الإحتواء المزدوج للدورين التركي_الإيراني في الشرق الأوسط
تحليل: د.رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

توطئة
عززت الأنظمة الحديثة المعاصرة، من دور الدولة بتثبيت حقّها في ممارسة العنف بمفردها، وبضرورة أن تكون السلطة في ممارساتها الشاملة محايدة، أمّا في الواقع فقد سادت أنظمة الغلَبة، تارةً تحت إسم الأقلّية وطوراً بإسم الأكثريّة، وتتصاعد اليوم إعتراضات المكوِّنات الطائفية والإثنيّة والجهويّة، التي تشكو من الغلَبة والتمييز، وهي مشكلة في سورية والعراق واليمن ولبنان والسودان، حيث عملية الخروج من الإضطراب بعد فشل الأنظمة الشمولية وأنظمة الأقلّويات والميليشيات، باتت سمة ومِحنة دول المشرق العربي واليمن والسودان.
إن عملية الإرغام عنوةً أو إحتكار العُنف وحقّ الدولة أو السلطة الشرعيّة في ذلك، هي مقولة السوسيولوجيّ الإلماني ماكس فيبر، فيما يقول مفكّرون قد نقدوا الخطاب الإستعماري اليوم، إنّ إحتكار العنف هو شأن الدولة الحديثة، سواء إتّبعت الآليّات الديمقراطية أو لم تتَّبِعَها، فأصل هذه الفكرة يعود لتوماس هوبز، الذي قال بسوء الطبيعة البشرية، وإنّ الإنسان لا يكتفي بحاجاته الأساسية، ويميل على الدوام إلى تكبير حصّته بالقوّة، فيتصدّع المجتمع وينهار بسبب حرب الجميع على الجميع، لذلك صارت صيغة العَقد الإجتماعي عنده تكمن، بتسليم الجميع لسلطةٍ واحدةٍ، هي المَلك أو الدولة المُحتكِر للعنف وبتملُّك حقّ الإرغام، ويستطيع ممارسة القوّة ضدّ الجميع عندما يخرجون جميعاً أو تخرج فئات منهم عن مقتضى هذا العقد، ولذلك في الصيغة الأصلية لا تعني العدالة والإنصاف ومراعاة الحقوق، بل أن تكون السلطة شموليّةً، ليس فيها تمييز في إستخدام القوّة عندما يكون ذلك ضروريّاً، وقد تعرّضت هذه الرؤية لنقدٍ كثيرٍ، لكنْ لم يشكّك أحدٌ في أصلها، وهو أنّ العنف يقع في أصل الدولة، وينبغي أن يكون من حقّ جهةٍ واحدة، وإلّا صارت الحروب الأهليّة هي الحالة السائدة والمعمَّمة، أما في المرحلة الجديدة، هناك دائماً إندفاعٌ نحو نظام الغلبة من أقلّوية أو أكثريّة، وفي الحالتين ما عاد الإستقرار ممكناً أو مضموناً.
هذا العنف غير الإنساني لا يمكن الخروج منه، إلاَّ بسلطة الإرادة العامّة، التي تظهر من خلال الإقتراع العامّ أو الإنتخابات، فالأكثريّة التي تأتي بها الإنتخابات هي التي تحكم، أو تملك ولو مؤقّتاً سلطة إستخدام العنف، وإستجدّت على ذلك آليّات حفظ الحقوق الأساسية للأقلّيات، إستناداً إلى فكرة المواطنة، ويفترض أن تكون الأكثرية سياسية، لكنّ الواقع أنّها كانت في غالب الأحيان دينية أو إثنية أو جهويّة فئوية، وإن لم يبدُ ذلك بوضوحٍ قصداً، وهكذا قد يصبح حقّ الدولة في إستخدام العنف نوعاً من الغلبة لفئةٍ على سائر الفئات، وبالكفاءة المتطوّرة في واللعب على المتناقضات الإجتماعية والتدخّلات الخارجية، تصبح الفئة المسيطرة بالإنتخابات أو بدونها، هي الأقليّة المنظّمة بالمعاني الدينية أو الإقتصادية أو السياسية.
هذه القضية صارت معضلة اليوم وتعمَّمت عالمية، بعكس ما كنّا نظنّ أنها قاصرةً على الدول الجديدة في آسيا وإفريقيا، التي يسود فيها غالباً حكم الجيوش بإعتبارها أقلّيات منظّمة، لكن مع عودة الدِيْن وتفاقم الوعْي بالخصوصيات، عادت الأقلّيات المنظّمة لتسود في كلّ مكان، فقد سقطت الإمبراطوريّات، ثمّ سقطت الدول القومية، والدول الديمقراطية المتقدّمة، والأخرى الوطنية صارت معرّضة للتهديد الشديد في بُناها الداخلية المتنافرة والمتناقضة، وعلى الرغم من إدخال ضمانات كثيرة على نظام الدولة، تعود لحقوق الإنسان ولمنع تعدّي القوى الكبرى على الصغرى، لكنّ الضمانات للجهتين دخَلها إختلال شديد، فنجد علّة ذلك في الشكاوى المتصاعدة في بلداننا بمنطقة الشرق الأوسط، من سيطرة الأقلّيات تارةً، وتارةً أُخرى من سيطرة الأغلبيات، ويحدث هذا في سورية والعراق ولبنان والسودان واليمن، والشكاوى ليست جديدة، بل تعود لخمسينيات وستّينيات القرن الماضي، لكنّها تفاقمت بوتيرة سريعة في العقود الأخيرة.
وقد أُثيرت هذه الظاهرة اليوم بقوة بعد سقوط نظام آل الأسد في سوريا، وسيطرته لأكثر من خمسين عاماً على الحكم، فهي كانت سيطرةً للأقلّية العلويّة بغطاءٍ إيديولوجيّ شوفيني شفّاف بعثي _ قومي، وبعد هذا السقوط جرى إعتبار الحركة التي إستولت على السلطة في دمشق طائفة من الأكثرية السنّية، قد حضرت بعد طول غياب، وعلى الفور تصاعد تذمّر العلويين الذين فقدوا السلطة أو بعضهم، و صار عند الكرد ريْبة، وكذلك الدروز، وتحت حجّة الإستئثار بالسلطة، وهم يريدون أمرين متناقضين يتعلَّقان بحقوق المساواة بالمواطنة، والتمايز في ما يشبه الحكم الذاتي، ولأن سوريا تشكل العمق الجيوسياسي في إقليم الشرق الأوسط، لم يقتصر تأثير سقوط النظام فيها على الوضع الداخلي في البلاد، وإنما إمتد تأثيره ليشمل المنطقة عامة، ولا سيما الدول التي دعمت الثورة السورية على المستوى الإنساني والعسكري والسياسي كتركيا، التي بدأت تتمتع بنفوذ إقتصادي وعسكري خاص في عملية تحقيق الإستقرار وإعادة الإعمار في سوريا.
وبالمقابل، شكل سقوط نظام الأسد ضربة قاسية للمصالح الإستراتيجية للدول التي ساندت النظام، وقدمت له مختلف أنواع الدعم، الذي أخَّر سقوطه كل هذه السنوات مثل روسيا وإيران، والتي كانت قواعدها العسكرية تنتشر في المناطق السورية، إلى جانب وجود عشرات الفصائل المسلحة التابعة لها، فمع إنحسار الدور الإيراني بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وإنهيار حزب الله في لبنان، يبدو واضحاً اليوم تصاعد المنافسة الإقليمية لملء الفراغ على الساحة السورية والعراقية واليمنية واللبنانية، مما يفتح الباب واسعاً للسؤال بشأن ملء هذا الفراغ عسكرياً بين الدول الإقليمية، في الوقت الذي يشير فيه مراقبون إلى أن تركيا، قد تكون أهم رابح جيوإستراتيجي مباشر بعد هذا السقوط الحر لنظام دمشق.
هنا وفي هذا السياق، نشير الى أن المجتمعات يجب أن تبذل قصارى جهدها في مساعدة الأفراد، للحصول على فرص متساوية في الحكم الذاتي أو التمكين، وهذا يعني أن الأشخاص يجب أن تكون لديهم القدرة والوسائل اللازمة، لإختيار مسار حياتهم، وهو ما يجب أن يتم نشره بشكل متساوٍ قدر الإمكان في المجتمع ككل، وهو ما يُعرف بصفة عامة بالمساواة في الفرص، والمساواة في توفير الثروات المادية، والمعروف بصفة عامة بإسم المساواة في الناتج، وينظر إلى المساواة في الحكم الذاتي، بأفضل شكل ممكن على أنها مساواة في درجة تمكين الأشخاص لإتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم، وهي تهدف إلى نشر هذا التمكين بشكل واسع النطاق بحيث يُتاح للأشخاص المزيد من الإختيارات والسيطرة، مع أخذ الأوضاع والظروف في الإعتبار، والتدخل النشط للمؤسسات مثل الدولة في حياة الأشخاص، يكون بهدف دعم الإبداع الذاتي للأشخاص وليس ظروفهم الحياتية، وفي هذا الصدد يشير المفكر والمناضل “عبدالله أوجالان”، في معرض حديثه عن أزمات الشرق الأوسط، بشرحه نظام المدنية المركزية، التي لعبت دوراً أساسياً في المجتمعات التي يجب أن تبذل قصارى جهدها من أجل مساعدة الأفراد، للحصول على فرص متساوية في الحكم الذاتي أو التمكين، بما يعني أن الثقافة الشرق أوسطية موجودة منذ آلاف السنين، حيث المدنية المركزية مرتبطة بالسلطة المركزية، وتسير مع تمركز السلطة، ويشير في رؤيته التاريخية السائدة حول تشتُّت السلطة وتمركزها، فتكوين المركز المهيمن والأطراف، هو الديالكتيك الأساسي الذي يسير عليه مفهوم التاريخ نفسه، فيُعاد تشكيل القوى المهيمنة في أعقاب كل أزمة غابرة، حيث تتولَّد الأزمات من طابع النزاع الضاري لهذا السياق.(1)
حقوق المساواة بالمواطنة.. والتمايز في الحكم الذاتي.
لا تكفي المواطنة لوحدها، بل لا بدَّ معها من تمايز، فقد حدث الأمر نفسه من قبْل في العراق، حيث حلّت الأكثرية الشيعية محلّ البعثيّة السنّية، وزاد الأمر تفاقماً، التدخّل الإيراني الذي شرَّع الفوضى التعدّدية في كيانٍ تسرح فيه الحركات المسلّحة الشيعية والسنّية وتمرح، على الرغم من وجود الجيش والأمن والسيادة المدّعاة في كيانِ مستقلٍّ علناً.
الأميركيون هم من صنعوا نظام الفصل والإنقاسم العامودي في النظامَ العراقي، وصار على شاكلة النظام اللبناني الذي أرساه الفرنسيون قبل مئة عام، لكنّ النظام اللبناني، نظام تقسيم طائفي، ما كان يستحقّ أو يجب أن يقلَّد، فهو نظامٌ مضطربٌ دائماً، وتتحكّم فيه في كلّ حقبة إحدى أقلّياته، في حقبة العقدين ونصف العقد الأخيرة، تحكّمت الطائفة الشيعية بواسطة قوى مسلّحة تعمل حسب الإستراتيجية والأجندة الإيرانية، وقد إنكسرت وإنهزمت أخيراً أمام إسرائيل، فعاد شيء من التوازُن، ويجري الإصطلاح دولياً ولبنانياً، على أن يكون رئيس الجمهورية هو الأبرز في ترتيبات النظام، لكنّ دستور الطائف يضع السلطة بيد مجلس الوزراء، وهو منصبٌ للسنّة، ولذلك يشعر الشيعة بالصدمة بسبب الهزيمة، ويميلون للمناطحة والمناكفة بالداخل، وعاد السنّة يشعرون بالقهر، فلم يستقرّ نظام الغلبة بعد، لأنّ المشكلات المتراكمة ما سمحت للنظام بالإستقرار.
هناك إندفاع في المرحلة الجديدة نحو نظامٍ للغلبة من أقلّية أو أكثريّة، وفي الحالتين، ما عاد الإستقرار ممكناً أو مضموناً، لأنّ الوضع العالمي وصراعاته لا يسمح بذلك، الأكثريّة السورية تجرّب بعد طول غياب والغرق في الإستبداد الشمولي الأعمى، والأكثريّة العراقية الغالبة لا تُقنع حتى المشاركين فيها، فيما التوازن اللبناني هشٌّ وضعيف ويشوبه مخالفات كثيرة في ممارسة تطبيق الدستور، إضافة الى الفئات المختلفة التي تعبت من الحروب ومن سوء العيش، لكنّها ما تعبت من المناكفة.
إنّها دول الإضطراب في دنيا العرب بمنطقة الشرق الأوسط، والتي يزيد تعداد سكّانها على مئة مليون نسمة، والواقع تحت التأثير والضغط لدولتين وازنتين هما إيران وتركيا، في معاناة واضحة للقتل والتهجير والوقوع على حافة المجاعة، وتريد أميركا أن تقرّر كلّ شيء لديهم نتيجة الضعف المسيطر في صراعات المكوِّنات، فالعلّة تكمُن في تعدّد الجهات التي تمارس العنف، والأقلّيات إكتسبت وعياً جديداً، بسبب ضعف السلطة المركزية، بحيث صرنا أمام ضرورة ملحَّة للخروج من الإضطراب في المرحلة الجديدة، وهي مرحلة ما بعد الدولة القومية، بعد أن أصبح التطلع نحو الفدراليّات مشروعاً، وبعدما فشلت أساليب التسلط ونهج الإندماجيّة الإستبدادي ومعه الميليشيات الطائفية.
فمنذ إنطلاق ما يعُرف بثورات الربيع العربي، شهدت دول المنطقة تحوُّلات كبيرة، سواء على صعيدها الداخلي أو الخارجي، فداخلياً تزعزع إستقرار تلك الدول وتدهورت أحوالها الأمنية والإقتصادية، نتيجة لسقوط أنظمة الحكم فيها، بعد حفاظها على توازن المصالح لعقود عديدة، وخارجيًا بدت الظروف التي تمرُّ بها المنطقة، تشكل لحظة ألــ”مومنتم” المثالية لتدخل دول وقوى أخرى إقليمية ودولية، للتأثير في مسار تحوُّل تلك الدول، والحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب من تلك البيئة الجديدة، تلك النتيجة هي أوضح ما يكون في حالتي العراق وسوريا ولبنان واليمن، وقد أدَّى ذلك إلى إنهيار أو شبه إنهيار لسلطة الدولة القومية كليًا أو جزئيًا، فتُرِك المجال للقوى الإقليمية للتلاعب بمصائر شعوب تلك الدول، وعلى رأس هذه القوى تركيا وإيران، والتي تحوَّل دورهما تدريجيًا خلال السنوات القليلة الماضية، من دور الداعم للوضع الراهن، الى دور الوسيط، ثم إلى دور دعم الجماعات والفصائل المسلحة المختلفة، ثم أخيرًا التدخل المباشر على الأرض، كل ذلك يطرح التساؤل عن محددات وأبعاد هذه السياسات الإقليمية لهذين البلدين، فضلًا عن دوافعها، والمصالح المطلوبة من وراء إتباعها، والآثار والنتائج التي تنجم عنها.
التركي والإيراني: تشابه متكامل ونفوذ واحد
ربَّما يسأل البعض عن حقيقة الدور الذي تمارسه القوى الكبرى في الإقليم، عبر التحكُّم في مسارات التسوية، أو النزوع نحو إثارة القلاقل في المنطقة العربية والشرق الأوسط، هنا يحضر الى الذهن بالإضافة للدور الإسرائيلي المخرِّب دوماً، دور كل من تركيا وإيران في إطار تفاهمات مضمَرة وباطنية بينهما، على تبادل الأدوار وتقاسم النفوذ من دون الإعلان عن ذلك في أحيان كثيرة، كون المشْرب أو المنبع الإيديولوجي الذي ينتمي إليه الفكر السياسي لكِلا البلدين واحد، لكن أسلوب التنفيذ له طرائق مختلفة، وهذا هو مَكْمن العلَّة لدى الفكر الإخواني للإيديولوجيتين، القائم على إظهار عكس ما في بواطنهم، حيث نجد المثال الأكبر على ذلك في سوريا، والعلاقات الطيِّبة التي تجمع إيران بتركيا، رغم تناقض أجندتيهما كلِّياً في المِلف السوري، وبات السؤوال ملحاً حول خطورة هذين النظامين على المنطقة العربية وقضية فلسطين، التي قُضِمت تحت حجَّة إستحضار الموروث التاريخي أو النفوذ التاريخي لكِلا الإمبراطوريتين، تحت عناوين وشعارات إسلامية فضفاضة، باتتا عاجزتين عن تنفيذهما.
فيبدو أنَّ الدور المتوازن الناعم والخشِن في المنطقة العربية، التي سعت الى إقامته، هو الأقرب الى الوصف أو هو السِّمة العامة التي إتُصفت به سياسة كل من إيران وتركيا في المنطقة العربية، من دون أن نُلغي طبعاً قوة وحضور هاتين الدولتين الوازنتين في لعب الدور المحوري، لكن وفق قواعد منظمة لمنع إستخدام الشعوب رهينة سياسات عدوانية خشِنة، مارستها إيران طيلة أربعين عام ولمَّا تزل، واليوم تمارسها تركيا في مقلب إيديولوجي آخر ناعم، تتنقل من منطقة صراع الى أخرى، في حلبات النزاع في العالم العربي، وفي محيطه بالشرق الأوسط.
لقد صنعت إيران منذ بدء الحصار الغربي عليها، جيوشاً متقدمة كأدوات تنفيذية لسياساتها، ولمنع التدخل المباشر على أراضيها، إذا ما أراد الغرب وأمريكا ذلك، حيث تشكِّل هذه الأدوات جيوشاً في خط الدفاع الأول والثاني والثالث، تحت عناوين وشعارات إسلامية، منها تحرير بيت المقدس، وإسقاط المشروع الأميركي كشيطان أكبر، وإدارة الشر الأميركية، وليس بالضرورة أن تكون دائماً جيوشاً عسكرية في قتال مباشر، فيكفي أن تتعطَّل أي مبادرة سياسية كما كان يحصل في لبنان، رغم غرق البلد في الأمراض والأوبئة والإنهيارات المالية والنقدية والتوترات الإجتماعية، خدمة للمشروع الأكبر على طاولة تقاسم النفوذ بين طهران وواشنطن، فهذا دليل بات القاصي والداني يعرف مداركه وأبعاده، في رسم معالم السياسة الإقليمية لدول المنطقة العربية والعبث بها.
ولا بدَّ هنا من توصيف الوقائع موضوعياً، حيث تعطيل أي تسوية في المنطقة العربية في سوريا واليمن والبحرين ولبنان والعراق وفلسطين، وبغضِّ النظر عن الحُجج التي تُسوَّق هنا وهناك، إلاَّ أنه واقع وتدفع الشعوب العربية ثمنه غالياً، فهذا الأسلوب الخَشِن في ممارسة الدور، صار تخريبياً في أحيان كثيرة، نتيجة إنسداد الأفق في التسويات وعمليات التعطيل المستمرة لمدة نصف قرن، وهذا بدوره كثير وثقيل على شعوب فقيرة معْدَمة مقاومة ومناضلة، تريد أن تحيا حياة كريمة وعزيزة، حجزتها عليهم هذه الدول بتركيباتها المؤدلجة الباطنية، والتي صارت مخيفة في أدائها.
وهنا يأتي الدور التركي الذي كان عامل إطمئنان في أحيان كثيرة، ليتحوَّل فجأة ونتيجة الكبْت التاريخي المبطَّن، والذي أطَّرته الإيديولوجيا الفكرية الإسلامية المتناغمة مع السياسات الإيرانية، حيث حجزت أنقرة مساحة لرسم خطوط دفاع متقدمة وهجومية توازي خطوط الدفاع الإيرانية، وإستخدمت إيديولوجيا الفكر الديني المحمول بالموروث التاريخي، في الإستحضار للمعالم التي رسمتها في العراق، ومدَّت يدها الى دول الخليج وعبثت في سوريا وليبيا والسودان.
كانت السياسة التركية هادئة نسبياً وناعمة في أحيان كثيرة، فصارت سياساتها إندفاعية أكثر في محيطها، بعد أن تلمَّست التطورات المتسارعة في الإقليم وحمْلة التطبيع المجانية مع إسرائيل، فأرادت أن تحجز مقاعد لها في الصفوف الأمامية في لعبة تقاسم النفوذ على المنطقة العربية، لتنتقل من خط دفاع عسكري الى خط الهجوم المتكرِّر، مستخدمة القوة الخشِنة في أحايين كثيرة، التي صار لها بها فائض كبير تعجز عن إستيعابهم وإحتوائهم، وبذلك إقتربت أكثر من دور مقلق ومفاجىء، لكن بأسلوب وحوامل إيدولوجية مبهَمة، لأنَّها سريعة العطب في إنتهاء المفاعيل والدور، حيث يتحقق رسم السياسات الدولية من خلال القفزات والنقلات السريعة، كما تنتهج أنقرة، ولأنَّ المظلة العربية في إحتواء الظواهر النافرة والراديكالية أوسع وبمقدورها الإحاطة والإستيعاب أكثر، فهذه الظاهرة تاريخياً، غالباً ما أطَّرت وإحْتَوت وحَمَت وظلَّلت، كل المكونات التي إنضوت تحتها، في السياسة والأمن والإقتصاد والإجتماع، حيث مسار وتجربة الرئيس الراحل عبد الناصر لا زالت حاضرة في الأذهان.
فالكشف المبكِّر لعمليات التطبيع السريع، أظهر حقيقة الدور الإيراني والتركي، فبدل تراجعه وإعادة حساباته وتموضعه مع الواقع الجديد، والتحوُّلات الخطيرة المقدمة عليها المنطقة العربية وفلسطين، زادت الدولتان من منسوب تعطيلهما لأي مبادرة حل، على طول خطوط الإشتباك في المنطقة العربية، من اليمن الى غزة ومن أضنة الى ليبيا، وهذا معناه في التحليل السياسي، رغبة كل من أنقرة وطهران عدم ممانعتهما من إقامة علاقات تبادلية مع الكيان الصهيوني، لكن الإختلاف هو على طريق الوصول، بل هذا التعنُّت يبدو وكأنَّه سباق محموم نحو تموضع جديد رسمته أميركا كمسار قائم على فكرة القبول التطبيعي مع إسرائيل.
وفي علم السياسة، يتظهَّر أن القوى السياسية والدولة العميقة مثلاً في لبنان، بقيت متعنِّتة ومكابرة ولا تعترف بمطالب شعبها، بل أضرَّت بمصالحه عبر الفساد والنَّهب المنظَّم، ولم تعترف بضرورة قيام الإصلاحات السياسية، وسارعت الى التفاوض مع إسرائيل لرسم إتفاق الإطار لتقاسم النفوذ والإستثمارات النفطية والغازية….
هنا نذكِّر بأن المشروعان التركي والإيراني في المنطقة، يتشابهان تقريباً في كل شيء، في الحجم والقدرات وكذلك في الطموحات، حيث تمتاز إيران بموقع جغرافي إستراتيجي في نقطة تقاطع إقليمي ودولي تضم الشرق الأوسط والمشرق العربي والمحيط الهندي وآسيا الوسطى ومحيط بحر قزوين، وتركيا تضاهيها في أهمية الموقع فهي تتوسَّط أوروبا والعالم السلافي والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وشرق المتوسط، وكذلك في الأهمية الإستراتيجية المتبادلة، فإن إيران بوابة تركيا الجغرافية إلى آسيا وآسيا الوسطى، فيما تركيا هي بوابة إيران البرية إلى أوروبا، وتتشابه الدولتان لجهة عدد السكان والقدرات البشرية، أما على صعيد الموارد الطبيعية، فإن إيران تمتاز بثروات نفطية كبيرة جدًا تفتقدها تركيا، التي تحاول وتعمل حثيثاً لتطوير التنقيب عن النفط والغاز في مياهها الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط والبحر الأسود.
كما تتشابه الدولتان لجهة التنوع السكاني وتعدُّد الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية، فيما تختلفان لجهة طبيعة هذه الإنتماءات، خاصة لجهة الإنتماء المذهبي، فإن الغالبية في تركيا من السُّنة مع أقلية وازنة علوية، بينما الغالبية في إيران من الشيعة مع أقلية سنيّة وازنة، فيما تبدو السياسات الخارجية تتعارض بإتجاهات كلا البلدين، بين إنتماء تركيا إلى حلف شمال الأطلسي، والتطلع لتكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وبين وقوف إيران في صف معاداة الحلف الأطلسي، والسياسات الغربية في المنطقة والعالم، والتنسيق الممكن مع دول مشرقية مثل روسيا والصين، لكن الإختلاف جذري في مسألة الاعتراف التركي بإسرائيلـ ووجود علاقات متقدمة معها، فيما تعتبر إيران أن وجود إسرائيل باطل من أساسه ويجب اقتلاعه.
وفي محصلة عامة، فإن البلدين يتوازنان في الأهمية الجغرافية والقدرات البشرية والعسكرية، وكلك الماضي التاريخي، والتطلع خارج الحدود وهو الأهم، بحيث شكَّل هذا التوازن منذ عقود طويلة ولا يزال، رادعاً لأي منهما بمنع التصادم وجهاً لوجه، مع فتح مساحة التنافس على مصراعيها في الساحات الأخرى، وهنا يسجَّل لتركيا وإيران أيضاَ، أن الخلافات التي كانت تحصل بينهما مؤخراً حول الحدود، كانت تُحل سلميًّا من دون حروب، ومن الطبيعي أن يسجل تاريخ إعلان الجمهورية في تركيا، بداية مرحلة جديدة من العلاقات بينهما، إذ طوى البلدان مع تأسيس الجمهورية العلمانية عام 1923 ، مرحلة الصراع على أساس مذهبي، كما كانت في العهد العثماني السابق، مع إستمرار النزعة المذهبية وحضورها المبطَّن ضمنًا في العلاقات بين البلدين، وبرغم أن السياسة الخارجية للبلدين على إمتداد ما بعد الحرب الباردة، كانت منسجمة إجمالًا بينهما، على إعتبار أنهما ينسجمان مع السياسات الغربية في المنطقة في مواجهة الشيوعية والإتحاد السوفيتي، غير أن التطلعات القومية لكلِّ بلد، والسَّعي لتصدُّر مشهد الهيمنة والنفوذ في المنطقة، كانت تبرز كعوامل للتنافس بينهما على الصعيدين الثنائي وفي المنطقة.
هنا يبدو أن العام 1979، شكل محطَّة مفصلية أولى في تحديد طبيعة العلاقات بين البلدين، حيث قامت الثورة الإسلامية بقيادة الخميني، ورفعت شعار الدولة الإسلامية الدينية، لكن العمل على تصدير الثورة إلى الدول المجاورة من جهة، وإتخاذ الثورة شعار العداء للغرب وإسرائيل أظهرا أبعاداً مختلفة، كما شكَّل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002 محطَّة مفصلية ثانية في العلاقات مع إيران، فلم يكن الأمر في تركيا مجرَّد تناوب بين أحزاب على السلطة، بل كان حزب العدالة والتنمية يحمِل مشروعًا مثقلًا بالنزعة الإسلامية المذهبية الإخوانية والنزعة العثمانية، وهو ما أظهر نموذجًا معاكساً ومتناقضاً للنموذج الإسلامي الإيراني الشيعي، فهي المرة الأولى في تاريخ البلدين وفي فترة متزامنة تكون المنطقة، أمام نموذجين أيديولوجيين متضادينـ يحملان في الوقت نفسه أهدافًا داخلية وتطلُّعات خارجية، النموذج الإسلامي الشيعي الإيراني، والنموذج الإسلامي السني الإخواني العثماني التركي.
فعهد الشاهنشاه في إيران كان يحمل إرثًا إمبراطوريًّا فارسياً، ولكنه لم يكن يعمل على صياغة المجتمع على أساس عقائدي محدَّد، وفي الخارج كان يكتفي بالتناغم مع السياسات الغربية_الأمريكية، من دون التطلّع إلى نشر أيديولوجية محددة في الدول المجاورة مثلًا، وبالأصل لم يكن يكن يملك أية فكرة إيديولوجية بالمطلق، أيضًا ومع أن العهود الكمالية في تركيا كانت أكثر تشددًا في محاولة خلق نموذج كمالي قومي_علماني لدى الفرد التركي، لكن ذلك كان يواجه بتمرُّدات وإعتراضات واسعة في الداخل، وفي الخارج لم يكن يحمل الكماليون مشروعًا موحداً، ولا هدفًا محددًا لنشر الكمالية في الدول المجاورة، وكانت الكمالية تكتفي بإظهار التَّبعية للسياسات الغربية والأطلسية، وبأنها جندي الناتو في معظم القضايا، بل كانت علاقاتها مع معظم الدول علاقات الندِّ للندِّ، دون التدخل السافر في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
فيما أن الثورة الإسلامية في إيران أتت بمشروع إسلامي متكامل وواضح، صاغ الفرد الإيراني وفقًا لمبادئ الإسلام الشيعي في الداخل، وفي الخارج عملت على الترويج للثورة حيثما أمكنها ذلك، لكن التركيز كان بطبيعة الحال في المجتمعات التي تتواجد فيها مكونات تنتمي إلى المذهب الشيعي كالعراق، ولبنان، واليمن، ونسبيًّا سوريا، لكن ما ميَّز السلوك الخارجي للمشروع الإيراني، أنه كان معادياً ومعارضاً للسياسات الغربية في المنطقة، ويرفض وجود إسرائيل من أساسه، ومن هنا كان الدعم الإيراني للثورة الفلسطينية وفصائلها بالمال والسلاح، والتدريب والخبرات، وهذا بالتحديد كان عائقًا أمام تمدد الثورة في الخارج في بعض البلدان، حين عملت الولايات المتحدة على توظيف البلدان والقوى(كالخليج مثلاً)، التي وجدت نفسها متضررة من مثل هذا المشروع لمواجهته، مستخدمة النزعات المختلفة وفي رأسها النزعة المذهبية والتوجهات السياسية.(2)
ساحات الإشتباك الإيراني_التركي
لقد إختلفت الظروف الداخلية التي جاء فيها حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فقد عمل الحزب بقيادة رجب طيب أردوغان على محاولة تجاوز الخطوط التي كان يرسمها الغرب لحدود الدور التركي، ورأى الحزب نفسه ملزماً بمهمة إنتشار الأيديولوجيا التي يحملها عبر التركيز على كسر الهوية العلمانية _العسكرية في الداخل، لصالح هوية أقل علمانية وأكثر إسلامية، وفي الخارج رفع الحزب شعاراً ضمنياً هو العثمانية الجديدة، أي عودة نشر النفوذ التركي في المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وقد إنتهجت أنقرة شعار صفر مشكلات، وهو ما مكَّنها في السنوات الأولى من السلطة من فتح الأبواب، وهدم الجدران بينها وبين معظم الدول الجارة في العالم العربي والإسلامي وحتى المسيحي، لكن هذا المسعى التوسُّعي لحزب العدالة والتنمية كانت له نتائج مباشرة، وهي الإصطدام مع المشاريع التي تقف على طرفي نقيض منه، كالإسلام الوهابي في السعودية، والإسلام الأزهري في مصر، كما الأنظمة القومية مثل سوريا، فتشكلت ساحات الإشتباك والتصادم بين المشروعين التركي والإيراني في المناطق والبلدان التي يعتبرها كل طرف ساحة نفوذ له.
كانت سوريا ساحة الإشتباك الأبرز بين المشروعين التركي والإيراني، ولطالما كانت سوريا حليفًا إستراتيجياً لإيران بعد قيام الثورة، غير أن إنفجار ما سُمِّي بالربيع العربي، شكل نقطة تحول في سياسة تركيا التي عملت على محاولة الإطاحة بالأسد، وإقامة نظام موال لها في دمشق، ودعمت تركيا المعارضة المسلحة في سوريا، ووفرت لها كل سبل الحركة، وإحتلت أجزاءً من الشمال الغربي لسوريا، الى أن أُزِيح الأسد ونظام البعث بليلة واحدة عن المشهد في الإقليم، وهذا كان بالطبع تهديدًا كبيرًا للنفوذ الإيراني في سوريا، الذي يشكل حرمانها من الحلف مع سوريا، ضربة خطيرة لمشاريعها الإقليمية، خاصة ما تعتبره في مواجهة الغرب ودعم حلفائها في لبنان، وكسر ما سمِّي بالهلال الشيعي الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، ورغم التوازنات الإقليمية والدولية في مراحل متعددة ومتأخرة من الأزمة في سوريا، فقد فرضت تعاونًا وتنسيقًا بين تركيا.
كما شكل العراق ساحة ثانية للاشتباك بين المشروعين التركي والإيراني، وبدا العراق بغالبيته الشيعية ساحة طيِّعة للنفوذ الإيراني بعد إسقاط صدام وإحتلال أمريكا له، لكن تبدلت المعطيات، فدعمت الولايات المتحدة وتركيا للفئات السنية في العراق، ومن ثم دعمت الولايات المتحدة قيام فيدرالية كردية، وهو ما أربك المشروعين الإيراني والتركي، وحالَ دون أن يتمكَّن أحدهما من إحتكار النفوذ، مع أرجحية نسبية بسبب الثِقَل الشيعي للدور الإيراني، وعلى الرَّغم من التنافس الحاد بين طهران وأنقرة، فإنَّ البلدين تجمعهما في العراق الحساسية الكردية، ومعارضتهما أي محاولة كردية تصل إلى حد الإستقلال عن المركز بغداد، نظرًا لتأثير أي محاولة إستقلالية في العراق على وضع الكرد في تركيا وإيران، الذين يطالبون بالإنفصال عن مركزيهما.
أيضاً شكَّل لبنان أيضًا ساحة لتنافس قديم لإيران من خلال الشيعة فيه وخصوصًا حزب الله، ودخول مستجد مع حزب العدالة والتنمية إلى الساحة اللبنانية، غير أن تركيا تفتقد الركيزة الصلبة في لبنان لمواجهة إيران، نظرًا لأن الغالبية السنية في لبنان تميل إلى السعودية وليس إلى تركيا، بل يمكن القول إن الساحة اللبنانية، يمكن أن تكون في ظرف معين ساحة للتنافس بين المشروع التركي والدور السعودي نفسيهما.
كما تعتبر منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، ساحة للصراع بين المشروعين الإيراني والسعودي، ويمكن أن تشكل هذه الساحة مجالًا للتعاون أو التنافس بين تركيا والمشروعين الإيراني والسعودي تبعًا لتوازنات القوى، وهذا ظهر في مرحلة الخلاف القطري مع دول مجلس التعاون الخليجي، إذ أن التعاون الإيراني_التركي عرف تنسيقًا واضحًا لمواجهة الضغوط السعودية تحديدًا.
وأخيراً يحتل دعم القضية الفلسطينية موقعًا مركزياً في سياسة إيران الخارجية، وقد وفَّرت إيران كل الدعم المالي والتسليحي والتدريب والخبرات للفصائل الفلسطينية، التي تؤمن بخيار المقاومة ضد إسرائيل، إنطلاقًا من مبدأ أن إسرائيل كيان دخيل ومغتصب لحقوق الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، في حين أن تركيا كانت أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل في العام 1949، وتتبادل معها السفراء وتقيم علاقات قوية على مختلف الأصعدة، ولم يتغيَّر هذا الأمر بعد وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 إلى السلطة، حيث إستمرت العلاقات قوية بل وإزدادت قوة، وقد حاولت تركيا أن تسحب ورقة القضية الفلسطينية، من تحت أقدام إيران مع الدعم التركي لتنظيم حماس التابع لجماعات الإخوان المسلمين، غير أن معاودة التطبيع بين تركيا وإسرائيل، أضطر أردوغان الرضوخ لمطالب إسرائيل، بالتضييق على حركة كوادر الإخوان المسلمين في تركيا، مقابل تسهيل عملية التطبيع بين البلدين، ويمكن القول إن التباين في مستوى الدعم للقضية الفلسطينية، يجعل لإيران أرجحية واضحة في تعزيز نفوذها في المنطقة من البوابة الفلسطينية.(3)
تداعيات سقوط النظام في سوريا
إن المتابع اليوم لمجريات الأحداث في سوريا منذ نجاح سقوط النظام البعثي، يدرك تمامًا أن إيران، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، فقدت أهم قواعدها العسكرية في المنطقة، والتي كانت متواجدة في سوريا، حيث إضطرت إلى مغادرة البلد بعد إستثمار فيه على مدى 13 عامًا، خاصة في المجال العسكري، وقد نشرت وسائل إعلام إيرانية منذ بدء عمليات سقوط النظام وحتى “تحرير” دمشق، تقارير شديدة اللَّهجة ضد تركيا، كما قام المرشد الأعلى الإيراني بتوجيه إتهامات ضمنية لتركيا دون ذكر إسمها صراحة، وأثارت تلك التصريحات تساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية_الإيرانية القريب والبعيد، خاصة بعد تراجع نفوذ المحور الشيعي في المنطقة، لصالح المحور السُّني وتحالفاته، وهو الأمر الذي بدّل في حجم المعادلة الجيوسياسية للمنطقة بأكملها.
ولطالما شهدت العلاقات بين تركيا وإيران تقلبات منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى اليوم، فمنذ عام 1470 كانت الدولتان منافستين جديتين على النفوذ الإقليمي، هذه المنافسة هدأت تارة، وإحتدمت تارة أخرى، ويعكس التاريخ الطويل للعلاقات بين البلدين، إشارات تدل على الكيفية التي قد تتشكَّل بها بعد سقوط نظام الأسد، لكن يبدو أن التغيير في سوريا، أحدث هزة عنيفة في توازن العلاقات بين تركيا وإيران، إذ ترى إيران أن دعم تركيا إسقاط الأسد، هو بمنزلة هجوم منظَّم يستهدف سياستها الإقليمية، فيما تشير التطورات إلى أن إيران فقدت مجال نفوذها في سوريا، وبالنظر إلى تراجع قوة حزب الله بعد الخسائر التي تكبَّدها في الحرب مع إسرائيل وتقلُّص تأثيره، يمكن القول إن نفوذ إيران قد ضَعُف أيضًا في العراق واليمن، حيث كانت طهران تتمتع بتأثير كبير في كلتا الدولتين، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُعيد تصاعد حجم التنافس بين كل من تركيا وإيران مجددًا، في ظلِّ التغيرات الإقليمية الكبيرة، التي مرَّت بها المنطقة خلال الأشهر الماضية.
هنا تراهن إيران على الحالة المتغيّرة والمتقلِّبة فيها، خصوصاً بعد وصف الخامنئي في كلمة له، الحكام الجدد في سوريا، بمجموعة من مثيري الشغب، كما وصف تغيّر النظام في سوريا بالفوضى، فيما تحدّث أيضًا عن نهضة ما سمَّاه “الشباب السوري الغيور”، وإحتمالية ظهور مجموعة مشرفة قوية تؤثر في مستقبل سوريا، في إشارة إلى إحتمال تشكيل مجموعات جديدة، لكي تثور ضد الوضع الجديد في سوريا، على نحو يمكن أن يشكِّل تحديًا جادًّا أمام المشروع التركي، الهادف للتعاون والإستثمار في سوريا الجديدة، تحت إدارة رئيسها الحالي أحمد الشرع، وأتت أحداث الساحل السوري، لتثبت صحة ودقة هذا التوصيف الإيراني والحَنَق مما حصل، ومما إفتعلته أنقرة، بحيث أحدث تبادل المسؤولين الإيرانيين والأتراك، الهجمات الكلامية تصدعاً جديدًا في العلاقات بين البلدين، غير أن إحجام كل طرف إلى الآن، عن ذكر الآخر بصورة مباشرة، يُعد مؤشرًا على سعيهما إلى إدارة الخلافات بينهما، حتى بعد أن أشار الرئيس التركي أردوغان الى أن حلفاء النظام السوري السابق حزينون على فقدانه، وهم بصدد الثأر، وهم في حداد منذ أسابيع على فقدانه، ويريدون الآن صبّ جام غضبهم على رؤوس الشعب السوري المظلوم، إذ يُفهم من ردِّ أردوغان، أنه أراد أن يُلاعب إيران بنفس الأسلوب الذي إنتهجته في إظهار غضبها من الموقف التركي، ليؤكد بذلك على الندية حتى في نهج التصريح والتلميح، وإرسال الرسائل التي يجب أن تصل.
لكن من أبرز الدلائل على إدارة هذا الخلاف القائم حاليًّا بين الدولتين، أن تصريحات المرشد خامنئي تزامنت مع وجود وزير التجارة التركي عمر بولات، في طهران ومشاركته في إنعقاد الدورة الإقتصادية المشتركة الإيرانية_ التركية، وهكذا إستطاعت طهران وأنقرة على مدى العقدين الأخيرين زيادة تعاونهما، على الرغم من الخلافات والتنافس الدائر بينهما، وبالتالي الإبقاء على علاقتهما في وضعية تعادل، ووفقًا لمعطيات مجلس العلاقات الإقتصادية الخارجية التركي، فقد بلغ حجم التجارة بين البلدين في عام 2016 ، أكثر من 10 مليارات دولار، لكنه تراجع إلى نحو 6 مليارات دولار في 2023.
اليوم ومع تولي ترامب منصب الرئاسة ووصوله إلى البيت الأبيض، وتصاعد العقوبات الإقتصادية وإحكامها على إيران، تفضِّل إيران التعامل مع تركيا كداعم دبلوماسي ضدَّ العقوبات بدلًا من رؤيتها كخصم، حتى لا يكون الأثر الذي ستتركه سياسات ترامب على العلاقات التركية_الإيرانية كبيراً، في ظل ما يتم تداوله، بالبدء في إعادة تفعيل ترامب سياسة الضغوط القصوى على إيران، علمًا أن تلك السياسة على الأغلب، تضع إيران في أزمة إقتصادية حقيقية، ليس هو ما ترغب به لأنقرة، التي تقيم علاقات واسعة في مجالي الطاقة والتجارة مع طهران.
فما تنوي واشنطن القيام به مع إيران خلال الفترة المقبلة، هو دعم الإدارة الأميركية خطة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لضرب المنشآت النووية الإيرانية، وأن سيناريو كهذا من شأنه أن يساهم في زيادة فرص وإحتمالات حرب إقليمية، وفي حال نشوب حرب كهذه، فلا شك أن تركيا لا تريد أن تتورَّط فيها، لا سيما أنها وإيران ترتبطان بحدود مشتركة يصل طولها إلى 560 كيلومترًا، ما يعني أن التطورات الأمنية في أيّ من الدولتين سوف تلقي بظلالها على البلد الآخر، وهو الأمر الذي يدركه جيدًا قادة كلتا الدولتين، لكن يمكن القول إنه من المتوقع أن تعود وتزداد حدة المنافسة القديمة بين تركيا وإيران في المستقبل، خاصة في الساحة العراقية، بعد إنقطاع الأمل في سوريا رغم أهميتها، ولكن مع ذلك يُرجح أن تظل هذه المنافسة متوازنة، دون أن تؤثر سلبًا على العلاقات الإقتصادية بين البلدين.
وهنا نجد أن التطورات والمتغيِّرات المستجدة إقليميًّا ودوليًّا في السنوات الأخيرة، إكتسبت دوافع ملموسة لإحداث تغيُّر جذري في طبيعة ودينامية العلاقات بين تركيا وإيران، بما يخفِّف من مساحات الإحتكاك والإستنزاف، ويقوّي الطرفين في مواجهة التحديات الكثيرة، التي بات بعضها مشتركاً، كما أن خروج إيران من الواقع السوري يتطلب عدة خطوات إستراتيجية شاملة، نظرًا للتعقيدات العسكرية والسياسية التي كانت تحيط بتدخلها في سوريا من قبل، في عهد النظام السابق، ولا شك أن إيران ستعيد عاجلًا أم آجلًا تقويم إستراتيجياتها في المنطقة، لأن مصالحها ونفوذها في تراجع مستمر على أكثر من جبهة، ومن ثم فإن الطريق نحو ذلك يمرّ عبر تقليص تدخلها في الكثير من الملفات الإقليمية، ومراجعة سياساتها في سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن، وإن لم يكن ثمة وجود لمؤشرات حقيقية بعد على أن طهران جاهزة لفعل ذلك، وهذا بدوره يُظهر أن إيران وتركيا جارتان لا يمكنهما التغاضي أبدًا عن الحوار على مستويات عليا، والتواصل المستمر سيبقى بينهما، لأن كلًا منهما قوة ثابتة في المنطقة، وهما تضطلعان بدور في جغرافيا مشتركة، وذلك في الوقت نفسه الذي تعَدّان فيه متنافسين إقليميين قويين.
ترمب وتغيير خرائط المنطقة
مع تصاعد التوتّرات في أنحاء العالم، أراد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وضع خطة، و طرح العديد من المبادرات الدبلوماسية المفاجئة، واللُّجوء إلى التهديدات العسكرية المباغتة، وهو ما ترك إنطباعاً لا يقينياً في السياسة الخارجية لواشنطن، ووضع حلفاءها في حالة ترقّب، والخصوم في حالة تأهّب، والمحلّلين في حيرة من أمرهم وهم يحاولون فهم ما يجري.
خلال الأشهر المنصرمة، أشعل ترامب أزمات عبر طرح فكرة شراء غرينلاند، وفي باناما من خلال تغييرات مفاجئة في السياسة، وشنّ ضربات عسكرية في اليمن، وهدّد علناً بقصف إيران، كلّ ذلك بينما قلّل من شأن تصاعد التهديدات الإرهابية في الشرق الأوسط وخارجه، فالعالم يراقب، بينما يبدو أنّ القائد الأعلى للقوات المسلّحة الأميركية ينتقل من نقطة توتّر إلى أخرى، من دون سابق إنذار أو تفسير واضح، فربما تُخفي هذه الفوضى الظاهرة إستراتيجية أميركية جديدة، بحيث يدافع مؤيّدو ترامب عن أسلوبه قائلين إنّ منهجه، وإن كان غير تقليدي، هو جزء من خطّة مدروسة تستخدم عنصر عدم القدرة على التنبّؤ كأداة تفاوضية، فمن خلال إبقاء الخصوم وحتى الحلفاء في حالة عدم يقين، ويدّعي مؤيدوه أنّه ينتزع تنازلات ويعيد تشكيل التوازنات العالمية لمصلحة الولايات المتّحدة.(4)
تعتمد هذه النظريّة على فكرة أنّ الظهور بمظهر القائد غير المتوقّع يمكن أن يكون مكسباً، فإذا إعتقد الخصوم أنّ رئيس الولايات المتحدة قادر على أيّ شيء، فقد يفكّرون مليّاً قبل إختبار عزيمته، لكنّ المحلّلين والمراقبين يرون أنّ أفعال ترامب تتجاوز حدود المخاطرة المحسوبة لتقع في دائرة التهور وإعتماد سياسة اللعب على حافة الهاوية، ويؤكّدون أنّ قراراته مدفوعة بنزعة شخصانية، ورغبته في تحقيق إنتصارات سريعة تعزّز صورته داخليّاً، محذّرين من أنّ هذه السياسات قد تتطوّر إلى أن تصبح مستنقعات طويلة الأجل، إذ يتجلّى هذا بوضوح في الشرق الأوسط، فالضربات العسكرية الأخيرة في اليمن، التي وصفتها الإدارة بأنّها ردّ على الإرهاب وعدوان الحوثيين المدعومين من إيران، تأتي في وقت تسعى فيه واشنطن لتقليص وجودها في المنطقة، ومع غياب خطّة واضحة للنهاية المرجوَّة، تثير هذه الضربات مخاوف من تورّط أميركي أعمق في صراع معقّد ودمويّ، لكن على الساحة الدولية، يقول المنتقدون إنّ هذا النهج قد عزل الولايات المتحدة وأضعف تحالفاتها التقليدية، فشركاء حلف الناتو وحلفاء واشنطن التقليديون في أوروبا يبدون قلقاً متزايداً، بينما تدفع حالة عدم اليقين الإستراتيجي في آسيا بعض الدول، إلى التقارب مع خصوم أميركا مثل الصين وروسيا.
في الوقت نفسه، تثير الخطابات العدائية المتزايدة لترامب تجاه إيران، قلقاً متزايداً بشأن إحتمال حرب شاملة، فتهديده الصريح بقصف إيران، يتناقض بشكل حادّ مع تصريحاته السابقة عن رغبته في إنهاء الحروب التي لا نهاية لها، وبينما تبدو الدبلوماسية مع طهران تسير نحو طريق مسدود، والعقوبات الإقتصادية تزداد وتيرتها، يظلّ خطر سوء التقدير قائماً، فالأمور لا تزال غامضة، ويرى البعض أنّ ما يحدث هو دبلوماسية قائمة على الصفقات بأقصى درجات البراغماتية، حيث تُعامل كلّ أزمة كفرصة للحصول على نفوذ، أو إبرام صفقات أو تحقيق عناوين إعلامية.
فما هو واضح أنّ هذا النهج يبتعد كثيراً عن فنّ إدارة الدولة التقليدي، وسياسة ترامب الخارجية تختبر حدود عدم القدرة على التنبّؤ، كوسيلة من وسائل ممارسة القوّة، حيث تكمُن في قلب هذا التحوّل أجندة أميركا أوّلاً، وهي عقيدة تؤكّد أنّ المصالح الأميركية فوق كلّ شيء، وتتحدّى الأعراف التقليدية للدبلوماسية العالمية، فقد أدّى هذا النهج إلى سلسلة من التحرّكات الجريئة والمفاجئة في بعض الأحيان، من التهديد بالعمل العسكري ضدّ الخصوم إلى إعادة النظر في التحالفات القديمة، يشير نهج ترامب إلى تحوُّل جوهري، لم يعد يُنظر إلى المشاركة العالمية على أنّها غاية في حدّ ذاتها، بل أصبحت تُقوَّم فقط بناءً على فوائدها أو تكاليفها المحتملة على المواطنين الأميركيين، فأحد الجوانب الرئيسية لهذه السياسة الخارجية الجديدة هو الإستعداد لمعاقبة الذين يتحدّون المصالح الأميركية، وقد تمثّلت هذه الإجراءات أخيراً في الضربات العسكرية في اليمن والتهديدات الصريحة ضدّ إيران، وهي قرارات لا تبدو عشوائية، بل تُصوَّر بأنّها خطوات محسوبة تهدف إلى ردع المخالفين.
إستراتيجية ترمب تعكس نوعاً من الدبلوماسية القائمة على المعاملات، من خلال الردّ بقوّة على الأعمال التي تعتبرها تهديداً للمصالح الأميركية، ترسل الإدارة رسالة واضحة، الدول التي تتحدّى الإرادة الأميركية ستواجه عواقب وخيمة، هدف ذلك هو إجبار الحكومات الأجنبية على التفاوض من موقع ضعف، وبالتالي تحقيق تنازلات تعزّز الأولويّات الإقتصادية والأمنيّة للولايات المتحدة، وهذا يعني بدوره إعادة تقويم الإلتزامات الدولية والتحالفات التقليدية، وبدلاً من إفتراض أنّ المؤسّسات المتعدّدة الأطراف أو الشراكات التي تعود لعقود تخدم المصالح الأميركية تلقائياً، تتبنّى الإدارة الحالية موقفاً يعتر، أنّ كلّ تحالف يجب أن يتمّ تحليله من منظور الفائدة المباشرة للولايات المتحدة.
كما تهدف أجندة أميركا أوّلاً بحسب رؤية ترمب، إلى توفير الإزدهار الاقتصادي والسيادة الوطنية، هذا المنظور واضح في إستعداد الإدارة لفرض العقوبات، أو الإنسحاب من الإتّفاقيات المتعدّدة الأطراف، أو حتى النظر في العمل العسكري إذا فشلت الجهود الدبلوماسية، فالهدف العامّ هو ضمان أنّ أيّ مشاركة دولية، سواء من خلال التجارة أو الدبلوماسية أو القوّة العسكرية، تؤدّي إلى مكاسب صافية للولايات المتّحدة، وبطبيعة الحال فهي أجندة تتعلق بإعادة تفكير جذرية في كيفية إستخدام القوّة الأميركية على المسرح العالمي، ومع كلّ إجراء عقابي وكلّ تحالف تتمّ إعادة تقويمه، تؤكّد الولايات المتّحدة أنّ مشاركتها الدولية، يجب أن تُبرَّر بمنافع ملموسة محلّياً، بغية إنجاح شعار “جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى” بتحقيقه على أرض الواقع.
والآن، فتح موقف ترامب من الحرب في أوكرانيا جدالاً كبيراً، حيث التفاؤل المفرط بالتقارب بين أميركا وروسيا، وهو ما حدا ببعض القادة والمفكرين إعتبار أننا أمام إمكانية تفكيك الحلف الصيني الروسي الإيراني، وإحتمال تعزيز أفق التعاون بين روسيا وإسرائيل في الملفّ السوري، لم تحجب هذه الرهانات الجزء الآخر من المشهد الإسرائيلي هذه الأيّام، إذ يعتبر عدد من المحلّلين السياسيين أنّ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ليس الوحيد الذي يرزح تحت ضربات ترامب، بل تلقّى نتنياهو أيضاً صفعة كبيرة، من خلال قرار ترامب التفاوض المباشر مع حركة حماس لوحده، الأمر الذي طرح تساؤلات بشأن ما يُطلق عليه في إسرائيل الإنحراف الخطير عن السياسة الأميركية التقليدية، وتأثيره على تطابق المصالح الإستراتيجية بين ترامب وإسرائيل.
إن الرهانات على التقارب الأميركي الروسي، والفوائد التي يمكن أن تجنيها إسرائيل من هذا التحوّل الكبير، وعلى الرغم من الدعم الأميركي غير المحدود الذي تلقّته حكومة نتنياهو بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر، وفي مواجهة التهديدات الإيرانية، بقيَ الخوف مسيطراً على قادة إسرائيل، من أن يؤثّر إنغماس واشنطن في دعم أوكرانيا، على مستوى الدعم الأميركي لإسرائيل وتعاظم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، فالوضع الجديد الآن في الشرق الأوسط، وضع إسرائيل في موقع أفضل بكثير ممّا كانت عليه قبل أشهر، وسمح لها بالإستمرار في أن تكون رصيداً إستراتيجيّاً للولايات المتحدة، التي تركّز الآن على هدفها للمواجهة مع الصين، حيث تتاح الكثير من الفرص، بدءاً من فرصة إسقاط الحكم في إيران، مروراً بطريق الطاقة التي تربط دول الخليج بالهند، وصولاً إلى السعودية، وإحتمال إنضمام لبنان والعراق إلى إتّفاقات سلام مع إسرائيل شبيهة باتّفاقات أبراهام.
القضية الكردية والمساومة بين التركي والإيراني
المنافسة التركية الإيرانية، هي نتيجة طبيعية في عملية التنافس الإقليمي والعالمي، التي إنطلقت في العراق والمنطقة، وعلى عكس تركيا، نجد أن إيران قد أعدَّت نفسها جيدا قبل ربع قرن من أحداث تفجير البرجين في أميركا في 11 أيلول 2001، لمواجهة آثار العوامل العابرة للحدود، على نحو سليم وفعال من خلال تحالف إقليمي مع عوامل مشابهة لها في المنطقة، مثل حزب الله في لبنان،في حين أن تركيا واجهت عملية المنافسة مع النماذج الأخرى من خلال إعتماد أصول القوة الناعمة، والتي عادة لا تعمل في ظروف فوضوية، كالتي شهدها العراق بعد الإحتلال الأمريكي ولازال على عكس إيران، التي تستخدم القوة الناعمة والصلبة في منافستها للقوى والنماذج الأخرى، فضلا عن تقارب عملي لنموذج إيران مع نموذج القاعدة ضد باقي النماذج رغم التباعد الفكري بينهما.
كما لجأت كل من إيران وتركيا، في أحيان كثيرة الى عملية مساومة مع أمريكا، لتخفيف التنافس البَيني، لأنهما واجهتا تدخلاً لقوة عظمى، وشكَّلت المساومة أساساً لتقارب ثلاثي بعيد المدى في الشرق الأوسط، بين كل من إيران وأمريكا وتركيا، تصاعد تدريجيا ولازال في غياب أي دور عربي بعد 2003، كما أن عامل التنظيمات الإرهابية الراديكالية، إضطر تركيا وإيران كذلك لإعادة رسم مسار سياساتهما الخارجية، من مثل إقامة تحالفات مع حلفاء إقليميين لإحتواء التحديات، كما نجد أن تركيا وإيران إتجهتا الى زيادة في مستوى علاقات الدولتين دبلوماسياً وإقتصادياً، للتخفيف من آثار المنافسة وتجاوز الأخطار محليا وإقليما ودوليا، في حين فشلت دول أخرى إقليمية من التعاطي معه.
كما لعبت القضية الكردية في الحرب والسلام، محلياً وإقليمياً ودولياً الدور الكبير بين البلدين، خصوصاً بعد ما ظهر عقب الغزو الامريكي للعراق في 2003 ،من دعم لا محدود من قبل الولايات المتحدة للكرد في العراق، الذي أقام اقليم كردستان دستوريا في عراق 2003، الأمر الذي دفع تركيا وإيران للتقارب والمساومة، لمنع تداعيات هذا العامل الاقليمي الفاعل على حدودهما، ولقد دفعت قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في عام 1991، والغزو الأمريكي في عام 2003، وإنسحابها في عام 2011 المساومة التركية الإيرانية حول المسالة الكردية، إلى مستويات غير مسبوقة، وفي الوقت نفسه، مهَّدت الطريق لحل إقليمي للمسألة الكردية.
لكن سياسات الإحتواء والتقارب التركي الإيراني، لم تكن كافية للقضاء على تهديدات القضية الكردية العابرة للحدود، ولذلك أطلقت تركيا بعد 2007 سلسلة من الإصلاحات لمعالجة المسألة الكردية داخليا وإقليميا، في حين واصلت إيران سياستها القمعية، على الرغم من فشل سياسة الإحتواء التركية_الإيرانية، من وقف “مخاطر التهديد” الكردي العابر للحدود، بفعل النسبة الكبيرة لتعداد الكرد في تركيا عنهم في إيران، حيث شهد النصف الثاني من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، تحوُّلات تركية من التقارب مع إيران، الى التقارب مع العوامل الوطنية والإقليمية الكردية، ففتحت بذلك تركيا موجة جديدة في المنافسة التركية_الإيرانية، وزادت المنافسة التركية الإيرانية مع مرور الوقت منذ عام 2008، وتصاعدت مع إنسحاب الولايات المتحدة في 2011، ووصلت إلى ذروتها مع الأزمة السورية بعد ذلك.
ولا بدَّ هنا من القول، أن الإنسحاب الأميركي حصل وبإنتظارمستقبل سوريا، وعلاقة حكومة إقليم كردستان بالعراق، فإن تركيا وإيران والشرق الأوسط، يمر عبر نقطة تحوُّل تاريخية، تجعلهما أقوى دولتين، وتجعل من الكرد نواة في شرق أوسط جديد، فتركيا نجحت في أربيل ونموذج بغداد غدا أقرب لإيران، وهذا نجاح متقدم لنموذج المساومة التركي_الإيراني في تجاوز التحديات، وتحقيق نفوذ إقليمي وفي حل لمشكلة كبيرة، يساعدها مستقبلا في المشاركة في حلِّ مشكلة مزمنة في الشرق الأوسط، كالقضية الفلسطينية على سبيل المثال، كما كان تأثير ذلك واضحاً على نموذج المساومة في أكثر من مستوى سياسي وتنفيذي، مع تحالف كردي شيعي همَّش دور السُّنة العرب، مع غياب أي دور عربي بعد الإحتلال، ثم تداعيات هذا النموذج الإقليمي التي تسبب في إنتفاضات عربية، قلَبت المشهد الإقليمي راساً على عقب، كما فعلت وقلَّلت من التحديات لهذا العامل الطائفي، وعملت على المحافظة على وحدة العراق، لكن الخلاف كان في طريقة التنفيذ، فإيران تريد عراقا ضعيفاً تابعاً، في حين تركيا تريده قوياً موحداً مستقلاً، ممَّا أدى في النتيجة الى قرب نموذج بغداد من إيران، وقرب نموذج أربيل من انقرة.
وبسبب غياب دور العرب والتشرذم السياسي للعرب السُّنة، لم تستطع تركيا أن تكون مؤثرة في تقوية دور السُّنة العرب في العراق، إضافة للتهميش السياسي، الذي أصاب بُنية العرب السُّنة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، بفعل سياسات حكومة بغداد الطائفية الممنهجة، التي طالت المشاركين والمعارضين من السُّنة العرب في العملية السياسية، وخلاصة الموضوع، أن المساومة بين تركيا وإيران على شكل وهوية ودور العراق، التي أثمرت نموذجي بغداد وأربيل، أظهرت بنفس الوقت تنافساً بين نموذج الحكم في البلدين، ومن يصلح منهما نموذجاً للإقتداء الاقليمي، وهذا طموح مشروع أكَّد نفسه من خلال نموذج المساومة كواحد من أهم ثمرات التوافق.(5)
في الختام
إن إظهار أنموذج علاقة المساومة بين بلدين مهمَّين ولهما دوراً وازناً في الشرق الأوسط، وإن إستطاع هذا النموذج منعهما من الإنزلاق الى حرب، فإنه أيضا منعهما من التحالف في مواجهة التحديات، كذلك منح هذا النموذج في العلاقة، كلا البلدين من تبادل النجاح في تأثير نموذج كل منهما على محيطهما الإقليمي، وهذا بخلاف الدول العربية التي غابت عن المشهد، وأصبحت ساحة لتأثُّر كِلا النموذجين التركي والإيراني، حيث تركيا وإيران بحاجة الى تغيير هيكلي في نظمهما السياسية والإقتصادية، في ظل مرحلة وفاصلة تاريخية دولية وإقليمية لا تزال نهاياتها وتحدياتها مفتوحة على كلِّ الإحتمالات، وربما لا يكفي نموذج التساوم هذا من تجاوزها، لكنه يبقى أنموذجاً جديراً بالدراسة والإهتمام الأكاديمي والسياسي.
فالكرد شكَّلوا نقطة تلاقي مصالح تركية_إيرانية، ومعهم تمثّل سورية نقطة خلاف جوهرية بين الطرفين، وكانت التصريحات الروسية والأميركية الأخيرة، التي تحدثت عن إمكانية تقسيم سورية، أثارت قلق أنقرة وطهران، ودعت الطرفين إلى تكثيف مشاورتهما بشأن سورية بهدف تقريب المواقف، وكانت إيران صعَّدت من هجماتها على قواعد الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وغيره من الفصائل الكردية ذات التوجُّهات الاستقلالية المتركزة في شمال العراق، وذلك ردًا على تصاعد هجمات هذه الفصائل في الداخل الإيراني، ويفسَّر ذلك بعدم صدور أي ردة فعل إيراني سلبي على التدخل العسكري التركي المباشر في شمال سورية، مع أنّ طهران إعتادت على إبداء إنزعاجها من السياسات التركية في سورية، ولطالما سلَّطت حلفاءها لمهاجمة تركيا على أي تدخل عسكري سواء في سورية أو العراق.
فهناك إختبار لقدرة الحكومة التركية، لتحقيق حالة من التوازن بين الدعم الأميركي المشروط، وغضِّ الطرف الروسي، وتوافق المصالح مع إيران، للحدِّ من تطلعات الكرد الأستقلالية في الوقت نفسه، تتمثل الدوافع من الوجهة الإستراتيجية، بإستحضار فائض القوة الإقتصادي والعسكري المتصاعد، والتطلُّعات السياسية في إستراتيجية تركيا ما بعد 2023، وما حقَّقته أنقرة من حضور عسكري في الخارج، وإستقطابها للطلاب ونشر اللغة التركية، من خلال المِنح السنوية التي تقدمها الحكومة والمراكز الثقافية المنتشرة في كثير من الدول، والتركيز على النموذج التركي في التدخل، فمن المتوقع أن تزداد الثقة والشهية التركية بالإنتشار خارج الحدود، وخاصة في القوات البحرية، وستزاوج تركيا بين الدور التنموي، والشراكات الاقتصادية مع إضفاء عسكرة على السياسة الخارجية التركية.
لكن الحال يبقى مختلفاً في العراق عنه في سوريا، والأمر نفسه ينطبق على النتائج والسيناريوهات المطروحة في المرحلة القادمة، نظرًا لإختلاف طبيعة العراق السكانية وهياكله السياسية، وإستمرار وجود الحكومة المركزية وسلطة الدولة فيها، حتى ولو كانت بشكل أضعف من غيرها من الدول المستقرة في المنطقة، وبسبب ذلك يمكن توقع أن الجانب العراقي، سيكون له دور فعال بشكل أو بأخر في تحديد المسارات القادمة لكل من إيران وتركيا وسياساتهما في الشرق الأوسط، وعلى ذلك يمكن أن نرى إثنين من السيناريوهات،الأول يتمثل بأن أي قرار تركي/إيراني بخصوص سوريا أو العراق، سينطلق بالبدء من مفردات الأمن القومي للبلدين، قبل أي حسابات متعلقة بسوريا وثورتها وشعبها، وبنفس المسار والحال بالنسبة للعراق وأمنه ووحدته، والثاني يتعلق بعدم قدرة أنقرة الخروج عن السقف الدولي في سياستها الخارجية بشكل عام، والأزمة السورية بشكل خاص، وعليه فإن أية خطوة قد تقدم عليها بعد ذلك ستحتاج إلى أرضية قانونية كالقرارات الأممية، أو خطة من التحالف الدولي أو حلف شمال الأطلسي.
وهنا يدرك صانع القرار في كل من طهران وأنقرة، أن الأمور ستبقى رهينة بما سيحمله المستقبل من تطورات، فالتدخل بشكل أكبر، سيكون توريطاً بشكل أو بآخر، ولذلك فالمهم بالنسبة له ليس التدخل بحدِّ ذاته، بل بالشكل والطريقة والمرجعية والإنعكاسات والنتائج، بحيث لا يكون تدخله تفصيلًا يدعم في نهاية المطاف المخططات التقسيمية للبلدان الواقع تحت تاثير نفوذهما، وهو ما يعتبر سيناريو كارثي على مصير الدول الأربعة في آن معاً.
إن العلاقات بين العراق وتركيا وإيران، هي من أكثر العلاقات حساسية بالنسبة للأمن الوطني العراقي، فتركيا وإيران وبحكم مجاورتهما بغداد، يعدان من أهم الفواعل المؤثرة على أمن وإستقرار العراق، فتركيا اليوم لا تختلف عن تركيا القديمة الطامعة في التوسع لتحقيق أطماعها في المنطقة، فهي تسعى ومن خلال تحكمها بمجرى نهري دجلة والفرات فرض سيطرتها المائية على كل من سوريا والعراق، بينما تسعى إيران إلى فرض نموذجها وتصدير أيديولوجيتها الخاصة مدفوعة بعوامل مذهبية واعتبارات مصلحية قومية، كذلك تحاول تركيا وإيران التدخل في شؤون البلدين الداخلية ومنها مثلًا في حالة العراق إستغلال تركيا لقضيتي حزب العمال الكردستاني كذريعة للتجاوز على أرض وتربة العراق، فضلا عن إستغلالها لقضية التركمان التي تحاول ان تجعل منهم بطاقة رئيسة يمكن استخدامها من أجل تحقيق مساعيها لإبقاء كركوك ونفطها خارج الايدي الكردية لما يشكله إستحواذ الكرد على نفط كركوك من مخاطر أهمها تشجيع الكرد على تحقيق الانفصال والذي ستكون له تأثيره على أكراد تركيا الذين قد يطالبون بذات الاستحقاقات ،ممَّا يعني أن تلك القضية سيكون لها تأثيرها في أمن وإستقرار كلا البلدين. بينما تعمل إيران من ناحية أخرى على تقوية ودعم نفوذها وتغللها في مؤسسات الحكم في كلا من سوريا والعراق كوسيلة لمد نفوذها الإقليمي وتجاوز الحصار المفروض عليها من الولايات المتحدة وحلفاءها ي المنطقة.
كما يمكن إعتبار المشروع السياسي الكردي شمال سوريا، أولوية بالنسبة لأنقرة، وبالتالي فإن أي قرار تركي سيضع هذا المشروع تحت المواقبة الشديدة، وبالتالي فهو عامل محدد جداً في صياغة القرار التركي على الدوام، ونفس الأمر يمكن أن يقال على قضية إستقلال كردستان العراق بالنسبة لإيران، وهو الأمر الذي سيشجِّع حالة من عدم الإستقرار في أقاليمها الشمالية الغربية ذات الوجود الكردي، ولذلك ومن أجل بناء أرضية تفاهم وإستقرار في المنطقة العربية والشرق الأوسط، فإنه لا بدَّ من الإقرار بالأدوار المهمَّة التي أصبحت تركيا وإيران تلعبانها، ولكن يجب أن يتوازى هذا مع مطالبة البلدين برفع أيديهما، والكف عن دول مثل العراق وسوريا ولبنان والأردن واليمن والسعودية، أو محاولة فرض أجندة أو فصيل معيَّن في حكم هذه الدول من منطلق إيديولوجي مغلق، بعيدًا عن إرادة شعوبها، حينها فقط يمكن تحقيق قدر من الإستقرار تفتقده المنطقة بشدة اليوم، حيث أن هذه المحددات والخطوط العريضة، تصلح أن تكون إطاراً يمكن من خلاله فهم المواقف التركية والإيرانية، وإستشراف تطوراتها في المستقبل، تجاوباً مع أي متغيِّرات تتعلق بالأزمتين السورية والعراقية ومعهما اللبنانية واليمين، أو المنطقة بشكل عام، وهي سياقات عامة ومحددات رئيسية، ستحافظ على أهميتها ودورها في صناعة القرار التركي والإيراني على المدى المتوسط والبعيد، ما لم تحصل تغيرات جذرية، وهو ما سعينا لتوضيحه في هذه الدراسة، وتأطيره في شرح لآلية إتخاذ القرار في طهران وأنقرة، أبعد من مجرَّد التركيز على اللَّحظة الحالية وتعقيداتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1-عبدالله أوجالان، مانفستو الحضارة الديمقراطية،أزمة الشرق الأوسط وحل العصرانية الديمقراطية، صفحة 449.
https://www.asasmedia.com/88038
2- حسين خامايار، الثورة الإسلامية في إيران..منطلقاتها وابعادها، الموقع الإلكتروني: https://www.asriran.com/ar/news/2675/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%87%D8%A7
3-محمد نور الدين،المشروعان التركي والإيراني: التشابه والاختلاف والتجاذب، مجلة شؤون عربية،العدد 193،7/3/2023،الموقع الإلكتروني:
4- عبادة اللدن،ترامب يلعب بإعدادات الاقتصاد العالميّ.. والدّولار
5-محمد عزام الزبير – المركز الديمقراطي العربي،السياسة الخارجية الإيرانية – التركية في المنطقة وأثارها على الدول العربية: دراسة حالة (العراق-سوريا)، الموقع الإلكتروني:
6-المركز الديمقراطي العربي .2016. ورقة بحثية: “تركيا والتدخل العسكري في العراق”. تم الاسترجاع في (22 نوفمبر (2019. https://democraticac.de/?p=38334
7-توتشا تانري أوفار، العلاقات السورية التركية عبر التاريخ، مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية. تم الاسترجاع (23 نوفمبر 2019). http://www.orsam.org.tr/tr/yazigoster.aspx?ID=5164
8-خليل إبراهيم تشيليك، مشكلة المياه في الشرق الأوسط، مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية. تم الاسترجاع (23 نوفمبر 2019). http://www.orsam.org.tr/tr/yazigoster.aspx?ID=5043
9-عقيل سعيد محفوظ، سوريا وتركيا: الواقع الراهن واحتمالات المستقبل، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تم الاسترجاع (23 نوفمبر 2019).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ