دراسات

الحكومة السورية الانتقالية بين أمل التغيير وحدود الواقع

تحليل: الباحث السياسي/ محمد صابر

في ظل الانهيارات السياسية والاقتصادية والأمنية التي شهدتها سوريا على مدى العقد الماضي، يأتي تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة بقرار الرئيس السوري الانتقالي “أحمد الشرع” كنقطة تحول استراتيجية تحمل آمالاً كبيرة نحو إعادة بناء الدولة السورية على أسس ديمقراطية شاملة. يمثل هذا التشكيل محاولة لإعادة رسم معالم النظام السياسي في سوريا بعد سنوات من الصراعات والتدخلات الخارجية التي أدت إلى تفكك نسيج الدولة. ويُعتبر هذا التحول خطوة جريئة نحو تحقيق توافق داخلي يضم كافة مكونات الشعب السوري، بما في ذلك الكرد والعرب والمسيحيين والأقليات الأخرى، وهو ما يُشكل تحديًا كبيرًا في ظل الانقسامات التاريخية والمصالح المتعارضة.

لكن، ورغم ما يحمله إعلان تشكيل الحكومة الانتقالية من وعود بتحول ديمقراطي وإنهاء حقبة الصراع، فإن هذا التطور لا يخلو من أوجه قصور جوهرية تثير الريبة حول جدية المشروع السياسي الجديد، وجدواه الفعلية في إعادة بناء سوريا على أسس وطنية جامعة. فبالنظر إلى طبيعة الحكومة الانتقالية التي تم الإعلان عنها، يبرز غياب رؤية واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية، فضلاً عن ضعف التمثيل المتوازن لمختلف المكونات السورية، ما يعزز الانطباع بأن التشكيل الجديد قد لا يكون سوى إعادة تدوير لوجوه وتحالفات قائمة، تعجز عن استيعاب التحديات العميقة التي تواجه المجتمع السوري.

فبعد أكثر من عقد من النزاع المسلح والانقسامات السياسية والتدخلات الإقليمية والدولية، يأتي ذلك ليحمل في ظاهره تباشير الأمل في بناء دولة سورية جديدة تتجاوز عقودًا من الحكم السلطوي والانقسامات المجتمعية، لكنه في جوهره يعكس تناقضات شديدة وتعقيدات عميقة قد تُعيد إنتاج المأزق السوري بصيغ جديدة.

ويهدف هذا التحليل إلى دراسة تشكيل الحكومة الجديدة في دمشق لتقديم قراءة تحليلية متأنية لهذا الحدث، تستعرض الأبعاد البنيوية والسياسية والاجتماعية للتشكيلة الحكومية، وتفكك المواقف المتباينة تجاهها، وترصد أبرز التحديات التي قد تواجهها في المرحلة القادمة.

أبعاد الشمولية والتحديات الداخلية:

يُعتبر تشكيل الحكومة الجديدة خطوة أساسية لإعادة بناء الدولة السورية بعد سنوات من الانقسام السياسي والاضطرابات الأمنية. فقد أعلن الرئيس الشرع عن تشكيل حكومة انتقالية تضم 23 وزيرًا، تمثل مختلف المكونات السياسية والإثنية في سوريا، بهدف تحقيق شمولية أكبر وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة. جاءت هذه التعيينات في وقت حساس، حيث يتطلع النظام الجديد إلى استيعاب كافة الأطياف السورية وتقديم صورة تجمع بين كافة القوى دون استثناء.

تشمل هذه التعيينات شخصيات من خلفيات متنوعة؛ فقد تم تعيين مسؤولي وزارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية من فئات تعتبر نفسها ممثلة للمجتمع المدني، بينما تم اختيار مسؤولين في وزارات الأمن والنقل من التيارات التي تؤيد استمرارية السياسات الأمنية الصارمة. ورغم هذه المحاولة لتحقيق التوازن، فقد واجه تشكيل الحكومة انتقادات شديدة من بعض الجهات المعارضة التي ترى في التركيز المتزايد للسلطة في يد الرئيس المؤقت “أحمد الشرع” ودائرته المقربة إشارة إلى تكرار نمط النظام السابق الذي استخدم الأجهزة القضائية والأمنية لقمع الأصوات المعارضة.

ويشكل إلغاء منصب رئيس الوزراء وتفويض السلطات الواسعة للرئيس “الشرع” من أبرز هذه الخطوات، حيث تم إنشاء أمانة عامة للشؤون السياسية تمنح وزير الخارجية صلاحيات واسعة تشابه دور رئيس الوزراء. هذا الإجراء أثار مخاوف من أن يؤدي إلى سيطرة مركزية مفرطة وتهميش آراء القوى السياسية الأخرى، مما قد ينعكس سلبًا على شرعية النظام الجديد في أعين الشعب السوري.

من جهة أخرى، تسعى الحكومة الجديدة إلى تقديم صورة إصلاحية من خلال محاولة إدماج كافة المكونات المجتمعية في عملية صنع القرار، إلا أن التحديات الداخلية لا تزال قائمة؛ إذ تواجه الحكومة مطالب شعبية بالتمثيل العادل لجميع الفئات، خاصةً الفصائل الكردية التي طالما شعرت بالتهميش في النظم السابقة. ومن هنا تنبثق أهمية تشكيل حكومة انتقالية شاملة تضمن مشاركة جميع الأطياف، في محاولة لكسر الحلقة المفرغة التي أدت إلى تكرار الانقسامات والصراعات في الماضي.

انتقادات واسعة:

أحد أبرز أوجه النقد يتمثل في افتقار الحكومة الجديدة إلى قاعدة شرعية راسخة، إذ لم تنبثق من عملية سياسية شاملة أو توافق وطني جامع، بل فُرضت – وفقاً لعدد من المراقبين – في سياق ترتيبات إقليمية ودولية لا تراعي بالضرورة تطلعات السوريين، وإنما تعكس توازنات القوى على الأرض. وقد أدى هذا إلى خلق حالة من الاغتراب بين الحكومة الجديدة وقطاعات واسعة من المجتمع، خاصة تلك التي عانت من التهميش أو الإقصاء خلال السنوات الماضية، ما يُضعف من فرص بناء عقد اجتماعي حقيقي يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.

كانت أبرز مظاهر الاعتراض على الحكومة الجديدة صدورها من دون تشاور مع الفاعلين الأساسيين في الشمال الشرقي (قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي) وفي الجنوب (المجلس العسكري في السويداء). البيان المشترك الذي صدر عن القوى الكردية، وبيان السويداء، أكدا أن التشكيلة لا تمثل التنوع السوري ولا التعددية السياسية، وأنها تكرّس مركزية سلطوية تحت غطاء جديد. هذا الرفض لم يكن تقنيًا أو تفصيليًا، بل مبدئيًا، ويقوّض إمكانية توسيع شرعية الحكومة خارج مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام. كما أنه رغم تعيين ناشطة معارضة واحدة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فإن التمثيل النسائي والحقوقي كان شبه غائب. العديد من المنظمات النسوية عبّرت عن استيائها من هذه الهشاشة في التمثيل، ورأت فيها إشارة على أن الثقافة الذكورية والنهج السلطوي ما زالا مهيمنين. كما أن غياب مساحات حقيقية للتداول السياسي أو رقابة مجتمعية يعكس ضعف البنية المؤسسية للحكومة الانتقالية.

من جهة أخرى الحضور التركي في المشهد السوري لا يزال محاطًا بالكثير من الجدل. فعلى الرغم من الخطاب التركي المعلن الداعم لحل سياسي شامل في سوريا، إلا أن أنقرة لا تزال تمارس نفوذًا مباشرًا في مناطق شمال وشمال غرب البلاد، من خلال دعم فصائل محلية وفرض ترتيبات أمنية واقتصادية تُثير تساؤلات حول سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها. وتُتهم تركيا بأنها تسعى إلى هندسة النظام السياسي السوري المقبل بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية، لا سيما فيما يتعلق بإبعاد الأطراف الكردية عن مواقع النفوذ، الأمر الذي يُهدد بإعادة إنتاج الإقصاء بدلاً من تحقيق الشمولية. كما أن التواجد التركي، رغم أهميته في تأمين الحدود وفقًا للرؤية التركية، يظل مثار توتر داخلي وإقليمي، إذ يُنظر إليه كعامل خارجي يعمّق الاستقطاب الطائفي والعرقي، ويُعقّد جهود التوافق الوطني. وبالتالي، فإن الدور التركي، ما لم يُضبط ضمن أطر شرعية وتوافقية واضحة، قد يُقوّض فرص نجاح الحكومة الانتقالية في إرساء أسس الدولة السورية الجديدة، ويزيد من هشاشة العملية السياسية.

وفي المحصلة، فإن النقد الموجه للحكومة الانتقالية لا ينبع فقط من مواقف سياسية معارضة، بل يستند إلى معايير واقعية تفرضها طبيعة الأزمة السورية نفسها. فدون معالجة حقيقية لإشكاليات التمثيل، والسيادة، والتداخلات الإقليمية – وعلى رأسها الدور التركي – فإن هذه الحكومة قد تتحول إلى مجرد محطة مؤقتة في مسار أزمة ممتدة، بدل أن تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة.

التحديات الأمنية والتهديدات:

على الصعيد الأمني، تواجه الحكومة السورية الجديدة مجموعة من التحديات التي تُشكّل عقبة رئيسية أمام تحقيق الاستقرار الداخلي. تتداخل هذه التحديات مع عوامل داخلية وخارجية، وتشكل معاً إطاراً معقداً يتطلب استراتيجيات أمنية متكاملة. ويمكن توضيح ذلك في ضوء خمس تهديدات رئيسية:

(1) تنظيم الدولة الإسلامية وخلايا الإرهاب: رغم التراجع النسبي الذي شهدته صفوف تنظيم الدولة الإسلامية بعد سنوات من الضربات العسكرية المكثفة، لا تزال الخلايا النائمة تشكل تهديدًا أمنيًا حقيقيًا. ففي ظل الفوضى والاضطرابات التي قد تنشأ في مناطق النزاع، تظل هذه الخلايا قادرة على استغلال الفراغ الأمني لإعادة تنظيم نفسها وشن هجمات إرهابية مفاجئة تهدد استقرار المناطق المتأثرة.

(2) الميليشيات الموالية للنظام السابق: ما زالت بعض الفصائل المسلحة التي كانت تعمل في إطار دعم نظام البعث والنفوذ الإيراني تُمارس أنشطة تخريبية في مناطق معينة، خاصةً في المناطق التي تحتفظ فيها جماعات مسلحة بعلاقات مع النظام السابق. هذه الميليشيات تُستخدم كأدوات ضغط من قبل بعض الجهات لتحقيق مصالحها الخاصة، مما يزيد من حدة الانقسامات ويُعيق جهود إعادة الإعمار والاستقرار.

(3) التدخلات الخارجية وتوظيف الوكلاء: تُعد التدخلات الإقليمية أحد أهم العوامل التي تُعقد المشهد الأمني في سوريا، حيث تسعى بعض القوى الإقليمية والدولية لاستغلال الفوضى لتحقيق مكاسب استراتيجية. تركيا، وروسيا، وإيران، إلى جانب الأطماع الإسرائيلية وتوغل تل أبيب في الجنوب السوري، جميعها تسعى لاستغلال الوضع السوري من خلال دعم فصائل مسلحة معينة أو توظيف وكلاء محليين، مما يؤدي إلى تعقيد عملية تحقيق تسوية سياسية شاملة ويزيد من احتمالات التصعيد العسكري.

(4) التهديدات على الحدود والتجارة غير المشروعة: يُعاني الوضع السوري من ضعف السيطرة على بعض المناطق الحدودية، ما يسمح بالتوغل الإسرائيلي جنوبًا، ناهيك عن مرور الأسلحة والمواد المهربة بشكل غير منظم. هذا الفضاء الأمني المفتوح يُشكل قاعدة لتجارة غير مشروعة تغذي الصراعات الداخلية، وتُعيق جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. كما أن تدفق هذه الأنشطة غير القانونية يُمثل تهديدًا مباشرًا على سيادة الدولة وقدرتها على فرض قوانينها الداخلية.

(5) الصراعات الطائفية والانقسامات الداخلية: تُعد سوريا مجتمعًا متعدد الطوائف والإثنيات، وأي تجاهل لمطالب فئة معينة قد يؤدي إلى اندلاع صراعات داخلية جديدة. عدم تحقيق التوازن في تمثيل القوى، خاصةً تجاه المكونات الكردية والأقليات الدينية، قد ينجم عنه توترات تزيد من حدة الانقسامات الداخلية. تُظهر التجارب السابقة أن مثل هذه الانقسامات تُفضي إلى تفاقم الصراعات الأمنية والسياسية، مما يعيق مسيرة الإصلاح والتسوية.

لمواجهة هذه التحديات الأمنية، يتعين على الحكومة الجديدة تعزيز قدراتها الأمنية بشكل عاجل، وتطبيق إصلاحات جذرية في الأجهزة الأمنية والقضائية لضمان تنفيذ القوانين بشفافية وعدالة. كما يتطلب الأمر تنسيقًا دوليًا مشتركًا يضمن عدم استغلال الفوضى الأمنية من قبل التدخلات الخارجية. على الحكومة السورية إدراك أنها لا تحمل وحدها ضمانات للعبور نحو الاستقرار أو الدولة المدنية. تشكيلها كشف هشاشة البنى السياسية السورية، وعمق الانقسامات المجتمعية، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. ومع أن البعض يرى فيها “أملًا مشروطًا”، إلا أن آخرين يعتبرونها “استمرارًا بأدوات جديدة” لنهج سلطوي مغلّف. الحقيقة أن مستقبل هذه الحكومة – وسوريا ككل – رهن بقدرتها على إعادة إنتاج شرعية سياسية جديدة، لا تُبنى على الغلبة أو الولاء، بل على التوافق والمؤسسات والحقوق والتمثيل المتكافئ. دون ذلك، يبقى المشهد الانتقالي مجرد مرحلة أخرى في مأساة مفتوحة.

العلاقات الخارجية والتوازنات الداخلية والإقليمية:

تشكل العلاقات الخارجية والتوازنات الداخلية والإقليمية عنصرًا حاسمًا في مسار التحول السياسي السوري، حيث لا يمكن فصل الوضع الداخلي عن التأثيرات الخارجية. في هذا السياق، تظهر مواقف عدة تجاه تشكيل الحكومة السورية الجديدة، لعل من أبرز هذه المواقف ما يلي:

(1) موقف الكرد: لطالما لعبت الفصائل الكردية دورًا معقدًا في المشهد السوري؛ إذ يسعون لتحقيق حقوقهم السياسية والثقافية بعد سنوات من التهميش. ومع تشكيل الحكومة الجديدة، يُتوقع أن يتطلع المكون الكردي إلى تعزيز تمثيله والمطالبة بمشاركة أوسع في العملية السياسية. ومع ذلك، يستمر التدخل التركي في المناطق الكردية كمحاولة للحد من نفوذهم، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات الداخلية وصعوبة الوصول إلى تسوية شاملة. ويؤكد هذا الوضع الحاجة إلى توافق سياسي يحترم حقوق الكرد ويضمن مشاركتهم الفاعلة في بناء الدولة.

(2) موقف الولايات المتحدة: تبدي الولايات المتحدة اهتمامًا بالغًا بتطورات سوريا، خاصةً في ظل محاولات تركيا لتوسيع نفوذها في الشمال السوري. تدعو واشنطن إلى ضرورة تشكيل حكومة شاملة تمثل جميع الأطياف السورية وتدين أي تدخلات خارجية تُزعزع استقرار البلاد. وفي الوقت نفسه، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز التعاون مع قوات السورية الديمقراطية، التي تُعتبر شريكًا استراتيجيًا في مواجهة الإرهاب. إلا أن التباين في المصالح قد يؤدي إلى تضارب في السياسات، مما يزيد من تعقيد الحلول الدبلوماسية للمشهد السوري.

(3) الموقف الأوروبي: يُظهر الاتحاد الأوروبي موقفًا حذرًا ومتوازنًا حيال التطورات السياسية في سوريا، وخاصة في ما يتعلّق بمسألة تشكيل حكومة انتقالية محتملة في مرحلة ما بعد الأسد. إذ يتأرجح الدور الأوروبي بين دعم المسار السياسي للأمم المتحدة وفق القرار 2254، وبين التحفّظ تجاه التفاعلات الميدانية التي تتجاوز هذا الإطار، سواء جاءت من قوى المعارضة أو من مبادرات إقليمية لا تحظى بتوافق دولي.

(4) موقف القوى العربية: تتباين مواقف الدول العربية تجاه الوضع السوري؛ إذ تُعبر بعض الدول عن دعمها لعملية إعادة بناء سوريا على أسس وطنية شاملة، بينما تتردد أخرى في مواجهة النفوذ التركي المتزايد. يرى بعض المحللين أن التدخل التركي يُمثل تهديدًا لسيادة سوريا ويُعقد من تحقيق الوحدة الوطنية، في حين أن دولًا أخرى قد ترى في وجود تركيا عنصر استقرار ضد التطرف. إلا أن الانقسام في المواقف العربية يُعيق جهود تنسيق السياسات لدعم العملية السياسية السورية بشكل موحد، مما يترك المجال أمام القوى الكبرى لاستغلال الفوضى وتحديد مسار الحلول الدولية.

إضافةً إلى ذلك، فإن التوازنات الإقليمية تُعقد المشهد السوري؛ فروسيا وإيران تسعيان إلى الحفاظ على نفوذهما في سوريا، بينما تُعبّر القوى الغربية عن رغبتها في تحقيق تسوية سياسية تضمن استقرار الدولة وحماية حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، يصبح من الضروري للحكومة الجديدة أن تُوازن بين هذه الضغوط الخارجية وتوجهاتها الداخلية من أجل بناء نظام سياسي يكون قادرًا على استيعاب كافة الأطياف وتحقيق الوحدة الوطنية. فعلى الصعيد الداخلي، يُعد تحقيق التوازن بين تمثيل كافة الفئات، بما في ذلك المكون الكردي والأقليات الدينية، من الضروريات الأساسية التي يجب أن تضمنها الحكومة لضمان شرعية النظام واستقراره. إذ إن التاريخ السوري يشهد على أن أي عملية استبعاد أو تهميش تؤدي إلى تفاقم الانقسامات وتكرار الصراعات. وعلى الصعيد الأمني، تواجه الحكومة تحديات معقدة تتمثل في تهديدات تجدد النشاط الإرهابي، وتنظيم الميليشيات الموالية للنظام السابق، والتدخلات الخارجية، والتوترات الطائفية، والتحديات على الحدود. إن مواجهة هذه التحديات تتطلب إصلاحات جذرية في الأجهزة الأمنية والقضائية، وتعزيز التعاون الدولي لمنع استغلال الفوضى الأمنية لتحقيق مكاسب سياسية من قبل قوى خارجية.

موقف الكرد، الذي طالما كان معقدًا، يجب أن يُؤخذ في الاعتبار ضمن معادلات الوحدة الوطنية، حيث يطالب الكرد بحقوقهم في ظل نظام طالما تهميشهم. في الوقت نفسه، تُظهر الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا بضرورة تشكيل حكومة شاملة تُتيح لجميع الأطياف المشاركة في صنع القرار، بينما تتباين مواقف القوى العربية بين دعم جهود إعادة البناء وبين رفض النفوذ التركي المتزايد. هذا التوازن الدولي، مع جميع تناقضاته، يضع سوريا أمام تحدٍ مزدوج: ضرورة الحفاظ على سيادتها واستقلالها، وفي نفس الوقت، تحقيق توافق داخلي يُعزز من استقرارها في ظل الضغوط الإقليمية والدولية.

ختامًا، يمثل مستقبل سوريا في هذه المرحلة الانتقالية معركة حاسمة على استعادة الحقوق والحريات وتحقيق الوحدة الوطنية. إن نجاح الحكومة الجديدة يعتمد على قدرتها على فتح قنوات حوار شاملة، وإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تُعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن، وتضمن مشاركة جميع مكونات الشعب السوري. وفي ظل هذه التحديات، يتطلب تحقيق التحول إرادة سياسية حقيقية من قيادات سوريا، ودعمًا دوليًا وإقليميًا متوازنًا، فضلاً عن مشاركة فعالة من المجتمع المدني. إن بناء سوريا على أسس ديمقراطية شاملة واستقلالية مؤسساتية هو الطريق الوحيد للخروج من دوامة الفوضى التي شهدتها البلاد سابقًا، وتحقيق مستقبل مشرق ينعم فيه المواطن السوري بالاستقرار والازدهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى