دراسات

الجولة الثانية.. ما مستقبل المفاوضات الأمريكية- الإيرانية؟

تحليل: شروق صابر

عقد الاجتماع التفاوضي الأول بين الوفدين الأمريكي والإيراني يوم 12 أبريل، انتهى بلقاء مباشر ولو لبضع دقائق، بين رئيسي الوفدين “وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي والمبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف”، وذلك في أول مفاوضات رسمية مباشرة بينهما تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، منذ انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018 أثناء ولايته الأولى.

جرت المفاوضات بوساطة سلطنة عمان التي لطالما لعبت دور الوسيط بين إيران والدول الغربية. فقد كانت سابقًا طرفًا محوريًا في مفاوضات سرية أدت إلى إطلاق سراح محتجزين أجانب وتوصل إلى اتفاق 2015 النووي. ومن المقرر أن تعقد الجولة الثانية من المفاوضات يوم 19 أبريل.

وبالرغم من أن الجولة الأولى من المحادثات اتسمت بطابع يوحي بتهدئة نسبية في الأجواء، إلا أنه من الصعب تجاهل اتساع هامش الشكوك المتبادلة بين الطرفين، وهو ما يُبقي منسوب الحذر مرتفعًا. مع الوضع في الاعتبار أن هذه المفاوضات لم تكن لتُستأنف لولا التحولات الميدانية اللافتة التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، إذ تأتي في سياق إقليمي بالغ التوتر، تُهيمن عليه مؤشرات التصعيد، لاسيما مع تزايد الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة.

الجولة الأولى.. استكشاف الممكن وغير الممكن

تمت الجولة الأولى من المفاوضات بشكل غير مباشر بين الدولتين، إذ جلست الوفود الأمريكية والإيرانية في غرف منفصلة، وتولى وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي نقل الرسائل، وقال إن الأجواء كانت “ودية ومشجعة لتقريب وجهات النظر”، معربًا عن أمله في أن “تبدأ هذه الاجتماعات عملية حوار تهدف إلى التوصل إلى اتفاق عادل وملزم”.

بدا جليًا أن الجولة الأولى لم تكن للتفاوض الحاسم بل لفهم حدود المرونة والجمود لدى كل طرف. بعد ذلك ستنتقل الأمور من مرحلة الخطوط العامة إلى التفاصيل الدقيقة، وهي عادةً المرحلة التي تتعثر فيها المفاوضات. لكن في المجمل يمكن القول أن مخرجات الجولة الأولى أوضحت أن إيران والولايات المتحدة على الأرجح متفقتان على الهدف النهائي من هذه المفاوضات. وفيما يلي أبرز ملامح المحادثات الأمريكية – الإيرانية في الجولة الأولى:

– اعتماد النهج التركيزي: اعتبرت طهران أن الجولة التمهيدية من المحادثات كانت مُرضية إلى حد كبير، إذ تمحور النقاش حصرًا حول برنامجها النووي، دون التطرق إلى ملفات شائكة أخرى كدعمها لجماعات إقليمية مثل حماس وحزب الله والحوثيين، أو مطلب تفكيك منشآتها النووية. هذا التوجه عزز انطباعًا إيجابيًا لدى الجانب الإيراني بشأن جدية الطرف الأمريكي في المضي بمفاوضات مركزة، وأن الأمريكيين يقبلون بها كلاعب إقليمي قوي دون اشتراط تغيير سياساتها في الإقليم.

التركيز الحصري على النووي يعكس احتمال أن الطرفين يسعيان إلى اتفاق مرحلي أو تفاهم محدود، بدلاً من اتفاق شامل كما كان يُطرح سابقًا (الذي يشمل النفوذ الإقليمي والصواريخ الباليستية). هذا يعكس واقعية في التفاوض، وإدراك بأن تحقيق “كل شيء” في اتفاق واحد بات غير عملي في السياق الحالي.

لكن على جانب آخر لا يمكن إغفال أن هذا التوجه قد لا يُرضي حلفاء واشنطن الإقليميين (مثل إسرائيل)، التي تعتبر سلوك إيران الإقليمي أكثر تهديدًا من برنامجها النووي. فقد حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أن أي اتفاق يُبرم مع إيران يجب أن يتضمن تدمير منشآتها النووية بالكامل وتحت إشراف أمريكي مباشر. وإلا، بحسب قوله، فإن الخيار العسكري سيبقى مطروحًا كخيار وحيد لحماية أمن إسرائيل. بالتالي، قد تواجه الإدارة الأمريكية ضغوطًا سياسية داخلية وخارجية إذا لم تربط في المرحلة المقبلة بين الملف النووي والدور الإقليمي لإيران. ما يتيح القول أن واشنطن قد تكون تجنبت القضايا الشائكة في البداية لتسمح ببناء الثقة التدريجية بين الجانبين، ما قد يُمهد للتطرق إلى ملفات أخرى إما بالتوازي أو لاحقًا.

– رسائل متنوعة: قبل أيام من المحادثات، حذر ترامب من أن الولايات المتحدة “ستستخدم القوة العسكرية إذا لزم الأمر” لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، مؤكدًا أن إسرائيل “ستلعب دورًا قياديًا” في ذلك السيناريو.

ورد علي شمخاني، كبير مستشاري المرشد الأعلى الإيراني، بأن استمرار التهديدات العسكرية سيدفع طهران إلى طرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ونقل اليورانيوم المخصب إلى مواقع أكثر أمنًا. كما حذر علي لاريجاني، مساعد المرشد الأعلى، من أن أي هجوم عسكري على إيران سيدفعها لتطوير أسلحة نووية.

وفي خطوة لافتة، وجّه الرئيس ترامب رسالة إلى المرشد الإيراني علي خامنئي أعرب فيها عن رغبته في التوصل إلى اتفاق دبلوماسي وتجنب التصعيد العسكري. ورد خامنئي برسالة تشير إلى انفتاح مشروط على الحوار، في تطور نادر يُظهر استعدادًا سياسيًا متبادلًا لفتح نافذة تفاوض.

ويمكن القول أنه رغم التنوع في محتوى الرسائل المتبادلة بين الطرفين، فإن المعلومات تُظهر أن الطرفين يميلان أكثر إلى الوصول لاتفاقية. وذلك لعدة اعتبارات منها، خشية الطرفين من الضغوط الداخلية (في إيران من التيار المتشدد، وفي واشنطن من الكونجرس والمعارضة الجمهورية). واستمرار الرهان على الحلول الدبلوماسية غير المعلنة لتجنب التصعيد العسكري أو الانهيار الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).

مستقبل المفاوضات

رغم أن المباحثات ما تزال في مراحلها التمهيدية، إلا أنه يمكن القول أن نجاحها سيتوقف على مدى استعداد الطرفين للتوصل إلى اتفاق تقني في وقت قصير. ويبدو أنه رغم البداية الإيجابية، فإن مستوى عدم الثقة بين الطرفين لا يزال عميقًا. فقد انسحب ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015 وفرض عقوبات مشددة على إيران، كما أمر باغتيال الجنرال قاسم سليماني عام 2020.

ولم تُعرف بعد ملامح الاتفاق الذي تسعى إليه إدارة ترامب، فرغم أن ترامب معروف بموقفه المتشدد تجاه إيران، فإنه يسعى إلى تحقيق توازن بين التهديد والترغيب في السياسة الخارجية، بحيث يظل خيار التوصل إلى اتفاق مطروحًا، في الوقت الذي لا يفضل فيه الانخراط في حرب مطولة.

في المقابل أعربت إيران عن استعدادها لفرض قيود أكبر على تخصيب اليورانيوم وتقديم مزيد من الشفافية، مقابل رفع العقوبات المرتبطة بالملف النووي. إلا أنها ترفض في الوقت نفسه ربط المفاوضات النووية بأنشطتها في المنطقة وبرنامج الصواريخ الباليستية. وفيما يلي سيناريوهات لما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات القادمة:

– اتفاق مؤقت: قد تسعى إيران للعب ورقة الاتفاق المؤقت كحل مرحلي للأزمة مع واشنطن، بهدف تهدئة التوترات وتسهيل مسار المفاوضات تدريجيًا نحو اتفاق أوسع ونهائي. فلا تزال الآن القضايا المطروحة على طاولة التفاوض غير واضحة، خاصة في ظل التناقض بين إصرار طهران على حصر المحادثات في البرنامج النووي، وبين ما يُتداول في الدوائر الأمريكية من أن المفاوضات ستتطرق أيضًا إلى برنامج الصواريخ الإيراني وسلوك طهران الإقليمي.

أيضًا تواجه المفاوضات ضغوطًا زمنية حادة مع اقتراب 18 أكتوبر، الموعد الذي ينتهي فيه سريان “آلية العودة التلقائية للعقوبات” التي يقرها مجلس الأمن. وهي تدرك أن عدم التوصل إلى اتفاق قبل هذا الموعد قد يؤدي إلى تصعيد دبلوماسي وربما عسكري ضدها، خاصة من الجانب الإسرائيلي مع انتشار تقارير إلى أن إسرائيل قد توجه ضربة للبرنامج النووي الإيراني خلال هذا العام إذا لم يتم التوصل لاتفاق.

– التوصل لاتفاق أو تعثره: مع اقتراب الجولة الثانية من المفاوضات قامت واشنطن بإرسال رسائل تحذيرية إلى طهران وطمأنة في الوقت ذاته إلى حلفائها، حيث وصلت حاملة الطائرات الأمريكية الثانية المسماة “يو إس إس كارل فينسون” إلى بحر العرب، وتمركزت بالقرب من جزيرة سقطرى اليمنية. ووصلت هذه الحاملة برفقة مدمرتين وطراد حربي أمريكي لدعم العمليات الجوية ضد الحوثيين في المنطقة. ويمكن قراءة هذا الحدث من زاويتين:

أولًا: فالعمليات الجوية ضد الحوثيين في اليمن، والتي تنفذها المقاتلات الأمريكية انطلاقًا من “كارل فينسون”، قد تعكس ربطًا مباشرًا بين النفوذ الإيراني في المنطقة (خاصة من خلال الحوثيين) ومسار المفاوضات، إذ تحاول واشنطن من خلال تلك الخطوة، الضغط العسكري والنفسي على إيران بالتزامن مع اقتراب الجولة الثانية من المفاوضات. حيث توحي بأن واشنطن تلوح بالخيار العسكري في حال لم تُحقق المفاوضات تقدمًا، خاصة مع تصعيد إيران لبعض أنشطتها النووية. في هذا الإطار من المرجح أن تحذر طهران من محاولة واشنطن ربط نفوذها الإقليمي، وخاصة عبر الحوثيين، بملفها النووي، وتعتبر ذلك محاولة غير مشروعة لتوسيع نطاق التفاوض. وهو ما يعكس التمسك الإيراني بفصل الملفات، أي أنه لا تفاوض على النفوذ الإقليمي ضمن إطار النووي، ما يعقد مسار المفاوضات في المرحلة المقبلة.

يتزامن مع ذلك أيضًا، طرح مقترح من الجانب الأمريكي خلال المحادثات غير المباشرة التي جرت في مسقط بسلطنة عمان بين عباس عراقجي وستيفن ويتكوف، بنقل اليورانيوم المخصب الإيراني إلى روسيا، كمحاولة للحد من نطاق البرنامج النووي الإيراني ومنع استخدامه لأغراض عسكرية. وتشير تقارير إلى رفض إيران لهذا المقترح نظرًا الشك العميق الذي يسيطر على صناع القرار في طهران تجاه النوايا الأمريكية. بعد تجربة انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في 2018 (رغم التزام إيران ببنوده)، وترى إيران أن الاحتفاظ باليورانيوم المخصب داخل أراضيها هو “ورقة ضغط” أو ضمانة استراتيجية تمكنها من الرد في حال تكرار الانسحاب الأمريكي من أي اتفاق مستقبلي. سيضيف هذا الرفض “إن تأكد” عقبة رئيسية في مسار التوصل إلى اتفاق نووي جديد، خاصة إذا كانت واشنطن تعتبر نقل المواد النووية خطوة ضرورية لمنع إيران من امتلاك “قدرة اختراق” خلال فترة قصيرة.

ثانيًا: قد يشير التحرك الأمريكي الأخير في بحر العرب قبل الجولة الثانية من المفاوضات إلى إعادة إحياء للحضور الفعال في المنطقة، بعد سنوات من الانسحاب النسبي من بعض قواعد الشرق الأوسط، وإعادة هيكلة للردع البحري في ظل التوترات المتزايدة. مما يعطي رسائل طمأنة لحلفاء واشنطن، الذين يشعرون بقلق من التقارب الإيراني المحتمل مع الغرب أو من تمدد طهران عبر أذرعها الإقليمية. وأن لا يكون موجه بالأساس لخلط المفاوضات النووية مع أنشطة إيران الإقليمية، وأن تبدي واشنطن بعض التساهل في تلك النقطة، فرغم أن واشنطن تصر على شمول ملف الصواريخ والوكلاء الإقليميين في أي اتفاق “نهائي”، فإن التحرك البحري قد يكون وسيلة لتعزيز موقفها التفاوضي من دون دمج فعلي لتلك الملفات حاليًا. وقد تشير واشنطن عبر هذا التحرك إلى أنها لن تصمت على النشاط الإيراني الإقليمي، لكنها في الوقت نفسه لن تفجر المفاوضات بالضغط على هذا الملف الآن. هذا التوازن يمكن أن يفسر باعتباره نوعًا من التساهل المرحلي، يسمح بالتقدم في المفاوضات النووية مع إبقاء الملفات الأخرى معلقة.

ختامًا، رغم أن المباحثات ما تزال في مراحلها التمهيدية، إلا أنه يمكن القول أن نجاحها سيتوقف على مدى استعداد الطرفين للتوصل إلى اتفاق تقني في وقت قصير. ويرى البعض أن افتقار ويتكوف للخبرة قد يُعقّد الأمور، ما لم يكن مدعومًا بفريق تقني قوي. في المقابل، تؤكد سلطنة عمان قدرتها على لعب دور الوسيط الحيادي، مثلما فعلت سابقًا. وبالرغم من أن المشهد العام يعكس أن الطرفين يعتمدان استراتيجية مزدوجة من خلال تبنيهم خطاب تصعيدي ظاهري لإبقاء أوراق الضغط على الطاولة، بجانب انخراط حذر في الدبلوماسية لتفادي الإنزلاق نحو مواجهة مفتوحة. إلا أنه في ظل التهديدات العسكرية المتصاعدة والموعد الحاسم في أكتوبر لانتهاء آلية “العودة التلقائية للعقوبات”، فإن الفشل قد تكون له تبعات إقليمية كارثية. لذا يعكس هذا التوازن في الخطابات فهمًا مشتركًا بأن الظرف الإقليمي والدولي الحالي لا يحتمل مغامرات عسكرية مفتوحة، خاصة مع تعدد الأزمات الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى