دراسات

تحديات الهُوِيَّة الكردية في الشرق الأوسط

تحليل: د. سحر حسن أحمد

بين القمم الشامخة التي تفصل الشرق عن الغرب، تنبض هُوِيَّة تأبى الاندثار، كجذور شجرة عتيقة تتشبث بتربة التاريخ. إنها الهُوِيَّة الكردية التي وُلدت من رحم الأرض، بين الجبال وروح السهول، نشأت من صخورها الصلبة، وترعرعت على لغة تنساب كالنهر، وأغانٍ تحمل أصداء الحنين للوطن. لكنها لم تعرف يومًا السكون، فقد سارت في درب وعر، تُحاصرها العواصف، بين محاولات الطمس والتذويب، وبين عزيمة فولاذية تأبى الخضوع، كالنار التي كلما حاولوا إخمادها ازدادت اشتعالًا.

فمنذ قرون، والكُرد ينسجون أحلامهم بلغة تأبى الاندثار، يحفرون حكاياتهم في صخور جبالهم الشاهقة، لكنهم يواجهون في كل منعطف من التاريخ جدرانًا تسعى لحجب نور هويتهم. تارةً تحت وطأة السياسات القومية، وتارةً تحت ضغوط التحولات الاجتماعية والاقتصادية، يجد الكرد أنفسهم في اختبار مستمر بين الحفاظ على إرثهم الثقافي والتكيف مع واقع متغير.

فالهُوِيَّة الكردية تُعد واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الشرق الأوسط، حيث تمتد جذور الكرد في المنطقة منذ آلاف السنين، لكنهم يواجهون تحديات كبيرة في إثبات هويتهم السياسية والثقافية ضمن الدول التي يعيشون فيها؛ إذ يتوزع الكرد بين تركيا، إيران، العراق، وسوريا، وهذا ما يجعل قضيتهم مرتبطة بالعديد من التطورات الإقليمية والدولية. هذا بالإضافة إلى معانة الكرد من محاولات الطمس الثقافي، القمع السياسي، وغياب التمثيل القانوني الذي يُعرقل تطور هويتهم القومية.

ولكن هناك بعض الإشكاليات التى يجب طرحها مع محاولة الإجابة عليها من قبيل . ماهو مفهوم الهُوِيَّة؟ وماهى مكوناتها ؟ وأين يعيش الكرد؟ وماهو تاريخهم؟ ومتى برزت مشكلة الهُوِيَّة الكرية ؟ ما هي التحديات التي تواجه الهُوِيَّة الكردية اليوم؟ وكيف يُقاوم الكُرد محاولات التهميش دون أن يفقدوا روحهم المتجذرة في الأرض؟ بيد أنه صراعٌ لا ينتهي بين الانتماء والضياع، بين الماضي الذي يأبى النسيان والمستقبل الذي يبحث عن ملامحه.

وفى البداية يجب أن نعرف ماهى الهُوِيَّة وماهى مكوناتها، فمصطلح الهُوِيَّة قد عُرف فى أكثر من علم ، كما يتوقف التعريف على السياق الذى يُناقش فيه؛ إذ يُعتبر مفهوماً متعدد الأبعاد يستخدم فى اللغة والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وكذلك فى العلوم الطبيعية والتكنولوجية  وفى العلوم السياسية … إلخ.  

ماهية الهُوِيَّة    

الهُوِيَّة ليست مجرد مفهوم جامد، بل هي كيان ينبض بالحياة، تتشكل ملامحه من انتماءات الفرد والجماعة، وتتداخل أبعاده بين ما هو ذاتي وما هو جمعي. غير أن هذا التداخل لا يخلو من إشكاليات معقدة، إذ يُصبح تحديد الانتماء – سواء للفرد أو للشعب بأسره – قضية حاسمة في استقرار الدولة. فحينما تكون تركيبة الهُوِيَّة في مجتمع ما متشابكة ومتنوعة، قائمة على تعددية عرقية ودينية وطائفية، يغدو التحدي الأكبر هو تحقيق الانسجام دون أن يتحول هذا التنوع إلى وقود للصراعات.

يُشير مصطلح ” الهُوِيَّة ” في اللغة العربية يُشير إلى كلمة “هو”، فنجد مفهوم الهُوِيَّة    فى المعجم الوجيز هى ” الذات ” ، وفى المعجم الوسيط نجده يُعرف الهُوِيَّة على كونها حقيقة الشئ أو الشخص الذى تميزه دون غيره  كما يُشير المصطلح إلى مجموعة الصفات التي تميز كيانًا معينًا عن غيره، سواء كان فردًا أو جماعة. تتكون الهُوِيَّة من عدة عناصر، وهي ليست ثابتة بل ديناميكية؛ إذ قد يبرز بعضها في مرحلة معينة بينما يظل البعض الآخر غير ظاهر إلى حين. وقد عرف الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات، الهُوِيَّة بأنها «الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة فى الغيب المطلق». 

ويظل التعريف الذى عرفته الثقافة العربية بأنها ” كنة الشئ وذاتيته” فهُوِيَّة   الشئ تعنى وحدة الذات بالنسبة للإنسان وهُوِيَّة الشئ تعنى ثوابته التى تتغير وتتجدد وتفصح عن وجودها دون أن تُخلى مكانها لنقيضها ، طالما بقيت الذات على قيد الحياة ، فهى كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها عن غيره، وتتجدد فاعليتها ومكانتها دون أن تتغير أو تطمس معالمها”.

أما مفهوم الهُوِيَّة وفقًا للتحليل النفسي “هُوِيَّة نحن – أنا”، لا يُمكن للفرد أن يمتلك هُوِيَّة   “أنا” مستقلة دون الارتباط بهُوِيَّة   “نحن”. فالهُوِيَّة تنشأ من خلال عملية تاريخية وحضارية تنقل البشرية من مرحلة الهيمنة الجماعية إلى مرحلة أكثر تطورًا من التفرد. يتشكل المجتمع من خلال الممارسات والعلاقات المتبادلة بين أفراده، وهذه العلاقات ليست مجرد قوى طبيعية، بل تعتمد على طبيعة التنظيم الاجتماعي. وقد تبلورت الدولة-الأمة تدريجيًا لتُصبح الإطار الغالب لهُوِيَّة المجتمعات.

وفي الأدبيات المعاصرة، تُستخدم كلمة ” هُوِيَّة ” للإشارة إلى مفهوم المطابقة، أي مطابقة الشيء لنفسه أو لمثيله. وتبعًا للمعاجم الحديثة، تعني الهُوِيَّة الحقيقة المطلقة للشيء أو الشخص، متضمنة صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره، كما تُعرف أيضًا بوحدة الذات.

أما من منظور الفلسفة، تُعبر الهُوِيَّة عن الحقيقة الجوهرية المطلقة للشيء، والتي تميزه عن غيره، كما أنها تعكس خاصية المطابقة، أي مطابقة الكيان لنفسه أو لمثيله. وبهذا المعنى، تُعد الهُوِيَّة الثقافية لأي شعب جوهرًا ثابتًا ومشتركًا من السمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات.

وفى العلوم السياسية والقانونية، تُستخدم الهُوِيَّة للإشارة إلى وثائق إثبات الشخصية (مثل جواز السفر والبطاقة الوطنية)، أو مفهوم الهُوِيَّة السياسية التي تعكس انتماءات الأفراد للأحزاب أو الأيديولوجيات.

أما أزمة الهُوِيَّة، فهى الاضطراب الذي يصيب الفرد فيما يختصّ بأدواره في الحياة، ويصيبه الشكّ في قدرته أو رغبته في الحياة طبقًا لتوقّعات الآخرين عنه، كما يصبح غير متيقن من مستقبل شخصيته إذا لم يتيسّر له تحقيق ما يتوقَّعه الآخرون منه فيصبح فى أزمة.

وبناءً على ذلك، سواء انطلقنا من المفهوم اللغوي أو استندنا إلى الفلسفة الحديثة، يبقى المعنى العام للهُوِيَّة ثابتًا، فهو يشمل تفرّد الذات وتميزها عن الآخرين، بالإضافة إلى مطابقتها لنفسها. وهذا المفهوم يمتد ليشمل ما يُميز الأفراد والمجتمعات من قيم وخصائص ومقومات جوهرية.

ومما سبق يتضح أن الهُوِيَّة كمفهوم متغير بحسب المجال الذي تُناقش فيه. لكنها في جوهرها تدور حول التميّز، والاستمرارية، والتفرّد سواء للفرد أو الجماعة أو حتى الكيانات غير الحية في العلوم الطبيعية.

مكونات الهُوِيَّة    

       لاشك أن مفهوم الهُوِيَّة الذى سبق التعرض له قد حظى باهتمام كبير من قبل الباحثين ويكاد يجمع هؤلاء الباحثين على أن هناك ثلاث مكونات أساسية للهُوِيَّة ، اللغة والدين والثقافة.

كما ذكرت بعض المصادر الأخري أن الهُوِيَّة تتكون من عدة مكونات رئيسية تحدد شخصية الأفراد والمجتمعات، وتشمل:

  • اللغة: تُعد اللغة وسيلة التواصل الأساسية وتعكس الثقافة والتاريخ المشترك.
  • الدين: يؤثر الدين في القيم والمعتقدات ويُشكل جزءًا كبيرًا من الهُوِيَّة الثقافية والاجتماعية.
  • الثقافة: تشمل العادات، التقاليد، الفنون، الأدب، وأنماط التفكير التي تميز المجتمع.
  • الوطن: يمثل الانتماء الجغرافي والسياسي، ويشمل الجنسية، الحدود، والهُوِيَّة الوطنية.
  • التاريخ: الأحداث والوقائع التي شكلت المجتمع وأسست هويته.
  • العادات والتقاليد: السلوكيات والممارسات التي تميز كل مجتمع عن غيره.
  • القيم والمبادئ: الأخلاق والأفكار التي تحكم تصرفات الأفراد والجماعات
  • الاقتصاد: مستوى المعيشة، طبيعة العمل، والنظام الاقتصادي للمجتمع يؤثر في تشكيل الهُوِيَّة .

هذه المكونات تتداخل مع بعضها لتشكيل هُوِيَّة   متكاملة تعبر عن الأفراد والمجتمعات، كما تتخذ الهُوِيَّة عدة أشكال، منها الهُوِيَّة الثقافية والحضارية التي تميز أمة عن أخرى، الهُوِيَّة الشخصية التي تخص الأفراد، الهُوِيَّة الجمعية التي تعبر عن انتماء مجموعة معينة، إضافة إلى الهُوِيَّات القومية والوطنية.

    وقد أوضح المفكر عبدالله أوجلان فى ” مانفستو الحضارة الديمقراطية المجلد الرابع – أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط ” أن الهُوِيَّة ليست ثابتة أو منغلقة، بل هي مفهوم اجتماعي يتكيف مع تطور المجتمع، ويتفاعل مع الهُوِيَّات الأخرى لتشكيل تركيبات جديدة. فلا يوجد مجتمع بلا هُوِيَّة ، لأنها عنصر أساسي في الوجود، مثلها مثل الأخلاق والسياسة. كما أوضح أنه يُمكن تصنيف أبرز الهُوِيَّات المجتمعية وفقاً لتعدد مجالاتها.

أنواع الهُوِيَّات المجتمعية:

1- الهُوِيَّات القَبَلِيّة والعشائرية

تُعد القبائل أول أشكال الهُوِيَّة التي ظهرت في تطور المجتمعات، حيث بدأت التجمعات البشرية في صورة عشائر قبل أن تتطور إلى قبائل أكبر. أما “الكلان” فهو وحدة اجتماعية صغيرة لا يُمكن اعتبارها هُوِيَّة مستقلة، بل تُعد بمثابة النواة الأولى أو الخلية الأساسية التي تنبثق منها باقي الهُوِيَّات. لذلك، تُعد العشائر والقبائل من أكثر الهُوِيَّات الاجتماعية تماسكاً. ورغم تراجع دورها في العصر الحديث، إلا أنها لا تزال تظهر بأشكال مختلفة في المجتمع المدني، تماماً كما لا يمكن تصور المجتمعات دون عائلات، فمن الصعب أيضاً تصورها دون قبائل وعشائر.

2- الهُوِيَّات الوطنية

تنشأ الهُوِيَّة الوطنية كتطور طبيعي للقبائل، حيث تعتمد على روابط لغوية وثقافية مشتركة تمتد عبر التاريخ. وغالباً ما تسعى هذه الهُوِيَّة إلى إيجاد مساحة جغرافية تُعرف على أنها وطن أو بلد. لكن من المهم إدراك أن مفهوم الوطن يتجاوز كونه مجرد مكان، ليشمل أيضاً بُعداً ثقافياً يعزز الهُوِيَّة الجماعية. ليس من الضروري أن تصل كل المجتمعات إلى مرحلة الهُوِيَّة القومية، إذ قد تعيش عدة عشائر وقبائل وأقوام مختلفة ضمن كيان وطني واحد. أما فكرة الهُوِيَّة المتجانسة التي تُفرض على الجميع، فهي نتاج النزعات القومية المتطرفة.

3- الهُوِيَّة القومية

تتطور الهُوِيَّة القومية عندما تصبح المجموعة الوطنية قادرة على إدارة نفسها بشكل مستقر ودائم. وعند هذه المرحلة، يُمكن أن تتحول الهُوِيَّة إلى هُوِيَّة  الأمة أو الهُوِيَّة القومية. العامل الأساسي الذي يميز الأمة هو قدرتها على إدارة شؤونها بإرادتها الذاتية، سواء عبر نظام ديمقراطي أو نظام دولتي مركزي. في المجتمعات الاستغلالية التي تسعى إلى فرض هُوِيَّة   واحدة باسم الأمة، تُحرم الشعوب الأخرى من حقوقها في الحرية والمساواة، بل وحتى الطبقات الاجتماعية الدنيا داخل نفس الأمة قد تعاني من التمييز. أما في الأنظمة الديمقراطية، فتُتاح الفرصة للهُوِيَّات المتعددة للتعبير عن نفسها بحرية، مما يميزها عن الأنظمة القمعية التي تسعى إلى طمس التنوع الاجتماعي.

ومما سبق يتضح أنه إذا كان لكل شعب من الشعوب حضارته وهويته الوطنية، فإن للشعب الكردي خصوصية التى تُشكل سمة مضافة إلى هويته الوطنية، وتتمثل هذه السمة في أنّ تبلورها قد ارتبط بمواجهة تقسيم دولتهم إلى أربعة أقسام من طرف القوى الاستعمارية، وأنظمة حاكمة استهدفت وجودهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، وهنا يُمكننا القول: إنّ الشعب الكردي يخوض صراعاً مريراً للحفاظ على هويته القومية، وإثبات وجوده التاريخي على أرضه. لهذا كان النضال الكردي ولا يزال يسير في مسارين؛ مسار تحقيق الحقوق الوطنية، ومسار الحفاظ على الهُوِيَّة، لهذا نستطيع القول إن مفهوم الهُوِيَّة لدى القومية الكردية يختلف كثيراً عن مفهوم الهُوِيَّة لدى الشعوب الأخرى.

ويجب أن يعترف الجميع أن للهُوِيَّة  خصوصيةُ، فهي المعبّر عن ملامح أي شعب، وأن الأرض واللغة هما القاعدة الأساسية لهذه الهُوِيَّة، وبالطبع يضاف إليهما وقائع التاريخ وأحداثه التي تتحول بحكم الزمن إلى جزء من الشخصية العامة للفرد والأمة. وتقول حقائق التاريخ إن هُوِيَّة  الشعوب ظلت هدفاً للقوى الاستعمارية، وسعت الأنظمة الحاكمة لتدميرها أو تزييفها وطمس ملامحها، ولهذا كان نضال الشعوب على مرّ التاريخ ضد الاحتلال الأجنبي أو أنظمة القمع القومية، يرتكز على طرد المستعمر ومقاومة هذه الأنظمة والاحتفاظ بالهُوِيَّة    القومية؛ أي أن النضال الوطني ارتبط بالنضال الثقافي، وربط ما بين التحرر والحفاظ على الهُوِيَّة الثقافية.

ولا شك أن واقع الهُوِيَّة الكردية ليس مجرد صفحات مدونة في الكتب، بل هو تجربة متجددة، يواجه فيها الكُرد قيودًا تحدّ من انتشار ثقافتهم، وسياسات تُحاول اختزالهم في أرقام بلا ملامح. ومع ذلك، تظل الأحلام الكردية عصية على الانكسار، تُبعث في قصائدهم، وترتسم في حكايات الأمهات، وتُجسدها الموسيقى التي تحمل بين نغماتها وجع الغربة وأمل العودة.

فمن المؤكد أن الهُوِيَّة الكردية حقيقة تفرض وجودها رغم التحديات في هذا التقاطع بين الحلم والواقع، يظل السؤال معلقًا، والإجابة رهن إرادة شعب يرفض أن يكون مجرد ظل في سجلات التاريخ.

التاريخ والجذور القومية للهُوِيَّة الكردية

لا شك أن الهُوِيَّة الكردية تُعد واحدة من أقدم الهُوِيَّات القومية في الشرق الأوسط، حيث يعود تاريخ الشعب الكردي إلى آلاف السنين. ومع ذلك، فإن الهُوِيَّة الكردية الحديثة تشكلَّت عبر قرون من التفاعل مع الإمبراطوريات والثقافات المختلفة، مما جعلها هُوِيَّة غنية ومتعددة الأبعاد. ومن ثم سوف نستعرض الجذور التاريخية والقومية للهُوِيَّة  الكردية، مع التركيز على العوامل التي أسهمت في تشكيلها.

يعود أصل الشعب الكردي إلى الشعوب الهندو- أوروبية التي استقرت في منطقة كردستان الحالية منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. ويُعتقد أن الكرد ينحدرون من قبائل مثل الميديين، الذين أسسوا إمبراطورية قوية في القرن السابع قبل الميلاد؛ إذ لعب الميديون دورًا رئيساً في تشكيل الهُوِيَّة الكردية المبكرة، حيث يُنظر إليهم كأسلاف للكرد.

ولأن الكرد كما سبق وذكرنا من أقدم شعوب منطقة الشرق الأوسط، ولهم لغتهم وثقافتهم التى تميزهم عن الشعوب المجاورة لهم. خلال فترات الحكم المختلفة من الإمبراطورية العثمانية إلى الدول القومية الحديثة، فالطالما كانت الهُوِيَّة الكردية قضية محورية في المشهد الكردستاني، حيث تواجه منذ القدم تحديات جذرية تُهدد بقاءها واستمراريتها. ورغم المقاومة المستمرة والنضال الدؤوب، لا تزال الهُوِيَّة الكردية تصطدم بعوامل الهيمنة التي تسعى إلى تذويبها في إطار الثقافة المركزية للدولة. فحين تفرض السلطة هيمنتها على المكونات الثقافية المختلفة، تُطمس الخصوصيات لصالح الهُوِيَّة العامة، مما يؤدي إلى تآكل الإرث الحضاري للشعوب وإضعاف هويتها الأصلية.

وقد تميزت الفترة مابين 1877 و1909 م بغياب الحروب الكبيرة فى ظل عهد السلطان عبدالحميد الثاني؛ ومن ثم أعاد التفكير بالإمبراطورية في إطار طرح هُوِيَّاتيٍّ جديدتيّ. وبدا عبدالحميد الثاني مدركاً أن الإمبراطورية ستنكمش في النهاية داخل الأناضول. كانت عقيدته تهدف إلى خلق تجانس في هذه «النواة الصلبة» وحمايتها بدائرةٍ تضم الجماعات المسلمة ولكن غير التركية؛ مثل الكرد والعرب. كانت مذابح 1896-1894 م التي أحدثت على الأقلّ مئة ألف ضحية أرمنية تشكل في الواقع الخطوة الملموسة الأولى نحو إعادة اكتشاف الأناضول ككيانٍ تركيّ ومسلم.

ولم يُتح للكرد إقامة دولتهم المستقلة، مما جعل هويتهم القومية تواجه تحديات مستمرة.   ولفهم تعقيدات هذه الإشكالية، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي الذي أسهم في تشكيلها، فمنذ اتفاقية سايكس بيكو (1916 م) والتي رسمت خريطة جديدة للمنطقة بتقسيم أراضي الإمبراطورية العثمانية بين القوى الاستعمارية، بدأت معالم الهُوِيَّة   الكردية تتعرض للتحديات السياسية والجغرافية. أعقبتها هدنة مودروس في تشرين / أكتوبر 1918م -التى أنهت القتال فى الشرق الأوسط بين الدولة العثمانية والحلفاء فى الحرب العالمية الأولى التى انتهت فى ذات العام – إذ وضعت حداً للوجود العثماني في المنطقة. وفي ذات السياق، حمل مؤتمر سيفر في آب / أغسطس 1920 م آمالاً للكرد، حيث نص على إنشاء دولة كردية مستقلة خلال عام من توقيعه. إلا أن هذه الآمال سرعان ما تلاشت مع توقيع اتفاقية لوزان في 24 تموز / يوليو 1923 م، والتي ألغت بنود سيفر ومعاهدة سيفر (1920 م) التي وعدت بكيان كردي، ثم معاهدة لوزان (1923 م) التي ألغت هذا الوعد، فكان لكل هذه الأحداث دوراً ريادياً في تأصيل المأزق الكردي المعاصر وتجسيد قضية الهُوِيَّة على الساحة العالمية بصورة أوضح وأعمق ،  إذ قررت السلطة الحاكمة للأناضول ليس فقط إنهاء 400 عام من الحماية الكردية التركية المشتركة للامبراطورية، أو على الأقل جبهتي القفقاس وإيران، بل قاموا بعد لوزان بكل ما يؤكد إحياء مشروع أوزون حسن( 1423م- 1478م)  في تتريك كردستان.

وقد ذكر ” سيبان إسماعيل – أستاذ قسم العلوم الاجتماعية في جامعة روج آفا “أن من الدول والمحتلين ينظرون إلى الكرد، على أنهم مجتمع بداياتهم منذ ثورة عام 1925 ثورة الشيخ سعيد، وهذا خطأ، فهُوِيَّة  الكرد عمرها آلاف السنين. ويتجلى ذلك في التاريخ بوضوح، فقد تم استكشاف ما يزيد عن 40 تلة تاريخية في مناطقنا فقط، لكن تم عمداً إخفاء التقارير التي توثق هذا التاريخ القديم للهُوِيَّة الكردية”.

التحديات السياسية

لا غرو أن الهُوِيَّة الكردية تُعاني من ضغوط سياسية متعددة، حيث تعمل الحكومات في تركيا، إيران، العراق وسوريا على قمع الطموحات القومية الكردية للحفاظ على وحدة أراضيها. فتركيا، على سبيل المثال، تعتبر أي حركة كردية تهديدًا لوحدة البلاد، وقد خاضت صراعات طويلة مع حزب العمال الكردستاني. وفي إيران، تفرض الدولة قيودًا مشددة على النشاط السياسي الكردي، بينما في سوريا، كان الكرد يُعانون من التهميش السياسي حتى اندلاع الأزمة السورية. في العراق، يتمتع الكرد بحكم ذاتي، لكنهم يواجهون تحديات اقتصادية وسياسية تعيق استقلالهم التام.

ولا يُمكن أنكار أن الهُوِيَّة الوطنية وفق المساواة بين مكونات الشعب هي بداية طريق السلام، وهي مسار بناء المستقبل المشرق، لكن أن يتم استغلالها لطمس هُوِيَّات أخرى فتلك بداية انهيار المجتمعات والدول وكل القيم والمبادئ الإنسانية. وهذا ما تثبته الوقائع والاحداث التي تجري على ساحة الشرق الاوسط والتي لم تتطرق عمليا وفعلياً على الارض لحقوق الشعب الكردي والاعتراف بوجودهم وحمايتهم وتامين أبسط حقوقهم المشروعة وهو العيش في أمان واستقرار على أرضهم.

قد أوضح سيبان أن ما يحدث لطمس الهُوِيَّة الكرية يُعد إبادة ممنهجة ، واستشهد بما يُواجه مناطق الكرد مع كل هجوم، قائلاً: “إن أعداء الشعب الكردي يستهدفون الأماكن عندما يُهاجمون، لأن هدفهم الهُوِيَّة الكردية، يتعمد العدو استهداف الأماكن التاريخية للكرد وتدميرها، فأثناء احتلال عفرين تم تدمير عين دارة. وفي سري كانيه تم تدمير وسرقة الآثار من تل حلف، والتي تُعد هُوِيَّة  لعلم الاجتماع الأول في المنطقة، إنهم يبذلون قصارى جهدهم لتدمير تاريخ الكرد” وهذا يتم فى كل المناطق التى يسكنها الكرد. كما أشار سيبان إسماعيل إلى أن الهُوِيَّة   الكردية وتاريخها في خطر كبير، مضيفاً: “خاصة أهمية وتعريف الهُوِيَّة الكردية في خطر كبير. فعند تدمير الأماكن التاريخية ذات الهُوِيَّة الكردية وإزالة تلك المواقع، يتم معها محو الهُوِيَّة الكردية”.

بيد أن غياب الوعي بقيمة التعددية والهُوِيَّات المتداخلة قد يفتح الباب أمام نزاعات تُهدد التماسك الاجتماعي والسياسي، فتتحول الهُوِيَّة من عنصر إثراء إلى معول هدم. وعندما تقمع الأنظمة الديكتاتورية هذا التنوع، فإن الاختلافات المكبوتة تتراكم تحت السطح، حتى تنفجر في لحظة تاريخية مفصلية، متخذة أشكالاً من العنف والصدامات، بل وقد تصل إلى حد مطالبة بعض المجموعات بالانفصال، بحثًا عن كيان مستقل يعبر عن خصوصيتها.

ولا غرو أن وحدة الاعتراف الجاد بالتعددية – ليس في الدساتير فحسب، بل في الوعي الجمعي للأمة – هو ما يضمن استقرار الدولة، حيث يُصبح التنوع مصدر قوة لا سببًا للفرقة. فاللغات والثقافات والأعراق ليست عقبات، بل جسورٌ تعزز التعايش، شريطة أن يُصاغ الوعي المجتمعي على أسس الاحترام المتبادل والإيمان بوحدة المصير.

ومما سبق يُمكن إيجاز التحديات السياسية التى تُواجه الهُوِيَّة الكردية فى العديد من التحديات التي تتفاوت في طبيعتها بين دول المنطقة التي يتوزع فيها الكرد، ومن أبرز هذه التحديات:

1– غياب الدولة القومية الكردية، فابالرغم من أن الكرد يُشكلون واحدة من أكبر الجماعات العرقية في العالم بدون دولة مستقلة، فإن محاولاتهم لإنشاء كيان قومي مستقل واجهت معارضة شديدة من الدول التي تضمهم، حيث ترى هذه الدول أن أي نزعة استقلالية كردية تهدد وحدة أراضيها.

  • – السياسات القمعية والتمييز:

تعرض الكرد في العديد من الدول لسياسات قمعية هدفت إلى تهميش هويتهم الثقافية واللغوية، مثل: في تركيا تم حُظر استخدام اللغة الكردية في الفضاء العام لفترات طويلة، كما تعرضت الأحزاب الكردية لضغوط مستمرة. وفي إيران يتم قمع الحركات الكردية المعارضة، وتواجه المناطق الكردية إهمالًا اقتصاديًا وتنمويًا. أما في سوريا  لم يحصل العديد من الكرد على الجنسية السورية حتى عام 2011، مما أدى إلى تهميشهم سياسيًا واقتصاديًا. وفي العراق رغم التقدم الذي أحرزه إقليم كردستان العراق في الحكم الذاتي، لا تزال هناك خلافات مع الحكومة المركزية بشأن تقاسم الثروات والسيادة.

3 – الانقسامات الداخلية:

يُواجه الكرد انقسامات داخلية سياسية وعشائرية، حيث تتنافس عدة أحزاب كردية على السلطة، مثل حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا، والحزب الديمقراطي الكردستاني (PDK) وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) في العراق، وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا. هذه الانقسامات تضعف من قدرة الكرد على تحقيق أهدافهم السياسية.

4 –  الصراعات الإقليمية والدولية:

تتأثر القضية الكردية بالتدخلات الإقليمية والدولية، حيث تستخدمها القوى الكبرى كأداة ضغط سياسي. فعلى سبيل المثال، تدعم بعض الدول الكرد لتحقيق مكاسب استراتيجية، لكنها تتخلى عنهم عند تغير المصالح، كما حدث في استفتاء استقلال كردستان العراق عام 2017، حيث لم يحظَ بدعم دولي كافٍ.

التحديات الثقافية واللغوية

تتعرض الثقافة الكردية لمحاولات طمس في العديد من الدول، حيث تمنع بعض الحكومات استخدام اللغة الكردية في المدارس والإعلام، مما يُهدد الإرث الثقافي لهذا الشعب. على سبيل المثال، في تركيا وإيران، كانت هناك فترات طويلة تم فيها حظر التحدث أو التعليم بالكردية، ما جعل الحفاظ على اللغة الكردية تحديًا كبيرًا. وكذلك نشر الكتب التى تتحدث عن تاريخ الكرد أو اى ما يتعلق بالكرد كان ممنوع أو يتم مصادرته.

وقد أكد على هذا الكاتب الروائى الكردى السورى جان دوست ( 1965م – …… ) فى حديث له حين ذكر أنه بالنظر إلى تاريخ الكرد، نجد أن مفردة “المصادرة” لاحقت شعبها وثقافتهم؛ بدءاً من هُوِيَّاتهم المحرمة مروراً بأراضيهم، وأحلام الوحدة القومية، ولم يكن الأمر أحسن حالاً بشأن الصحف والكتب التي عكف مثقفوهم على نشرها في النصف الثاني من القرن العشرين تعريفاً بأمتهم في مساعٍ باءت بالفشل عقب إغلاقها لأسباب قمعية بالأساس. كما أوضح أنه لا يُمكن حصر الكتب التى صُدرت في نوع محدد منها، فكل ما كان يُكتب بالكردية، خصوصاً في تركيا وسوريا كان ممنوعاً ويتوقع مصادرته في أي لحظة. حتى أنه كان يطبع كتبه بشكل سري في مطابع دمشق مقابل مبالغ كبيرة وعن طريق السماسرة. وكان لزاماً عليه أن يضع على الكتاب المطبوع في دمشق أنه طبعة بيروت تلافياً للملاحقة والتحقيقات الكثيرة.

من أحد التحديات التي تواجه الشعوب في نضالها هو استعادة الحقائق، وامتلاك الوعي لأهمية الهُوِيَّة، وهذه التحديات بدورها تثير إشكالية القدرة على احترام التنوع الثقافي والاعتراف بالآخر، والتصدي لمفهوم الثقافة الأحادية.

ومن ثم يُمكننا تقسيم التحديات التى تُواجه الهُوِيَّة الكردية إلى العديد من التحديات الثقافية واللغوية، والتي تتفاوت في شدتها وتأثيرها بين الدول التي يعيش فيها الكرد، مثل تركيا، العراق، إيران، وسوريا. من بين أبرز هذه التحديات:

أولًا: التحديات اللغوية

  1. حظر أو تقييد استخدام اللغة الكردية: في بعض الدول، مثل تركيا وإيران، تعرضت اللغة الكردية لفترات طويلة من الحظر أو التقييد في المؤسسات الرسمية والتعليم، مما أثر على انتشارها وتطورها.
  2. غياب التعليم الرسمي باللغة الكردية: على الرغم من بعض التحسن في السنوات الأخيرة، لا تزال هناك قيود على تدريس اللغة الكردية في المدارس والجامعات في بعض المناطق.
  3. اللهجات المتعددة وصعوبة التوحيد اللغوي: تتنوع اللغة الكردية بين عدة لهجات رئيسية، مثل الكرمانجية، السورانية، والزازاكية، مما يخلق تحديًا في توحيد لغة مكتوبة موحدة تستخدم في التعليم والإعلام.

أوضح الكاتب الروائي “جان دوست” أن اللغة الكردية تتفرع إلى لهجات متعددة، حيث تتشبث كل قبيلة بلهجتها، مما شكل عائقًا أمام توحيد اللغة. وبدلاً من أن تكون وسيلة للتقارب بين الكرد، أصبحت سببًا في تباعدهم، إذ أدى التعصب اللغوي إلى تشتيت وعيهم القومي. ويشير مؤلف “بدائع اللغة”، وهو قاموس كردي-عربي، إلى أن هذه المسألة تمثل إحدى القضايا المصيرية بالنسبة للأكراد، حيث تُعد اللغة حاجزًا إضافيًا يعمق الفجوة بينهم، إلى جانب الحدود الجيوسياسية الصارمة التي تفصلهم. وأضاف أن الكرد باتوا اليوم أمام احتمال امتلاك لغتين أو حتى عدة لغات مختلفة، نظرًا لتمسك كل مجموعة بلهجتها ورفضها التخلي عنها. وأكد أن توحيد اللغة أو تبني إحدى اللهجات كلغة مشتركة يعد تحديًا كبيرًا في ظل التشتت السياسي والجغرافي الحالي. ولو كانت هناك دولة مركزية، لربما تمكنت من فرض لهجة موحدة أو دمج اللهجات المختلفة، لكن الواقع أثبت أن تحقيق ذلك أمر بالغ الصعوبة.

  • ضعف الموارد اللغوية:  تعاني اللغة الكردية من قلة المطبوعات والمراجع الأكاديمية مقارنة باللغات الإقليمية الأخرى، ما يحد من تطوير المصطلحات العلمية والتقنية الحديثة بها.

ثانيًا: التحديات الثقافية

  1. محاولات الطمس الثقافي:  تعرض الكرد لمحاولات عديدة لطمس ثقافتهم وهويتهم، سواء من خلال فرض سياسات الاستيعاب القسري أو منع المظاهر الثقافية الكردية مثل الأغاني والمهرجانات.
  2. التهميش في الإعلام الرسمي:  نادرًا ما يتم تمثيل الثقافة الكردية في وسائل الإعلام الرسمية للدول التي يعيش فيها الكرد، مما يجعل الحفاظ على الهُوِيَّة   الثقافية أكثر صعوبة.
  3. التأثيرات الخارجية والعولمة:  مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والثقافة العالمية، تواجه الهُوِيَّة الكردية خطر التآكل لصالح ثقافات أكثر هيمنة.
  4. الصراعات السياسية وتأثيرها على الثقافة:  بسبب النزاعات السياسية في المناطق الكردية، يتم في بعض الأحيان ربط الهُوِيَّة الكردية بالصراعات المسلحة، مما يعقد جهود الحفاظ على التراث الثقافي بطريقة سلمية.

التحديات الاجتماعية والاقتصادية

يُعاني الكرد في العديد من الدول من التهميش الاقتصادي، حيث يقطنون مناطق غالبًا ما تكون فقيرة وتُعاني من نقص الخدمات. هذا التهميش الاقتصادي يُعزز الشعور بالتمييز ويجعل الكرد أكثر ميلًا للمطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحروب والنزاعات أثرت بشكل كبير على المجتمعات الكردية، مما دفع العديد منهم إلى الهجرة. بيد أن التحديات التى تُواجه الهُوِيَّة الكردية العديد تتجلى في عدة جوانب رئيسية:

التحديات الاجتماعية

  1. الاندماج المجتمعي مقابل الحفاظ على الهُوِيَّة  :
    1. يُواجه الكرد تحديًا في تحقيق التوازن بين الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها والحفاظ على هويتهم الثقافية الخاصة.
    1. وجود حركات قومية كردية تسعى للحفاظ على الخصوصية الثقافية في مواجهة سياسات الصهر القسري في بعض الدول.
  2. التحديات السياسية وتأثيرها على الهُوِيَّة الاجتماعية:
    1. التوترات السياسية بين الحركات الكردية والحكومات المركزية تؤدي إلى تصاعد القمع والتمييز، مما يؤثر على الاستقرار الاجتماعي للأكراد.
    1. الصراعات السياسية أدت إلى موجات نزوح وهجرة، مما خلق تحديات إضافية في الحفاظ على الترابط الاجتماعي داخل المجتمع الكردي.

 التحديات الاقتصادية

  1. التهميش الاقتصادي ونقص الفرص:
    1. تُعاني المناطق الكردية في بعض الدول من نقص في الاستثمارات الاقتصادية والتنمية، مما يحدّ من فرص العمل ويؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
    1. ضعف البنية التحتية في بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية نتيجة للإهمال الحكومي أو النزاعات المستمرة.
  2. الهجرة والبطالة:
    1. نظراً لقلة الفرص الاقتصادية، يضطر العديد من الكرد إلى الهجرة إلى المدن الكبرى أو إلى الخارج بحثًا عن فرص عمل أفضل، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي الكردي.
    1. تزايد نسبة البطالة بين الشباب الكرد بسبب نقص المشاريع التنموية في المناطق التي يعيشون فيها.
  3. تأثير الصراعات على التنمية الاقتصادية:
    1. الحروب والنزاعات المسلحة التي شهدتها بعض المناطق الكردية أثّرت بشكل مباشر على الاستقرار الاقتصادي، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية وضعف النمو الاقتصادي.
    1. العقوبات الاقتصادية المفروضة على بعض الدول التي تضم أكرادًا أثّرت سلبًا على الوضع الاقتصادي للمجتمعات الكردية.

ولا غرو أن هذه التحديات تُظهر مدى تعقيد الوضع الاجتماعي والاقتصادي للكرد، حيث ترتبط المشكلات الثقافية والسياسية بالواقع الاقتصادي الصعب. ومن ثم يحتاج الكرد إلى سياسات أكثر إنصافًا تُعزز من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى جهود داخلية للحفاظ على هويتهم وتعزيز التنمية الاقتصادية في مناطقهم.

دور القوى الإقليمية والدولية

تعتبر القضية الكردية من أكثر القضايا تعقيدًا في الشرق الأوسط، حيث تمتد جذورها إلى قرون عدة، وتتداخل فيها الأبعاد السياسية، التاريخية، والثقافية. ويتأثر الكرد – كأكبر مجموعة عرقية بلا دولة مستقلة – بالصراعات الإقليمية والدولية، مما جعل هويتهم القومية في حالة تفاعل مستمر مع القوى الفاعلة في المنطقة. وفي هذا السياق، تلعب القوى الإقليمية والدولية دورًا كبيرًا في تشكيل الهُوِيَّة   الكردية سواء من خلال دعمها لقضايا الكرد أو قمعها لها وفقًا لمصالحها الجيوسياسية.

دور القوى الإقليمية في التأثير على الهُوِيَّة الكردية

 نتيجة توزيع الكرد في أربع دول رئيسية (تركيا، إيران، العراق، وسوريا) جعلهم عرضة لسياسات متباينة من قبل هذه الدول، حيث تختلف مستويات الاعتراف بهم، ومدى السماح لهم بالتعبير عن هويتهم القومية.

  1. تركيا:
    1. تبنت تركيا سياسات صارمة تجاه الكرد منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، حيث حاولت طمس الهُوِيَّة الكردية عبر منع استخدام اللغة الكردية وفرض الهُوِيَّة   التركية (محاولات التتريك).
    1. لاحقًا، وبعد صعود حزب العدالة والتنمية، شهدت القضية الكردية بعض الانفتاح النسبي، لكنه كان مشروطًا ولم يؤدِ إلى تحقيق تطلعات الكرد.
    1. الصراع بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK) أسهم في تعزيز النزعة القومية الكردية، وفي الوقت نفسه، خلق تحديات للكرد داخل تركيا.
  2. إيران:
    1. تتبنى إيران سياسة مزدوجة تجاه الكرد، حيث تعترف رسميًا ببعض الحقوق الثقافية ولكنها تقمع أي مطالب سياسية بالحكم الذاتي أو الاستقلال.
    1. لعبت إيران دورًا في دعم بعض الجماعات الكردية في العراق وسوريا لتحقيق مصالحها الإقليمية، لكنها في الوقت نفسه واجهت المعارضة الكردية المسلحة داخل حدودها (كالحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني).
  3. العراق:
    1. كان العراق أكثر الدول احتضانًا للتجربة الكردية السياسية، حيث يتمتع إقليم كردستان العراق بحكم ذاتي منذ عام 1991 م.
    1. رغم ذلك، شهد الكرد في العراق مراحل من القمع الشديد، لا سيما خلال حكم صدام حسين، الذي استخدم القوة العسكرية (حملة الأنفال) للقضاء على الطموحات الكردية.
    1. بعد سقوط النظام البعثي، تحول إقليم كردستان إلى شبه دولة مستقلة، لكن العلاقة المتوترة مع الحكومة المركزية في بغداد، لا سيما بشأن النفط والمناطق المتنازع عليها، لا تزال تُشكل تحديًا لهويتهم.
  4. سوريا:
    1. في سوريا، كان الكرد يواجهون تهميشًا ممنهجًا لعقود، حيث جُرِّد الكثير منهم من الجنسية وحُرموا من حقوقهم الثقافية.
    1. بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية، استفاد الكرد من الفراغ الأمني وشكلوا حكمًا ذاتيًا في مناطقهم تحت مظلة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، مما عزز هويتهم القومية، لكنه جلب معهم تحديات جديدة بسبب التدخلات التركية والضغوط الإقليمية.

 دور القوى الدولية وتأثيرها على الهُوِيَّة الكردية

بيد أن القوى الكبرى تعاملت مع القضية الكردية بشكل براجماتي يخدم مصالحها الاستراتيجية، حيث قدمت دعمًا للكرد في بعض المراحل، بينما تخلت عنهم في مراحل أخرى.

  1. الولايات المتحدة:
    1. لعبت واشنطن دورًا بارزًا في دعم الكرد، لا سيما في العراق بعد عام 1991 م، حيث فرضت منطقة حظر طيران لحماية الكرد من قمع نظام صدام حسين.
    1. قدمت دعمًا لقوات “قسد” الكردية في سوريا خلال الحرب ضد داعش، لكن هذا الدعم كان تكتيكيًا، حيث خذلتهم لاحقًا عندما سمحت لتركيا بشن عمليات عسكرية ضدهم.
  2. روسيا:
    1. سعت روسيا إلى استخدام الورقة الكردية كورقة ضغط على تركيا والولايات المتحدة، لكنها لم تقدم دعمًا حقيقيًا لطموحات الكرد القومية.
    1. تاريخيًا، تعاون الاتحاد السوفيتي مع بعض الحركات الكردية، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، باتت روسيا أكثر حذرًا في التعامل مع القضية الكردية.
  3. الاتحاد الأوروبي:
    1. تبنى الاتحاد الأوروبي مواقف داعمة نسبيًا لحقوق الكرد، خصوصًا في تركيا، حيث ضغطت بعض الدول الأوروبية على أنقرة لتحسين أوضاع الكرد كجزء من شروط الانضمام للاتحاد.
    1. رغم ذلك، لم يكن للدعم الأوروبي تأثيراً كبيراً في تغيير الواقع السياسي للكرد.

تأثير هذه القوى على الهُوِيَّة الكردية

نتيجة لهذه التدخلات والتأثيرات الإقليمية والدولية، تعرضت الهُوِيَّة الكردية لتغييرات متعددة:

  • تعزيز الشعور القومي : أسهم القمع الذي تعرض له الكرد في تركيا، إيران، والعراق في تعزيز هويتهم القومية وشعورهم بالانتماء لكردستان موحدة، حتى لو لم تكن قائمة على أرض الواقع.
  • تفاوت الهُوِيَّة الكردية:  تختلف الهُوِيَّة الكردية من دولة لأخرى بسبب السياسات المتبعة تجاههم، حيث نجد أن أكراد سوريا والعراق يتمتعون بهُوِيَّة  سياسية مستقلة نسبيًا، بينما يُعاني أكراد إيران وتركيا من قيود ثقافية وسياسية.
  • التأثير الخارجي على اللغة والثقافة: الدعم الغربي لبعض الجماعات الكردية أدى إلى تطور بعض الجوانب الثقافية، لكن في المقابل، شهدت مناطق أخرى محاولات لطمس الهُوِيَّة الكردية، مثل سياسات التتريك في تركيا والتعريب في سوريا.

الرؤى المستقبلية لسبُل مواجهة هذه التحديات

  • تعزيز الوحدة الثقافية: يُمكن العمل على تعزيز الهُوِيَّة الكردية من خلال دعم المبادرات الثقافية والتعليمية التي تعزز اللغة والأدب والتاريخ الكردي، مع إيجاد حلول وسطى لتوحيد الجهود لتطوير لغة معيارية تجمع بين اللهجات المختلفة أو تسهيل التفاهم بينها. وكذلك دعم الإنتاج الثقافي الكردي في الأدب، السينما، والموسيقى للحفاظ على الهُوِيَّة.
  • الاستفادة من التكنولوجيا والإعلام: يُعد الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي أدوات فعالة في تقوية الوعي القومي الكردي ونقل القضايا الكردية إلى المجتمع الدولي.
  • تعزيز الحوار الثقافي مع المجتمعات الأخرى لضمان الاعتراف بالهُوِيَّة الكردية واحترامها.
  • تعزيز التعاون بين الكرد سياسيًا: يُمكن أن يسهم الحوار بين القوى الكردية المختلفة في تقليل الخلافات السياسية وتعزيز موقفهم على الساحة الإقليمية والدولية.
  • العمل ضمن الأطر القانونية والدبلوماسية: قد يكون اللجوء إلى الآليات الدولية لحقوق الإنسان والحكم الذاتي أحد الحلول لتعزيز الحقوق الكردية في الدول التي يعيشون فيها.
  • طرح مشروعات للتعايش السلمى بين مكونات الدول مع الحفاظ على هُوِيَّة  كل مكون من هذه المكونات فى إطار حياة تشاركية بينهم كمشروع ” الأمة الديمقراطية” الذى طرحة المفكر عبد الله أوجلان ، والذى يصلح كحل لمشكلة القضية الكردية بل لكل البلاد التى بها مشاكل مشابهة فى الشرق الأوسط.

تظل الهُوِيَّة   الكردية متأثرة بشكل عميق بديناميكيات القوى الإقليمية والدولية، حيث يستخدم الكرد استراتيجيات متعددة للحفاظ على هويتهم وسط الضغوط المختلفة. وبينما تستمر القوى الكبرى في استغلال القضية الكردية لخدمة مصالحها، فإن الكرد يواصلون نضالهم للحفاظ على لغتهم، ثقافتهم، وحقوقهم السياسية في ظل بيئة معقدة ومتغيرة؛ أى أنهم يُحاولون الحفاظ على هويتهم .

في النهاية، يبقى مستقبل الهُوِيَّة الكردية في الشرق الأوسط رهينًا بقدرة الكرد على تجاوز الانقسامات الداخلية، وإيجاد آليات جديدة تُعزز هويتهم في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المستمرة.

المصادر

  • بن طرد وفاء، قراءات فى مفهوم الهُوِيَّة    ومكوناتها اللغة والدين والثقافة ، قسم علوم الاتصال والإعلام، حوليات جامعة قالمة للعلوم الاجتماعية والانسانية ، 2017م.
  • حسين جمو ، تسعة قرون من العلاقات الكردية التركية قبل معاهدة لوزان، 10 يونيو 2023م . https://nlka.net/archives/9954
  • زيد سوفك ، الهُوِيَّة   الوطنية على حساب الهُوِيَّة   الكردية ، الأحد 3 نوفمبر 2023م .
https://anfarabic.com/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7/flsft-awjlan-ashmt-fy-tshkyl-alhwyt-alkrdyt-alhdytht-111752
  • عبد الله أوجلان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية ، المجلد الرابع ، أزمة المدينة وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط، مطبعة داتا سكرين، 2018م، ط 3 ، لبنان.
  • محمد على الصلابى ، العامل الثقافى والدينى فى تكوين الهُوِيَّة    الإسلامية، 19 سبتمبر 2022م.
https://www.ajnet.me/blogs/2022/9/19/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D9%81%D9%8A%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%8A%D9%8
https://hawarnews.com/ar/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D9%88%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%91%D8%B9%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D9%88%D8%A8%D9%81%D9%8A%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%85%D9%86%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%88%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9
  • روشن مسلم، في الحديث عن الهُوِيَّة الكردية.. نحو مشروع سياسي جديد.
https://alawset.net/2022/09/29/%D9%81%D9%8A%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%B9%D9%86%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D9%86%D8%AD%D9%88%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى