر إلى بعض الطرز المعمارى فى القاهرة ،  فهذا بيت السحيمى، وهذا بيت الألفى، جميعها على النسق الشامى ، فمن السهل التخمين أنه حفر يوما الدمشقيون تاريخهم هنا على أحجار قاهرة المعز، رافضين إلا أن يكونوا من أهلها وأن لا يمروا مرور الكرام.

     هكذا عاش السوريين والمصريين معا فى شوارع المحروسة، ربما لم نفرق بين أحدهما إلا من خلال أن هذه شقراء وتنطق حرف الألف بالإمالة، وهذا كث الشارب ومستعد لأن يكرم عينيك .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى