ثقافة

جلادت بدرخان وتأسيس الكردية الحديثة

تحليل: هدير مسعد عطية

أحد الآباء المؤسسين للسردية الكردية الحديثة، لعب دورًا محوريًا في توحيد اللغة الكردية، وإرساء صحافة كردية قوية، وإعادة كتابة التاريخ الكردي من منظور قومي، وتعزيز الأدب كأداة للنضال السياسي. كانت رؤيته تقوم على أن الكرد بحاجة إلى هوية ثقافية موحدة قبل المطالبة بحقوق سياسية، ولهذا ركّز على بناء الأسس الثقافية والفكرية التي ما زالت تؤثر في الوعي القومي الكردي حتى اليوم. .. ساهم في بلورة السردية الكردية الحديثة من خلال تطوير الأبجدية الكردية اللاتينية، وإرساء دعائم الصحافة القومية، وإعادة قراءة التاريخ الكردي من منظور قومي، فضلاً عن مواجهة سياسات الطمس القومي عبر نشر الفكر الكردي المستقل. كان لإرثه تأثير طويل الأمد في تشكيل الهوية الكردية الحديثة، وجعل الثقافة الكردية أكثر مقاومة لسياسات التهميش والاستيعاب. إنه ببساطة، جلادت بدرخان.

بعد قمع التمرد الذي قاده بدرخان بك عام 1847، تم اقتلاع عائلة بدرخان من كردستان العثمانية ودمجها في النظام العثماني. لعب أبناء وأحفاد بدر خان بك أدوارًا بارزة في الحياة السياسية والاجتماعية العثمانية في أواخر العهد العثماني. تأثرت مواقفهم السياسية بشكل كبير بالتطورات الكبرى التي وقعت قبل وبعد الحرب العالمية الأولى. في البداية، دعم أفراد العائلة النظام الدستوري وعارضوا السلطوية في الإمبراطورية، لكنهم تحولوا لاحقًا إلى تأييد استقلال الكرد ومعارضة النظام الكمالي في تركيا. لطالما تم تحليل الإرث الغني للعائلة وأدوار جلالت، كاموران، وسوريا ضمن سياق القومية الكردية. ومع ذلك، فإن دراسة انتقالهم من كونهم “كردا في سبيل الإمبراطورية العثمانية” إلى قوميين كرد بالكامل يجعل قصتهم أكثر إثارة، حيث تسلط الضوء على تحول الهوية في الشرق الأوسط خلال أوائل القرن العشرين. ما كتبه جلادت وكاموران ونشراه قبل نهاية الحرب العالمية الأولى كان يختلف بشكل كبير عن أنشطتهم بعد هزيمة الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية. عندما نشر الإخوة المنفيون من عائلة بدرخان مجلاتهم الكردية في سوريا ولبنان خلال الثلاثينيات والأربعينيات، كانت الصحافة الكردية قد قطعت بالفعل شوطًا طويلًا. فقد بدأت الصحافة الكردية كجزء من المعارضة لحكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909). كان أحد أعمام جلالت وكاموران، مقداد مدحت، قد نشر أول صحيفة كردية، وهي “كردستان”، عام 1898 في القاهرة، التي كانت مركزًا رئيسيًا للمعارضة ضد عبد الحميد.

من هو

وُلد جلادت علي بدرخان عام 1893 ونشأ في إسطنبول، حيث التحق بالأكاديمية العسكرية العثمانية ثم درس القانون في جامعة إسطنبول. في الذكرى الثانية لثورة تركيا الفتاة عام 1908، حضر محاضرة ألقاها اثنان من أبرز دعاة القومية التركية، مما دفعه إلى كتابة مقال عن الكرد وكردستان في صحيفة المدرسة العسكرية العثمانية، حيث كان طالبًا آنذاك. شارك كضابط في الجيش العثماني خلال حروب البلقان والحرب العالمية الأولى. كما نشر، إلى جانب شقيقه كاموران، كتابًا يشرح أسباب خسارة العثمانيين مدينة أدرنة لصالح البلغاريين خلال حروب البلقان.

في عام 1919، رافق جلادت، برفقة شقيقه كاميران، العقيد البريطاني إي. دبليو. نويل في جولة شملت ماردين وديار بكر وملطية، لاستطلاع آراء السكان المحليين حول استقلال كردستان. في ملطية، استقبلهم الحاكم المحلي خليل رحمي، أحد أفراد عائلة بدرخان. أثارت هذه الجولة غضب مصطفى كمال، الذي كان يعمل آنذاك على تنظيم الدفاعات المحلية ضمن مؤتمر وطني. وفقًا لمذكرات العقيد نويل، كان جلادت خلال تلك الفترة مساعدًا لرئيس تحرير صحيفة سربستي” (الحرية)، التي كانت تحمل توجهًا مواليًا للبريطانيين. علاوة على ذلك، حاول جلادت ووالده أمين علي التعاون مع اليونانيين ضد الكماليين. بعد انتصار الكماليين عام 1922، لجأ الأشقاء الأربعة من عائلة بدرخان إلى ألمانيا، حيث حُكم على جلادت وكاموران بالإعدام في تركيا بسبب أنشطتهما المعادية للكماليين.

أقام جلادت في ميونخ بين عامي 1922 و1925، حيث واصل دراسته العليا في القانون. يروي في مذكراته تفاصيل حياته اليومية في ألمانيا، التي طغت عليها صعوبات مالية جراء التضخم. عمل كعامل حدائق، ونادل، ودهّان، ومصفف حروف في مطبعة، وهي الخبرة التي مكنته لاحقًا من طباعة وإصدار مجلة هاوار بنفسه. كما قدم دروسًا في اللغات الكردية والتركية واليونانية. تأثر جلادت وأخوه كاموران بالفكر القومي الرومانسي الألماني، ما أسهم في تشكيل رؤيتهما للقومية الكردية. نشر مقالات وقصصًا وترجمات في الصحف والمجلات الألمانية، من بينها ترجمة لقصة عن جحا، وأخرى عن تقاليد الصيد في كردستان.في عام 1926، غادر جلادت ألمانيا متوجهًا إلى القاهرة، حيث كان والده يحتضر، وكان شقيقه الأكبر سوريا يقيم هناك. وفي عام 1927، أصبح أول رئيس لجمعية خويبون التي تأسست في بيروت، وأيّد ثورة آرارات ضد تركيا (1928-1931). وبعد فشل الثورة، توجه عام 1930 إلى إيران لطلب الدعم من الشاه رضا بهلوي، إلا أن الأخير عرض عليه العمل كدبلوماسي لصالح إيران في أوروبا، وهو ما رفضه جلادت. إثر ذلك، انتقل إلى العراق، حيث لم يكن مرحبًا به من قبل البريطانيين المنشغلين آنذاك بقمع التمردات الكردية ضد الحكومة المركزية العراقية. وبعد عودته إلى سوريا، طلبت منه السلطات الفرنسية، إلى جانب قادة آخرين من خويبون، الابتعاد عن الحدود التركية والاستقرار في دمشق. عقب فشل ثورة آرارات، تخلى جلادت وكاموران عن أدوارهما القيادية في خويبون، ووجّها جهودهما نحو نهضة ثقافية كردية في بلاد الشام تحت رعاية سلطات الانتداب الفرنسي، تضمنت إصدار دوريات كردية في دمشق وبيروت. توفي جلادت في إحدى القرى خارج دمشق في 20 أبريل 1951، ودُفن في مقبرة الحي الكردي في العاصمة السورية.

الهوية الكردية في ظل الدول القومية

كانت النخب القومية الكردية، خاصة تلك التي جاءت من الأراضي الكردية الواقعة تحت سيطرة الجمهورية التركية، تعمل في ظل ظروف مختلفة خلال فترة ما بين الحربين. وكانوا يشعرون بالخيانة من قبل النظام التركي الجديد، وبالإحباط نتيجة فشل محاولاتهم لتحرير الأراضي الكردية من السيطرة التركية بعد انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية. كانت ثورة الشيخ سعيد عام 1925 أول تعبير كبير عن رد الفعل الكردي ضد النظام الكمالي، وكان فشلها ضربة قوية للنضال من أجل تحرير الأراضي الكردية من السيطرة التركية عبر الكفاح المسلح. كانت المحاولة العسكرية الثانية منظمة في لبنان وسوريا من قبل المنفيين الكرد الذين أسسوا منظمة “خويبون” (“كن نفسك”). غير أن ثورة أرارات (1927-1930)، التي نظمتها “خويبون” وقادها ضابط عثماني سابق، انتهت بخيبة أمل أخرى. بعد فشل الخيار العسكري، غادر الأخوان جلادت علي بدرخان (1893-1951) وكاميران علي بدرخان (1895-1978) “خويبون”، وأطلقا في عام 1932 حركة ثقافية بدعم من السلطات الفرنسية وبالتعاون مع المستشرقين الفرنسيين. ركزت أنشطتهم على نشر الدوريات والكتب حول اللغة والتاريخ والثقافة والأدب الكردي، واستمروا في ذلك حتى نهاية الانتداب الفرنسي. سعوا إلى خلق وعي قومي كردي، وإثبات تطلعات الكرد لدولة مستقلة. قام جلال الدين بدرخان بتحرير المجلة الأدبية “هاوار” (“صرخة استغاثة” 1932-1943) وملحقها المصور “روناهي” (“التنوير” 1942-1945) في دمشق، بينما قام كاميران بدرخان بتحرير الصحيفة الأسبوعية “روجا نو” (“اليوم الجديد” 1943-1946) وملحقها “ستير” (“النجم” 1943-1945) في بيروت. كما أدار جلادت دار “هاوار” للطباعة التي نشرت العديد من الكتب القصيرة في دمشق.

وعلى الرغم من أن نشر الدوريات الكردية في بلاد الشام توقف بحلول عام 1946، إلا أن إرثها استمر، لا سيما بين الكرد الناطقين بلهجة الكرمانجية. واصل المثقفون الكرد القادمون من تركيا، والذين استقروا في الدول الأوروبية، نهج الأخوين بدرخان، حيث قاموا بنشر مجلات كردية في المنفى خلال ستينيات القرن العشرين وما تلاها. ومنذ أواخر السبعينيات، أعيد طباعة نسخ طبق الأصل من مجلات “هاوار” و”روناهي” و”روجا نو” و”ستير” في أوروبا، ومؤخراً في شمال العراق وتركيا، مما يدل على استمرار تأثير هذه الدوريات. وأكد المثقفون الكرد على أهمية مجلة “هاوار” كنموذج يُحتذى به في المنشورات اللاحقة بالكردية الكرمانجية، حيث اعتبرها البعض بمثابة “الموسوعة المصغرة للكرد”. ونظراً لأن الدوريات الكردية في أواخر العهد العثماني كانت تُطبع بالحروف العربية والفارسية، فإنها لم تكن متاحة أو يسهل الوصول إليها بالنسبة للكرد الذين اعتمدوا الأبجدية اللاتينية عام 1932. وقد أصبحت “هاوار”، التي أدخلت الأبجدية الكردية الجديدة، مرجعاً أساسياً في تاريخ الكرد وأدبهم ولغتهم للأجيال اللاحقة التي لم تكن تتقن سوى الحروف اللاتينية. على سبيل المثال، وجد اللغويون الذين يعملون على قواعد اللغة الكردية أو يجمعون المفردات الكردية، سواء في تركيا أو في الدول الأوروبية، في “هاوار” وغيرها من الدوريات الكردية في بلاد الشام مصدراً رئيسياً للبحث والاستدلال.

على غرار شخصيات مثل مصطفى كمال أتاتورك وساطع الحصري وشكيب أرسلان، تشكّلت أفكار منظّري القومية الكردية الجدد من خلال المؤسسات العثمانية. وقد تعود أصول الصحافة الكردية إلى أواخر العهد العثماني، حيث قام مقداد بدرخان، وهو عم جلادت وكاميران بدرخان، بنشر أول صحيفة كردية بعنوان “كردستان” في القاهرة عام 1898. كما أصبحت إسطنبول العثمانية مركزاً مهماً للجمعيات والمنشورات الكردية منذ بداية الفترة الدستورية الثانية عام 1908، وشهدت هذه الجمعيات والصحف انتشاراً واسعاً في إسطنبول ومدن أخرى. وقد صورت الدوريات الكردية في أواخر العهد العثماني المجتمع الكردي ضمن إطار الدولة العثمانية. وعندما واجهت الدولة العثمانية أزمات كبرى مثل حروب البلقان والحرب العالمية الأولى، أكد النخبة الكردية العثمانية على هويتهم العثمانية والإسلامية، وهو ما انعكس في كتابات جلادت وكاميران خلال السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية. لكن بعد الهزيمة النهائية للإمبراطورية وصعود الحركة الكمالية في تركيا، أصبح هذان الأخوان قوميين كرديين بامتياز، كما يتضح في المنشورات الدعائية لجمعية “خويبون”، التي نُشرت بلغات مختلفة أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وفي حين أن الدوريات الكردية في الثلاثينيات والأربعينيات في بلاد الشام واصلت تطوير الأفكار التي طُرحت في الدوريات الكردية العثمانية، إلا أنها برزت في سياق جديد. ففي ظل الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، كان النخبة الكرد العثمانيون السابقون يتكيفون مع النظام الجديد بعد تفكك الدولة العثمانية. وشكّلت كتاباتهم ردّ فعل كردي على النظام التركي الجديد، كما مثلت مرحلة جديدة في الحركة القومية الكردية، وسيلة لكسب تعاطف الغرب مع القضية الكردية. على سبيل المثال، في عام 1933، وجه جلادت بدرخان رسالة مفتوحة إلى مصطفى كمال أتاتورك شرح فيها المطالب الكردية باللغة التركية، ثم نشر لاحقاً كتيباً بالفرنسية عام 1934 لعرض القضية الكردية أمام الجمهور الأجنبي.

أدى الصراع الداخلي في خويبون بعد ثورة أرارات إلى إبعاد بعض القوميين عن النضال السياسي، فاتجهوا إلى إحياء الهوية الثقافية الكردية بهدف خلق وعي كردي قبل توحيد أو إقامة كردستان. قاد هذه الحركة الثقافية كل من كاميران وجلادت بدرخان والقوميون الكرد المتحالفون معهم، وركزوا على اللغة والأدب الكردي، ونشروا العديد من الدوريات المؤثرة بالكردية الكرمانجية في دمشق وبيروت. يشير جوردي تيجل إلى أن هذه الحركة استلهمت من النهضة الثقافية الكردية في العراق وأرمينيا السوفيتية، لا سيما النموذج الأرمني. ورغم الانقسامات داخل خويبون، فقد دعم حتى القوميون الكرد الذين انتقدوا الأخوين بدرخان أنشطتهما الثقافية ونشر الدوريات الكردية. كما لم يكن القوميون الكرد وحدهم في أنشطتهم الثقافية، بل تعاون معهم مستشرقون فرنسيون بارزون، مثل بيير روندو وروجيه ليسكو، بالإضافة إلى الأب الدومينيكاني توماس بوا، الذي أصبح من أبرز الباحثين الفرنسيين في الدراسات الكردية. عمل هؤلاء عن كثب مع الأخوين بدرخان وساهموا في الصحافة الكردية، ولعبوا دورًا بارزًا في تشكيل الهوية القومية الكردية خلال الثلاثينيات وما بعدها.

لم تكن الصحوة القومية الكردية موضع ترحيب من قبل القوميين العرب في سوريا، الذين اعتبروها مدعومة من السلطات الفرنسية. ومع ذلك، سُمح لبعض الشخصيات الكردية البارزة بتمثيل الكرد في البرلمان السوري خلال فترة الانتداب. وكرد فعل على تصاعد القومية العربية السورية وتشكيل الحكومة السورية عام 1936، أعربت القوى الكردية والمسيحية المحلية في الجزيرة عن استيائها من الحكومة المركزية السورية وطالبت بالحكم الذاتي. ومع توقيع المعاهدة الفرنسية-السورية، استبدلت السلطات السورية المسؤولين الفرنسيين في منطقة الجزيرة، مما أدى إلى انقسام القبائل الكردية والعربية بين مؤيدين للوحدة ومعارضين لها. انحازت الشخصيات القومية الكردية، مثل جلادت علي بدرخان، مع الزعماء الكرد التقليديين مثل حاجو آغا، إلى التحالف الكردي-المسيحي، ودعموا استقلال الجزيرة، وهو ما شجّعته فرنسا. ومع ذلك، كان هناك أيضًا زعماء كرد تحالفوا مع القوميين السوريين، وآخرون تأثروا بالدعاية التركية وعادوا لمعارضة الفرنسيين.

ومع صعود القوميات العربية والتركية والفارسية في بداية القرن العشرين، واجه الكرد تحديًا كبيرًا في الحفاظ على هويتهم القومية والثقافية. كانت الدول القومية الناشئة مثل تركيا، العراق، وسوريا تطبق سياسات استيعاب تهدف إلى دمج الكرد داخل الهويات الوطنية الرسمية، مما أدى إلى تهميش الثقافة الكردية ومنع استخدام اللغة الكردية في المؤسسات العامة. ففي تركيا، وبعد تأسيس الجمهورية عام 1923، فرضت الحكومة التركية سياسات صارمة لمنع التعبير عن الهوية الكردية، مثل حظر اللغة الكردية في المدارس والإعلام، وتجريم النشاطات الثقافية الكردية. كان جلادت بدرخان أحد الأصوات الرئيسية التي رفضت هذه السياسات، وسعى إلى الحفاظ على اللغة الكردية من خلال تطوير الأبجدية الكردية اللاتينية، التي أتاحت للكرد طريقة جديدة للحفاظ على لغتهم ونشرها خارج الأطر الرسمية للدولة التركية. أما في سوريا، فقد تبنت الدولة سياسة مشابهة تمثلت في حظر استخدام الكردية في المدارس والإعلام الرسمي، ومنع تسجيل الأسماء الكردية، وحرمان الكرد من حقوق المواطنة الكاملة، كما حصل في إحصاء 1962 الذي جرد آلاف الكرد من جنسيتهم. رغم ذلك، ساهمت جهود بدرخان في استمرار الثقافة الكردية عبر الصحافة والمجتمعات الثقافية.

الصحافة كأداة لمقاومة الطمس الثقافي

أدرك بدرخان أهمية الإعلام في ترسيخ الهوية الكردية، ولذلك أطلق مجلة هاوار في عام 1932، والتي أصبحت منصة رئيسية لنشر الأدب الكردي، والمواد التعليمية، والمقالات الفكرية التي تعزز الهوية الكردية المستقلة. كانت المجلة تصدر باللغة الكردية بالأبجدية اللاتينية الجديدة، مما مكن الكرد من تبني طريقة كتابة حديثة غير خاضعة لتأثير الدولة القومية التركية أو العربية. من خلال هذه المجلة وغيرها من المنشورات، ساهم بدرخان في إعادة سرد التاريخ الكردي من منظور قومي، بعيدًا عن الروايات الرسمية التي كانت تقدم الكرد كأقلية مهمشة داخل الدول القومية. في بيان غير مؤرخ، يُرجح أنه يعود لأواخر العشرينيات، دعت منظمة خويبون إلى إصدار صحيفة كردية تعبر عن الأمة الكردية، على غرار الصحف التي تمثل الأمم الأخرى. واعتبر البيان أن الصحافة ضرورية للوجود الاجتماعي والسياسي والحضاري، حيث تساعد في الحفاظ على اللغة الكردية وتطوير الأدب والتأريخ الكردي. ومن وجهة نظر الأخوين بدرخان، كان للصحافة الكردية هدفان رئيسيان: تعليم الكرد وإيقاظ وعيهم، وجعل قضيتهم معروفة على المستوى الدولي.

في افتتاحية لمجلة روجا نو، أوضح كاميران بدرخان ذلك بقوله”: قبل أي شيء، علينا أن نعمل بكل قوتنا لكي يتعلم شعبنا لغته الخاصة، ويقرأ الكتب والمجلات والصحف بها، ويفهم احتياجات بلاده. فبدون فهم هذه الاحتياجات، لا يمكن للناس أن يكونوا مفيدين لوطنهم. ومن جهة أخرى، يجب أن يسمع العالم عن قضية كردستان ويدرك جوهرها.” كذلك، أكدت افتتاحية مجلة ستر على أهمية الصحافة في التنوير قائلة: لإيقاظ الناس، لا يوجد وسيلة أفضل من الكتب والمجلات. صحيح أن المسرحيات والسينما والمدارس تلعب دورًا مماثلًا، لكننا لا نملك مدارسنا الخاصة، ولذلك فإن الوسيلة الوحيدة المتاحة لدينا هي الصحافة الكردية.” كان القوميون الكرد يستخدمون كل فرصة للتأكيد على أهمية الصحافة في إنقاذ الأمة الكردية. خلال الحرب العالمية الثانية، استشهدت مجلة روجا نو بتجربة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، مشيرة إلى أن الناشطين الفرنسيين استخدموا الصحافة السرية لتوعية شعبهم. حتى الشهداء الكرد منحوا الصحافة دورًا رئيسيًا في الكفاح، كما يتضح في قصة خيالية كتبها عثمان صبري، حيث يُحاور شهداء ثورة الشيخ سعيد، فيقول أحدهم إنه يتابع الصحف الكردية الصادرة في المشرق.

بهذه الطريقة، ظلت الصحافة بالنسبة للقوميين الكرد حجر الزاوية في النضال من أجل الاعتراف بالهوية الكردية والاستقلال القومي. في العدد الأول من مجلة “روجا نو”، أشار جلادت إلى أن نشر الروايات والصحف يعد مرحلة مهمة في تطور الأمم. ولتأكيد وجهة نظره، استشهد بشاعرين كرديين بارزين: أحمد خاني (1650-1707) وحاجي قدري كوي (1817-1897). يرى جلادت أن هذين الشاعرين، رغم اختلاف حقبتهما الزمنية، عبّرا عن تطلعات الكرد الوطنية. فقد قال خاني: “كل الأمم تمتلك كتبًا، وحدهم الكرد بلا كتب”. أما كوي، فقد أعاد تفسير رسالة خاني وفقاً لعصره بقوله: “إذا كان هدفنا الحفاظ على لغة أجدادنا، فإن هذا عصر الروايات والصحف”. اتبع القوميون الكرد خطى أحمد خاني وحاجي قدري كوي، وأعادوا تقييم رسالتيهما، مؤكدين على أن الكتب والمجلات تمثل “الطابع الثقافي للوجود الوطني”. في هذا السياق، اقتبس جلادت مقولة من مجلة “گلاوێژ” الكردية الصادرة في العراق، والتي أكدت أن الكرد بحاجة إلى المجلات والكتب أكثر من أي وقت مضى، لأن “عندما تدافع الأمم عن وجودها غدًا، ستُسأل عمّا إذا كانت تمتلك مجلات وكتبًا وصحفًا”. وفي أحد مقالاته، وصف جلادت مجلتي “روناهي” و”هاوار” بأنهما “قطرات في بحر واسع، بحر المعرفة”، مشيرًا إلى أن الكرد يملكون أقل نصيب من هذا البحر، مؤكدًا أن على كل أمة تدافع عن وجودها وحقوقها أن تسهم في هذا المجال.

مجلة هاوار: صرخة في وجه النسيان

تُعد “هاوار” أول دورية كردية نُشرت في بلاد الشام بعد فشل انتفاضة أرارات، حيث استوحى القوميون الكرد فكرة إصدارها من أول صحيفة كردية، “كردستان”، وكانوا ينوون إعادة نشرها بنفس الاسم. إلا أن السلطات المنتدبة ربما اقترحت اسمًا آخر لتجنب استفزاز السلطات التركية. وقد كانت “هاوار” أول مطبوعة تستخدم الأبجدية الكردية اللاتينية التي صممها جلادت بدرخان، مما جعلها رمزًا للحركة الثقافية الكردية في المنطقة. حصل جلادت على تصريح رسمي من وزارة الداخلية السورية لنشر “هاوار” في 26 أكتوبر 1931، كمجلة علمية وأدبية مصورة تُنشر كل خمسة عشر يومًا باللغات الكردية، والعربية، والفرنسية، مع التأكيد على عدم التطرق إلى الموضوعات السياسية. ومع ذلك، لم أتمكن من العثور على نسخة من هذا التصريح في الأرشيف الوطني السوري، ولكن عائلة جلادت، وتحديدًا زوجته روشان بدرخان وابنته سينم خان بدرخان، شاركتا نسخة من الخطاب مع العديد من الباحثين.

صدر العدد الأول من “هاوار” يوم الأحد، 15 مايو 1932، وكان جلادت بدرخان مالكها ورئيس تحريرها. حُدد عنوان المراسلات بـ”الحي الكردي، دمشق”، وكانت أبعاد المجلة 21×29 سم. من بين 57 عددًا، كان 38 عددًا يتألف من 16 صفحة، وتسعة أعداد من 8 صفحات، وثمانية أعداد من 12 صفحة، بينما تراوحت بقية الأعداد بين 15 و20 صفحة. في البداية، كانت “هاوار” تصدر بقسمين: أحدهما بالأبجدية اللاتينية والآخر بالأبجدية العربية-الفارسية. ولكن ابتداءً من العدد الرابع والعشرين، أصبحت المجلة تُنشر حصريًا بالأبجدية اللاتينية، مع احتفاظها بقسم بالفرنسية. المثير للاهتمام أن العدد الأول من المجلة احتوى على مقال عن الأبجدية الكردية مكتوب بثلاث لغات: العربية والفارسية والتركية العثمانية، رغم أن تركيا كانت قد تبنّت الأبجدية اللاتينية عام 1928. ربما كان الهدف من ذلك إيضاح رسالة المجلة وأهدافها للقراء في دمشق، لكن اعتبارًا من العدد الثاني، أصبحت “هاوار” مجلة ثنائية اللغة، كردية-فرنسية، منهيةً بذلك تقليدًا طويلًا من الكتابة باللغة التركية لدى المثقفين العثمانيين الكرد.

في افتتاحية العدد الأول، تم تعريف “هاوار” بأنها “صوت المعرفة”، حيث جاء فيها: “المعرفة تعني معرفة الذات، ومعرفة الذات تفتح أمامنا دروب الخلاص والجمال. كل شخص يعرف ذاته، يمكنه أن يجعل الآخرين يعرفونه”. وُضِعت أهداف المجلة على نشر الأبجدية الكردية الجديدة وتعليمها، والبحث في اللغة الكردية ولهجاتها، وأدبها الكلاسيكي والشعبي، وفنونها، وعاداتها، فضلًا عن تاريخ وجغرافية كردستان. بحلول العدد الثلاثين من المجلة (1 يوليو 1941)، بدأت “هاوار” في تقديم أخبار عالمية عبر عمود بعنوان “الوضع العالمي”، حيث تمحورت الأخبار حول تطورات الحرب العالمية الثانية والقضايا الإقليمية. ومن خلال قراءة متأنية لهذه الأخبار، يظهر أن جلادت كان متحفظًا بشأن الاتفاق الذي أبرمته بريطانيا مع تركيا، في وقت كانت فيه الأخيرة مهددة بتقدم جيوش هتلر في البلقان.

روناهي (التنوير)

كانت “روناهي” ملحقًا شهريًا مجانيًا لمجلة “هاوار”، إلا أن إصدارها كان غير منتظم. كتب جلال الدين بدرخان أن إصدار “روناهي” كان “حدثًا غير مسبوق في تاريخ الصحافة الكردية وحدثًا مهمًا في الحياة الوطنية للكرد”، حيث لم تكن هناك أي مجلة مصورة منشورة بالكردية من قبل. حددت رسوم الاشتراك في “روناهي” بـ5 ليرات سورية، ودعا بدرخان القراء إلى دعمها. كانت المجلة تُنشر بالكورمانجية باستخدام الأبجدية اللاتينية، وكان حجمها 29×21 سم، بينما لم يكن عدد الصفحات ثابتًا، حيث تراوحت بين 13 و32 صفحة. استمرت “روناهي” في الصدور لمدة 28 عددًا، حيث نُشر العدد الأول في 1 أبريل 1942، والعدد الأخير في مارس 1945. لم يشر العدد الأخير، كما هو الحال مع الأعداد الأخيرة من “هاوار” و”روجا نو” و”ستير”، إلى توقف النشر بشكل دائم.

خلال الحرب العالمية الثانية، فرضت السلطات البريطانية والفرنسية رقابة صارمة على الصحافة في العالم العربي للحد من أي دعاية مؤيدة للنازيين. ومع ذلك، أدى تزايد النفوذ البريطاني في المنطقة إلى خلق فرص للصحف المتحالفة مع الحلفاء، بما في ذلك الصحف الكردية. لم يقتصر الأمر على سماح البريطانيين باستمرار الأنشطة الثقافية الكردية، بل قدموا أيضًا دعمًا ماديًا لجلال الدين بدرخان عبر تزويده بالورق، الذي كان مكلفًا للغاية آنذاك. ولكن كما حدث مع “هاوار”، تغيرت الظروف في نهاية الحرب.

خلال سنوات الحرب، هيمنت أخبار الجبهات والتطورات التكنولوجية للحرب والثناء على جنود وقادة الحلفاء على محتوى “روناهي”. ومع ذلك، بدءًا من العدد الثاني عشر، توازنت التغطية الإخبارية مع نشر قطع أدبية وفولكلورية كردية، بالإضافة إلى مقالات عن كردستان وأخبار الكرد في منطقة الجزيرة السورية. نشر العديد من القوميين الكرد، مثل عثمان صبري والملا أنور وحسن هشيار، مقالاتهم في “روناهي”.

روجا نو (اليوم الجديد) و”لو جور نوفو

أسس كاميران علي بدرخان صحيفتي “روجا نو” و”لو جور نوفو” بهدف إنشاء صحيفة سياسية، على عكس “هاوار” و”روناهي”، اللتين ركزتا على الأدب والثقافة. كانت رسوم الاشتراك 10 ليرات سورية للمشتركين في سوريا ولبنان، وليرتين إنجليزيتين للمشتركين في الدول الأخرى، بينما كان سعر النسخة الواحدة 10 قروش. كانت “روجا نو” وصيغتها الفرنسية “لو جور نوفو” تصدران أسبوعيًا، حيث تم في البداية نشر الصفحات الكردية والفرنسية معًا، ثم أصبح لكل منهما إصدار مستقل. صدرت الصحيفة في 73 عددًا بين 3 مايو 1943 و27 مايو 1946، وكان حجمها يتراوح بين 29×30 سم و44×46 سم، مع أربع صفحات في كل عدد باستثناء العدد 68، الذي كان من صفحتين فقط.

مثل “هاوار” و”روناهي”، احتوت “روجا نو” على أخبار الحرب في السياقين الإقليمي والعالمي. كانت الصحيفة مصورة، واعتمدت العديد من صورها على صحيفة “لو ميروار دوريون” الفرنسية الصادرة في بيروت. رحبت هيئة تحرير الصحيفة بإعلان ميثاق الأطلسي باعتباره بادرة أمل لاستقلال الشعوب، بما في ذلك الكرد. كما كان للصحيفة مراسل في منطقة الجزيرة السورية ينقل الأخبار والتطورات التي تؤثر على السكان الكرد هناك. ورغم طبيعتها السياسية، نشرت “روجا نو” أيضًا قصصًا وأغانٍ وأدبيات فولكلورية كردية، مما جعلها مصدرًا مهمًا لدراسة الفولكلور الكردي. أما القسم الفرنسي من الصحيفة، فكان يهدف إلى تعريف الأجانب بالتاريخ والثقافة والمطالب السياسية الكردية.

ستير (النجم)

كانت “ستير” ملحقًا مصورًا لصحيفة “روجا نو”، لكنها صدرت ثلاث مرات فقط بفترات انقطاع طويلة بين كل عدد. صدر العدد الأول في 6 ديسمبر 1943، والثاني في 28 فبراير 1944، والثالث في 22 أكتوبر 1945. تضمنت المجلة قطعًا من الأدب الفولكلوري الكردي، بالإضافة إلى قصائد كردية حديثة. حملت “ستير” شعارًا ثابتًا في كل عدد: “الوطن قبل كل شيء”. كانت تصدر بالكورمانجية فقط، وكان حجمها 29×44 سم، مع أربع صفحات لكل عدد.

التاريخ الكردي في الصحافة الكردية

في الثامن من فبراير عام 1933، كتب جلادت بدرخان رسالة مفتوحة إلى مصطفى كمال أتاتورك، رئيس تركيا آنذاك. نُشرت الرسالة ككتيب ضمن سلسلة “هاوار”. كتب جلادت رسالته بمناسبة العفو الشامل الذي صدر بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية. في رسالته، سعى جلال الدين إلى كشف النوايا الحقيقية وراء العفو، حيث زعم أن الهدف منه لم يكن مجرد إعادة توحيد “تركيا الداخلية” و”تركيا الخارجية”، أي المعارضة المنفية في الدول المجاورة، بل كان في الأساس موجّهًا نحو الحركة القومية الكردية في المنفى، بهدف استقطاب القوميين الكرد للعودة إلى تركيا ومن ثم تحييدهم. حذّر جلال الدين زملاءه القوميين الكرد في المنفى من قبول العفو والعودة إلى تركيا، محذرًا من التخلي عن النضال القومي الكردي، وهو ما كان البعض قد بدأ بالفعل في فعله. بسبب ما ب “محتواها الضار”، تم حظر الرسالة في تركيا من خلال وثيقة رسمية تحمل توقيع مصطفى كمال نفسه. وتعد هذه الرسالة مصدرًا مهمًا حيث تعكس تقييم جلادت، باعتباره مواطنًا وضابطًا عثمانيًا سابقًا، للإصلاحات الكمالية، وخاصة سياسات الدولة التركية تجاه الكرد خلال العقد الأول من تأسيس الجمهورية. يرى بدرخان أن هناك أوجه تشابه بين سياسات الدولة العثمانية المتأخرة والدولة التركية الجمهورية تجاه الكرد، ويستشهد بتجاربه الشخصية في هذا الصدد. كما تضمنت الرسالة توضيحات لمصطفى كمال حول تاريخ الكرد، لغتهم وأدبهم، بالإضافة إلى “قضية كردستان”. كما تطرق إلى مشاكل المجتمع الكردي، وكيف استُغل الكرد من قبل الأتراك، بما في ذلك استخدام الدين كأداة ضد مصالحهم.

انعكست هذه القضايا بقوة في الصحافة الكردية التي نُشرت في سوريا ولبنان خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وكما هو الحال مع عمليات بناء الهوية الوطنية لدى الجماعات العرقية المهيمنة وغير المهيمنة، اعتمد المثقفون الكرد في المشرق على “ذاكرة الماضي”، “وجود لغة مكتوبة”، وارتباط أمتهم بأرضها. كانت الصحافة القومية الكردية في سوريا ولبنان خلال تلك الفترة مليئة بالأمثلة التي حاول من خلالها القوميون الكرد المنفيون إعادة تعريف هويتهم القومية عبر إعادة كتابة تاريخ الكرد، وتحديد موطنهم، وتوضيح لغتهم وتقاليدهم الأدبية، وذلك في محاولة لإثبات وجود أمة كردية فريدة ذات جذور تاريخية قديمة، ووطن محدد، ولغة وأدب غنيين.

في السابق، كان القوميون الكرد العثمانيون يعرّفون أنفسهم كـ “كرد عثمانيين مسلمين”، إلا أنه بعد انهيار الدولة العثمانية وصعود الجمهورية التركية برؤيتها القومية التركية العلمانية المتشددة، لم يعد هناك مجال للتعبير عن الهوية الكردية، مما استلزم إعادة تعريف الهوية التاريخية للكرد. كان التحدي أمام القوميين الكرد يتمثل في كتابة تاريخ جديد يتماشى مع احتياجاتهم الحالية، وبرزت عدة مواضيع مشتركة في كتاباتهم، مثل قِدم الأمة الكردية، العصر الذهبي، فترات التراجع أو “الركود”، وأهمية الأبطال القوميين. لم يكن المثقفون الكرد في سوريا ولبنان غرباء عن هذه المواضيع، فقد بدأ اهتمامهم بالتاريخ خلال الفترة العثمانية المتأخرة، وهو ما انعكس في كتاباتهم في الصحافة العثمانية الكردية. في إسطنبول، حاول بعض المثقفين الكرد، مثل أفراد عائلة بدرخان، تسليط الضوء على دور الكرد في التاريخ الإسلامي والعثماني، وفي الوقت نفسه سعوا إلى إنشاء تاريخ منفصل للكرد. ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، واصل المثقفون الكرد كتابة تاريخهم، لكنهم لم يعودوا يربطونه بالإطار الإسلامي أو العثماني، بل على العكس، على غرار النهج الذي تبنته الدولة التركية الكمالية في الثلاثينيات، ركّز القوميون الكرد في المشرق على التاريخ القومي السابق للإسلام.

اعتمد المثقفون الكرد في المشرق على مصادر متعددة لإضفاء الشرعية على تاريخهم “القومي”، ومن بين هذه المصادر، لعبت الدراسات الاستشراقية الغربية عن الكرد دورًا مهمًا في إثبات أنهم مجموعة عرقية متميزة. كما استشهد القوميون الكرد بمصادر تاريخية مثل كتاب “شرفنامه” لشرف خان البدليسي و”سياحتنامه” لأولياء جلبي، بالإضافة إلى كتاب “نبذة عن تاريخ الكرد وكردستان” للمثقف الكردي العراقي محمد أمين زكي، الذي نُشر عام 1931 واعتُبر أول تاريخ حديث للكرد. تُعد إعادة اكتشاف أو اختراع الأصول جزءًا أساسيًا من مشاريع كتابة التاريخ القومي، حيث تمنح الأصول القديمة للأمة شرعية لمطالبها بالاستقلال، وتغرس الفخر في نفوس أفرادها. وكان من بين الدوافع الإضافية للقوميين الكرد في المشرق إنكار الكماليين في تركيا للهوية الكردية المستقلة، وادعاء بعض المؤرخين العرب أن الكرد من أصول عربية، مما حفّز القوميين الكرد على تحديد أصولهم “الحقيقية” وتاريخهم القومي العريق في الصحافة الكردية.

في الصحافة العثمانية الكردية، تم تقديم الميديين باعتبارهم أسلاف الكرد، وهو ما استمر في الثلاثينيات والأربعينيات على يد القوميين الكرد في المشرق. ففي أحد خطاباته إلى الشباب الكرد، قال جلال الدين بدرخان: “أنتم أبناء الكرد، أحفاد الميديين، وسلالة الآريين”. كما تم الاستشهاد بمصادر قديمة تشير إلى وجود الكرد في موطنهم قبل ألفي عام من الميلاد، حيث كانوا في صراع دائم مع البابليين والحثيين والآشوريين الذين سعوا لغزو أراضيهم، إلا أن الكرد لم يخضعوا لفترات طويلة، وشاركوا في غزو بابل ونينوى إلى جانب قورش الكبير.

علاوة على ذلك، ركّز القوميون الكرد على الهوية العرقية، حيث قدموا الكرد كجزء من العرق الآري ومن الشعوب الهندوأوروبية، وهو ما انعكس في قصائد الشاعر الكردي جگرخوين، مثل قصيدته “نحن آريون”. كما أشار جلال الدين بدرخان إلى أن الكرد من العرق الآري، مستشهدًا بآراء “الخبراء”، الذين أكدوا أن الكرد حافظوا على خصائصهم الآرية أكثر من أي أمة أخرى في الشرق الأدنى. بعد الحرب العالمية الأولى، برزت هوية سياسية جديدة في الشرق الأوسط، حيث تبنى القوميون الأتراك أطروحة “التاريخ التركي”، التي ادعت أن الأتراك من العرق الآري. رد القوميون الكرد على هذه الأطروحة بالقول إن الكرد هم الورثة الحقيقيون للعرق الآري. في رسالته إلى مصطفى كمال، سخر جلال الدين بدرخان من محاولات الأتراك ربط أنفسهم بالآريين، متسائلًا عن سبب سعي الكماليين إلى استيعاب الكرد و”خلط الدم التركي بالدم الكردي”، مما يعكس قلقه بشأن نقاء جميع الأعراق، وليس فقط العرق الكردي.

الأبجدية الكردية، اللغة، الأدب، والقومية

في الدوريات الكردية التي نُشرت في سوريا ولبنان، قُدّمت اللغة والأدب الكرديان كدليل أساسي على فردانية الأمة الكردية. وكما يشير جلادت بدرخان في العدد الأول من مجلة هاوار، كان الهدف الأساسي للمجلة هو الترويج للغة الكردية. وقد شمل ذلك نشر أبجدية كردية جديدة، وإنشاء لهجة معيارية، وإجراء دراسات حول القواعد والمفردات الكردية، وجمع الأدب الشعبي والكلاسيكي الكردي، بالإضافة إلى تقديم الكُتّاب والشعراء الكرد المعاصرين. كان التركيز على الوحدة اللغوية باعتبارها الخطوة الأولى نحو الوحدة السياسية، وكذلك على أهمية اللغة والأدب كعلامة قومية، واضحًا في صفحات الصحافة الكردية.

كان المحرران البارزان في الصحافة الكردية في المشرق، كاميران وجلادت علي بدرخان، من المثقفين الحضريين العثمانيين، الذين كتبوا ونشروا بطبيعة الحال باللغة التركية العثمانية، باعتبارها اللغة المشتركة للإمبراطورية. لكن انهيار الدولة العثمانية دفع الأخوين بدرخان وغيرهم من القوميين الكرد إلى إدراك أهمية اللغة. في الواقع، بدأ اهتمامهم بالثقافة والتاريخ واللغة والفولكلور الكردي قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية بوقت طويل. وكما ذكر سابقًا، كانت هناك جمعيات ومنشورات كردية في إسطنبول منذ ثورة تركيا الفتاة. لكن، على عكس المثقفين الكرد العثمانيين في تلك الفترة، تبنى القوميون الكرد في المشرق موقفًا حصريًا كرديًا. في إطار إعادة توجيه الهوية الكردية، لعب التركيز على اللغة الكردية دورًا رئيسيًا. ولهذا السبب، توقف الأخوان بدرخان في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين عن النشر باللغتين التركية والكردية معًا، وهو تقليد مهم في الصحافة الكردية العثمانية. وبدلاً من ذلك، استمرت الدوريات الكردية في المشرق في أن تكون ثنائية اللغة، ولكن باللغتين الكردية والفرنسية.

يمكن لفهم قصة عائلة بدرخان أن يوضح سبب تركيزهم على اللغة. فقد كان بدرخان بك، جدّ جلادت وكاميران، الأمير المتمرد لإمارة بوتان في كردستان العثمانية. وعندما ثار عام 1847، اضطر إلى التواصل مع ممثلي الدولة العثمانية باللغة الفارسية، لأنه لم يكن يتحدث التركية. يبدو أنه لم يرَ ضرورة لتعلم التركية لأنه كان يعيش في منطقة نائية من الإمبراطورية العثمانية. بعد قمع التمرد، اقتُلع هو وعائلته من كردستان العثمانية. وحصل بدرخان بك على لقب رسمي عثماني (باشا)، وتم دمجه في النظام العثماني، وعاش في المنفى في كلٍّ من كريت والأناضول وسوريا. وهذا يعني بطبيعة الحال أن أبناءه تعلموا وتحدثوا التركية إلى جانب لغتهم الأم. وقد تحدث بعض أبناء بدرخان باشا التركية بلكنة كردية. أما الجيل التالي، فقد اندمج بالكامل في النظام العثماني، وعاش في إسطنبول، وكانوا يجيدون التركية بطلاقة.

في الواقع، كتب الضابط البريطاني نويل، الذي سافر عبر جزء من كردستان برفقة الأخوين بدرخان عام 1919، في مذكراته أن كاميران لم يكن يعرف الكردية آنذاك. وهكذا، لم تكن اللغة مجرد وسيلة للتكامل أو الاندماج في النظام العثماني، بل لم تكن اللغة الكردية ذات أهمية أساسية لهم حتى انهيار ذلك النظام. في عام 1932، وصف كاميران النضال من أجل البقاء اللغوي بأنه قانون طبيعي، وهو صراع تحاول فيه اللغات القضاء على بعضها البعض. وأضاف أن العديد من الكرد لا يستطيعون القراءة والكتابة بلغتهم الأم. ومع ذلك، لم يكن متشائمًا، بل شجّع القرّاء على تعلُّم وتعليم اللغة الكردية.

شجعت الصحافة الكردية قراءها بشدة على عدم التحدث بلغة العدو. ففي خطابه إلى الشباب الكرد، كتب جلادت بدرخان : إنهم [العرب والفرس والأتراك] يريدون أن يقتلعوا لسانكم ويضعوا ألسنتهم في أفواهكم حتى لا تتمكنوا من التعبير عن كرديتكم.” كما قُدِّمت اللغة، إلى جانب الدين، كوسيلتين أساسيتين للحفاظ على الهوية الوطنية للأمم الخاضعة. وأشار جلال الدين إلى أن المسيحيين الأرمن واليونانيين تمكنوا من الحفاظ على هويتهم الوطنية بفضل اختلافهم الديني عن الأتراك، وهو ما مكّنهم في النهاية من نيل الاستقلال. أما بالنسبة للكرد، الذين كانوا خاضعين لثلاث أمم ذات ديانة مشتركة [الأتراك والعرب والفرس]، فقد بقيت اللغة الوسيلة الوحيدة للاستقلال الوطني. لذلك، تم تذكير القرّاء بأن لغتكم هي وجودكم.” كما تم تحذيرهم من استخدام الكلمات الأجنبية في الكردية قدر الإمكان، وحثّهم على استخدام نظيراتها الكردية.

في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت سياسات بعض الدول الناشئة حديثًا في الشرق الأوسط عقبة أمام جهود القوميين الكرد لإحياء لغتهم وتطوير المواد التعليمية بها. ففي حين تمتعت اللغة الكردية بقدر من الحرية النسبية في العراق والأراضي السوفيتية وسوريا، لم يكن الوضع كذلك في إيران وتركيا. ففي إيران، حظر نظام رضا شاه استخدام الكردية، ولم تدم فترة الحرية القصيرة التي تمتعت بها اللغة بعد تأسيس الجمهورية الكردية المستقلة في مهاباد، إذ سرعان ما قُمعت الجمهورية على يد الجيش الإيراني، وأعيد فرض الحظر على الكردية. أما في تركيا، فقد حظر النظام الكمالي استخدام الكردية رسميًا في الأماكن العامة والتعليم بدءًا من مارس 1924. وراقب القوميون الكرد المنفيون في بلاد الشام سياسات النظام الكمالي في تركيا عن كثب، خاصة أنه أنكر وجود الكرد كأمة مستقلة. ونشرت المنشورات الكمالية مقالات لعلماء قوميين زعموا أن الكردية ليست لغة أصلية، مثل مقالة كادري كمال بعنوان “مسألة اللغة في شرق الأناضول”، حيث وصف الكرمانجية والزازا بأنها “لغات بدائية” وزعم أن الكرد ليسوا سوى “أتراك الجبال”. بل ذهب إلى حد الادعاء بأن الكرد في تركيا ينحدرون من أصول تركية، وأن الكرمانجية والزازا ليستا سوى لهجتين فاسدتين من التركية.

وفي المقابل، رد القوميون الكرد بقوة على هذه الادعاءات. ففي الرسالة آنفة الذكر التي وجهها جلادت إلى مصطفى كمال أتاتورك، انتقد الحظر المفروض على التحدث بالكردية، ودحض المزاعم الكمالية التي تنكر وجود الأمة الكردية ولغتها. واستشهد بدرخان بكتب وأبحاث علمية لدحض الادعاء بأن المفردات الكردية ليست سوى مزيج من العربية والفارسية والتركية، وأكد أن اللغة الكردية متطورة ومستقلة بل وتتفوق على التركية من الناحية اللغوية. كما أشار إلى أوجه التشابه بين الكردية واللغات الآرية الأخرى، مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية، لإثبات أن اللغة الكردية ليست مجرد لهجة تركية منحرفة. استلهم جلادت بدرخان جهوده لإحياء الكردية من إليعازر بن يهودا، اللغوي والصحفي اليهودي الذي لعب دورًا محوريًا في إحياء اللغة العبرية. فقد رأى بدرخان أن الكرد، مثل اليهود قبل إحياء العبرية، يعيشون بلا دولة أو حكومة، ويتحدثون بلغات الآخرين. لذا، قرر وضع أسس لتقعيد اللغة الكردية، واستبدال الأحرف العربية بأبجدية لاتينية، ووضع قواعد نحوية ومعجم لغوي في الصحافة الكردية.

بدأ نشر قواعد اللغة الكرمانجية ومعجم للكردية في مجلة هاوار منذ عددها السابع والعشرين. كما ألف بدرخان كتابًا لتعليم الأطفال قواعد الكردية، أسماه كتاب سينمخان على اسم ابنته، حتى يتمكن الأطفال من تعلم قواعد لغتهم الأم. وفي عام 1941، تعاون مع المستشرق الفرنسي روجيه ليسكو لإعداد كتاب قواعد للكرمانجية نُشر عام 1970 بعد وفاة بدرخان. ظهرت الأبجدية اللاتينية الجديدة في العدد الأول من مجلة هاوار، وتكونت من 28 حرفًا. وعلى الرغم من وجود محاولات سابقة لتبني الأبجدية اللاتينية للكردية، فإن النسخة التي وضعها بدرخان أصبحت المعيار المعتمد للكرمانجية في سوريا ولبنان وتركيا وأوروبا، مع إدخال تغييرات طفيفة عليها بمرور الوقت. في البداية، تضمنت أعداد المجلة قسمين، أحدهما بالحروف العربية والآخر بالحروف اللاتينية، ولكن مع العدد الرابع والعشرين، تم التخلي عن الحروف العربية نهائيًا. وأعلن بدرخان أن الأبجدية اللاتينية “حررت الكردية من تبعية أبجديات الشعوب الأخرى”، معتبرًا أن الحروف العربية التي كانت تستخدم سابقًا “أبجدية أجنبية”، بينما قدم الحروف اللاتينية على أنها “حروفنا الخاصة”.

كما أشار بدرخان إلى أوجه القصور في الأبجدية العربية بالنسبة للكردية، مثل افتقارها لبعض الحروف الصوتية الضرورية. واتفق معه العديد من المساهمين في مجلة هاوار، حيث أكد أحدهم أن الكردية، باعتبارها لغة آرية هندوأوروبية، يجب أن تُكتب بالأبجدية المستخدمة من قبل الشعوب الناطقة باللغات الآرية الأخرى. ومع ذلك، لم تكن الأبجدية الجديدة خالية من العيوب، حيث أُجري تعديل عليها لاحقًا، مثل استبدال مواضع الحرفين “ك” و”ق”، ليُكتب “كردي” بدلًا من “قوردي”.  وهكذا، لم يكن نضال القوميين الكرد مقتصرًا على السياسة، بل كان معركة ثقافية ولغوية، حيث سعوا لجعل الكردية لغة مكتوبة ومقننة ومستقلة، رغم الحظر والمضايقات التي واجهتها في العديد من الدول.

بما أن الكرد كانوا “أمة بلا مدارس”، فقد شجعت الصحافة الكردية المتعلمين على تعليم الحروف الجديدة للآخرين. اعتبر جلادت بدرخان مجلة هاوار “حقل اللغة الكردية”، ووسيلة لنشر الأبجدية الكردية بين الكرد. كان أول كتابين نشرتهما مطبعة هاوار في عام 1932 عن الأبجدية الكردية. تم التأكيد على أن تعلم الأبجدية الجديدة سهل جدًا حتى بالنسبة للأميين. لتوضيح بساطة الأبجدية، قدم جلادت بدرخان مثالًا لجميل حاجو، شاب أمي يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا التقى به في الحي الكردي بدمشق عام 1930. ووفقًا لجلادت، فقد تعلم جميل القراءة والكتابة بالأبجدية الجديدة خلال أسبوع واحد، بل إنه نشر مقالة قصيرة في هاوار.

على الرغم من أن مشروع جلادت كان مبتكرًا، إلا أن العديد من الباحثين يرون أنه استلهم، لأسباب عملية، من إصلاح الأبجدية الذي قام به أتاتورك عام 1928 في تركيا. نظرًا لأن معظم الكرد الناطقين بالكورمانجية كانوا يعيشون في تركيا، فقد رأى جلادت أن من الأسهل على الكرد الذين يتعلمون الأبجدية اللاتينية في المدارس التركية تعلم الكردية المكتوبة بحروف مماثلة. يؤكد روجيه ليسكو، وهو صديق مقرب من جلادت، هذا التأثير. في روايته الخاصة، يعترف جلادت جزئيًا بالتأثير التركي، لكنه يعيد فكرة الأبجدية اللاتينية إلى عام 1919. يذكر أنه خلال رحلته في جزء من كردستان، استخدم الضابط البريطاني نويل الحروف اللاتينية لكتابة الكردية، ولاحظ جلادت سهولة قراءتها وكتابتها، مما دفعه إلى ابتكار أبجدية جديدة بالاستفادة من معرفته بالروسية واليونانية والفرنسية. في الواقع، أنشأ أبجدية تتكون من ستة وثلاثين حرفًا ومعجمًا، لكن محكمة تركية صادرت هذا العمل في عام 1925. واصل جلادت مشروع الأبجدية أثناء دراسته للدكتوراه في ألمانيا. ولتسهيل الأمر على الكرد الذين يعيشون في تركيا، عدّل لاحقًا الأبجدية وجعلها مشابهة للأحرف اللاتينية التي اعتمدها الأتراك عام 1928.

وعلى الرغم من الصلة بإصلاح اللغة الكمالية، حظرت السلطات التركية جميع الكتب التي صُممت لتعليم الأبجدية الكردية الجديدة. لم يقتصر الحظر على الأبجدية الكردية فحسب، بل شمل أيضًا الأبجدية الشركسية المكتوبة بالحروف اللاتينية، والتي تم تصميمها أيضًا في دمشق، حيث حُظرت رسميًا في تركيا عام 1932. ومن المثير للاهتمام أن علماء الكردولوجيا الأوروبيين كرسوا جهودهم لتعميم الأبجدية اللاتينية للكردية. بالإضافة إلى المستشرقين الفرنسيين في بلاد الشام، مثل روجيه ليسكو، وبيير روندو، وتوماس بوا، كان الضابط البريطاني سي. جي. إدموندز في العراق، والعالم الروسي فلاديمير مينورسكي، من بين الذين كتبوا مقالات تدعو إلى استخدام الأبجدية اللاتينية للكردية وقاموا بتجارب على الحروف.

جادل إدموندز بأن الأبجدية العربية غير مناسبة تمامًا للغة الكردية، بينما أوضح مينورسكي أن الأبجديات السامية تتجاهل الحروف المتحركة، مما يجعلها غير ملائمة للغات التي تعتمد على نظام صوتي متطور مثل الكردية، واستنتج أن الأبجدية اللاتينية هي الخيار الأفضل للكردية. أما الأب توماس بوا، وهو مبشر دومينيكاني نشط في بلاد الشام خلال الحركة الثقافية الكردية، فقد كتب في عام 1965 أن الحروف العربية غير ملائمة للكردية. رأى بيير روندو أن الحروف اللاتينية تناسب الكردية وأنها سهلة التعلم للأميين. استشهد بكتاب نُشر عام 1826، واعتبر أن اعتماد الأبجدية اللاتينية بمثابة “ثورة أخلاقية عظيمة وسعيدة قادرة على تجديد آسيا.” وأشار إلى أن التخلي عن الأحرف العربية قد لا يكون خيارًا منطقيًا للعرب لأسباب دينية، ولا للإيرانيين بسبب تراثهم الأدبي الضخم، لكن بالنسبة للكرد، الذين ظلت لغتهم شفهية لعدة قرون، فلم يكن هناك سبب يمنعهم من تبني اللاتينية. علاوة على ذلك، نظرًا لأن الغالبية العظمى من الأمم المتقدمة تستخدمها، فإن تبني الحروف اللاتينية سيسهل العلاقات بين الكرد وهذه الأمم.

وكما حدث في إصلاح الأبجدية التركية، لم يرحب جميع الكرد بتبني الأبجدية اللاتينية للكردية. فقد رفضت بعض الأوساط الدينية الفكرة، معتبرة أن التخلي عن الحروف العربية خيانة للقرآن. تحت هذا الضغط، تعاون جلادت بدرخان مع رجال الدين القوميين، مثل الشيخ عبد الرحمن جاريسي، الذي أصدر فتوى لصالحه، حيث قال إن الله أوصل تعاليمه بالكلمات وليس بالأحرف أو الأشكال. وأشار إلى أن شكل الحروف في النسخة الأولى من القرآن كان مختلفًا عن الحروف الحالية. لذلك، أعطى الإذن لجلادت لاختيار أفضل الحروف للغة الكردية. ويذكر جلادت أن طلاب الشيخ جاريسي تعلموا الحروف اللاتينية. إذا كانت الحروف الجديدة تمثل رمزًا للتقدم بالنسبة للقوميين، فإن الحفاظ على الحروف العربية كان مسألة إيمان بالنسبة للعديد من الكرد المحافظين. كتب أحد القراء من سوريا أن مشايخ مدينة عامودا يرون أن من يصادق القوميين أمثال جكرخوين يُعتبر “كرديًا”، بينما يُعتبر “كورمانجيًا” من يسير في طريق الدين ولا يقرأ المجلات المكتوبة بالحروف اللاتينية.

كان القوميون الكرد في بلاد الشام مهتمين أيضًا بوحدة اللغة الكردية، نظرًا لاختلاف اللهجات بين الكرد. أشار جلادت بدرخان إلى أن وحدة الكرد، كما حدث في توحيد ألمانيا، ستبدأ بتوحيد اللغة، وتوحيد اللغة سيبدأ بوحدة الحروف. قدمت مجلة هاوار الأبجدية الجديدة، وكانت الخطوة التالية إقناع الكرد الناطقين باللهجة السورانية في العراق بتبني الأبجدية الكردية الجديدة التي صممها بدرخان. نشرت مقالات باللغة الكردية السورانية في مجلات هاوار وروناهي وروجا نو باستخدام الحروف اللاتينية. كان المقال الافتتاحي في العدد الخامس من هاوار حول الأدب الكردي، والذي نشره جلادت بدرخان تحت اسم مستعار، مثالًا بارزًا على ذلك. استجابة لرسائل القراء من المدن الكردية العراقية، أعلن محرر روناهي أن المجلة مستعدة لنشر المقالات بأي لهجة، بشرط أن تكون مكتوبة بـ”حروفنا الكردية”.

سعى جلادت بدرخان للتعاون مع المثقف الكردي العراقي توفيق وهبي لإنشاء أبجدية مشتركة بالحروف اللاتينية. كان وهبي، المولود في السليمانية، ضابطًا عثمانيًا سابقًا، ولغويًا، ومسؤولًا حكوميًا في العراق. التقى بدرخان به في دمشق واتفقا على العمل معًا، إلا أن وهبي لم يرد على رسائل بدرخان الأربع التي أرسلها بعد عودته إلى العراق، ربما بسبب عدم وصولها إليه. انتظر بدرخان أربعة أشهر تفاديًا لازدواجية الأبجدية الكردية، لكنه في النهاية قرر المضي قدمًا ونشر هاوار بالأبجدية اللاتينية التي صممها. كان يأمل أن يعمل وهبي وآخرون على تطوير الأبجدية الجديدة. حاول بدرخان إقناع الكرد العراقيين، وخاصة محرري الصحف الكردية هناك، بتبني الأبجدية الجديدة، لكن بعض المستشرقين الفرنسيين لاحظوا أن الكرد العراقيين ظلوا متمسكين بالأحرف العربية، رغم أنها “لا تتناسب مع لغتهم بشكل جيد”.

بالمنتهي، كان جلادت يحاول حث الكرد على كتابة قصائدهم وقصصهم وحكاياتهم وآدابهم الشعبية والتعبير عن آلامهم وأحلامهم وآمالهم وتاريخهم بلغتهم القومية وليس باللغات الأخرى. ومهما يكن من شيء فلا ينبغي للمرء أن ينسى أنّ بدرخان، بالإضافة الى نضاله القومي، كان ضليعاً في اللغة وقواعدها وخبيراً بدقائقها، وكان كاتباً مُجيداً وشاعراً ومترجماً فذاً. ينشر شعره وقصائده باسمه الصريح وأحياناً وأطوارا باسم مستعار. ومازالت أعماله الرائعة يعاد نشرها ويقبل القراء على قراءتها بشوق كبير وكأنها كتبت اليوم.  

مراجع يمكن الرجوع إليها :

دلاور زنكي: جلادت عالي بدرخان، https://pukmedia.com/AR/details/?Jimare=69532 

Hassanpour, A. (1992). Nationalism and Language in Kurdistan, 1918-1985. San Francisco: Mellen Research University Press.

Tejel, J. (2009). Syria’s Kurds: History, Politics and Society. London: Routledge.

Bruinessen, M. (1992). Agha, Shaikh and State: The Social and Political Structures of Kurdistan. London: Zed Books.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى