
في خضم السؤال عن الهوية سيظهر على الساحة اليونانية فيلسوفان ستصبح مجادلاتهما وحواراتهما مسار نقاشٍ وبحث على طول الفلسفة والسيسيولوجية إلى يومنا الراهن، وهما فيلسوف الثبات “بارمانيدس” وفيلسوف الصيرورة “هيرقليطس” إن مامهد لظهور هذه المعارك الفكرية بين كلا الفيلسوفين ، إنما هو بالأساس نقاش أنثروبولوجي أرّق الجماعة المتفلسفة وهو الخوف من الصيرورة أي الخوف من عدم وجود ثابت تُدرك به صيرورة العالم – والذي هو بمثابة خوف أبدي سنتوارثه وهو يحيط بنا إلى هذه اللحظة – وبعبارة أكثر دقة كان البشر يخافون من تلك الحركة التي تجتاح الطبيعة وأرادوا إخضاع هذا التغيير إلى ما سموه “اللوغوس” هذا اللوغوس الذي كان مناهضاً للجهل. إن وجود الصرورة وانتشارها كان بالنسبة لليوناني دليلاً على الفشل في القبض على الواقع ولذلك فهذه الصيرورة سميت مجازاً بالشر أو بالشبح حسب أفلاطون.
إن بوادر السؤال حول “الكثرة” وضرورة وجوده وإمكانية إزاحته بدأ مع اليونان إن الدولة كانت دائماً في حالة هلع من وجود المختلف لذلك رأى أوجلان في الشعوب القديمة والتي تسمى جزافاً بالشعوب البدائية جماعاتٍ عاشقة للكثرة والإختلاف فمن خلال هذا المختلف كانوا يشعرون بالحرية والأمان ، إن هذا الشعور سيتبدل مع ظهور”الدولة-الأنا” والتي وقعت في حالة صراع مع وجود المختلف المتباين، وفي خضم هذا اللايقين شرع الفلاسفة يبحثون عن إئتلاف أو وحدة هوياتية لضبط إيقاع التنوع. إن جملة المصطلحات التي بدأت تدوالها داخل اللغة اليونانية ” الإله – الواحد – الزعيم – كبير الآلهة….” هي مجرد تنويعات هووية كانت الغاية منه إخماد نار اللايقين وإمدادنا بالقوة اللازمة لإخضاع هذا اللايقين إلى “اللوغوس – العقل” فحتى الصيرورة عند أكبر مدّعيها “هيرقليطس” لم تسلم من الهوية بل كان يعد الثابت هدفاً أبستمولوجياً لإدراك المختلف.
ونستطيع القول أن نقاشات جميع الفلاسفة الحامية الوطيس والتي كثرت بعد هذين الفيلسوفين “بارامنيدس – هيرقليطس” إنما هي بالأساس مجرد تنويعات وتعديلات على فلسفتهما إن هذين الفيلسوفين وضعا حجر الأساس لجملة مشاكلنا والتي ما نزال نعاني منها إلى الوقت الراهن . فما تزال النقاشات حول الهوية هي أكثر المجادلات المتداولة لدينا على الساحة العمومية والفكرية ، ومازال الفكر الشرقي خاصة يعتبر الإرتداد عن الهوية بأطيافها “الدينية – الإثنية – اللغوية – الجهوية” جريمة شنعاء. إننا وبكل أسى مازلنا داخل سؤال “ما هو” والذي تجعل من كل آخر مجرد موضوع أو امتدادٍ للذات والذي اقترح بها نبي الحداثة “ديكارت” ولم ننتقل بعدُ إلى السؤال الحيوي الذي طرحه “نيتشه” علينا سؤال “من هو” أو السؤال المنهجي الأنطولوجي الذي قدمه أوجلان ذات يوم “كيف نعيش” .
والسؤال هنا ماالذي نقصده بالهوية بذاك المعنى النظري؟
تطرح الهوية نفسها داخل عملية الوجود أو لنقل داخل الإطار السيسيولوجي على عدة معاني :
أولها – أنه لا يكون ولا يفسد: بمعنى أن الهوية لا تتشكل من شيء آخر فهي مشكّلة من ذاتها ولنفسها فالاتجاه لخلق هوية عربية أو كردية أو تركية هو تثبيت لمقولة الواحد الذي لا يحتاج إلى آخر في عملية تكوينه أو تأسيسه ، وهو لا يفسد فلا دخل للزمن فيه فهي موجودة منذ الأزل ، وعلى ذلك كان هناك دائماً صراعاً تاريخي بين مدّعي الهوية الواحدة لإثبات الأقدمية وهو ما نعيشه نحن الشرقيين باعتبارنا مرضى التاريخ الهووي كما وصف به نيتشه ذات قرن الشعب الألماني هذا السياق دائماً ما يحول الآخر إلى مجرد ضيف داخل حدودي أنتظر خروجه أو لاجئٍ يجب طرده .
ثانياً – إنه كلٌّ متجانس متماثل مع ذاته: فهو لا ينتقل إلى شيء آخر غير نفسه وهو لا يعتمد على شيء آخر غيره من أجل حقيقته . إنه مكتفي بذاته والساعي للحفاظ على هذا التجانس من أي انقسام وهو يرفض دخول الآخر عليه خوفاً على تجانسه ، فلا يمكن أن يمتزج شيء إضافي يغير من تماسكه ولذلك ترتبت عليه القاعدة المنطقية إنه “هو هو” وليس من المستغرب أن كل هوية تكره وتتجنب الاختلاط بغيرها، إنها تمقت آخرية الآخر ، وتهدف دائماً البحث عن النقاوة أي “الهوية الخالصة”.
ثالثاً – إنه ثابت محدود : فهو يظل دائماً في حدوده إنه دائماً ما يلجأ إلى الحدود. وبكرّة واحدة يمكننا القول إن الحدود اختراع دفاعي بالمعنى الهووي الهدف منه هو أن نميز أنفسنا عن الآخر، إن الحدود دائماً ما تريح الهوية ولذلك درجت الدول أن تستنفر أقصى قوتها للدفاع عن حدودها الهووية خوفاً من دخول الآخر. إن التعرف على الآخر لا يكون إلا على حدود الهوية ، لذلك كان إلغاء الحدود والتعولم أكبر تحدٍّ أنطولوجي للهوية، ولذلك دائماً ماكانت الهويات الدينية والقومية تقف في وجه الكوكبية أو أي نمطٍ من الإنسانية المشتركة بغض الطرف عن وجاهة الدعوى فهي ترفضها من زاوية الخطر على نقاوتها ، ومن ثم فليس من الغريب أن تعج خطابات المتدينين والقوميين بشعارات الحفاظ على الهوية الدينية أو الوطنية وأن الآخر هو دائماُ تهديد يريد إمحاء الهوية . إن كل ردود الفعل التي تتخذها هذه الاتجاهات الراديكالية هي في صميمها استدعاءٌ صرف لأفكار بارامنيدس عن الهوية الثابتة ، إن الهويات وبكلمة واحدة تعشق الحدود بشكل جذري .
رابعاً – إنه كامل عقلي لا يعتريه نقص : فهو منذ الخليقة لا يتغير وهو يحيط بنا ويملؤنا فهو دائماً مضادٌ للتجربة فالأس الميتافيزيقي للهوية قائم على فرضية وهي انها ليست بمشروع بمعنى نحن لا نبني هويتنا وإنما فقط تأتي إلينا وننتمي إليها ، فنحن نولد لنكونها من غير أن نملك أي مقدرة على تغيير مصيرها .
نصل مع هذا التصنيف إلى نتيجة وهي أن الإنتماء محدد مسبقاً داخل إطار الهوية فلا دخل للإرادة الفردية فيما تكون ، أي إنها تنزع الإرادة الحرة عنا فأنت لست ما تريده بل ما يراد لك ، إنه يستكمل مصيره المعد له سلفاً وعليه وبلغة معكوسة للفرنسي سارتر تصبح ماهية الهووي سابقة على وجوده، وتماشياً مع الألماني هايدغر لا يغدو “وجوده هناك” ينتظر منه أن يؤسسه أو يبنيه إن الهووي صاحب وجود كامل لا أمل في تغييره ويبقى هذا الوجود بمثابة لعنة عليه أو حجر أسود بين يديه كما يقول فتحي المسكيني.
مع الحداثة تحولت الهوية إلى لغة القوة فكتابات الفلاسفة الحداثيين منذ ديكارت إنما تتمركز حول إنشاء نمطٍ جديد من الهوية “براديغم الهوية” وهذا البراديغم وصل نقاشه الفلسفي الأعمق على يد”الرومنسيين” المنبع الأول لظهور الدولة القومية والتي عوّلت على إنشاء هوية خاصة بشعبٍ ما “روح الشعب” وانتهت إلى أن الخصوصية الهوياتية والإعلاء من شأن هذه الخصوصية هي المعبر الوحيد الذي نستطيع أن نعول عليه لطرح أنفسنا ، هذا النقاش مهد لحاجة الهوية إلى التسور “إنشاء الحدود” وانتشار مصطلح الشعوب ذات الهوية الواحدة ، لذلك اعتبر ميشيل فوكو من بين آخرين أن الدولة الحديثة ركزت على الحدود والأراضي وهذا التركيز كان ضرورياً لظهور فكرة الشعب بالمعنى الحديث . فالسؤال عن الشعب هو سؤال عن الهوية الحاملة لها لا أكثر.
مع الاستالينية والنازية ستصل الهوية إلى أعلى مستوياتها متخذة لغة قصوى من التطرف وسيعج المعجم اللغوي بتعابير هووية صميمية من قبيل “الجيد-السيء” – “القبيح-الجميل” – “القوي-الضعيف” – “الأنا –الآخر” – “العدو-الصديق” – “من منا-منا ليس منا”.
وبالمجمل فإن الهوية مع الحداثة قامت على جملة أوهام :
وهم الإكتفاء الذاتي: ينتقد جل دولوز منطق الهوية كقدرة على التحقق بذاته والاكتفاء بنفسه ويحل محله مفهوم العلاقة بدلاً من الماهية ، إنه ينسف الهوية المتمركزة حول الذات فهو يرى أن كل ماهو موجود صادرٌ عما يتجاوزه ، فلا شيء يحصل في الداخل ، كل شيء في الخارج. فإني لا أعود إلى نفسي واكتشفه كما يدعي أوغسطين بل من خلال علاقتي مع الآخرين أولئك الذين يعطونني القدرة على معرفة ذاتي .
وهم الجوهر: أي أن نسعى خلال مسيرة الحياة إلى التطابق “التمثل الصرف مع الهوية” . إن الفشل في التطابق يعني أن تتحول إلى مجرد نسخة مشوهة أو زائفة من ذاتك وتنتهي لأن تصبح حسب أفلاطون كائناً شبحياُ .
وهم التأسيس: وهي القول لقدرة الهوية على أن تبدأ من دون قبليات ويسميه دولوز بوهم الافتتاح “نحن من أسسنا الدولة وبالتالي هي ملكنا” أي الوهم القائل بقدرة الهوية الواحدة على إنتاج مشروعها وهذا الإدعاء يدخلنا تحت باب الثرثرة الإستعلائية.
وهم المرآوية: إن الفكر الهووي ومهما فعل لا يستطيع أن يتعامل أو ينظر إلى الآخر إلا من خلال مرآته الخاصة ، إن الشعوب الهووية صنعت لنفسها مرآة عملاقة لماهيتها والتي من خلالها تحدد وتصنف الآخر في الوجود . عبّر سارتر أفضل تعبير عن الآخر عندما وصفه بالجحيم “الآخرون هم الجحيم” لم يقصد سارتر ذاك الآخر المختلف ،إنما هو بالأساس يضع حكماً أخلاقياً من حيث أن الحداثة أدت إلى تمجيد الذات واستعلائها ومرآويتها في مقابل جعل الآخر جحيماً لا يجوز الإقتراب منه .
من هو الآخر من منظور الهوية ؟
دائماً ماكان الآخر موضوع كراهية داخل الخطاب الهووي ودائماً ماكانت الكراهية تحمل توقيعاً قومياً أو دينياً ، فنحن نولد داخل حواضن مليئة بكراهية جاهزة تجاه المغاير وحذراً من الإختلاط به وهذا الاخر لا يملك في جوفه سوى أن يبادلني ذات الشعور. هناك دائماً بين الهوية والآخر منطقة محايدة لا يجوز الإقتراب منها وإن حدث واقترب سيتحول إلى “هوموساكر” أي مهدور الدم. فكل آخر بالنسبة إلى الهوية هو بمثابة عدو لذلك تدرجت الهويات عبر تاريخها على صناعة حكاية عن عدو ، هذه الحكاية كانت بمثابة تغذية هووية . تغذت الهوية التركية على صناعة العدو الكردي والإسرائلي على صناعة العربي والعكس صحيح. يدّعي فوكو أن الهويات مرّت بفترتين الأولى “صراع الأعراق” حيث كان النفي والإعتراف متبادلين بين الجميع والثاني وهو الأخطر بدأت مع الهتلرية والاستالينية وهي “نقاوة الأعراق” حيث لا ندخل هنا في معركة النفي والاعتراف أو فيما سماه هيغل جدل السيد والعبد هنا يصبح الآخر غير موجود أو بكلمات كارل شميث هناك عدو أخلاقي فقط .
أمام هذا التاريخ المجنون للهويات والذي لم نسلم نحن الشرقيين منه بل قل أعدنا ابتكاره بصورة أرقى حيث باتت هوياتنا مثل غول يريد أن يبتلعنا دون أن نُجهد أنفسنا عناء سؤال ما الفائدة من إنتاج مثل هذه الصيغ السطحية المعبرة عن النفس البشرية، ما نريده هنا ليس تقديم ورقة لنفي الهويات أو نسفها وإنما البحث عن أنماط أخرى من الوجود أرحب وأكثر صحة نستطيع بها أن نعبر عن أنفسنا. وإذا لم نساءل أنفسنا جدوى التعويل المفرط على الهوية بكافة أشكالها فلا مفر من أن نتحول إما إلى مجنون فوكو أو غريب كامو أو هوموساكر أغمانين أو هولوكوست اليهود أو الكرد أيتام العالم هؤلاء الذين عُدوا فائضاً هوياتياً يجب التخلص منه ومن ثم ينتهي مصيرنا أمام جنون هوياتي لا مفر من انقراض آخر مطالبيه.