الإيكولوجيا ومكافحة تغيُّر المناخ .. البحث عن البدائل
تحليل د. رائد المصري/أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

توطئة
شهدت البشرية في الآونة الأخيرة إهتماماً بالغاً بقضية المناخ، بعدما عَبَت به آلة الرأسمال الربحية، بالرغم من التقدم الصناعي والتكنولوجي، والمعرفة بكل أنواعها، لكن ظلَّت قضية المناخ الهمَّ الأكبر، حيث تغيراته بدت تطفو سلباً على السطح، وتحدث الكوارث من دون التنبؤ بحصولها، لتكون التكلفة المادية كبيرة، إذا ما قورنت بتكاليف تعديل أو التخفيف من الإنبعاثات الحرارية، وثاني أوكسيد الكربون، أو تقديم البدائل لحل لهذه المعضلة التي تتوسع يوماً بعد يوم..
فالقضية الإيكولوجية تُعد تحدياً وفرصة فى وقت واحد، ولذا يُمكن للمجتمعات أن تستفيد من هذا التحدي لتعزيز التغيير الإيجابي، وتبنِّي ممارسات وسياسات مُستدامة، وتحقيق التوازن بين التنمية والحفاظ على البيئة، فللحديث عن القضية الأيكولوجية فى المجتمع، لا بدَّ من توضيح مفهوم الإيكولوجيا، كى يُتاح لنا معرفة أصولها، وكذلك محاولة طرح الحلول لها، وقد عرَّفها المناضل والمفكر الأممي عبدالله أوجالان، على أن البيئة هي علاقة التوازن بين جميع مكونات الكون الإنسان والطبيعة والحيوان والنبات، وهي علاقة تكاملية وديالكتيكية، فإذا كان الكون هو الطبيعة الأولى، فإنَّ الإنسان هو الكون الصغير وهو الطبيعة الثانية، إن جسم الإنسان لديه عقل يتحكم بكل حركاته ويقوم بكل ما هو ضروري لصيرورة حياته، ويعتبر كذلك أن المعاناةُ من قضايا المدينةِ والبيئةِ في مجتمعِ الشرقِ الأوسطِ أتت منذ بداياتِ المدنية، فلدى الإمعانِ في أُولى قصصِ بناءِ المدائنِ السومرية، ستُدرَكُ الأجواءُ التي تصاعدت فيها المدن، سواءٌ فيما يتعلقُ بداخلِ المدينة نفسِها، أو فيما بين المدن، إنها أجواءٌ مشحونةٌ بالإشكاليات، وهي قضايا نابعةٌ من العبودية، فالتمدُّنُ يَحمِلُ الإستعبادَ، وبالتالي التدوُّلَ في خَباياه، وتَأَسُّسُ السوقِ يَجلبُ معه القضيةَ الاقتصاديةَ أيضاً. فمَن الذي كان سيُقَرِّرُ نِسَبَ التبادلِ والمقايضة، أي الأسعار؟ لَم تَكُنْ حالاتُ الوِفاق والتفاهمِ يَسيرةً في هذا الموضوع، فضلاً عن أنّ إعاشةَ المدينةِ وحمايتَها كانت قضيةً بحدِّ بذاتِها، كما أنّ زُمَرَ السلطةِ المتكوِّنة، كانت على تناحُرٍ دائمٍ فيما بينها، مما كان سيُمَهِّدُ الطريقَ أمامَ قضايا الثورةِ والثورةِ المضادة، هذا بالإضافةِ إلى قضايا المدائنِ في التضخم.
ويضيف أوجالان بأن إدارةُ المدينةِ ودولةُ المدينةِ المتناميتان بالتوازي مع ظهورِ المدينة، قد ظلتا ظاهرتَين لا غنى عنهما في جميعِ عصورِ المدنية، فدولةُ المدينةِ هي أقدم أشكالِ السلطةِ وأكثرها رَواجاً، بينما الإمبراطورياتُ والدولُ القوميةُ بَرَزَت إلى الميدانِ لاحقاً، أما الشكلُ الأساسيُّ الطاغي بنسبةٍ ساحقة، فكان إدارةَ المدينةِ ودولةَ المدينةِ أو الحكمَ والدولةَ المنحصرَين بالأطرافِ المُجاوِرَةِ للمدينة، في حين أنَّ التنافُسَ الحادَّ بين المدائنِ كان يَفتَحُ المجالَ أمام صِداماتٍ واشتباكاتٍ دائمةٍ كانت بدَورِها تَستَنفِذُ إمكاناتِ المدن، أما الحلُّ المَطروح، فكان مصطلحَ المدينةِ المتروبول المهيمنة.(1)
في مفهوم الإيكولوجيا
هناك الكثير التساؤلات المقلقة حول معرفة مفهوم الإيكولوجيا، وأهميتها في عالمنا الحالي، وللإجابة عن هذا السؤال، لا بدَّ من التطرُّق لمفهوم البيئية أولاً، فمصطلح إيكولوجيا هو المفهوم الحديث لعلم البيئة، ويعني الوسط أو المجال المكاني الذى يعيش فيه الإنسان، ضمن ظواهر طبيعية وبشرية يتأثر بها ويُؤثر فيها، وبعبارة أدق، فالبيئة هي كل ما تُخبرنا به حاسة السمع والبصر والشم والتذوق واللَّمس، سواء أكان من خلق الله الطبيعي، أو من صنع البشر، وتُعرف البيئة أيضاً بأنها، كل ما يحيط بالكائنات الحية من عناصر طبيعية وبشرية تُؤثر عليها وتتأثَّر بها، وتشمل الأوساط الطبيعية مثل الهواء والماء والتربة، والأوساط الإجتماعية، مثل النشاطات البشرية والثقافات، فالبيئة هي النظام الذى يشمل كل ما يحيط بالكائنات الحيَّة من عناصر طبيعية وبشرية، تُؤثر عليها وتتأثر بها، كما ورد فى البرنامج البيئي للأمم المتحدة، بأن البيئة هي مجموع الأنظمة الطبيعية والأنشطة البشرية، المشكِّلة للسياق الذي تعيش فيه الكائنات الحية.
كما أوجز مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية، الذي أقيم في أوائل سبعينيات القرن العشرين فى ستوكهولم معنى البيئة بأنها، كل شئ يُحيط بالإنسان، وهذا يتَّفق مع تعريفها على أنها كل ماهو خارج جلد الإنسان، كما عرَّفها بأنها رصيد الموارد المادية والإجتماعية المُتاحة، في وقت ما وفي مكان ما، لإشباع حاجات الإنسان وتطلُّعاته، فى حين أن هناك من عرَّفها على أنها الإطار الذي يعيش فيه الإنسان، ويحصل منه على مقومات حياته، من غذاء وكساء ودواء ومأوى، ويُمارس فيه علاقته مع نظرائه من بني البشر، ومن هنا فإنه يمكن الحديث عن البيئة البشرية ضمن معطيين، الأول، هو البيئة الطبيعية التى تتكوَّن من الماء والهواء والتربة والمعادن ومصادر الطاقة والأحياء بكافة صورها، وأغلبها تُمثل الموارد التى أتاحها الله للإنسان، ليحصل منها على مقومات الحياة، والثانى، البيئة المشيَّدة التى تتكوَّن من البنية المادية الأساسية التى شيَّدها الإنسان، ومن النظم الإجتماعية والمؤسسات التى أقامها، وتشمل إستخدام الأراضي للزراعة، والمناطق السكنية، والتنقيب فيها عن الثروات الطبيعية، وكذلك المناطق الصناعية والمراكز التجارية والمدارس، وهنا يُمكن القول إن البيئة البشرية، تشمل كوكب الأرض الذى نعيش عليه، وكذلك الكون الفسيح الذى يُؤثر فى حياة الموجودات والمخلوقات، التي تُقاسمنا العيش والحياة على هذا الكوكب.
هنا إعتبر المفكر الأممي عبدالله اوجالان، بأن الرأسمالية حَقَّقَت إنطلاقتَها الكبرى كثمرةٍ من ثمارِ ذاك الفراغ، هذه الإنطلاقةُ تكادُ تُشبِهُ وتُمَثِّلُ تَحَرُّرَ الوحشِ المكتسي برداءِ الإنسانِ من قيودِه، وتَأسيسَه هيمنتَه المُرَوِّعةَ على البشريةِ برمّتها، بَعدَما كانت قوى الحضاراتِ الدولتيةِ واللادولتيةِ حابِسةً إياه في القفصِ طيلةَ آلافِ السنين دون إنقطاع، قد يَحتَمِلُ الإنسانُ الرأسماليةَ المجرَّدةَ من الهيمنة، وقد يَتَحَمَّلُها المجتمع، وربما لا تتدمرُ البيئةُ تجاه هذه الرأسمالية، ولكن، عندما تتصاعدُ الرأسماليةُ كقوةِ هيمنة، فإنّ المجتمعَ والبيئةَ ونُظُمَ المدنيةِ القديمةَ بأكملها، تَغدو مُهَدَّدة بخطر مُحيق، فالخاصيةُ الأساسيةُ التي يجب إدراكُها، هي أنّ الرأسماليةَ حَقَّقَت إنطلاقتَها من أحشاءِ أزمةِ المدنيةِ في القرنِ السادس عشر كقوةِ هيمنةٍ قمعية، لا كقوةِ حل.
ولذلك، تُعد القضية الإيكولوجية من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع العالمي في القرن الحادي والعشرين، وبسبب تزايد الوعي البيئي والإهتمام المتزايد بالتنمية المستدامة، أصبح الحفاظ على البيئة والتنوع البيولوجي، أمراً حيوياً لبقاء الإنسان والكوكب، ويشمل المفهوم الإيكولوجي مجموعة واسعة من القضايا المتعلقة بالتلوث، وتغيُّر المناخ، وإستنزاف الموارد الطبيعية، وفقدان التنوع البيولوجي، وكلّها تندمج لتُؤثر على النظم البيئية والمجتمعات البشرية، وهناك مجتمعات تأخذ فيها القضية الإيكولوجية بعداً مختلفاً، نظراً للتحديات البيئية الفريدة التى تواجه المنطقة، من تأثير الأنشطة الصناعية والزراعية إلى التغيرات المناخية والجفاف، وتُعاني المجتمعات من مشكلات بيئية مُعقدة، تتطلب حلولاً مستدامة، حيث أن التعامل مع هذه القضايا يلزمه نهجاً شاملاً يشمل السياسات الحكومية، والمبادرات المجتمعية، والتعاون الدولي، ويأتي التركيز على البيئة في فكر المناضل أوجالان، كمحاولة لربط النضال السياسي والإجتماعي، بضرورة الحفاظ على البيئة، حيث أن المجتمع الديمقراطي يجب أن يكون متوازناً مع الطبيعة، وأن الإدارة البيئية الفعالة، هي جزء لا يتجزأ من العدالة الإجتماعية والإقتصادية، وهذا الفكر يُسهم في تعزيز الوعي البيئي حتى بين الأكراد أنفسهم، لدفعهم للعمل نحو حلول بيئية مبتكرة ومستدامة.
كما وأن الحركات البيئية المحلية والمنظمات ضمن جهودها الهادفة إلى معالجة القضايا البيئية المُلحة، وتقديم حلول عملية، هي بدورها تُحافظ على الموارد الطبيعية، وتضمن مستقبلًا مستداماً للأجيال القادمة، فالإيكولوجيا أو علم البيئة، تبحث فى أعماق مكانة الحياة الإنسانية، لأنها تطرح أسئلة أعمق من مكانة الحياة الإنسانية، وللإيكولوجيا أنواع متعددة، فمنها البشرية والإجتماعية والحضارية، وكذلك السياسية .
القضية الإيكولوجية ومشاكل البيئة
عادة تحدث المشاكل البيئية، نتيجة إدخال الملوِّثات إلى البيئة الطبيعية، مما يُسبب لها أضراراً كبيرة، وإضطرابات خطيرة فى نظامها البيئي، وبالرغم من أن تلك الملوِّثات ليست دخلية فقط، بل من الممكن أن تكون طبيعية، فقد تجاوزت الحدّ المقبول فى المجتمع كالتلوث الكيميائي، والتلوث الإشعاعي، والتلوث الحراري، والتلوّث الضوئي، وهناك أنواع أخرى من التلوث، كالبصري والهوائي، والصناعي وتلوُّث التراب والماء.
وتُشير القضية الإيكولوجية، إلى المشاكل البيئية والأزمات التي يواجهها كوكب الأرض، بسبب الأنشطة البشرية والتغيُّرات المناخية، وتشمل هذه المشاكل التلوُّث، فقدان التنوع البيولوجي، تغيُّر المناخ، وإستنزاف الموارد الطبيعية، وبمعنى أخر، فالمقصود بالقضية البيئية أو الإيكولوجية من المنظور البيئي، بأنها خلل أو تدهور فى عناصر النظام البيئي، وما يترتب عليه من أضرار أو خلل بكوكب الأرض، إذ أن المشكلات البيئية، هى تغير فى المكونات البيئية، سواء كان من ناحية النوع أو الكمِّية، مما يُؤدي الى حدوث خلل فى التوازن البيئي.
فالقضايا الإيكولوجية ليست حديثة العهد، بل هى موجودة منذ قديم الزمان، إلاَّ أن تأثيرها على البيئة لم يكن له أضرار كبيرة، فقد كانت البيئة من قبل قادرة على تعديل نفسها، لأن عملية الهدم وإستغلال الموارد الطبيعية كانت بسيطة، إلى أن أدخل الإنسان الآلة والتكنولوجيا والتقدُّم العلمي، وهو ما طرح عواقب وخيمة على البيئة، وتفاقم في مشكلاتها التي تُهدد النظام البيئي، كما أصبحت تُهدد الجنس البشري وجميع الكائنات الحية والكرة الأرضية، ومن أمثلة تلك القضايا التلوث البيئي، وضعف طبقة الأوزون، والأمطار الحمضية وندرة المياة وقلّة الموارد، وهو ما حدث بفعل وبسبب نشاط البشر.
إن العلاقة بين الإنسان والبيئة هي علاقةٌ خاصّةٌ، ولكن نتيجة السّلوكيّات الخاطئة التي سارت عليها أغلبية البشر، بعد التحوُّل الى تسليع كل شيء وكل أنماط الحياة، فإنّ تأثير الإنسان أصبح سلبيّاً على مكوّنات البيئة، ممّا أصابها بالتلوّث، والتلوّث بمعناه، هو دخول عناصر جديدة إلى مكوّنات البيئة، أو فقدانها لعناصرها الأساسيّة، ممّا يُؤدي إلى الإخلال بوظيفة هذه المكوّنات، ومع زيادة النشاط البشري، تفاقمت الأزمة التى تسبَّبت في فقدان التنوع البيولوجى وتغيير غطاء الأرض، وتغيُّر المناخ وزيادة التلوث بأنواعه المختلفة، وكذلك الإبادة الجماعية للأشجار وقطعها، والتصحُّر والإنفجار السكاني.
إن إرغام الشرائحِ الإحتكاريةِ على التوافقِ مع السلطة العليا، وعلى تقاسمِ ما لديِها من فائضِ القيمةِ معها،إنه إحتكارٌ هو تقليدٌ مؤسساتيٌّ متجذرٌ على صعيدِ الخلفيةِ التاريخيةِ، ومسارِ التطور أو بالأحرى هو الشريحةُ الإحتكاريةُ، التي تُجَهِّزُ نفسَها بأفضل الأسلحةِ الإقتصاديةِ والعسكرية، كما يقول المفكر أوجالان، ونظراً لأنّ العسكرتاريةَ تُعَدُّ الجناحَ الأكثرَ تنظيماً وحسماً في رأسِ المالِ والسلطة، فحُكماً ستَكُونُ المؤسسةَ الأكثر تَحَكماً بالمجتمع بحَبسِه في قفصِها، فلَم يُجَرَّد المجتمعُ مِن سلاحه في أيٍّ مِن مراحلِ التاريخِ بقدرِ ما فَعَلَته الطبقةُ البورجوازية، بسبب كثافة الإستغلالِ وتنامي المقاوماتِ العظمى إزاءه، إذ من المحالِ توجيهُ المجتمعِ وإدارتُه، ما لَم يُجَرَّدْ من أسلحته تماماً ودائماً، وما لَم يُصَيَّرْ منفتحاً على تَسَلُّلِ السلطةِ إلى كافةِ مساماته الداخلية، وما لَم يَخضَعْ لرقابتِها، فضلاً عن إستحالةِ حُكمِ المجتمعِ دون حبسه ومحاصرتِه على يَدِ الجيشِ الإعلاميِّ أيضاً في عصرِ الاحتكارِ الماليِّ العالمي، كما أنّ أبعادَ إحتكاراتِ الإستغلالِ تَعكِسُ نفسَها كما هي على تكوينِ الاحتكاراتِ الإعلامية_الأيديولوجيةِ والعسكرية_البيروقراطية،وهي مرهونةٌ ببعضها بعضاً ومرتبطةٌ بأواصرَ لا تنقطع بتاتاً، أما رأسُ المالِ الضخمِ لصناعةِ السلاحِ المستندةِ إلى العسكرتاريةِ في عصرِ المدنيةِ المركزيةِ العظمى الأخيرة، والمُسَلَّطةِ فوق وداخل المجتمعِ كقوةٍ مهيمنةٍ خارقةٍ إلى جانب الهيمناتِ الإقليميةِ الأخرى بكلِّ عملائها المحليين، فتتأتى أولويتُه المتقدمة على الإحتكاراتِ الأخرى من جوهرِ موقعِه التاريخيِّ والمعاصر ذاك.(3)
فلا شك أن النشاط البشري المستحدث، فى مجال الصناعة وإستغلال الموارد البيئية فى كافة متطلّبات التصنيع، وعلى الرغم من أهمية هذا النشاط فى إستراتيجيات التطوير الاقتصادي، والإنتقال من النشاط الزراعى البسيط وتطويره، إلى عالم التصنيع وإستخدام الآلات، كل ذلك أدى إلى بروز قضايا بيئية معقدة في مجتمعاتنا، فإنتقل العالم كله من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، وهو ما كلَّف وجاء بثمن بيئي كبير، حيث أصبح من الضروري مناقشة تلك القضايا لإيجاد الحلول المناسبة لها.
وهنا فإن تعريف البيئة ضروري، لكن ماهية الإيكولوجيا تجاوزت هذا التعريف المُدرك بحواسنا، لإبراز العلاقة الجدلية بين مفهوم الإيكولوجيا والمجتمع الصناعي، إذ لا تهدف الرأسمالية الصناعية إلى إحتكار الإقتصاد فقط، بل تسعى إلى فرض إيديولوجية سلطوية، تهدف الى تدمير الإقتصاد المجتمعي، ومجتمع الزراعة الذي عماد إزدهاره الريف، وتحوّل المُمارسة العملية إلى إحتكار للإيديولوجيا، وفرضها بقوة السلطة الناشئة بإسم الرأسمالية الصناعية، التي تسعى إلى تحقيق الربح الأعظم، ومن ثم لا بدَّ من تحقيق العدالة الإيكولوجية .
يتناول مفهوم العدالة الإيكولوجية، التوزيع العادل للمنافع والأعباء البيئية بين الأفراد والمجتمعات، مع التركيز على حماية البيئة وتعزيز الإستدامة، وتهدف إلى ضمان أن يتمتع جميع الأفراد بحقوق متساوية، في بيئة نظيفة آمنة، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الطبقة الإجتماعية، وأنهم لا يتحمَّلون أعباء بيئية غير مناسبة لهم، ومن هذا المنطلق نجد أن هناك ترابط وثيق بين العدالة الإيكولوجية والديمقراطية، فكلاهما مرتبط ببعضهما البعض، ويُعزز كل منهما الآخر فى كل الإتجاهات، وفى المجمل، فإن العلاقة بين العدالة الإيكولوجية والديمقراطية هي علاقة تكاملية، حيث تعمل كل منهما على تعزيز وجود الآخر، لتحقيق مجتمع أكثر عدالة وإستدامة، وقد دعى أوجلان إلى الديمقراطية البيئية، حيث تكون المجتمعات قادرة على إدارة مواردها الطبيعية بشكل مستدام وديمقراطي، كما روّج لفكرة الإدارة الذاتية المحلية، حيث القرارات المتعلقة بالبيئة والزراعة والطاقة، تتُخذ على مستوى القاعدة الشعبية.
التنمية المستدامة وإرث الأجيال
تعتبر التنمية المستدامة واجباً تجاه المجتمع والعالم، وليست مجرد خطوة مهنية ذكية، فهي تهدف لإشراك المجتمع المحلي، في مجموعة واسعة من المبادرات والأنشطة والفعاليات، الموجَّهة نحو الإستدامة، وتعزيز الوعي بقضاياها، وإبراز التقدم الذي أحرزته الدولة في هذا المجال، كما ترتكز التنمية المستدامة على ثلاثة أعمدة رئيسية تتعلق: بالبيئة والمجتمع والإقتصاد، حيث أنه وعند النظر الى هذه المرتكزات على أنها دوائر متداخلة ذات أحجام متساوية، نجد أن منطقة التقاطع عند مركزها الأساس، هي ما تمثل رفاهية الإنسان، وكلما إقتربت هذه الدوائر من بعضها مكمّلة لبعضها البعض، إزدادت منطقة التقاطع والمساحات المشتركة.
فقد تمَّ قبول فكرة التنمية المستدامة وإقرارها على صعيد واسع، لكن ترجمتها إلى أهداف وبرامج وسياسات عملية دونها عقبات وصعوبات، إذ أن عملية التنمية الشاملة، تتطلَّب التوافق بين السياسات المختلفة، الإقتصادية والإجتماعية والبيئية، فالتنمية المستدامة تدعو إلى مستقبل يتم فيه موازنة الإعتبارات البيئية والإجتماعية والإقتصادية، عند السعي إلى تحقيق التنمية وتحسين نوعية الحياة، فلا بدَّ من الربط ما بين التنمية والبيئة، من أجل حماية الأنظمة البيئية، ومعها إدارة الموارد الطبيعية، التي تُعد من المستلزمات الأساسية للإيفاء بإحتياجات الإنسان، وتحسين ظروف معيشة الإنسان والإنسانية، من دون زيادة إستخدامها إلى ما يتخطى قدرة الكرة الأرضية على التحمل.
وهنا تبرز التنمية المستدامة لتلبي حاجات الناس، من الموارد الطبيعية الموجودة مع الإلتزام بالمحافظة عليها للأجيال القادمة، فمفهوم التنمية المستدامة، هو دراسة تخطيط وتصميم وتنفيذ المشاريع، والأخذ في الإعتبار الجوانب الإجتماعية والإقتصادية والبيئية لتحسين حياة الناس، فأي مشروع يُخِل بأحد هذه العناصر، لا يعتبر مشروعاً مستداماً، حيث أن هناك معايير ومقاييس دولية، وتتسابق دول العالم فيما بينها لحيازة أكبر عدد من هذه المشاريع، فالتميُّز يتطلب إقامة قواعد أخذت على عاتقها القيام بهذا الدور، يتركز على تضمين أهدافها والتأكد من تطبيق مفهومها في المشاريع الهندسية والبيئية والتصنيعية والزراعية والتعليمية، وتوعية الأكاديميين وجيل الشباب بأهمية التنمية المستدامة، والعمل على ضرورة عقد المحاضرات والندوات وورش العمل والتدريب والمؤتمرات، في كل ما يتعلق بالتنمية المستدامة، والتعاون مع المؤسسات الأكاديمية والمنظمات الهندسية الأخرى في هذا المجال، وتوعية المجتمع حول مفهوم التنمية المستدامة وكيفية الاستفادة منها في شتى مناحي الحياة.
كذلك فإن التعليم هو المفتاح الذي سيسمح بتحقيق الكثير من أهداف التنمية المستدامة الأخرى، كون التعليم هو الركيزة الأساسية لبناء علاقات قائمة على الإحترام والثقة، فيما يمتلكه كل فرد من طاقات وقدرات، وذلك لإهتمامه بتنمية مهارات ومعارف كل فرد في المجتمع، وهناك ممارسات رائدة لتحقيق التنمية المستدامة في المؤسسات التعليمية، لمواجهة المخاطر الخارجية في المجتمع، وتعزيز إنتمائه لوطنه ولأمته، بالإضافة إلى المساهمات المجتمعية الفاعلة، وتكيفها تماشياً مع الثورة التكنولوجية وتوظيفها لخدمة أبنائها، سواء عبر السلوك الديني، أو العلاقات الإجتماعية، أو عبر ضرورة تفعيل مشروع الإستقطاب المبكِّر للطلاب والموظفين وتأهيلهم للعمل نحو بناء معلم وطني متميِّز، ومزود بالثقافات والعلوم والمهارات التي تحفِّزه لإستكمال مسيرة الإعداد والتنمية المهنية.
إلاَّ أن الأهداف العامة للمشروع، تتمثل في توعية الطلاب والمجتمع بأهمية العلم والتعلم، إلى جانب توعية المجتمع المحلي، والإستقطاب المبكر للطلاب والخريجين وترغيبهم وتأهيلهم للعمل أكاديمياً، بالإضافة إلى رفع المستوى الأكاديمي بما يولد الكفاءة القادرة على العمل بالتدريس.
فمشروع الإستدامة، يُعد منصة فريدة لتعزيز الرؤية الوطنية والعالمية، وأهمية مشاركة أفراد المجتمع في هذا المجال، بالإضافة إلى السعْي لمساعدة البلاد على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وبتعزيز صحة المجتمع المحلي ورفاهيته، والتشجيع على دعم الإستدامة على مستويات مختلفة، مع مشاركة المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، وكذلك المنظمات غير الربحية والأفراد، للتشجيع على إتخاذ الإجراءات التي تعزِّز الإستدامة بما يعود بفوائد كثيرة على الجميع.
فالبشرية اليوم أمام تحديات تتجاوز حدود الجغرافيا، لبناء القدرة على تحقيق التنمية المستدامة لمجتمعاتنا، والتصدي لقضايا التغيُّر المناخي، ويُعدُّ النشاط البشري الذي يتمحور حول الطاقة والصناعة، والبيئة العمرانية، والنقل بأنواعه، من أهم الأمور التي تستلزم البحث والمناقشة ووضع الأطر والإستراتيجيات الملائمة، التي تسهم في تحقيق الرفاه لأجيالنا الحاضرة، ودون المساس بمكتسبات الأجيال القادمة.
إن تطوير المشاريع المتمثِّلة في المدارس والمراكز الصحية والمباني الإدارية للمؤسسات الحكومية، وفق معايير المنظومة العالمية لتقييم الإستدامة، ومعه تعزيز الإجتماعات وعقد قمم التنمية والإستدامة، تأتي في سياق زمني خاص، وتحديات بيئية وإقتصادية وإجتماعية جمَّة، لا تختص بها منطقة الشرق الأوسط، وإنما لفتت إهتمام دول العالم قاطبة، مما حدا بها إلى إطلاق أهداف التنمية المستدامة، من أجل الوصول الى تحقيق مستقبل أفضل وأكثر إستدامة للبشرية وللأجيال القادمة، وللتصدي والوقوف أمام التحديات العالمية التي يواجهها الجميع، بما فيها المتعلقة بالمناخ وتدهور البيئة، بالإضافة إلى الازدهار والسلام والعدالة، وهنا لا بد من تسخير كافة الإمكانات والموارد لتنفيذ العديد من البرامج، التي تسهم بشكل مباشر في تعزيز ممارسات سياسات الإستدامة في البيئة العمرانية، سواء على صعيد التصميم أو الإنشاء أو التشغيل، حيث أن أنشطة البحث والتطوير في المنظمة، تساهم في دعم مسيرة الإستدامة، عبر التركيز على البحوث الخاصة بكفاءة الطاقة والطاقة المتجددة، وإعادة التدوير والمواد عالية الأداء.
المنطقة العربية ومواجهة آثار التغيُّر المناخي
أثارت تقلُّبات المناخ العالمي في العقود الأخيرة، أسئلة عديدة حول حدة هذە الظاهرة، ومدى إستمرارها، ولمواجهة أخطارها، تنصبُّ جهود المجتمع الدولي على التفكير في الإستراتيجيات والمشاريع الكفيلة برفع هذا التحدِّي، والذي يمكن أن يتحقق من خلال مشاركة وإلتزام الجميع وعلى كافة المستويات، بما في ذلك المجتمعات المحلية.
فخلال العقود الخمسة الماضية، شهدت جميع القارات تقلُّبات مناخية كبرى، كانت ولا تزال موضوعاً للعديد من الدراسات حول حدَّتها وإستمراريتها أيضاً، وقد تسبَّبت هذە الإضطرابات المناخية، في عدة كوارث طبيعية مدمِّرة، كالأعاصير وذوبان الجليد والأمطار الطوفانية والفيضانات، والإنهيارات الأرضية والجفاف الحاد، ويقول خبراء الفريق الحكومي الدولي المختصين في التغيُّر المناخي (GIEC)، أن الأرض تخضع ليس فقط للتغيرات المناخية الطبيعية، ولكن أيضا لتغييرات مناخية ناتجة عن الأنشطة البشرية، وهذە التغيُّرات المناخية التي تزعزع إستقرار الأنظمة البيئية، من التدهور والإستنزاف والقضاء النهائي على بعض الأنظمة، وتشكل ضغطاً قوياً على الموارد الطبيعية والغابات، تجعل البلدان النامية أكثر تعرضاً وهشاشة، لأنها تعتمد بالأساس على الموارد الطبيعية، وتفتقر إلى الموارد المالية والوسائل التكنولوجية والمهارات، لمواجهة آثار التغيُّر المناخي.
إن عملية تغيُّر المناخ والتسبُّب في الإحتباس الحراري، والتغيُّرات في أنماط الطقس، والإضطرابات في توازن الطبيعة المعتاد، تعتبر قضية ملحَّة، تهدِّد النظم البيئية والإقتصادات والمجتمعات في جميع أنحاء العالم، والمنطقة العربية المعروفة بتنوع خصائصها الجغرافية وظروفها المناخية، ليست بمعزل عن الآثار الكارثية لتغير المناخ، والتي يمكن أن تؤدي في أبسط أشكالها، إلى تفاقم نِسب الفقر في مجتمعاتها، وإنعدام الأمن الغذائي، وهذا يدعو الى إبتكار لوجود نهج إقليمي شامل، ليس فقط للتخفيف من آثار تغيُّر المناخ، ولكن أيضاً من أجل إقتناص الفرص المتاحة في ساحة الطاقة النظيفة والمتجددة، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في دول المنطقة.
فالآثار السلبية لتغيُّر المناخ، تظهر قاسية بشكل خاص في المنطقة العربية، حيث أدَّت الموجات التصاعدية في درجات الحرارة، إلى تفاقم التحديات البيئية والإجتماعية والإقتصادية الحالية، فالصناعة الزراعية والتي تعتمد في الغالب على هطول الأمطار في معظم الدول العربية، باتت تعاني من تغيُّر الأنماط المطرية، وزيادة حالات الجفاف وتدهور الأراضي والتصحُّر، كما وتواجه البلدان التي تعتمد بشدة على الزراعة، نقصًاً في الغذاء، فيرتفع متوسِّط نسب الإستيراد إلى 50٪ أو أكثر من الإمدادات الغذائية، وفي الوقت ذاته، تتصارع المناطق الساحلية مع مخاطر إرتفاع مستوى سطح البحر، وتشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نقصاً في إمدادات المياه، مما إنعكس بآثار حادة على أنظمة إنتاج الغذاء المحلية، حيث يمكن أن تؤدي هذه التغييرات إلى تصاعد حدة التوترات الإجتماعية والإقتصادية، وزيادة معدلات الفقر، وتباطؤ تقدم مشاريع التنمية.
فعملية تنفيذ الإستراتيجيات الفعالة للتخفيف من آثار تغيُّر المناخ، تبدو مهمة شاقة، بسبب الحجم والوتيرة غير المسبوقة للتغيرات البيئية، وذلك يتطلب إعادة التفكير في الآليات التقليدية لصنع القرار في حلِّ المشكلات، وإجراء التغييرات اللازمة، وتعزيز القدرات المؤسسية لمكافحة التهديدات المتعلقة بالمناخ، وتأمين التمويل الكافي لبحوث تغير المناخ، ورغم ذلك، لا زالت بعض الدول العربية، تتمتع بفرص هائلة للتكيُّف والتخفيف من آثار تغيُّر المناخ، عبر تسخير مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، وإعتماد تقنيات الحفاظ على المياه، وتوسيع المساحات الخضراء، وهو ما يمكن أن يقلِّل من التأثير البيئي ودعم التنمية المستدامة.
كما تقدم التقنيات الناشئة لتحسين المناخ، حلولاً واعدة بدمج التكنولوجيا الحديثة في الممارسات الزراعية، لتسارع في إنتاج الغذاء، مما يجعلها أكثر مقاومة للتغيُّرات المناخية، كما أن للذكاء الإصطناعي والبيانات الضخمة المتصلة بالإنترنت، القدرة على تعزيز مرونة المنطقة في مواجهة الآثار السلبية لتغيُّر المناخ، ويمكن لنماذج المدن الذكية، الحفاظ على الموارد وتوفير أنظمة وحلول بيئية أكثر استدامة، وبالمحصلة يمكن أن يؤدي إستخدام تكنولوجيا الإتصالات والمعلومات الحديثة، إلى تعزيز الحفاظ على الطاقة وتقليل الإنبعاثات الصناعية، والمساهمة في التخفيف من تغيُّر المناخ.
إن تغيُّر المناخ أصبح بقدر ما يشكل تهديدات كبيرة للدول العربية، كما يشكل في الوقت نفسه فرصاً لإيجاد حلول مبتكرة ومستدامة، عبر تأمين مستقبل مرِن ومستدام، ولذلك يجب على صانعي السياسات إعطاء الأولوية للعمل المناخي، والإستثمار في البحث والتطوير، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لخلق منطقة عربية أكثر إخضراراً وإستدامة، للإستفادة الحقيقية من التكنولوجيا في العمل المناخي، وَجَب تعزيز بيئة وطنية مشجعة على الإبتكار والتعاون، فالمبادرات مثل العمارة الخضراء والتحوُل الرقمي، والبحث والتطوير في تقنيات الطاقة المتجددة، تعدُّ جميعها محاور بالغة الأهمية.
إن دور الحكومات هنا مهم،عبر الشراكة مع القطاع الخاص، ويتجسد في توفير التوجيه السياسي والأطر التنظيمية والتمويل العام، بينما يمكن للقطاع الخاص، دفع الإبتكار وتنفيذ نماذج الأعمال الصديقة للمناخ، والإستثمار في التقنيات المستدامة، حيث تقوم المؤسسات المالية بدور فعال في توجيه إستثماراتها نحو المشاريع التنموية، منخفضة الكربون والمرتبطة بالتكيف مع تغير المناخ، فكثيراً ما عُنيت الإيكولوجيا فى الماضي بالبحث عن نقاط توازن فى النظم التى تدرسها، سواء على نطاق عالمي أو محلي، أما فى الوقت الراهن، فقد أصبحت القضية الإيكولوجية في صدارة الإهتمامات العالمية، نظرًا لتأثيراتها المباشرة على الحياة البشرية وكل الكائنات الحية، فالتأثيرات البيئية السلبية، تتسبب في مشاكل صحية، إقتصادية، وإجتماعية، تُؤثر على جودة الحياة بشكل عام، وذلك بسبب تأثير البيئة على حياة الكائنات الحية، وعلى إستدامة الموارد الطبيعية.
البيئة وتهديد الهوية الذاتية
إن سياسات المناخ وإنبعاثات غازات الإحتباس الحراري، كنتيجة للعمليات الإجتماعية والسياسية والتقنية، يعدُّ أمرًا صعباً للغاية، والإنبعاثات المستقبلية تنشأ من التفاعلات المعقدة وتأثيرات التغذية المرتدة داخل هذه الأنظمة وفيما بينها، مما يعني أنه لا يمكن فهمها بمعزل عن غيرها، وبدلاً من ذلك، ستتطلب التقييمات الإحتمالية لمسارات الإحترار في المستقبل، رؤية من مختلف التخصُّصات والجوانب، ليتم ربطها لفهم كيفية تفاعلها، لإنتاج مستقبل مناخي ملائم، فإلقاء نظرة معمَّقة على الآثار النفسية والإجتماعية لتغيُّر المناخ، ربما تساعد المهتمين بهذه الظاهرة المدمرة على فهمها ووضع سياسات للتكيُّف معها.
في الحقيقة هناك خشية من الحديث على أنه قد فات الأوان للعمل المجتمعي، للتخفيف التام من تغيُّر المناخ، نظرًا لأنه لا يمكن تجنُّبها، الأمر الذي وجه العلماء والباحثين نحو تحويل إنتباههم إلى فهم آثارها وإمكانات التكيُّف معها، وإذا تحوَّلنا للتكيُّف السلوكي فقد يشمل التخطيط المسبق للأحداث، مثل الفيضانات أو حرائق الغابات، على سبيل المثال، عن طريق حماية منزل المرء من الفيضانات أو الإستعداد للإخلاء، يمكن أن يشمل أيضًا زراعة الأشجار لتوفير الظلِّ، في الصيف الحار، وتعديل الممارسات الزراعية، وحتى تغيير الطرق التي يتفاعل بها الشخص مع العالم الطبيعي، كما وأن ردود الفعل النفسية للأزمات البيئية بشكل عام، وتغيُّر المناخ بشكل خاص، دائماً ما تكون من منظور فردي، لا سيّما وأن الناس مدفوعون بالمصلحة الذاتية، والدوافع الداخلية، نظرًا لأنَّ هذه الدوافع الداخلية مستقرة نسبياً، بعكس المجموعات الإجتماعية التي تشكل دوافع خارجية، تتوصف بعدم الإستقرار والضعف أكثر من الدوافع الداخلية، ولذلك فإن الناس يقاومون تغيير السلوك.
فالآثار الإجتماعية للتغيُّر المناخي عديدة، تتمثل في العدالة الإجتماعية أولاً، حيث لا تزال هناك القليل نسبيًا من الأبحاث حول التأثيرات المحتملة لتغيُّر المناخ على السلوك الإجتماعي والرفاهية النفسية والإجتماعية، ولكن هناك كل الأسباب لتوقُّع أن هذه التأثيرات ستكون كبيرة، نظراً لإرتباط درجة الحرارة بإنخفاض في المزاج الإيجابي، وزيادة في العداء الشخصي والعدوانية، وقد تكون هناك تأثيرات أخرى على التفاعل بين الأشخاص أيضاً، عندما ترتبط التقاليد والممارسات الثقافية والتفاعلات الإجتماعية بالبيئة الطبيعية، فعملية إستمرار الإحتباس الحراري يؤدي إلى زيادة تواتر وإنتشار وشدة الظواهر المتطرفة، مما يعرِّض الأنظمة البيئية والبشرية للخطر، ويستلزم تغير المناخ أيضًا تغييرات أبطأ وأقل دراماتيكية، ولكنها شديدة التأثير في الظروف المناخية الأساسية، مثل الحرارة وهطول الأمطار، كما أن المشاركة في تطوير الحلول والمساهمة في تغير المناخ وآثارها، لا يتم توزيعها بالتساوي بين المجتمعات، فمع إنتشاره العالمي والتعقيد الكبير، وعدم اليقين في الحلول، يعطِّل إستجابات الجمهور لتغير المناخ معقدة أيضًا.
كذلك فإن التغيُّرات في المناخ الجيوفيزيائي، لها آثار كبيرة على السلوك الإجتماعي البشري، وعلى علم النفس الإجتماعي، بالرغم من أن علماء النفس ركَّزوا في الغالب على الجوانب الإجتماعية للموقف، مثل الأشخاص الآخرين والأدوار والتوقعات الإجتماعية البارزة، فمن الواضح أن البيئة المادية لديها القدرة على التأثير المباشر على السلوك، فقد أصبح تغيُّر المناخ جزءاًً من السياق الإجتماعي، حيث تؤثر التفاعلات الاجتماعية على تصوراتنا لتغير المناخ وتتأثر بتجاربنا معه أيضاً، ناهيك عن أن الدخول في عصر التقشُّف البيئي، عبر تغيُّر المناخ والكوارث البيئية الأخرى، يؤدي إلى إرتفاع في أسعار الغذاء، ونزوح جماعي للسكان، ونهاية النمو الإقتصادي كما هو معتاد.
وإن حال عدم المساواة التي تكشف عنها الدراسات في تغيُّر المناخ، أي أن الأشخاص الذين لديهم أعلى بصمة كربونية، هم عادة أولئك الذين هم أقل عرضة لتجربة عواقب الإحتباس الحراري، كأن أعلى 10٪ من أصحاب الدخل على مستوى العالم، مسؤولون عن حوالي 50٪ من إجمالي إنبعاثات الكربون، لأنهم أكثر عرضة لإستخدام السفر الجوي، والسيارات المتعددة، والمنازل الواسعة، وغيرها من الكماليات التي ينبعث منها الكربون.(4)
وعلى الرغم من أن البلدان النامية قد ساهمت بقدر أقل بكثير في تغيُّر المناخ، فإنها ستعاني أكثر من العالم المتقدم ذي الإنبعاثات العالية، والسبب يعود الى جغرافيتهم على سبيل المثال، حيث يقع العديد منهم في خطوط العرض المنخفضة، ويواجهون مزيدًا من موجات الجفاف وموجات الحر، وكذلك العديد منهم يعيش على إرتفاعات منخفضة، ويعانون من الفيضانات والفيضانات بسبب إرتفاع مستوى سطح البحر، بالإضافة إلى أن ضعف البنية التحتية والموارد في البلدان النامية، يحدُّ من قدرتها على منع الآثار المناخية، والتكيُّف معها والتعافي منها، حيث أن عملية النزوح والهجرة، تدل على ذلك، كما أفاد مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن ما متوسطه 21.5 مليون شخص، ينزحون قسراً كل عام، بسبب المخاطر المفاجئة المتعلقة بالطقس وآلاف آخرين من المخاطر البطيئة الظهور، المرتبطة بتأثيرات تغير المناخ، إضافة الى عوامل أخرى، منها ما يتعلق بالكيان الذي يواجه التجربة، أي التأثير الذاتي والنفسي للأزمة المناخية والبيئية، والتي من الممكن أن تؤدي، إلى نشوء ردود فعل عاطفية قوية، مثل الخوف أو الحزن أو اليأس أو الذنب بسبب مشاهدة الأزمة، حتى لو من مسافة بعيدة، ومنها يتعلق بتأثر الأفراد بشكل غير مباشر، من خلال التأثيرات المختلفة للمناخ، والأزمة البيئية على مجالات حياتهم البيولوجية النفسية الاجتماعية، وهذا يشمل الآثار النفسية الإجتماعية غير المباشرة، الناجمة عن التغيرات في البيئة الإجتماعية للفرد، مثل الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية في مسقط رأس المرء بسبب الإعصار، أو من خلال المعاناة الإقتصادية والهجرة القسرية المحتملة، الناجمة عن الجفاف المرتبط بتغيُّر المناخ.
كما تؤثر التغيرات المناخية على المحاصيل وإنتاج الغذاء، مما يؤثر على أسعار المواد الغذائية، الأمر الذي يدفع الناس إلى إتباع أنظمة غذائية أقل صحة، ويمكن أن تؤدي النظم الغذائية السيئة، إلى الجوع أو سوء التغذية أو السمنة، وقد تنخفض القيمة الغذائية لبعض الأطعمة، بسبب تغيُّر المناخ، حيث يجزم الخبراء، أن زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، والتغيرات في العناصر الغذائية في التربة، تؤدي إلى تقليل العناصر الغذائية في العديد من المحاصيل.
ويوجد بالفعل قدر كبير من الأدلة العلمية، على أن تغيُّر المناخ يؤثر على الصحة النفسية بشكل مباشر، من خلال الكوارث الطبيعية والتغيرات البيئية التدريجية، كما يمثِّل تغيُّر المناخ تحديًا للصحة العقلية، من خلال قنوات أخرى غير التعرض المباشر لتأثيرات الظواهر الفيزيائية الحيوية، فالمشاعر السلبية الناشئة عن الإعتراف بالتهديد الحالي والمستقبلي، الذي يشكله تغير المناخ، هي أيضًا ضغوط نفسية قوية للأفراد والمجتمعات، ومن بين بعض المجتمعات المعرضة للخطر بشكل خاص، يترافق التعرض للأحداث البيئية الشديدة، التي تفاقمت بسبب تغيُّر المناخ، مع القلق بشأن تأثيرات تغير المناخ في المستقبل، لتوليد مستويات من الضيق النفسي الذي يضعف بشكل كبير الجوانب الرئيسية للحياة اليومية.
وتتوقع الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA)، أن تأثيرات الصحة العقلية لتغير المناخ ستتراوح من الإجهاد الخفيف، إلى زيادة في التشخيصات النفسية الأكثر خطورة، حيث إن بعض الأشخاص قد يلجأون إلى سلوكيات عالية الخطورة، للتعامل مع الصدمات النفسية، بسبب تغير المناخ، كما لوحظ مرارًا وتكرارًاً، أن إضطراب ما بعد الصدمة، هو إضطراب الصحة العقلية الأكثر شيوعاً، في أعقاب الظواهر الجوية الشديدة والكوارث الطبيعية، وبالنظر إلى خصائص هذه الأحداث، مثل المفاجأة، والقدرة التدميرية، وإحتمال حدوث عواقب وخيمة (مثل الإصابة، والوفاة)، ليس من المستغرب أن مثل هذه الضغوطات البيئية، يمكن أن تؤدي إلى تطور إضطرابات الصحة العقلية المرتبطة بالتوتر،علاوة على ذلك فإن أحد عوامل الضغط النفسي، هو القلق المزمن بشأن مستقبل الحياة على الأرض، ومع ذلك، يجدر بنا أن نتذكر أن القلق البيئي، ليس حالة إكلينيكية تتوجب معالجتها، ولكنه إستجابة عقلانية للتهديدات البيئية التي سيواجهها كوكبنا في العقود القادمة.
وفي سياق سيكولوجي آخر موازي، ٍ نجد أن التغيرات المناخية تعمل على تهديد الهوية الذاتية، عندما تتغيَّر بيئة مجموعة سكانية بطريقة تزعزع إستقرار بقائها المستمر، حيث يشكل زعزعة إستقرار دورات الكواكب، والعمليات التي تنظم أنظمة دعم الحياة على الأرض، تهديدًا نفسيًا عميقًا، لإنعدام الإحساس بالأمان، وسلامة وإستقرار الهوية الذاتية، بسبب السلوكيات المدمرة، وردود الفعل غير الكافية، ويضعف الثقة في القيمة والقدرات، كما تهدد الأزمة البيئية خطط أنماط الحياة، وأفكار التقدم والتوقعات الداخلية للمستقبل، كما أن عدم التوازن النفسي، يدفع البشر إلى إستخدام آليات الدفاع، وإستراتيجيات المواجهة من أجل تخفيف التوتر وتقليل المشاعر السلبية الناتجة عن تغير المناخ، حيث إن زيادة تواتر الظواهر الجوية المتطرفة، مثل حرائق الغابات والفيضانات، تؤثر بالفعل وبشكل مباشر على صحة الإنسان النفسية وقدراته البدنية.
كما يؤدي ذلك الى عدم الإتزان النفسي والسياسي، عندما تفشل الحكومات في توفير الحماية الكافية، من تأثيرات تغير المناخ أو الإستجابة لها، قد يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في الحكومات والمؤسسات المدنية الأخرى، مما يؤدي إلى رد فعل عنيف، وقد تؤدي تصورات عدم المساواة أو التفاوتات في تأثيرات تغير المناخ، إلى إضطرابات اجتماعية وضعف الحكومات، وفي بعض الحالات عدم الإستقرار السياسي والصراع.
وقد أخذت الظواهر الجوية القصوى، من قبيل الأعاصير وموجات الحر، تتزايد في تواترها وشدتها، وشكل تغيُّر المناخ تهديداً مباشراً لقدرة الطفل على البقاء والنماء والإزدهار، وهي تهدد حياة الأطفال وتدمِّر الهياكل الأساسية الحيوية لعافيتهم، كما تتسبَّب الفيضانات بإضعاف مرافق المياه والصرف الصحي، مما يقود إلى إنتشار أمراض من قبيل الكوليرا، وهي تمثل خطراً داهماً على الأطفال بصفة خاصة، كما ويؤدي الجفاف والتغيّر العالمي في نسق سقوط الأمطار، إلى فشل المحاصيل وزيادة أسعار الأغذية، مما يعني إنعدام الأمن الغذائي والحرمان من الأغذية للفقراء، وهذا قد يؤدي إلى تأثيرات تمتد مدى الحياة، إضافة إلى تدمير سُبُل العيش، وزيادة الهجرة والنزاعات، وكبح الفرص للأطفال واليافعين.
من هنا فإن لتغيُّر المناخ آثارًا نفسية وإجتماعية وصحية وبيئية خطيرة وكبيرة، وقد يكون إنخفاض إنبعاثات غازات الدفيئة البشرية، قادرًا على التخفيف من هذه الآثار، وعلى الرغم من أن عددًا من خيارات نمط الحياة، لديها القدرة على تقليل إنبعاثات غازات الدفيئة البشرية المنشأ السنوية، إلاَّ أن إقناع الناس بإتخاذ إجراءات صديقة للبيئة أمر صعب، ورغم حقيقة أن هناك أعداداً كبيرة من الناس يعبرون عن قلقهم بشأن تغيُّر المناخ، إلاَّ أن نسبة صغيرة منهم فقط يتخذون إجراءات مستدامة، وهنا يمكن لصانعي السياسات الذين يهدفون إلى تحفيز العمل المناخي، الإستفادة من التحقيق المتعمّق، والنظرة العامة الشاملة لهذه الحواجز النفسية التي تم تجاهلها، وبصورة أخرى، فإن لعلم النفس البيئي، دوراً مهماً في المستقبل، حيث تتصاعد المشكلات البيئية حول العالم ويصبح تطوير السلوكيات المستدامة أكثر إلحاحاً، لذلك يمكن لعلماء النفس البيئي، وناشطي التنمية المستدامة، العمل معًا وخلق مستقبل أفضل، من أجل تحسين الامتثال للسياسات البيئية.
وأيضًا فإن المصالح الذاتية للناس، قد تعرّض المحاولات الجماعية للحدِّ من تغيُّر المناخ للخطر على المدى الطويل، حيث أن النظر إلى تغيُّر المناخ، بإعتباره تحدياً إجتماعياً عالمياً، يشير إلى أنه لا يمكن حله، إلاَّ إذا وافقت البلدان والشعوب على فعل الصواب للصالح العام، وخفض إنبعاثاتها بشكل كبير، في حين أن الحد من الإنبعاثات، قد يبدو معقولًاً من وجهة نظر المجتمع، فإن إقناع الناس بالتخلي عما هو جيد بالنسبة لهم، هو أمر صعب للغاية.
تدارك الأخطار المستقبلية.. وقمة المناخ COP27
المقصود بتغير المناخ،هي تلك التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة، وأنماط الطقس، ومن هذه التحولات هو طبيعة حصولها، فتحدث كالتغيرات في الدورة الشمسية، ولكن، منذ 150 عاماً إلى اليوم، أصبحت النشاطات البشرية هي المسبِّب الرئيسي لتغير المناخ، ويرجع ذلك بالأخص إلى حرق الوقود الأحفوري، كالفحم والنفط والغاز، والذي ينتج انبعاثات غازات الدفيئة، التي تعمل مثل غطاء يلتف حول الكرة الأرضية، وهو ما يؤدي إلى حبس حرارة الشمس، ورفع درجات الحرارة.
أما إنبعاثات غازات الدفيئة التي تسبِّب تغير المناخ، فهي ثاني أكسيد الكربون، والميثان بفضل إستخدام البنزين لقيادة السيارات، أو الفحم لتدفئة المباني، كذلك فإن تطهير الأراضي من الأعشاب والشجيرات، وقطع الغابات، يؤدي بدوره إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون، فصارت مدافن القمامة مصدرًاً رئيسيًاً لانبعاثات غاز الميثان، ولذلك صار إنتاج واستهلاك الطاقة، والصناعة والنقل والمباني والزراعة، وإستخدام الأراضي يعتبر من بين مصادر الانبعاث الرئيسية.
فهذه الإنبعاثات مستمرة في الارتفاع، وبنتيجتها أصبح الكوكب الأرضي الآن، أكثر دِفئًا بمقدار 1.1 درجة مئوية عما كان عليه في بداية القرن العشرين، حيث كان العقد الماضي (2011-2020) الأكثر دفئًا على الإطلاق(5).
من هنا، فإن هناك مفهوم شائع حول إعتقاد الكثيرين، بأن تغير المناخ يعني أساسًا إرتفاع درجات الحرارة، ولكن إرتفاع درجة الحرارة هذه، ليس سوى البداية، كون الأرض عبارة عن نظام، فكل شيء متصل بالآخر، إذ أن التغييرات في منطقة واحدة، قد تؤدي إلى تغييرات في جميع المناطق الأخرى، وما يسبُّبه التغير المناخي يفوق بأضراره، ما لا يستطيع العقل تصوره، كالجفاف الشديد وندرة المياه والحرائق الشديدة، وإرتفاع مستويات سطح البحر والفيضانات، وذوبان الجليد القطبي والعواصف الكارثية، وتدهور التنوع البيولوجي، بما فيه نوعية الأطعمة وتنوعها، من دون رقابة صحية وبشكل عشوائي، وهو الأمر الذي أدَّى بحسب خبراء وأطباء حول العالم، إلى التحول الجيني للفيروسات، وتطوُّرها وتوحشها، بإستخدام ذكاء خارق في تفكيك الجسم الصحي للإنسان، وتعرٌّضه للأوبئة ونقصان المناعة والموت.
التغير المناخي، هو ظاهرة يشهدها كوكب الأرض بمختلف أصقاعه، نظراً لإرتباط المناخ إرتباطاً وثيقاً بالتغيرات حول العالم، والمسجلة في درجة الحرارة، من خلال رفع الإحترار العالمي لكوكب الأرض، تحت تأثير التلوث وزيادة النفايات، والمخلفات الصناعية، ومخاطر الكوارث الطبيعية من فيضانات وحرائق الغابات، حيث تتزامن هذه التغيُّرات المناخية المثيرة للقلق، مع محاولات الدول والمنظمات الدولية لتحفيز، وتوحيد الجهود المبذولة للحماية من تلك التغيرات، من هنا، فقد كان العام 2022 عاماً مصيرياً، بشأن المحادثات الجارية للتوافق حول قرارات السياسة العامة، تجاه قضايا المناخ، حتى أن بعض الدوائر العلمية أطلقت عليه “عام المناخ”، أو”العام الأخضر”. إ أُقِيم العديد من الأحداث العالمية شديدة الأهمية، في مقدمتها الدورة الـ27 لمؤتمر الدول الأطراف، في إتفاقية الأمم المتحدة الإطارية، بشأن تغيّر المناخ، التي إستضافتها مصر في شرم الشيخ، وتجمع نحو 30 ألف مشارك من 196 دولة حول العالم، إذ تُعدُّ هذه القمة العالمية بمثابة الأمل الأخير لإنقاذ كوكب الأرض،وهذه الاستضافة لمؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ، إعتبرت تتويجاً لتلك الجهود الحثيثة لتحقيق التنمية المستدامة، بمفهومها المتكامل الاقتصادي والإجتماعي والبيئي، وكذلك من أجل إقناع كل الدول الشريكة بالفوائد المتحققة على العالم، من تطبيق استراتيجية جديدة لمواجهة التغيّر المناخي، حتى عام 2050.(6)
وقد بدأ تحديد الإستراتيجيات المعمول بها لتغير المناخ، والتي تطلبت أهدافاً عدة منها:
الأول: يتمثَّل في تحقيق نمو إقتصادي مستدام، يُراعى فيه خفض الإنبعاثات في مختلف قطاعاته، بزيادة الإعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، واستخدام الموارد الثرية، التي تتمتع بها الدولة في كافة المجالات، ومن ذلك حركة الرساميل والإستثمارات.
الثاني: يتمثَّل في إستخدام المرونة، وقدرة التكيّف مع تغيّر المناخ، عبر التخفيف من الآثار السلبية لتلك التغيّرات، والحد من مخاطر الكوارث، عن طريق إنشاء أنظمة إنذار مبكر.
الثالث: يتمثَّل بتحسين حوكمة وإدارة العمل في مجال تغيّر المناخ، بمشاركة جميع الأطراف ذات الصلة، من حكومية وقطاع خاص وأهلي، وبما يصب في أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز البحث العلمي ونقل التكنولوجيا، وإدارة المعرفة والوعي لمواجهة التغيرات المناخية.
كما بدأ العمل بمشروعات الطاقة المتجددة وذلك من خلال إعتماد الطاقة المتجددة، كطاقة الرياح والطاقة الشمسية، ومشروعات تحلية المياه، وإنتاج الهيدروجين الأخضر، والتخلُّص الآمن من النفايات المشعَّة، كذلك ضرورة الإعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، في مشروعات توليد الكهرباء في المرحلة المقبلة، وتشجيع البحوث المرتبطة بتحول الطاقة، عبر وضع التعديلات، والتشريعات القانونية الضرورية داخل كل دولة، لبناء أرضية جديدة لتشجيع القطاع الخاص، وإيجاد ملاذ آمن له، بغية الإستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، وتسريع التحول إلى المركبات الكهربائية، وحشد التمويل اللازم لذلك.
أما موضوع الهيدروجين الأخضر، فهو الموضوع الأبرز الآن، على ساحة الاقتصاد الأخضر العالمي، والذي تكمن أهميته بأنه عند إحتراق الهيدروجين بالأكسجين، داخل خلية وقود، ينتج طاقة صفرية الكربون، مما ينتج عنه حرق صديق للبيئة، فقضية تغير المناخ، تعتبر من أهم تحديات تحدي القرن الحالي، الذي يواجهه العالم، ولذلك، يمكن أن يشكل الهيدروجين خشبة الخلاص، بكونه حلاً ناجعاً وغير متوقع. فحتى الآن لم يحظ هذا المصدر الجديد للطاقة النظيفة بإهتمام كبير، بالمقارنة مع خيارات أخرى تهدف إلى خفض إنبعاثات غازات الدفيئة، وهي التعبير الذي يُطلق على الإنبعاثات التي تتراكم في الغلاف الجوي، وتحجز حرارة الأرض تحتها، فتتسبب بظاهرة الإحتباس الحراري، من قبيل السيارات المزودة بألواح الشمسية، أو تلك الكهربائية، ولكن هذه الحال تتغير بسرعة. فنجد اليوم أن الأموال، واليد العاملة تتدفق إلى شركات، ومشاريع وبنى تحتية متخصصة في الهيدروجين، وتركز كلها تقريباً على إنتاج إمدادات من الهيدروجين، تطلق مقداراً ضئيلاً أو حتى معدوماً من الكربون، بفضل التقدم السريع على صعيدي التكنولوجيا والسياسات. فمنذ 2020 أعلنت الشركات المطورة لتقنيات الطاقة، إطلاق ما يزيد على 150 مشروعاً جديداً لإنتاج الهيدروجين، وباتت تتجاوز الآن 250 غيغاواط/ ساعة، من إنتاج الطاقة الجديدة، أي حوالي عشرة أضعاف الطاقة المتجددة، التي أنتجتها الصين العام الماضي، وثلاثة أضعاف إضافات الطاقة المتجددة حول العالم بأسره(7).
وفي أقل تقدير إلى اليوم، هندس 35 بلداً حول العالم إستراتيجيات رسمية محددة بشأن الهيدروجين، مثل كندا وتشيلي وألمانيا والهند واليابان، وهولندا وقطر والمملكة العربية السعودية، ودولة قطر والمملكة المتحدة. إذ ترى تلك البلدان أن الهيدروجين النظيف عامل ضروري في التصدي لأزمة تغير المناخ، وفرصة هائلة بالنسبة إلى القدرة التنافسية التجارية.
وحتى وقت قريب تمَّ إستخدام الهيدروجين بشكل رئيسي في صناعة الأمونيا، وأنواع الوقود المكرَّر، مثل الغازولين والديزل، ووقود الطائرات النفاثة، ويأتي معظم هذا الهيدروجين من عمليات تستخدم الوقود الأحفوري، ومن دون إعتماد أي تدابير لخفض الانبعاثات، فتضيف 500 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي سنوياً، أو نحو 1% من مختلف إنبعاثات غازات الإحتباس الحراري العالمية. ولذلك تتجه الأنظار، نحو الإستثمار اليوم في إستخدام الهيدروجين كوقود قائم بحد ذاته، أو في صنع وقود جديد نظيف يراعي البيئة. فبدلاً من اللجوء إلى عمليات قديمة تضخ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ينصب التركيز على صنع الهيدروجين “الأخضر” green hydrogen. وتأتي هذه التسمية، من أن عملية استخراج هذا النوع من الهيدروجين، تستخدم الكهرباء النظيفة، المتولدة من طاقة الشمس، أو الرياح أو الماء، أو الطاقة النووية، بدلاً من الوقود الأحفوري. وتستخدم تلك الطاقة النظيفة لتقسيم الماء إلى مكونيه الأساسيين: أي الهيدروجين والأوكسجين، ولا يتطلب أية عملية إحراق وقود، ويحتوي على قليل من الأجزاء المتحركة، ويؤدي الاستثمار في هذه التقنيات إلى وضع الهيدروجين الأخضر في مركز الصدارة، بالنسبة إلى الإنتاج المستقبلي للوقود النظيف، المتاح على نطاق واسع.
قد بدأت تتزايد مطلع القرن الواحد والعشرين، وزادت خلال السنوات الأخيرة، الإهتمامات المتزايدة في قضية المناخ، وكأنّ العالم يستيقظ فجأة، ليعقد العزم ويسارع في الخطى لإصلاح ما خربته وأفسدته، عن قصد أو غير قصد، الدول الصناعية الكبرى، بعد أكثر من قرن ونصف القرن، من الصناعات المدمرة للبيئة، والمترافقة مع زيادة الانبعاثات الملوثة والنفايات الخطيرة، وكذلك إزالة الغابات التي كانت تمثل رئة الأرض، والتوسع في الزراعة عبر الإفراط في إستخدام الأسمدة والمبيدات، ومعه الصيد البحري والبري، دون ضوابط قانونية، ودون مراعاة التنوع البيئي، حيث أدَّت تلك الإستخدامات في معظم الدول المتقدمة، إلى إرتفاع كميات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، لمستويات قياسية، لم تشهدها منذ أزمنة العصور الغابرة، وفقاً لتقرير حديث صادر عن منظمة الأمم المتحدة.
فتأثيرات المناخ، والعَبَث مع روح الطبيعة المنتجة لكلِّ ما يُمكن أن يتمتَّع به الإنسان، هدد بتأثيراته السلبية البيئة، والمناخ على نطاق واسع، وأدَّى إلى تراجع الإنتاج الغذائي، فبات ينذر بالمجاعات، وتداعيات الفيضانات الكارثية، بسبب إرتفاع منسوب مياه البحار. وستكون لها تأثيرات سلبية، وأعباء مضافة أخطر على قضايا التنمية، خصوصاً الدول النامية، بحال لم يتمّ إتخاذ الإجراءات السريعة والمناسبة.
ونتيجة لهذه التداعيات، حذَّر تقرير صدر حديثًاً عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، وشركائها عن حالة المناخ في إفريقيا 2020، من أنه بحلول عام 2030، سيتعرض ما يصل إلى 118 مليون مواطن إفريقي، إلى مخاطر الفقر، جراء الجفاف والفيضانات، وارتفاع درجة الحرارة، وهذا بدوره ستكون له إنعكاسات سلبية، وسيؤثر عكسياً على جهود التخفيف من حدة الفقر، ودفع النمو الاقتصادي، مما يعود من جديد ويوسع من رقعة الفقر.
بالإضافة لذلك فإن التقديرات تؤكِّد، بأن الإستثمار، الذي سيضخ من أجل التكيّف مع ظروف المناخ في إفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، سيتراوح بين 30 إلى 50 مليار دولار، كل عام على مدى العقد المقبل، أو ما يقرب من 2 إلى 3 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ويبني أصحاب القرار، والنُّخب في الدول النامية والفقيرة، ومنها الدول الإفريقية، الآمال على الوعود المقدمة من الدول الغنية، والمؤسسات الدولية، بتوفير تمويلات بنحو 100 مليار دولار سنوياً، من أجل المساهمة في جهود التكيّف، والحلول البديلة لتحقيق التنمية المستدامة، ومنها التنمية البيئية ومكافحة التغيرات المناخية.
إنها حقاً صورة قاتمة لتداعيات تغيّر المناخ، خاصة على الدول النامية والفقيرة، حيث من المتوقع و/أو التعويل على أن يكون مؤتمر الأمم المتحدة، في شرم الشيخ، نوفمبر المقبل، بمنزلة الوقفة الحاسمة لدفع محادثات المناخ العالمية، وبذل الجهود للمزيد من العمل الجاد، وتوفير فرص حقيقية للنظر في آثار تغيّر المناخ، وكذلك تبني الحلول الناجعة، لإنقاذ الأجيال المقبلة من تلك التداعيات الخطيرة، التي تهدِّد صحتهم وحياتهم، وفرصهم في التنمية المستدامة.
فالعالم اليوم أمام حدوث إثنين من السياناريوهات في تغيُّر المناخ:
السيناريو الأول: يستند إلى إمكانية تخفيف بعض دول العالم، إستخدام النفط والغاز والفحم في السنوات القادمة، من أجل تقليل الانبعاثات المُتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، وذلك في إطار المساعي العالمية المُتسارعة للتعامل مع التداعيات السلبية لأزمة تغير المناخ.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على أنَّ استمرار أزمة التغير المناخي في العالم، وتواصل إرتفاع درجات الحرارة العالمية، سوف يجعل الحياة صعبة في بعض الدول، نتيجة زيادة الجفاف والتصحُّر، وغيرها من التداعيات السلبية، طبقاً لتقييمات بعض المنظمات الدولية المعنية بظاهرة الاحتباس الحراري.
ولذلك أعلنت الصين، وهي ثاني أكبر مصدر للإنبعاثات في العالم بعد الولايات المتحدة، عن هدفها للوصول إلى الحياد الكربوني، “أي التوازن ما بين انبعاثات غازات الإحتباس الحراري، المُتسببة في إرتفاع درجة حرارة الأرض، التي ينتهي بها المطاف إلى الغلاف الجوي، وبين تلك التي تتم إزالتها من الأرض” في عام 2060، وكذلك تعهد الاتحاد الأوروبي بالحياد الكربوني في عام 2050.
وإذا ما تمَّ جدياً الإلتزام المُماثل من إدارة الولايات المتحدة الأميركية بذلك، لتحقيق الحياد الكربوني مع حلول منتصف القرن الحالي، فيكون أكثر من 70% من الاقتصاد العالمي، قد تبنَّى الحياد الكربوني، كهدف قريب له، وهو ما يجعل حدَّ الاحتباس الحراري البالغ 1.5 درجة مئوية، لإتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي قابلاً للتنفيذ.
أما في منطقة الخليج العربي، الغنية بالمصادر الهيدروكربونية، فقد بذلت دول وشركات المنطقة جهوداً كبيرة، وكذلك حرصت على مواكبة الجهود المُتسارعة، لمواجهة أزمة تغير المناخ في العالم، فقدمت الدول الأعضاء في مجلس التعاون، لدول الخليج العربي عام 2021، بموجب إتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي، والتي تمَّ التوصل إليها في عام 2015، خططاً جديدة محدثة وتطويرية، متوسطة الأجل للتغيُّر المناخي، كمساهمات تم إقرارها وطنياً داخل هذه الدول، بالإضافة إلى تعهُّد أكبر شركة مُنتجة للنفط في العالم، وهي “أرامكو” السعودية، عن طموح الحياد الكربوني بحلول منتصف القرن الحالي، لتصدر “قطر للطاقة” شحنة غاز طبيعي مُسال خالية من الكربون إلى سنغافورة، وستدمج تكنولوجيا إحتجاز الكربون في خططها التوسعية، حيث إنضمَّت مؤخراً لمبادرة ما يسمى “إستهداف الإنبعاثات الصفرية لغاز الميثان”.
فهناك إستراتيجية ذات وجهين لا بدَّ من إعتمادها، وتعمل بها الدول المُصدرة للهيدروكربونات، تتعلَّق في الدعوة إلى خفض الإنبعاثات، من غازات الإحتباس الحراري، من خلال إستخدام التقنيات الجديدة، مثل إلتقاط وتخزين الكربون، وإنتاج الهيدروجين الأخضر، كذلك مع العمل بنفس الوقت، على زيادة القدرات الإنتاجية للنفط والغاز لتلبية الطلب العالمي، والحد من تقلبات الأسعار، والاختناقات في الإمدادات، فالتركيز على مواجهة تغير المناخ، من دون التركيز على أمن الطاقة، قد يدفع المزيد من الدول إلى الفحم، وهو أكثر مصادر الطاقة تلويثاً، ويؤدي أيضاً إلى حرمان السكان الأفقر، في كثير من دول العالم من الوصول إلى الطاقة، وهذا بدوره يساعد في تحفيز الإستثمارات المطلوبة، لتشجيع مشروعات الطاقة النظيفة في العالم، وطرح المبادرات مثل تسريع نشر الطاقة المتجددة، وإلتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه (CCUS)، وتقليل كثافة إنبعاثات الكربون من الوقود الهيدروكربوني، وإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر وغيرها.
وهذا بدوره سيعزز من أمن الطاقة العالمي، ويدعم إستقرار الأسواق، جنباً إلى جنب، مع إلتزام دول الخليج بالأجندة الدولية لتقليص الإنبعاثات الكربونية، ومواكبة الجهود الدولية للتعامل مع قضية تغير المناخ.
الإيكولوجيا والحداثة الديمقراطية
الحفاظ على التنوع البيولوجي، صار ضرورة محتمة، للحفاظ على التوازن البيئي، فالنباتات والحيوانات تلعب أدوارًا حيوية في النظم البيئية، وتدهور التنوع البيولوجي يُمكن أن يُؤدي إلى إنهيار هذه النظم، كما وأن التلوث البيئي، يُمكن أن يُؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، كالأمراض التنفسية والسرطان، فتحسين جودة البيئة يُساعد في تقليل معدلات الأمراض، وتحسين الصحة العامة، وعليه فإن قضية التغير المناخي، والإحتباس الحراري، تُؤثران على البيئة العالمية بطرق متعددة، مثل ذوبان الجليد القطبي، وإرتفاع مستويات البحار، وزيادة وتيرة وشدة الكوارث الطبيعية، ومع تطور الحداثة وأنظمة التقنيات لا بدَّ من سرد سياقات الحفاظ على البيئة كمشروع مستدام وغرث كبير للبشرية جمعاء من خلال الحفاظ على الموارد الطبيعية البيئة، التي توفر الموارد الضرورية مثل الماء، الهواء النقي، التربة الخصبة، والمعادن، وأن عملية إستخدام هذه الموارد بطريقة مستدامة ضرورية لضمان توافرها للأجيال.
هذا الحفاظ على البيئة الإيكولوجية يوفر البيئة الصحية، التي تدعم الإقتصاد من خلال السياحة البيئية، الزراعة المستدامة، حيث أن تدهور البيئة يُمكن أن يُؤدي إلى خسائر إقتصادية كبيرة، مع ضرورة أن تتوفرالعدالة البيئية، مع ضمان أن يتمتَّع الجميع ببيئة صحية ومستدامة، مع ضرورة الحفاظ والعمل على تنشيط وتفعيل التنمية المستدامة بما تتطلب مراعاة للجوانب البيئية في التنخطيط والتنمية والحفاظ على البيئة هو جزء أساسي من تحقيق التنمية المستدامة، حيث تتطلب القضية الإيكولوجية تعاونًا عالميًا وجهوداً مشتركة من الحكومات، ومن المنظمات غير الحكومية، والشركات والأفراد للحفاظ على البيئة وضمان مستقبل مُستدام للأجيال القادمة.
لقد عقد الكثير من المؤاتمرات الدولية، نتيجة الحاجة المُلحة للنظر ومناقشة القضايا البيئية والمناخ والطبيعية لإيجاد حلول لها، ولقد قدم المناضل عبدالله أوجالان، قضية الإيكولوجيا الإجتماعية بطريقة مثلى وأعطاها الأولوية، وهي قضية بدأت مع ظهور الحضارة، ، معتبراً أن جذور الحضارة موجودة حيثما نجد بدايات تدمير البيئة الطبيعية، فقد كان المجتمع الطبيعي في جوهره مجتمعاً آيكولوجيا، موضحاً إن القوى التي تُدمر المجتمع من الداخل هي ذات القوى التي تتسبب في قطع الصلة مع الطبيعة الرأسمالية، وإستطرد بالدعوة الى ثورة أخلاقية مميزة وبذل جهد أخلاقي واع، وتعزيز أخلاقيات إجتماعية جديدة تكون في وئام مع القيم التقليدية، وقد إعتبر تحرير المرأة أمرا أساسياً،كما دعا إلى إقامة مجتمع ديمقراطي آيكولوجي قاصداً من خلاله بذلك منظومة تقوم على الأخلاق المنطوية على علاقات جدلية مستدامة مع الطبيعة،حيث يتم تحقيق الرفاه العام عن طريق الديمقراطية المباشرة.
قدم أوجلان رؤية متقدمة وشاملة حول القضية الإيكولوجية، عبر نضاله من أجل الحرية والعدالة الإجتماعية التي آمن، وربط بشكل وثيق بين تحرير الإنسان وحماية البيئة، وإعتبر أن الأزمة البيئية، هي جزء من الأزمة الإجتماعية والسياسية الأوسع التي تواجهها البشرية، فيقول في معرض كتابه مانيفستو الحضارة الديمقراطية في الجزء الثالث منه: “لقد تَوَخَّيتُ الدقةَ في تناوُلِ قضايا ومهامِّ إعادةِ هيكلةِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ بمنوالٍ تحليليٍّ قائمٍ على الحلّ، أي تأسيساً على النظريِّ والعمليّ، أما تحليلاتُ النظامِ والمدنيةِ العالَميَّين، فإنتقدتُها من حيث أنها تفسيراتٌ مرتكزةٌ إلى سياقٍ أحاديِّ الجانبِ كالطَّوقِ المُغلَق. وسعيتُ لتحليلِ وإبرازِ الإنسانِ من حيث كونه سيَعيشُ ماهياتِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ للطبيعةِ الاجتماعية على الدوام، وأنه مُرغَمٌ على عيشِها، ولا يستطيعُ الاستغناءَ عنها ما دامَ موجوداً، وأنه في حالِ تَخَلِّيه عنها، فسوف يعني ذلك تَشَتُّتَ المجتمعَ وتناثُرَه، أردتُ إثباتَ أنه رغم مُحاصرةِ أجهزةِ رأسِ المالِ والسلطةِ للمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ على مرِّ تاريخِ المدنية، ورغمَ مساعيها في تعريضِه إلى الإفناءِ وتَركِه يعاني التبعثرَ والتفسخَ البليغَين، إلا إنّ المجتمعاتِ تَجِدُ لنَفسِها سبيلاً للمثابرةِ على صَونِ ماهياتِها الأخلاقيةِ والسياسية، وتسعى للردِّ على تلك القوى أو تظلُّ سائرةً على دربِ المقاوَمة. كما حلَّلتُ بشكلٍ شاملٍ انتشارَ أجهزةِ رأسِ المالِ والسلطةِ التابعةِ للحداثةِ الرأسماليةِ وتَغَلغُلَها حتى أدقِّ مساماتِ المجتمعِ مُطَوِّقَةً إياه (عبر الدولةِ القومية، الصناعوية، وبالأخص الوسائل الإعلامية، الأيديولوجية التوفيقية المتمفصلة، التشكيلات والأجهزة الأمنية، الاستعمار من الداخل، والضغط المُفرط على المرأة، وما شابَهَ من عوامل).(8)
لقد قدم أوجلان نقدًا شاملًا للتحولات البيئية والإجتماعية والإقتصادية، في ظل الرأسمالية وعولمة رأس المال، كما قدم رؤيته بتسبب التطورات الصناعية والإقتصادية في تدهور البيئة وزيادة إنتشار الفوضى الإجتماعية والإقتصادية، حيث أن مشكلات البيئة قد ظهرت نتيجة مركزية الإنسان، الذي إعتبر نفسه مركز الكون، وبإعتباره يمتلك العقل الذي جعل منه سيداً على الطبيعة، فقام بإستغلال كل شيء لمصلحته الخاصة، الأرض وما عليها والبحار وما فيها، ومن أجل حل هذه المشكلة، يجب معرفة أن الإنسان لا يمتلك حق الإصطفاء على باقي المكونات، بل يُشكل معهم حياة ندية على هذا الكوكب.
التطور الطبيعي الذي دام ملايين السنين، قد تضرر بشكل كبير خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة، وخصوصاً خلال المئتي عامٍ الأخيرة، وهذا أدَّى هذا إلى إقتطاع آلاف الحلقات من سلسلة التطور الطبيعي، كذلك التلوث الناجم عن الغازات المنتشرة في الغلاف الجوي، قد يستمر تأثيره لمئات بل آلاف السنين المقبلة، بالإضافة الى تلوث البحار والأنهار والتصحُّر، التي بلغت مستويات كارثية، والذي أدى إلى تهديد النظام البيئي بشكل شامل، وكل ذلك نتيجة النشاط المفرط للنظام الرأسمالي على المجتمع في إتجاهات عديدة، من خلال عولمة رأس المال والنظام المالي، المعتمد على تنشيط وتحقيق الربح ولو بأسلوب القمار والمراهنات، فهذا النظام أدَّى إلى تبعثر البُنى الرأسمالية، وإلى إنهيار المؤسسات القومية، مما زاد في معدل الأزمات والصراعات الإثنية والدينية.
وهذه الفوضى الرأسمالية اللاهثة وراء الربحية الدائمة، أدَّت الى جملة من المشاكل، فقد عزَّزت البطالة والفوضى الإجتماعية، وهو ما كشف عن طبيعة الأزمة المعاشة التي أوصلت إلى إفلاس المجتمع، فالنظام الرأسمالي يعمل على زيادة هائلة في العرض الإنتاجي، ليخلق فوضى إقتصادية، حيث يُعاني جزء من السكان من الفقر المدقع، في حين يتكدَّس الفائض الإنتاجي بلا إستخدام.
إن الرأسمالية تُشجع على زيادة السكان كمصدر للقوى العاملة الرخيصة، وهو ما يؤدي إلى تضخُّم سكاني، ينتج عنه تفاقم الفوضى الإجتماعية والبيئية، كما يؤدي إلى تدمير بنية الأسرة، حيث تتزايد حالات الطلاق وتضعف العلاقات الأسرية، ممَّا يُعزز من هذه الفوضى الإجتماعية، وأن عولمة رأس المال وتأثيرهما السلبي على البيئة والمجتمع، هي نتائج مباشرة للنظام الرأسمالي، وأن الحل يكمن في إعادة النظر في هذا النظام، والبحث عن بدائل أكثر عدالة وإستدامة، تعزيز العدالة الإجتماعية والوعْي البيئي، والتعليم المستدام لتحقيق التوازن بين الإنسان والطبيعة.
أخيراً.. في الحفاظ على الإيكولوجيا وبناء مشروع الإستدامة
هناك مهام تقع على عاتق صناع السياسات والنُّخب، الباحثين في المناخ والتغيير الإيكولوجي حول العالم، للنظر إلى الأسباب التي تقف عائقاً، ولا تجعل المجتمعات كتفاعلة ومستجيبة للتخفيف من أزمة المناخ بحيث يمكن إيجازها بالتتالي:
الأولى، منها ما يتعلق بإستراتيجية سيكولوجية، تعتمد في إدراك وجود مشكلة، ولكن ننتظر من الآخرين حلها، فما يجب القيام به واضحٌ للغاية، وهو منع غازات الدفيئة من إحتلال الغلاف الجوي، ومع ذلك فإن التقدم يتحرك بوتيرة بطيئة للغاية، وقد مرت ثلاثة عقود بعد تقارير الهيئة الحكومية الدولية، المعنية بتغير المناخ، والتعهدات التي تعهد بها المجتمع الدولي بالعمل من خلال إتفاقيات باريس للمناخ، من دون أن تتمتع بسلطات قانونية للتنفيذ والتطبيق.
ثانياً، إن من الأسباب التي تجعل الأشخاص لا يدركون خطورة تغيُّر المناخ، هو أن العقل البشري يركّز على الحاضر من توفير الطعام والسكن والوظيفة، أما المستقبل وجعله ملموساً وضرورة أن نخفض إنبعاثات الكربون العالمية فيها إلى النصف في غضون الـ 12 عامًا القادمة لمنع حدوث دمار خطير، فيظل أحد الحواجز النفسية، التي جعلت تغير المناخ مشكلة بعيدة المنال، حيث يقلِّل الناس من أهمية تغيُّر المناخ، لأن مخاطره لا تبدو فورية أو قريبة، ومن الواضح هنا، أن الطريقة التي عاش بها العالم حتى الآن، لا يمكن أن تظل كما هي لفترة أطول، إذ يتعين على العديد من جوانب الحياة أن تتغير بشكل أساسي، من أجل التخفيف والتكيُّف مع تأثيرات النظم الطبيعية غير المستقرة، لأنه في نهاية المطاف تهدد الأزمة البيئية إستمرار الوجود البشري وفي كل مناحي الحياة.
وأخيرًا، يُعَد التكيُّف مع تغيُّر المناخ والتعامل معه، عملية مستمرة ودائمة التبدُّل، كما تتطلب الإستجابة لأزمات المناخ، تغييرات سريعة في المعتقدات وفي المواقف والسلوك، ويتضمَّن ذلك قبول المسؤولية الخاصة للعمل على حماية الكوكب، وتغيير أنماط الحياة، لتقليل ما يمكن تسميته بــ”البصمة الكربونية”، وبناء الإعتقاد بأن الأشخاص المتكاتفين معاً يمكنهم إحداث التغيير، والإعتراف بالترابط مع الطبيعة، وإتخاذ خطوات نشِطة، من أجل العمل على الحد من تفاقم التغيرات المناخية.
وعليه، هنا يُستحسن ربط المدينة بالقرية ربطاً وثيقاً ومحكماً، والعمل على تطوير الأخلاق والمعرفة والتوازن، بين الذكاء التحليلي والذكاء العاطفي، وتحقيق التكافل الإجتماعي على كافة الإتجاهات والمستويات، ومشاركة المرأة في كل مجالات الحياة، وإعطاء كل جهد حقه ومعناه، دون إستغلال بناء نظام الجمعيات والكومينات، وكذلك العمل على إعتماد مبدأ أن يكون الكل من أجل الفرد، والفرد من أجل الكل، مع إستخدام التقنية المتناغمة مع البيئة الطبيعية والاجتماعية، والسعي إلى توليد إقتصاد منتج، يُولِّد الفرد الحر والمجتمع الحر، وإعتماد سياسة الإكثار من زراعة الأشجار، للوقوف في وجه التصحُّر.
إن القضية الإيكولوجية تتجاوز الحماية البيئية التقليدية، حيث يجب أن تشمل إعادة هيكلة شاملة للنظام الإجتماعي والإقتصادي، من خلال الربط بين العدالة الإجتماعية والإستدامة البيئية، كما تُمثل القضايا الإيكولوجية تحديات كبيرة، تُهدد إستدامة البيئة وصحة المجتمعات، من التغيير المناخي إلى التلوث والتدهور البيئي، فقد أصبحت هذه القضايا محوراً أساسياً مقلق عالمياً، لكن مع كل هذه التحدِّيات، هناك فرص هائلة للتغيير الإيجابي من خلال تبنِّي وإنتهاج ممارسات مستدامة، في تعزيز الوعْي البيئي، وفي دعم السياسات التي تحمي الطبيعة.
ولمواجهة هذه التحديات، من الضروري تعزيز الوعي البيئي، والعمل على التقليل من الإنبعاثات الضارة، بإستخدام مصادر الطاقة المتجددة، والحدّ من إستخدام الوقود الأحفوري، وكذلك ضرورة حماية التنوع البيولوجي من خلال إنشاء محميات طبيعية، وتشجيع الممارسات الزراعية المستدامة، والحدّ من تقليل النفايات، عن طريق تعزيز إعادة التدوير، وتقليل إستهلاك المواد البلاستيكية، كذلك تفعيل التعليم البيئي، ونشْر الوعْي حول أهمية الحفاظ على البيئة بين جميع فئات المجتمع، وهنا لا بدَّ للمجتمعات البشرية أن تدرك، بأن الحفاظ على البيئة ليس خياراً فقط، بل ضرورة حتمية، لضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة، وإذا لم تُتخذ خطوات جادة الآن، فإن ردود أفعال الطبيعة قد تكون قاسية ومدمرة على كل سكان المعمورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1-عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة المجلد الرابع، قضية المدينة والبيئة، صفحة 52
2-عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الرابع،عصر الانتقال من دولة المدينة إلى الدولة القومية:تجربة أمستردام – هولندا، صفحة 155.ــ
3-عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الثالث/صفحة 129.
4-نسرين الشرقاوي، تغير المناخ، التداعيات السيكولوجية لتغير المناخ (2): نظرة معمقة على الأبعاد النفسية والاجتماعية،المرصد المصري، الموقع الإلكتروني: https://marsad.ecss.com.eg/69879/
المراجع:
5-رحمة ضياء، صحيفة الشرق/1/نوفمبر 2021،القاهرة/مصر.
6- https://www.un.org/ar/climatechange/why-2022-will-matter-climate-action الأمم المتحدة، أهمية عام 2022 للعمل المناخي.
7-تشن جيون، صحيفة الصين اليوم،4/11/2021.
7-عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الثالث/صفحة 362و363.
8-د. سحر حسن أحمد،القضايا الإيكولوجية والبيئية وتأثيراتها في المجتمعات،الموقع الإلكتروني: https://www.atoonra.com/2024/08/25/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%83%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D8%B1/
9- أحمد دالى، الإيكولوجيا النشأة والدوافع والمبادئ – القوة القانونية والأخلاقية، مجلة الشرق الأوسط الديمقراطى ، عدد مارس 2022م.
10-دينا إبراهيم حسن، أولوية الأجندة البيئية من منظور العدالة والديمقراطية ، مجلة السياسة الدولية ،https://www.siyassa.org.eg/News/18428.aspx
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ