الأزمة البنيوية للشرق الأوسط في رؤية عبد الله أوجلان “مشروعات الوحدة والتفكيك”
تحليل: د. حسني أحمد مصطفى

لم يكن لزوال النفوذ التركي – الخلافة العثمانية – من قيمة حقيقية لدى أغلب الممثلين للمصالح المتعددة سوى بالقدر الذي يساعد أو سيساعد في التحرر بالمطلق من أي سلطة مركزية، وهذا يعني في الاوضاع القائمة إعادة بناء مناطق النفوذ الشخصي أو الجمعية كإقطاعات خاصة، عائلية أو عشائرية أو طائفية، وفي الوقت الذي كان زعماء الاصلاح يحلمون ببناء دولة الشورى الاسلامية في المنطقة العربية على أنقاض السلطنة الظالمة، كما تصوروها، كان الليبراليون والعلمانيون يرون في زوال هذه السلطنة الفرصة التي لا تعوض للقضاء على السلطة الدينية المنافسة، وبسبب هذه التناقضات العميقة المتضمنة فيها كان من الصعب على هذه النسخة الاولى العقائدية العروبية ان تقاوم طويلاً وألا تسقط بسرعة الفوضى والاختلاط، وهذا ما ستترجمه في وقته انتصارات القوات الاستعمارية الفرنسية والانجليزية واحتلالها اقطار المشرق العربي كلها.
وبعيداً عن الجدلية التي يثيرها مصطلح ” الشرق الأوسط ” في ادبيات العلوم السياسية، كونه مصطلح تم الاستعاضة به عن مصطلح ” الوطن العربي “، فالمعني في هذا السياق حقيقة هذه البقعة الجغرافية بتنوعها الاثني والعقدي والاجتماعي والثقافي، والتي يجب تناولها تناولاً يشتمل على رؤية كونية وتاريخية، فثقافتها لها اثراً محورياً في حياة البشر جميعاً بمختلف حضاراتهم، وذلك لا يتعلق بدول الشرق الأوسط في الدفاع عن هذه الوجه فقط؛ بل أيضاً بالحري ذلك بدءً من النسق الفرد إدراكه حقيقة هذا المكون، ليتضح المعنى في صورة شمولية جمعية لكل الانساق المكونة له.
وكما يرى أوجلان: ” بدون فهم هذه الثقافة التي طالما لعبت دوراً محورياً في تاريخ البشرية الكوني، فسيبقى تعريف الفرد لنفسه سطحياً للغاية.. ينبغي الإدراك أنه حتى الثقافة الأوروبية العصرية المهيمنة؛ ما هي في الأساس إلا نسخة مشتقة من ثقافة الشرق الأوسط، وبالرغم من كونها علمياً تشكل مرحلة متقدمة على الثقافة الشرق أوسطية، إلا إن هذه الأخيرة – ثقافة الشرق الأوسط – ما تزال تؤدي دوراً مُعَيِّناً في تقرير مصير الثقافة الأوروبية، وليس عبثاً أن تَخطُرَ هاتان الثقافتان بالبال لدى الحديث في راهننا عن صِدام أو وفاق الثقافات أو الحضارات”، ويرى أوجلان: ” أن ثقافة الشرق الأوسط ما كان أن تجد معناها إلا ضمن إطار السرد الكوني، فهي بالأصل الشريان الأكبر لما هو عالمي، ولن يجد التاريخ أو الثقافة الفردية معناهما إلا ضمن هذه الكونية، ولدى الإشارة هنا إلى الفرد – يقصد اوجلان – الانفراديات الكائنة ضمن حيز واسع ممتد من الشخص إلى الأمة”.
- أوجلان وأهمية الوعي بالتاريخ:
يُعَدُّ التاريخ مجالاً معرفياً علماً وفلسفياً ذو أهمية، لا يقتصر فقط على السرديات المتعلقة بالماضي التي تروى عن الاقوام والاحداث التي قد بادت، بل تظل هذه المرويات يحملها التاريخ ويتناقلها البشر من أجل حياة إنسانية يحيها المجتمع الانساني.
من الأهمية بمكان النظر الى الواقع المجتمعي الثقافي والقيمي والاثني الحالي للشرق أوسطية وبين تناقضها في السرديات التاريخية التي تحمل مضامين ومعانى انسانية، ليس فقط وقائع التاريخ والاحداث والرسالات السماوية؛ بل سنجد هذا الارث الانساني مثلته كذلك المثيولوجيا الشرق أوسطية، بينما النزعة الانساناوية المصطنعة في المعامل الاجتماعية الرأسمالية، والتي حاولت عبر أجيال عدة ان تسلخ التاريخ بتداعياته وتجلياته الانسانية على الشخصية – الفرد – في مجمل الثقافات الشرق أوسطية، بما حمّل معطياتها الحضارية الانسانية التأويل والتزييف الذي ينشد فكرة مُصطَنِعة قيماً مزيفة ومتعالية، حيث يرى تيار ما بعد الحداثة؛ الإنسانية تلك النزعة الفلسفية الميتافيزيقية الساعية لإخضاع اوهام الانسان عن نفسه، وقناعاً يستتر وراء عجزه جَهلُه من اجل انشاد الامل والطمأنينة المزيفة، حيث يرى هذا التيار أن الإنسانية هي الفكرة المُصطَنِعة لنفسها قيماً مزيفة للواقع متعالية عليه، لأن العالم مجرد تأويلات تخضع لصراع الارادات، فهي بذلك اغفال للوجود ونسيانه.
وطبقاً للرؤية الأوجلانية ثمة وظيفة هامة للتاريخ الانساني وعلومه؛ معرفية وتوجيهية للأمم والشعوب، فالتاريخ ليس سرداً أجوفاً من المعاني متجرد من العبر والدروس، بل هو دافع نحو بلورة التطور المجتمعي وولادة مستقبل انساني من رحم هذا التاريخ المتراكم والمطرد بأحداثه بانكساراته وانتصاراته اخفاقاً وتطوراً، فالتاريخ الذي بين ايدينا لن يتضمن معان ابعد من اكداس احداث، فماهية علم التاريخ القائمة المُعيقة للمعرفة بدلاً من تعليمه هي على صلة وثيقة بهذه الخاصية، فسرد التاريخ على انه محض انسكاب تعدادي متوال لظواهر مختلفة كالدين، السلالة، المَلِك، الحرب والقوم وغيرها بدلاً من ان يُغير في تعليم التطور الاجتماعي.
وبذلك تتضح طبقاً لهذه الرؤية المساعي الايديولوجية المستهدِفة اسدال متعمد للستار على التاريخ بغية اعاقة تعلُمه، ويرمي ذلك الى اعداد الذاكرة المجتمعية وفق مشيئة اصحاب المصالح والاستغلال، وبهذه الرؤية يُعد التراث هو العدو الاساسي للحداثة وتوجهها الفلسفي بما يحمل من المضامين والمعاني التي تحقق اطر الوعي والنضج والاكتمال الانساني للأمم والشعوب، فبينها وبينه قطيعة باعتبارها – الحداثة – نسق جديد تجسد فيه نمط اجتماعي متكامل؛ وملامح نسق رأسمالي صناعي يقوم على العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات، هذا النسق يستمد وجوده من الانقطاعات التاريخية عن المراحل الثابتة، حيث تهيمن فيه التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي مكونة بذلك نظريات وافكار جديدة في المجتمع تعمل على زوال البنية التقليدية فيه وقيام بنية جديدة تعني بتجاوز ورفض التقاليد وكل ما هو انساني موروث.
وينشد أوجلان نحو هذا الإرث الثقافي أهمية وعي الفرد بمكونه التاريخي الاجتماعي الانساني والذي يتجسد في لبنة المجتمع (الفرد) أنه: ” ثمة إمكانية دائمة لتحليل التاريخ – المجتمع التاريخي – مجسَّداً في الفرد، فالفرد هو نِتاج التاريخ – المجتمع التاريخي – وحالته العَينية، وإذا كان هذا الفرد يعيش، فهو حاضر ذاك التاريخ” – ومَرامي أوجلان من مصطلح التاريخِ هنا هو ” المجتمع التاريخي”.
ويرى أوجلان أن: ” النتيجة الأولى والأهمّ – التي استخلصها – من هذا التاريخ؛ أنّ التحول إلى الإنسانية هو أمر مستحيل ما لَم يُحَلَّلْ أو يُفهَم المجتمع الذي ينتمي إليه ذاك الإنسان، سواء بمعناه الضيق أو الواسع، بل حتى على مستوى الكلان أيضاً، فالإنكار والصهر الإرغامي قائمان راهناً بفاعلية دائمة في المجتمع، وهذا ما يُشَكِّلُ دعامة ومرجعاً لافتقاد الفرد إلى المعنى، ولا يُمكن تسمية الأفراد والمجتمعات التي تَمُرُ بهذه المراحل، في أفضل الأحوال، سوى بالأفراد والمجتمعات السلبية، في حين أعتَقِدُ أنه من الصعب تسميتهم بالإنسان”.
فالتاريخ الكوني – العالمي – طبقاً لرؤية أوجلان تطور اجتماعي بوصفه الأرضية الوطيدة للحقيقة، وبهذا المعنى، فإن المجتمع البشريّ ليس تاريخاً بشرياً فحسب، بل وهو تاريخ الكون أيضاً بمعناه الحقيقي.. ولأجل هذا يتوجب الاهتمامُ كثيراً بالإنسانِ ومُجتمعِه وتاريخه “.
ففي المرحلة الراهنة للحضارة الانسانية الشاملة عكفت الفلسفة الحداثية على الانفصال عن التراث الانساني بمجمله، وهذا يمثل تصور لبناء حضارة عولمية لا يعني لها التاريخ البشري شيء، رغماً عن ذلك لا مفر من الوقوف أمام هذه الفلسفة نجتر فيها التاريخ الكوني لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها، وذلك في سبيل تعزيز فهمها وفهم جوهر صراع المشروعات المختلفة فوق جغرافيا الشرق الأوسط توحداً كانت أو تفكيكاً.
فبذلك ينبغي الإدراك أنه يستحيل أن تُفيد الحياة الاجتماعية بأيّ شيء يُذكَر بالنسبة لمن يَفتَقر إلى الوعي التاريخي، أي؛ يجب عدم النسيان أن مقدار التحلي بالوعي التاريخي يُعادِل بالمقابل التمتع بحياة اجتماعية ثمينة وذات معنى، ليس هذا فحسب؛ بل وبالمقدور القول: إنه كلما تمَّ عيش التاريخ كبُنى مادية وثقافات من حيث كونِه معنى، فإن ذلك يَدُل على مدى قيمة الحياة الاجتماعية.
- ماذا يُمثل الشرق الأوسط للعالم؟
ساهمت الطبيعة في تميُز جغرافيا الشرق الاوسط بما تمثلت فيه من وفرة أمام النوع البشري وغِنى من الغذاء ويُسراً في الاستقرار والخصوبة والتوالد، فكون اتحاد هذه العوامل الثلاثة معاً؛ يٌعد فرصة استثنائية للحياة بالنسبة للنوع الحي، فالأخدود الكبير المتشكل من تَصَدُّع قطعَتَي اليابسة الرئيسيَّتَين، والذي يَمتَدّ على طول أفريقيا الشرقية، ويَمُر من البحر الأحمر ومن حواف الجبال الشرقية للبحر المتوسط وصولاً إلى جبال طوروس؛ إنما يرسم خطاً من الانتشار الطبيعي ضمن مسيرة النوع البشري المنطلق من أفريقيا الشرقية، والذي يُخَمَّن عمر تَطَوُّره الطبيعي بحوالي سبعة ملايين عام، وحسبما تمّ تشخيصه، فقد أُثبِتَ أن التدفق البشري من هذا الطريق إلى آسيا وأوروبا استمر متواصلاً منذ ما يُقارِب المليون سنة بأقل تقدير، وقد أدى قوس جبال طوروس– زاغروس دور محطة رئيسية في هذه المسيرة على الدوام.
من ذلك نُدرك أهمية الجيولوجيا بمنوال أفضل، فالبوادي المجاورة التي كانت وفيرة العطاء في عصرها بقدر تلك الحوافّ الجبلية على الأقل، لَعِبَت دوراً إيجابياً مشابهاً، وقد أَسفَرَ انحسار العصر الجليدي الأخير عن انفجار بارز في تطوُّر تاريخ النوع البشري تماشياً مع توفر الظروف التي مَكَّنَت من الحياة المستقرة في تلك المحطات، إننا نُطلِق اليوم على هذه الجغرافيا اسم الشرق الأوسط، الذي ينتَهِلُ أهميته الجيولوجية والبيولوجية والاجتماعية من هذا الواقع التاريخي القريب، بالتالي، لم يَعُد الشرق الأوسط مجرد مساحة جغرافية عشوائية، بل بات يُشَكِّل المكان الذي سيُؤدي التاريخ الكوني دوره على مسرحه.
ويرى أوجلان اهمية التبيان التاريخي العالمي – الكوني – لهذه المنطقة في أن: “اقتياتَ التاريخ الكوني، إنما يجعل أهمية المنطقة ومكانتها أكثر لفتاً للأنظار، إذ يتميز الشرق الأوسط بشأن يوازي ما هي عليه أوروبا بأقل تقدير، سواء من حيث حل القضايا العالمية، أو على صعيد التركيبات الحضارية الجديدة “.
- أزمة الشرق الأوسط في رؤية أوجلان:
إن أزمة الدولة والمجتمع بمنطقة الشرق الأوسط الحالية ليست بمجرد تجاوز التحليلات الهيجلية والماركسية كما يراها أوجلان بل وُجِّهَت الانتقادات إلى تجربة بسط الهيمنة الرأسمالية على المنطقة، وأُبدِيَت مقاومات كثيرة ضدها طيلة القرنين الأخيرين في الخارج والداخل على السواء، وكان الانتهاء بالفشل يُشكِّل القاسم المشترك لجميع تلك المقاومات، فقيام مختلف القوى بتحليل تاريخِ المنطقة ووضعها الراهن، ونجاحها في بناء أنظمتها أمر بعيد المنال، بدءاً بالقوى الإسلامية الراديكالية إلى المعتدلة منها، ومن القوى الشيوعية إلى القوموية، ومن القوى الليبرالية إلى المحافظة المتزمتة.
ويُعزي اوجلان انتهاء هذه الأنظمة بمجموعاتها وشرائحها الى الفشل سببه شتى أنواع النقل والاقتباس من التاريخ والتي قامت بها – هذه الأنظمة – وفقاً لمصالحِها ومَشارِبِها عن طريق أنشطتها الاستشراقية المُستَورَدة والمُقتَبَسة من المدنية الأوروبية، قد عجزت جميعها عن تكوين تركيبة جديدة أو صياغة نظرية سديدة أو إحراز تطور سياسي حر موفق.
ويشير أوجلان إلى الأزمة الاجتماعية بأنها تُعَبِّر عن المراحل التي يسقط خلالها النظام في حالة يعجز فيها عن الاستمرار بذاته، وهي ذات معنى أعمّ مما تعنيه كلمة مشكلة أو قضية، فبينما يَغلب الطابع الدوري على الأزمات، فإن القضايا تُعاش يومياً في الأحداث والظواهر والعلاقات والمؤسسات، وبينما تُنعَت الأزمات التي تُعاش داخل نفس النظام بمصطلح “الأزمات الدورية”، فإن أزمة النظام بذات نفسه تُوصَف بمصطلح “الأزمة البنيوية”، هذا وللأزمات الاجتماعية أسبابها المتعددة، فكيفما أنّ بعضها ينبع من المجالات السياسية والاقتصادية والديموغرافية، فإن بعضها الآخر مصدره جيوبيولوجي.
وفيما يتعلق بالأزمات الناجمة عن السلطة يرى أوجلان انها تُعاش بالتَّرَدّي المستمر لمُعَدَّل الربح.. وعندما يَطُول أَمَد الأزمات النابعة من الأوضاع المفصلية والحرجة السائدة أكثر من ذلك، فإنها تتحول إلى أزمة نظامية ممنهجة، وتغدو سيرورة المجتمع أمراً مستحيلاً تحت ظل هذا النظام.
وبإحالة كل من البحث في الدولة وفهم مشكلاتها؛ يشكلان المدخل الرئيس لتحليل وفهم الأزمة الشاملة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية – مجتمعات الشرق الأوسط – وهي مركزها، وفيها تتجمع عناصرها الأقوى، فبعد أن كانت الدولة لفترة طويلة وسيلة التحول والتغيير وتقديم الخدمات، أصبحت تظهر في العقدين الاخيرين وكأنها العقبة الرئيسية أمام التغيير والتحول من أي نوع كان، وهكذا تحولت، وهي تتحول بسرعة، من فكرة معبئة الى صنم أو تميمة لا يعبر التعلق المتزايد بأذيالها والمراهنة عليها غلا عن زيادة عدم فاعليتها وعجزها عن تقديم أي إنجاز حقيقي.
ومع زيادة الشعور بالفشل والاحباط امام هذا العجز تبرز أكثر فأكثر للباحثين والناشطين السياسيين القطيعة بين الدولة الراهنة والمجتمع، وعلى الرغم من أن شعورنا بهذه القطيعة حديث العهد الى حد كبير، فإن هناك مؤشرات كثيرة تبين انها ليست ثمرة الوضع الراهن وما يتميز به من انهيار شرعية النخب الحاكمة الحالية وتفاقم فسادها فحسب، وتمتد جذور هذه القطيعة عميقاً في أحوال نشأة هذه الدولة وبنية القوى التي قامت عليها والقيم المعنوية والأخلاقية التي استلهمتها أو ألهمت نشاطها وعملها.
وفيما بين ثنايا مشروع الشرق الأوسط وحدته أو تفكيكه، ثمة رؤية فلسفية تدعي في سياقاتها النظم الدولية جوهر الحقيقة والتي على أُسُسِها تتداعى في بلورة حاكمية نظمها لتحقيق ذلك، ومن ثَمَ نظرتها الى الآخر، الآخر دونها من الشعوب والأمم والحضارات، والتي تصيغ على اساسها المواثيق والاتفاقات وتحدد بمقتضاها الشعوب الصديقة وكذلك المعادية، وقد آلت في فلسفتها وما اعتقدت فيه توجيه جموع الانسانية بما ترتئيه من اساليب عنيفة تارة ودبلوماسية تارة أخرى، بغض النظر عن الاطار القيمي والاخلاقي فليس له اعتبار في موازينها تلك، والقصد هنا الوصول للنتيجة المرجوة في اطار فلسفتها المادية المحضة.
على سبيل المثال؛ عقلية السوق الحُر المُطَبّقة على الجغرافيا السياسية، التي تعني إزالة القيود أمام الاقتصاد – دعه يعمل دعه يمر – تسمح مباشرة وبشكل آلي بتنظيم السوق وتأمين المصالح الخاصة والجماعية، حيث يعتقد أصحاب هذه المدرسة بأنه خلق حالة من الفوضى واللااستقرار سوف يؤدي حتماً الى بناء نظام سياسي جديد يوفر الأمن والازدهار والحرية – بزعمهم – إنه العلاج بالصدمة، وهذه الخطة تفترض ان المجتمعات تنتظم بشكل بناء وصحيح بعد الصدمة التي ولّدتها الفوضى، وهي لا تأخذ بالاعتبار والحسبان ردات الفعل السلبية.
بالتحولات الفكرية التاريخية هذه في الحضارة الغربية؛ تُشَكِل محضناً فكرياً ونظرياً للأسس الفلسفية والعلمية الاولى بتطوراتها وتصوراتها لمفهوم الإنسان والإنسانية، والتي لها أثراً في تحديد التصور الانساني لطبيعة المجتمعات الانسانية في العصر الحديث؛ ضمنها المكونات الاجتماعية الشرق أوسطية، وقد تَجَلَّى كفايةً مدى استحالة تفعيل “مشروع الشرق الأوسط” من جانب واحد، والذي زادت الهيمنة الأمريكية من وتيرة تنفيذه في أعوامِ الألفين، حيث لا يمكن توقع اندماج منطقة الشرق الأوسط معه بهذه السهولة.
في التناول التالي سأتناول عنصر: الشرق الاوسط ومشروعات التفكيك (الفوضى الخلاقة) تناولاً سابق عن التناول التاريخي لسياق الاحداث، وذلك سابق على عنصر: الشرق الأوسط ومشروعات الوحدة (القومية العربية)؛ فيما يلي:
- الشرق الوسط ومشروعات التفكيك (الفوضى الخلاقة):
مصطلح ” الفوضى الخلاقة ” دخل القاموس السياسي في العقدين الأخيرين، ويتميز بقدر كبير من الالتباس والتأويل يصل الى حد التحايل والتلاعب اللفظي لوصف حقبة سياسية تاريخية صاخبة، وبمسار خارج المألوف الطبيعي للخطاب السياسي – الفكري التقليدي – عبر بناء نسيج من المتقابلات المختلفة للمصطلحات تهدف الى تحقيق استراتيجية معينة ومنهج لإدارة المصالح الغربية في المناطق التي ترتكز فيها تلك المصالح.
وفيما تناوله أوجلان بما يتعلق بصناعة الفوضى ومتواليتها يرى أنه: ” بتَبَعثُر بُنية النظام يتَوَلَّد وسط من الفوضى يلائم ظهور بُنى نظامية جديدة، ومَن يَمتَلِك الأجوبة الأوقع من بين القوى الاجتماعية فيما يتعلق بالاستعدادات الأيديولوجية والبُنيَوِيّة، يكون قد اكتسب فرصة أو وظيفة أداء الدور الرئيسي في بناء وهيكلة النظام الجديد.
إن مفهوم ” غزو العقول ” المرافق لنظرية الفوضى البناءة يقوم على اساس الرضوخ الداخلي ويلعب ضمن دائرة نقاط الضعف لدى الطرف المستَهَدف، باعتبارها أوتاراً حساسة جداً، يشكل العزف عليها سيمفونية أكثر طرباً من تلك التي تقوم على ضجيج النعال العسكرية الثقيلة وهدير الأباتشي، كما تكمن خطورته في آليته وأهدافه البعيدة المدى، فهو يهدف الى السيطرة على إرادة الانسان من خلال اطلاق شعارات خداعة، تشكل قيماً مطلقة يتوق اليها الانسان بشكل عام والدول النامية بشكل خاص، كالديموقراطية والحريات وحقوق الانسان، بحيث تستطيع استقطاب الكثيرين الى صفوفها أي أنه احتلال من الداخل.
وهذ ما نعته أوجلان بمفهوم ” الأسر الذهني ” وهو جزء من تصنيع الثقافات الموظَفة في تحقيق ارباح لا تتوقف فقط على الربح المادي بل ارباح اجتماعية كذلك: ” فالسلع الثقافية لا تقتصر على تمهيد السبيل لإدرار أرباح طائلة فحسب، بل إنّ وظيفتها المدمرة الأساسية تتمثل في تكريس الأَسْر الذهني بأبعاد لا نظير لها في التاريخ، لتُكَوِّنَ بناء على ذلك الطبقات والأمم والعشائر وشتى المجموعات التي تكون في حالة أسوأ من حال قطيع المواشي “، فالأسر الذهني لصيق بمفهوم الثقافة، والذي يتباين حسب الزاوية التي ينظر منها الباحث للمفهوم ذاته.
في هذه الحالة يتضح أن الفوضى (خلاقة) بالنسبة لمصالح الغرب، وغير خلاقة بل مدمرة بالنسبة للأوطان والشعوب، وهذا المصطلح ينشط في حيز العولمة الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة، وهو يجمع بين متناقضين متقاطعين: فوضى – خلاقة.
فالمصلح خلاف مفهوم الفوضى المثقل بدلالات سلبية كعدم الاستقرار، أُضيف عليه مصطلح آخر يتمتع بالإيجابية وهو الخلق أو البناء، ولا يخفى خبث المقاصد الكامنة في صلب مصطلح ” الفوضى الخلاقة ” لأغراض التضليل والتمويه، الفوضى الخلاقة/البناءة هي النظرية المعتمدة لوصول الليبراليين الجدد الى السلطة، وفق زخم شعبي مصطنع، فالفوضى لم تكن ابداً بناءة، إذ هي نقيض للنظام ونقيضة للعمل التغييري المنظم، وطول تاريخ البشرية لم تكن الفوضى ابداً سلاحاً للتغيير، بل سلاحاً ضد التغيير على الأقل من زاوية اجهاض التغيير بالتفجر دون وجود قيادة منظمة تنظم وتوجه وتقود حركة الشعوب من أجل التغيير الحقيقي وبناء عالم الغد.
فالعولمة ونشر الفوضى بلغت حداً كبيراً في ممارسة ضغوط شديدة من أجل تحقيق التجانس والتقارب في العالم – بشكل وهمي – ولكنها أيضاً دفعت العالم في اتجاه مقاومتها وانعكاس تيارها عليها، وأصبح من الواضح ايضاً أنه كما يتحرك ” النظام القانوني الدولي ” بشكل أكبر في اتجاهي التضامن، وتخطي ” الحدود القومية “، وانخفاض “منسوب السيادة “، كذلك يرتفع المستوى السياسي للاختلاف الاجتماعي والثقافي، وللقواعد الاقتصادية والبيئية، بما لها من أثر بالغ العمق في ( التنظيم الاهلي للمجتمع)، وبهذا تصبح القيم المتباعدة أكثر بروزاً فيما يتحرك النظام القانوني نحو ” الادنى “، متجهاً من مذهب الشعارات ذات الفكر السامي، ” هبوطاً ” الى قواعد عملياتية مفصلة ومقحَمة بشدة في كل هذه المجالات والى وسائل اشد على صعيد تطبيقها، من خلال ” التوسع في وضع العقوبات والشروط “.
- الشرق الأوسط ومشروعات الوحدة (القومية العربية):
بيد أن الهزيمة الكبيرة التي جسدها انتصار الاستعمار لم تقض على الفكرة العربية، على الرغم من أنها قادت الى انهيار الحركة العربية السياسية الأولى، ولكن استمرت الفكرة تمثل حامل لأمل ووعي جديدين، هو الذي تم تكريسه في اللغة السياسية العربية الحديثة تحت اسم ” الوعي القومي “.
– النسخة الأولى من المشروع القومي العربي:
تميز الوعي القومي عن الوعي الوطني الجزئي الذي يسود على مستوى النخب الحاكمة المختلفة في الأقطار العربية، وقد تمثلت خصائص هذا الوعي أنه:
- يؤكد أن من غير الممكن لأي قطر الخروج من وضعية التبعية والتخلف التاريخي والحضاري الراهنة من دون ضم جهده الى الأقطار العربية الأخرى.
- التفكير ببناء جماعي يطلق عليه اسم المشروع القومي.
- من منظور هذا المشروع الجماعي – القومي – وحده، ومن منطلق هذا الوعي بلورة رؤية متسقة، وتعبئة مشاعر وطنية عميقة وشاملة، وتحديد أهداف تاريخية، وتأمين الوسائل الممكنة لإعادة بناء الشخصية العربية بما يتفق مع معطيات العصر ومعاييره وحاجات الرد على التحديات الكبرى التنموية والثقافية والعلمية.
لم تنجح الفكرة العربية في القضاء على الفكرة القطرية الوطنية ولا على الفكرة الاسلامية التي ستستمر كامنة وراء النظم الوطنية الجديدة، حيث تبدل المحتوى والوظيفة، ولكن في الاتجاه المعاكس للفكرة العربية، فبعد هزيمتها السياسية وتخلي الدول الجديدة عنها كمحور لهوية سياسية ومرشد لسلطة وطنية، ولدت هذه الدول كلها تقريباً تحت الاحتلال أو منه، ستنكفئ الفكرة العربية عن المجتمع وتلتجئ الى دوائر المثقفين الذين لم يحتملوا فكرة تمزيق الشرق، وآمنوا من اعماقهم بضرورة العمل على توحيده، وسيؤدي هذا الانكفاء في شروط الدخول في الحقبة الاستعمارية وتبدل أطراف الصراع وسياقه، الى تغيير عميق في طبيعة الفكرة العربية ومضمونها أيضاً والتي دوماً اتسمت بخصائص منها:
- تأكيد الهوية والثقافة.
- ابراز وحدة اللغة والشعور والمصالح بالنسبة للشعوب العربية.
وعن فكرة وحدة الهوية العربية الثقافية هذه ومنها، ستنمو وتتبلور فكرة الوحدة العربية كمشروع جديد متميز كلياً عن مشروع الاستقلال عن السلطنة العثمانية في الحقبة الاولى، وطُرحت الفكرة باعتبارها استراتيجية جديدة ومشروعاً يستطع وحده أن يقدم الى الاقطار العربية المكافحة ضد الاستعمار، ثم المستقلة.
– النسخة الثانية من المشروع القومي العربي:
تبلورت عقيدة العروبة تحت الاستعمار، لكن بشكل خاص منذ الاستقلال، كعقيدة قومية معادية اساسا للاستعمار الغربي وللقوى المحافظة أو الاقطاعية المتعاونة معه، كما ستردد تياراتها المتعددة، الناصرية والبعثية والحركية، فيما بعد.
فقد تشكلت بذلك في الخمسينيات الطبعة الثانية من القومية العربية تمثل الدعوة الى الوحدة، وتشكل العقيدة الملهمة لعدد من الحركات السياسية والسلطات الرسمية، قبل ان تتعثر في مضمونها السياسي والاجتماعي بعد دخولها الازمة العميقة منذ سبعينيات القرن العشرين، ولا تكمن بذور هذه الازمة كما يقال عادة في نكسة 1967 م وإنما قبل ذلك في:
- انهيار الوحدة السورية المصرية.
- تفاقم النزاع بين أطراف الحركة القومية العربية بمكوناتها المختلفة، السياسية والقطرية، وفي مقدمة ذلك الصراع بين الجمهورية العربية المتحدة والسلطة الثورية الجديدة في العراق (تموز/يوليو 1958 م).
- التعثر في حسم الحرب الاهلية في اليمن وتحولها الى حرب عربية – عربية.
فأصبح تحقيق الوحدة في مأزق تاريخي واضح، وأن فكرة الوحدة العربية أصبحت شعاراً يستخدم لتغطية عملية ترسيخ الدول والأنظمة القطرية.
وبتدقيق النظر الى حقيقة القومية كحالة تجمع عدة دول وبين القطرية كواقع له عوامل تكوينه وخصائص يتسم بها يتضح أن الحالة القومية ظلت تمثل نموذج نظري الى حد كبير، بينما الواقع القطري يظل عملية حتمية في سياق البعد الاقليمي والجغرافي والعديد من العوامل الاخرى.
فالقُطرية تحققت على الارض وفي الوقائع والاعيان، والقومية حلقت في الاذهان والضمائر والكتب والمجلات والقصائد والفنون، الاولى وُجدت كعملية بلا رديف نظري والثانية واصلت وجودها كنظرية بلا رديف عملي في شكل دولة واحدة (البلاد العربية نموذجاً).
وهنا ثمة نوعين من القومية؛ قومية دعوة وطموح خائب، وقومية واقع ووجود محقق، الاولى هي رابطة اللغة وثقافة وفكر (كمثال القومية العربية) لا رابطة دولة واجتماع وسياسة، والثانية قومية الدولة القطرية وهي رابطة موضوعية تضم في تكوينها كلا من اللغة والدين والارض والدولة والتقاليد والطقوس الوطنية.
- الرؤية الأوجلانية لأزمة الشرق الأوسط:
بين الرؤى القائمة على القدرية الميتافيزيقية، وكذلك المسميات التي منشأها العلوم الوضعية خاصة الاجتماعية منها، وتطرف الدوافع الماركسية أو الشيوعية الى اليوتوبيات الحالمة، بل إن أساليبها ووسائلها الممارسة المُقتَرحة قد وقعت في خدمة تعزيز الرأسمالية؛ حتى وإن لَم ترغب في ذلك، مما ساهمت كل هذه التوجهات الانسانية الى بلورة رؤى غير مكتملة للمجتمع، وعدم رسم إطاراً جدياً واضحاً يمكن من خلاله بناء نسقاً فعلياً تجتمع فيه متنوع الافكار والفلسفات، بل تمخضت كل هذه الرؤى الى نتائج سلبية بشكل خطي، أو متتالية هندسية شديدة التعقيد والتأزم، بل تجاوزت في ازماتها الى حد الظواهر الفاشية والتطهير العرقي لحساب عرق دون الآخر، والحرب العالمية وتبعاتها دليل على ذلك.
هذا ما يُترجم عن الرؤية الأوجلانية لمشكلات المجتمع الانساني الشرق أوسطي المتأزم، وفي تجاوز هذه المأزومية الاجتماعية الشاملة، حيث يعوّل أوجلان على المستجدات الجارية بحق الايكولوجيا والفامينية والثقافة والديموقراطية، حيث يعد هذه العوامل جملة أكثر استنارة للطبيعة الاجتماعية، ويتضح ذلك فيما تناوله أوجلان: “بالإمكان القول إنّ النقاشات الأكثر عُمقاً قد دارت وتصاعدت بشأن الطبيعةِ الاجتماعية، فالمستجدات الجارية بحق الأيكولوجيا والفامينية والثقافة والديمقراطية باتت أكثر إنارة للطبيعة الاجتماعية، وأكثر قدرة على تحديد فُرَص الحل وزيادتِها بمنوال سليم “.
وقد استنتج أوجلان في ضوء سياقات هذه الازمة الانسانية المُطَوَلة وحلولها نتيجة مفادها: ازدياد تَعَمُّق المعرفة، والشعور بالحاجة إلى ذلك، وبهذا المعنى، فقد تَطَوَّر العلم والفلسفة بل وحتى الأديان والفنون ارتباطاً بالحاجة الماسة إلى تلبية احتياجات الأزمات الاجتماعية الثقيلة الوطأة “.
بلا شك؛ تتسم القضايا الاجتماعية بطبيعة تشعبية، لا تتوقف فقط كون منبعها التسلط أو الاستغلال، بل ثمة تداخلات اكثر تشابكاً وتعقيداً، اضافة على كونها تمثل مشكلة لنسق ما، وقد تكون في ذاتها – المشكلة – حلاً لدى نسق آخر، ويزيد التعقيد تعقيداً أشد حينما يتم تقديم التسلط والقمع حلاً، ويكون ذلك عبارة عن أحد أشكال التسلط وأسلوب من أساليب الاستغلال الأكثر كثافة، فتتشكل المقاومات والتمردات الدائمة والحروب المضادة، فتكون النتيجة الحتمية العيش تحت نير قمع واستغلال احتكارات التسلط التي تُعَد منبع القضايا بأكثر الأشكال ذُلاً وهَواناً، وكأن ذلك قدَر محتوم.
وفي هذا السياق المتتال لمظاهر المد والجذر لأزمة المجتمعات الشرق أوسطية يستنتج أوجلان: أن مجتمعات الشرق الأوسط من المجتمعات الإنسانية التي عانت أكثر من غيرها جراء الأزمات والمشاكل على مَر التاريخ، ما من شك في أن السبب الأساسي وراء ذلك يَكمن في اضطرارها للرضوخ دوماً تحت نير القمع والاستغلال الساحق للمدنية المركزية “.
من خلال استعراض القضايا التي تمثل صميم الازمات الرئيسية المتعلقة فيه بالطبيعة الاجتماعية؛ يتناول أوجلان أزمة المدنية وحل الحضارة الديموقراطية في الشرق الأوسط ، وقد استهل تناوله في سياق رؤيته المستنيرة بقضية المرأة والتي يتبنى في سياقها تنحّي التعاطي الجنسويِّ المتصلب الذليل عن مكانه لصالح الحاجة إلى البحث عن صديق ورفيق.. وينبغي المعرفة أنه يستحيل عيش حياة ثمينة ذات معنى، ما لم يتحقق عيش سليم مع المرأة ضمن المجتمع “، ويوصي اوجلان بضرورة صياغة الاقوال وتطوير الممارسات انطلاقاً من الإدراك بأنّ الحياة الأثمن والأجمل يمكن تحقيقها مع المرأة الحرة المتمتعة تماماً بكرامتها وعزتها.
أما القضية الثانية ضمن ازمات مجتمع الشرق الأوسط في رؤية أوجلان فتتمثل في قضايا العشيرة والأثنية والقوم، حيث تمثل العشيرة في رؤيته ” بنية مجتمعية حقيقة “، لما تمثله من القيم المتبادلة بين الفرد وبين العشيرة الكل – حيث ينحازون لصالح مجموعاتهم عندما تقارن بمجموعة اخرى – وذلك في سياق حياة طبيعية حرة، إلا أن تصاعد المدنية الدولتية كان أكثر سطوة عليها، فتناقضت مبادئ الدولة مع العشيرة فكان لها أثر سيء، مما دفع العشيرة أن ترتقي بشكلها التنظيمي الى مستوى الملة أو القوم، أي التوجه نحو الأمة مما اضاف اليها أيديولوجية تتبعها وتنتظم وفقها، مثال الاديان التوحيدية في الشرق الأوسط، والاديان في الاقوام الاغريقية والارمينية والاشورية والعربية والفارسية والكردية، فقد كانت جميعها تختار حسبما تتوائم مصالحها القومية، ورغماً عن الاسلام تصاعد مناهضاً الوثنية إلا أنه وجد نفسه بعد فترة في صراع بلغ أشده مع المسيحية واليهودية، وكذلك العديد من القضايا التي تختص بالفرس والكرد، بالإضافة الى النزعات المذهبية لديهم.
القضية الثالثة قضية الدين والمذهب، في نظرته يرى أوجلان المذهبية الدينية اضيفت بجانب القضايا الدينية، فأصبحت المذهبية ذات قضايا متباينة داخل قضايا الدين الواحد، ووعود الدين بالسلام والاخوة والاتحاد والتكامل هددتها مصالح المادة، وأن المادية في مواجهة القيم الدينية لها تأثير كبير وسطوة فكان التفاوت الطبقي المتنامي في المجتمع، ولم يتوقف ذلك بل وصل الى نشوب النزاعات والحروب، وذلك لم يكن مُحدَث في شأن المذاهب بل منذ عهود الانبياء وعصور الخلفاء، ما بين السنة والشيعة، ويرى ميل الاقوام الى المذاهب حيث المنفعة المادية، ويعزي اجلان الميل للمذهب السني لدى السلاجقة رغبة منهم في السيطرة والانتشار وذلك ما تناسب لديهم في سياق السيطرة والغلبة، ولا تستثنى المسيحية من المذهبية ايضاً فبحث اللاتينيون عن الخلاص عبر المذهب الكاثوليكي، وبحث الاغريق والسلاف كذلك عبر المذهب الارثوزكسي، والارمن عبر الغريغوريانية، والآشوريون عبر النسطورية، اما اليهودية لم تكتفي فقط بإخراج المسيحية والاسلام من صفوفها بل انقسم اليهود على انفسهم، منهم من والى الفرس ومنهم من والى الاغريق، وكذلك الانقسام الى يهود الغرب ويهود الشرق (الاشنازيم والسفارديم).
لم يغفل أوجلان في المسرودات قضية المدنية والبيئة في سياق أزمة الشرق الأوسط ، حيث يعتقد اوجلان منذ العهود السومرية يُشكل التمدن مظهراً رئيسياً من مظاهر التسلط: ” فالتمدُّن يَحمِل الاستعباد وبالتالي التدوُّل في خباياه، وتَأَسُّس السوق يجلب معه قضايا اقتصاديةَ أيضاً “، وذلك عن طريق تقرير نسب التبادل والمقايضة – الاسعار – ، كذلك أمر الحماية – الأمن – وتكوّن الجماعات قرينة السلطة المتناحرة فيما بينها (الراهب، الحاكم والقائد العسكري) وصولا الى قضايا التضخم والتوسع، وتعد دولة المدينة اقدم أشكال السلطة، بينما الامبراطوريات والدول القومية ظهرت كأنساق جديدة فيما بعد، وكان الصراع بين المدائن يأذن بتكوين المدن المهيمنة مثل بابل آشور أثينا روما، والتي أدت فيما بعد دور مراكز الامبراطورية.
ويرى أوجلان ان على الرغم من كبر مدائن الشرق الاوسط في العهد الاسلامي الا انه لم تكن متقدمة معمارياً عما كان عليه مستوى المعمار في العهد الهيلني، وكذلك لم تنتقل الى ثورة صناعية مما زاد من قضاياها الداخلية وطأة، بينما حمل التمدن في أوروبا ظهور المدن الاقتصادية والاسواق، مما برز فيها رأس المال بما دفع الى بسط النفوذ على شرائح الصناع والحرفيين والريفيين، وغدت الثورة الصناعية ككارثة تأذن بنهاية المدن وتدهورها، فكانت بمثابة السرطان الذي انتهى الى كارثة بيئية، فاضحت المدينة لا تقتل نفسها فحسب بل تقتل البيئة، مستهلكة في ذلك الريف والمجتمع الريفي، ندرك بذلك ان قضية البيئة انها قضية مجتمعية وهذا ما تسبب في الكوارث والقضايا والازمات في منطقة الشرق الاوسط بالرغم من احترام الاديان للنظم الايكولوجية، فالشرق الاوسط يئن تحت وطأة الهيمنة الرأس مالية واستغلال الموارد فهو الاقرب الى التصحر لأسباب جيولوجية طبيعية واصطناعية على السواء، فكأنه يرغم على التخلي عن الحياة.
ويضيف أوجلان الى جملة القضايا المؤثرة في الطبيعة الاجتماعية للشرق الأوسط كل من قضايا الطبقة، الهرمية، الأسرة، السلطة والدولة، فيرى ان مجتمع الشرق الأوسط أسبق المجتمعات في تجذر منظومة الهرمية والتي تأست على الشباب والمرأة، ثم تتمظهر في تحالف الرجل المستبد، الشامان والراهب، الرجال العجائز الخبراء، ويُعد هذا النموذج البِدئيّ في الهرمية والسلطة في التاريخ الكوني ونموذج لكافة الهرميات والذي تصاعدت على إثره السلطات بتوسع نُسُقها.
ويربط أوجلان بين اهمية تحليل الاسرة والسلالية ونظمها كأيديولوجية وبنيوية متداخلة وبين السلطة والدولة والهرمية الفوقية: ” بأنه النموذج البِدئيُّ للسلطة والدولة، ويَرتَكِزُ إلى دعامة الرجل والأولاد الذكور، فامتلاك عدد كبير من الذكور أمر مهم لأجل السلطة، وقد أفسحت هذه الخاصية المجال أمام تَعَدُّد الزوجات، وأمام حياة الحَريمِ ونظام الجواري “.
ويعزو أوجلان منبع السلطة والطبقية والدولة في مدنية الشرق الأوسط بتجذره في واقع السلالة، أي أن أيديولوجية السلالة أنتجت نظام العبودية والاخضاع لدى العشيرة أولاً ثم بقية القبيلة وأحدثت فيها أول تفاوت طبقي، وهذا يختلف عن مضمون الولاء أي حالة الدمج بين الذات الفردية في ذات اوسع منها واشمل ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءاً من اسرة او من جماعة او من امة، وبذلك تكون النواة الأولى لإنتاج السلطة والدولة.
ويشير أوجلان الى أن أحد مصادر قضايا الشرق الأوسط متعلق بثقافة السلالاتيةِ والعائلية: ” ثقافة السلالاتية والعائلية التي لا تَنفَك منيعة في مجتمع الشرق الأوسط الراهن، أحد المصادر الأساسية للقضايا، بسبب ما تُسفِر عنه من تَضَخُّم سكاني وطمعٍ في انتزاع الحصة من السلطة والدولة “.
ويرى أوجلان أن الحَطّ من شأن المرأة، اللامساواة، وعدم تعليم الأطفال، نزاعات الأسرة وقضية الشرف؛ كلّها مرتبطة بالنزعة العائلية، وكأن نموذجاً مُصغراً من قضايا السلطة والدولة الداخلية قد أُسِّسَ داخل الأسرة، من هنا، فتحليلُ الأسرة شرط لا بد منه لأجل تحليل السلطة– الدولة– الطبقة والمجتمع.
وفيما يتعلق بقضايا الأخلاق والسياسة والديمقراطية، يشير أوجلان بانه: ” لا وجود للمجتمع من دون الأخلاق والسياسة، ولو تواجدت هكذا مجتمعات، فلا يمكن أن تكون إلا أداة مُسَخَّرة لخدمة مجتمعات أخرى “، وفي إشارته لمفهوم الاخلاق يعرفها بأنها ” وحدة وتكامل المواقف التي سلكها المجتمع أثناء البدء بتشييده”، فالسياسة الحقة في الاتجاه الأوجلاني تتمثل في مشاركة ومناقشة الديموس (القبيلة، الأسرة، العشيرة، القوم، وكُلِّيَّاتية أجهزة مجتمع الأمة كافة).
وفي تلاحمية الاخلاق والسياسة وتبادليتهما يرى أوجلان: تَقوم الأخلاق بوظيفتها وتؤدي دورها كتقاليد على شكل قوالب معيارية، فإن السياسة تعني كُلِّيَّةَ القرارات المُتَّخَذَة بشأن القضايا التي تواجه المجتمع يومياً، وبقدر ما تتحول كُلِّيَّة هذه القرارات إلى تقاليد، فهذا يدل على التحامها وتَكاملها مع التقاليد الأخلاقية، وتَحَوُّلها بالتالي إلى قواعد أخلاقية بالتحديد “.
وفي اشارة أوجلانية لإزالة الالتباس بين كل من الاخلاق والسياسة؛ لا يمكن أن يَقُوم القانون مقام الأخلاق الحية في أي وقت من الأوقات، هذا ويجب الفهم أنه يستحيل إطلاق تسمية “السياسة” على أي نشاط أو قرار أو تنفيذ معنيٍّ بالشؤون الداخلية والخارجية لحُكم الدولة، قد يُسمى ذلك بسياسة الدولة، ولكن؛ يستحيل تسميته بسياسة المجتمع.. وليست السياسة ظاهرة أو مصطلحاً يتكَوَّن بلا شعب أو بلا مجتمع أو بلا مشاركة، ونظراً لضرورة أن تَكُون السياسة ديمقراطية، فمن الضروري أن تكون أخلاقية أيضاً، ولا يُمكِن لمجتمع أن يَكُون سياسياً في حال غياب الديمقراطية، ولا أن يَكُون أخلاقياً في حال غياب السياسة.
أما العلاقة بين الأخلاق والسياسة والديمقراطية في مجتمعاتِ الشرقِ الأوسط يرى اوجلان وجود قضايا متعلقة بها بشكل جدي، وهي قضايا شاملةٌ أيضاً بحُكم سياق المدنية، ويفرق هنا بين رؤية الاخلاق والسياسة بين مجتمع الشرق الأوسط والمجتمع الأوروبي: ” أنّ قوانين وسياسة وديمقراطية المدنية الأوروبية هي بورجوازية الطابع إلى حد بعيد، وأنها لا تُمَثِّل ظاهرة الأخلاق والسياسة والديمقراطية للمجتمع– التاريخي الكوني ولا تُصَوِّرُها “، ويتضح من ذلك أنها لا تمثل تصور أو نموذج سياسي أخلاقي البته، وما ذلك الا ممارسات برجوازية في أساسها لا تمثل ديموقراطية، حيث تتضح حقيقة الممارسات في المجتمع الأوروبي في أن القوانين والحقوق قد حلَّت محل الأخلاق تماماً – بدون تعميم لديه -، ويرى أوجلان أن ما يمارس في المجتمعات الاوروبية من القوانين: ” هي عبارة عن كومة من التعاقُدات المعنية بالدولة والسلطة، ولا يُمكن أن يقوم القانون مقام الأخلاق الحية في أي وقت من الأوقات “، وهنا اشارة الى انه قد تتنافى القوانين مع الاخلاق رغماً عن ممارستها، فهذا لا يعني أنه تمثل قيمة اخلاقية في سياق الاقرار بها في بعض المجتمعات.
وينتهي اوجلان في قضية الاخلاق والسياسة في مجتمع الشرق الأوسط رغماً عن أزمتها الدياليكتيكية إلا أنها تمثل طاقة كامنة، حيث: ” ان الطاقة الكامنة للديمقراطية والأخلاق والسياسة قوية في مجتمع الشرق الأوسط، فوجود قضايا الأخلاق والسياسة والديمقراطية الجادة، يشير إلى مدى قوة طاقتها الكامنة أيضاً، وكون ميول الدولة والسلطوية لا تزال قوية، إنما تُذَكِّر في وجهها الآخر بالقضايا الأخلاقية والسياسية والديمقراطية الوطيدة، وبمدى الحاجة الماسة إلى الأخلاق والسياسة والديمقراطية، بل وحتى بمدى وجودها “.
وفيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والأيديولوجية في مجتمع الشرق الأوسط، لتفهم طبيعة المشكلات الاقتصادية للشرق الاوسط تناول اوجلان مفهوم الاقتصاد بما خضع لتصور المجتمع الغربي والذي تمأسس عليه الاقتصاد العالمي، وقد أطلق عليه أوجلان ” الاقتصاد السياسي ” بما فيه رأس المال، والذي تتعلق مواضيعه الاساسية بالربح والأجور المُؤَمَّنة عن طريق الإنتاجِ بموجب الأسواق، وهذا في تصوره ليس علماً، إنما قواعد مضبوطة حسب حياة البورجوازية المُتَأسِّسة تماماً على الربح، فالحياة وفق ذلك تعني السلطة الأكثر وحشية.
ليس هباءً أن يتم الحكم على التكديس أو الادخار الهادِف إلى إثراء بعض المجموعات والشخصيات – وليس كتدبير تجاه الكوارث– بأنه يُشَكِّل “الرذيلة” حسب المعاييرِ الأخلاقية.. قد نُظِر إلى جعلها حِكراً على أصحاب المُراكَمات على أنه من أشنع اللاأخلاقيات، وهذه هي الظاهرة التي سعَت الحداثة الرأسمالية الغربية إلى شرعَنَتها بألف قانون وألف جهاز من أجهزة القوة.
أي أنّ الرأسمالية ليست ضد الاقتصاد فحسب، بل وضد السوق أيضاً، وإلا، فهل كانت ستُقلَب الحياة الاجتماعية رأساً على عقب بالأزمة الدائمة وألاعيب التمويل لو لَم تَكُن كذلك؟ وهل كانت ستتضخم القضايا التي تُهَدِّد البشرية، وعلى رأسها قضية التزايدِ السكاني المفرط والبطالة والحرمان وإبادة البيئة، بقدر ما هي عليه في هذه المرحلة، رغم كل هذا الكم من العلم والتقنية؟
تبدأ القضية الاقتصادية أساساً مع تجريد المرأة من الاقتصاد، بالرغم من أداء المرأة دورها في مركز الاقتصاد أمر طبيعي، لأنها تنجب الأطفال وتغذيهم، لقد تَحَوَّل الاقتصاد، إلى كومة من القضايا الإشكالية لدى طرد المرأة منه في تاريخِ المدنية عموماً، وفي الحداثةِ الرأسمالية خصيصاً، لقد طُرِدَ المزارعون بعد المرأة من الساحة الاقتصادية، ثمَّ طُرِدَ الرّعاة والحِرَفِيّون وصغار التجار المَعنِيّون بالاقتصاد الحقيقي خطوة بخطوة على يَدِ أجهزة احتكارات السلطة ورأس المال.
إنه فارق مهمّ يُميِّز مجتمع الشرق الأوسط، ألا وهو تسريب الفوائض الاقتصادية بيَدِ الدولة، فسيُلاحَظ أن الدولة في نهاية المطاف هي الصاحب الشرعي الوحيد للفوائض الاجتماعية، ورؤيتها لنفسها كصاحبة المُلكِ يُعَدُّ سبباً كافياً أصلاً من أجل ذلك، فتاريخ المدنية هو تاريخ اقتصاد مضاد، وكل القضايا الاقتصادية تُعاش نتيجة لهذا التناقض، من هنا، وبقدر ما ترفع الطبقة الحاكمة والمدينة والدولة يدها عن الاقتصاد – بقدر ما يتم تحجيمها وتترك الاقتصاد لأصحابه الحقيقيين – فإن القضايا الاقتصادية ستَلِج درب الحل حينذاك بالمثل، هذا التشخيص الصائب على صعيد الاقتصاد الكوني، إنما هو صحيح زيادة عن الحد لأجل الحياة الاقتصادية أيضاً في الشرق الأوسط.
وفيما يرتبط بالأيديولوجيا يرى أوجلان أنه لا مجتمع بلا أيديولوجيا، كونها قوة الثقافة المعنوية، وظيفتها أساساً هي تنظيم الحياة وإضفاء المعاني عليها، ولقد أدت الأيديولوجيات دوراً عظيماً في حضارات الشرق الأوسط، فقد تحولت الأيديولوجية الميثولوجية إلى أيديولوجيا دينية، ومن ثمَ إلى أيديولوجيا فلسفية، وأخيراً إلى نظريات علمية.
فقضايا الحياة الاقتصادية والاجتماعية تجد المقابل لها في الأيديولوجيا، سواء بشكل حقيقي أم مُحَرَّف، فمؤسسات السلطة والدولة والسلالة تُنشِئ وتُقَدِّم ذاتها على شكل ألوهيات كنموذج مثالي جداً في عالم الأيديولوجيا، فالقضايا والنزاعات القائمة فيما بينها تُعاش كما هي في آثارها أيضاً، بقدر ما يُعَد الميدان الأيديولوجي ضرورياً لأجل فهم حسن للقضايا المادية، فالعكس أيضاً ضروري بالمثل، وبقدر الفصل بين الجانبين والوجهين، فمن الضرورة بمكان البحث دائماً عن الروابط التي بينهما أيضاً.
فالقضايا الاجتماعية المتفاقمة تُصَيَّر قضايا أيديولوجية في هذا الاتجاه، ربما الأمر كذلك بدافع من الإيمان بإمكانية حلها هكذا بسهولة أكبر، فانتعاش الأيديولوجية الإسلامية يَعكِس حضور القضايا الاجتماعية المتزايد، أما عجز أيديولوجيات الحداثة عن التحول إلى أداة حل، فينبع من عجزها عن تشكيل الأواصر الواقعية مع القضايا الاجتماعية، كما أن الفشل في الأيديولوجيات، سواء التقليدية منها (الدينية) أم الحداثوية (الليبرالية، القوموية، الاشتراكية وغيرها)، معنيٌّ بعدم عكسها السليم للقضايا الاجتماعية، بالتالي، فالحل بنَمَطَيه التَّطَوُّرِي التدريجي والثوري يفرض عيش الصواب، قولاً كان أم عملاً.
وفيما يتعلق بقضية الثورة في مجتمع الشرق الأوسط؛ يفسر أوجلان تاريخ المدنية الشرق اوسطية على أنه تاريخ الثورة المضادة تجاه كل من المرأة، الشبيبة، مجتمع الزراعة – القرية، القبائل والعشائر المستقرة والرحالة، أصحاب المذاهب والعقائد الباطنية وكل من يراد استعبادهم، وكل المطرودين من نُظم المدنية، والسبب في ذلك كونها نظاماً نفعياً ذاتياً.
وعليه؛ يٌعرّف أوجلان الثورة بانها: ” تعني إعادة اكتساب المجتمع الأخلاقي والسياسي والديمقراطي لماهياته تلك مجدَداً وبمستوى أرقى، بعدما حَدَّ نظام المدنية من مساحتِه وأعاق تطبيقَه على الدوام “.
فثمة عدم وجود فوارق جوهرية بين العديد من الايديولوجيات ما دامت المجتمعات تخلو من طباع أخلاقية وسياسية وديمقراطية تتسم بمزيد من فرص عيش الحرية والمساواة، وفي هذا السياق يضرب اوجلان مثلاً: ” قد أُدرِكَ بعد انهيار السوفييت بما فيه الكفاية أنه ما من فارق جذري بين الإنسان الاشتراكي في روسيا الاتحادية والإنسان الليبرالي في أوروبا، كما أن الفوارق النابعة من الدين بين مسيحي ومسلم هي ذات تأثير جزئي منخفض جداً على حياتِهم “، فجوهر الفوارق بين كل هذه الايديولوجيات تتحدد بالظواهر التي تنعكس على المجتمع حين ممارسات مفاهيمها محققة بذلك الحرية والمساواة.
خلاصةً أوجلانية:
بالإمكان اختزال الأزمة والقضايا في مجتمع الشرق الأوسط ضمن ثلاثِ مراحل:
- المرحلة الأولى: تصاعد نظام المدنية المركزية بالالتفاف حول ظواهر السلالة، الهرمية، المدينة، السلطة، الدولة والطبقة، والتي تَبَدَّت ملامحها جيداً في أعوام 3500 ق.م. هذا النظام هو مصدر القضايا الاجتماعية، وقد دارت المساعي للرد على هذه المرحلة بالنظام القَبَلِي خارجياً وبالنظامين الدينيَّين الإبراهيمي والزرادشتي داخلياً.
- المرحلةُ الثانية: هي عدم تَمَكن نظام المدنية المركزية – الذي حقَّق نَقلَتَه الأخيرة مع الحضارة الإسلامية – من النجاح التام في تحقيق مبادراته النهضوية تجاه قضاياه المتراكمة، بل دخوله مرحلة المعاناة من تَجَذُّر الأزمات والقضايا أكثر فأكثر مع انتزاع انطلاقات الحضارة المدينية في شبه الجزيرة الإيطالية زمام الريادة من يده مع التوجُّه صوب أعوام 1200م.
- المرحلة الثالثة: المُعاشة راهناً بَدَأَ عيشُها تحت اسم ” قضية الشرق” اعتباراً من أعوام 1800م، وذلك تزامُناً مع استيلاء نظام مدنية أوروبا المركزية على زمام الهيمنة، وتركيزه على المنطقة، أما بحوث الحل التقليدي والحداثوي اعتماداً على الحداثة الرأسمالية، فقد انتَهَت بازدياد وطأة القضايا أكثر، فمَهَّدَت الأزمة بذلك السبيل أمام سلبيات بَلَغَت حافة التطهير العرقي والانتحار.
وفي صياغة تقريرية مختزلة لتفسير واقعي لمجتمع الشرق الأوسط يطرحها اوجلان أنه: ” لن تكون ثمة صعوبة تُذكَر في تشخيص الماهيات الأخلاقية والسياسية والديمقراطية للثورة التي يجب إنجازها، إذ يمكن من خلال الأحداث الجارية الإدراك جيداً أن كل الأيديولوجيات التقليدية والحداثوية المُجَرَّبة قد جَعَلَت الوضع أكثر إشكالية “.
………………………
– المراجع:
- اسعد، على (2002): اشكالية الهوية والانتماء في المجتمعات العربية المعاصرة، مجلة المستقبل العربي، العدد (282) آب/اغسطس، بيروت.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الرابع، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك المتسترين “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الأول، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية الرأسمالية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك الغزاة “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” سوسيولوجيا الحرية “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- سليم، أحمد عزت (2015): سلطة ديناميات التفاعل الاجتماعي، عدد (11)، سلسلة الثقافة الرقمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
- طرابيش، جورج (1982): الدولة القطرية والنظرية القومية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.
- غليون، برهان (2015): المحنة العربية ” الدولة ضد الأمة “، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة.
- مصطفى، حسني أحمد (2024): جدلية الحداثة والحفاظ على التراث الانساني رؤية اوجلانية، مجلة الأمة الديموقراطية، العدد (2)، القاهرة.
- مصطفى، حسني أحمد (2025): تحولات الأنساق الاجتماعية الواقع والمآلات ” رؤية أوجلانية “، دار البديع العربي، القاهرة.
- المنياوي، رمزي (2012): الفوضى الخلاقة ” الربيع العربي بين الثورة والفوضى “، دار الكتاب العربي، دمشق.
- نظمي، وميض جمال عمر (1984): الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركات القومية العربية ” الاستقلال ” في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.