متابعات

نداء السلام والمجتمع الديمقراطي ..  رؤية لتحولات النضال المجتمعي

تحليل: د. سحر حسن أحمد

في عالمٍ يضجُّ بالصراعات، وتتشابك فيه الهويات والحدود، يبرز “نداء السلام والمجتمع الديمقراطي” كأملٍ إنساني يتجاوز ركام الحروب وتاريخ الدم والإبادات وأدوات الهيمنة. وبين شعوبٍ لا تزال تنشد الاعتراف والكرامة والذاتانية، تبدو القضية الكردية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإلحاحًا، إذ تمتد جذورها في عمق الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، وتُلامس حلم أمة حرة مزّقها الغياب القسري عن خريطة الدول ومنعهم من الحياة بخصوصيتهم ولغتهم. بيد أن تلك القضية تدخل مرحلة تاريخية جديدة فى ظل تغيرات سياسية وإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط، لكن هل يُمكن لهذا الحلم أن يتحقق في ظل العنف والشدة؟ وهل يُشكّل بناء مجتمع ديمقراطي الطريق الآمن نحو تسوية عادلة

سوف نستعرض فى هذا المقال ملامح نداء السلام والمجتمع الديمقراطي الذى طرحه المفكر والزعيم عبد الله أوجلان، المميزة بالتشاركية وأخوة الشعوب كبديل للأحادية والإنكار والإبادة، والانتقال إلى البنية القانونية والسياسية من بنية العنف والشدة، مع محاولة ثبر غور العلاقة الوثيقة بين الحرية والديمقراطية والسلام، ومحاولة استكشاف إمكانيات الحل في ظل واقع إقليمي مضطرب ومتغير وسعي متجدد نحو السلام والحل الديمقراطي وإعادة العلاقات التاريخية بين الشعوب.

تمتد جذور القضية الكردية في تركيا إلى تقسيم الكرد وكردستان بين أربعة دول وتأسيس الجمهورية التركية القومية عام 1923م، حيث تم تبني سياسات قومية متشددة تنكرت للهوية الكردية وحاولت صهرها في البوتقة التركية. على مدى قرن من الزمان، وقد شهدت العلاقة بين الدولة التركية والكرد تقلبات وانتفاضات وصلت ذروتها مع تأسيس حزب العمال(PKK) عام 1978 م بقيادة عبد الله أوجلان، الذي تحول إلى حركة مقاومة متنوعة عام 1984 م للمطالبة بحقوق الكرد والاعتراف بوجودهم .

في 27 شباط / فبراير 2025 م، أطلق أوجلان من سجنه في جزيرة إمرالي نداءً تاريخياً بعنوان ” نداء السلام والمجتمع الديمقراطي”،  دعا فيه إلى ” تحول أرضية العنف والشدة إلى الأرضية القانونية والسياسية واحترام الهويات” وتحقيق تحول في الأدوات والبنية والهيكلية النضالية، تحت عنوان “دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي”. جاء هذا النداء تتويجاً لتراكم نضالي منذ عام 1993م ولمسار استمر أشهراً، بدأ بمبادرة من دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية المتشدد وحليف الرئيس أردوغان. ومن يقرأ مجلدات أوجلان الخمسة يعرف مايعنيه أوجلان من المجتمع الديمقراطي الذي يتجاوز العرق والدين والمذهب إلى إرادة وذهنية مشتركة لتكوين الأمة الديمقراطية بديل الدولة القومية الأحادية التابعة لنظام الهيمنة العالمي.

الرمزية والسياق التاريخي

لا يُمكن فصل هذا النداء عن السياق التاريخي لنضال الحركة الثورية الكردية وفكر أوجلان كامتداد لهذه المسيرة التاريخية نحو الحياة الحرة والتشاركية بريادة المرأة والشباب، واستلهام لروح المقاومة والأخوة والتشارك الذي جسدها شهداء مثل مظلوم دوغان وحقي قرار، والبناء عليها لتكون القيمة الإنسانية والأخلاقية مرتبطة بالأبعاد السياسية والاجتماعية؛ فيأتي نداءه تتويجاً لمقاومته وتجديده الفكري والسياسي ورؤيته للمستقبل، والتي أفشلت أهداف “المؤامرة الدولية” التي أدت لاعتقاله.

الأسس الفكرية للنداء

تميز نداء أوجلان الأخير بكونه نتاج مسيرة نضالية تمتد لـ 52 عاماً يتخللها إدراكاً عميقاً للسياق والتطورات الإقليمية والدولية، كما لوحظ من خلال الصور التي تم تداولها للسيد عبدالله أوجلان أثناء إطلاق الدعوة، بأنها إشارة إلى توحيد الرأي والرؤية بين الأجيال والتكوينات المختلفة للحركة النضالية الكردية والتركية الساعية للحرية والديمقراطية وبذلك للسلام المنشود .

وقد ركز النص على تحليل التحولات الجيوسياسية منذ تأسيس حزب العمال الذى تم في سياق عالمي اتسم بالحرب الباردة وصعود الحركات اليسارية المسلحة، وهو ما شكّل أرضية خصبة لنشوء حركات احتجاجية. إلا أن هذا السياق تغيّر جذريًا منذ تسعينيات القرن الماضي بانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، مما جعل الحزب يُعلن أن زمن الكفاح المسلح قد انتهى.

ركائز النداء

شكل النداء مراجعة فكرية أوجلانية شاملة ، حيث تجاوز الأطر التقليدية للفكر وللنضال ومشاريع الحل. وطرح مفهوم “المجتمع الديمقراطي” كفلسفة للحياة الحرة وإطار لحل القضية وتحقيق الديمقراطية والحرية، معتبراً أن احترام الهويات وحرية التفكير والتنظيم ممكنة في هذا الإطار .

كما أكد أوجلان أن إلقاء السلاح ليس نتيجة هزيمة عسكرية، بل قرار ذاتي يجب اتخاذه في مؤتمر عام للحزب، داعياً إلى إجراء التحول المطلوب. كما شدد على العلاقات التاريخية بين الشعبين الكردي والتركي التي تمتد لألف عام، واصفاً إياها باتحاد طوعي لمواجهة قوى الهيمنة.  

 فالدعوة ليست بجديدة، لا على مستوى الدعوات للسلام ولا على مستوى الحلّ الذي يقدمه أوجلان في مسيرته وفي فلسفته وكتبه “مانيفستو الحضارة الديمقراطية”، والذي أورده في تنظير جديد ومثير لتطوير الفكر الاشتراكي والإنساني على عدة مستويات تبدأ أصولاً من حلّ المجتمع الديمقراطي وصولاً إلى الأمة الديمقراطية بريادة وحضور المرأة، والذي قد لا يكون جذاباً جداً للتيارات القومية أو الدينية السياسية في المنطقة، فيما يراه أوجلان السبيل الأمثل لوضع حل نهائي للقضية الكردية وللقضايا الشبيهة لها في العالم وتحقيق الديمقراطية.

 الموقف الكردى

استقبلت الأوساط الكردية النداء بحماس وحذر في آن واحد؛ حيث تابع الآلاف قراءة نص أوجلان باللغتين الكردية والتركية. وعبر قادة حزب الشعوب الديمقراطي عن “تفاؤلهم الكبير بهذه الفرصة النادرة” لحل القضية الكردية. كما تم ملاحظة وجود إجماع كردستاني من إقليم كردستان العراق إلى كرد سوريا وإيران والمهجر على دعم ومساندة نداء أوجلان، لأن الشعب الكردي والقوى الكردية تعلم علم اليقين أن الإرادة والفكر الأوجلاني قادر على تحقيق المكتسبات والإنجازات للشعب الكردي حتى في أصعب الظروف، ومن يعرف كيف حول أوجلان المؤامرة الدولية ضده وضد الشعب إلى فرصة لبناء جديد وتوسيع الجماهيرية الأوجلانية والعلاقات الدولية يدرك حقيقة فكر أوجلان واستراتيجية تحركاته والتفاف حزب العمال الكردستاني والشعب الكردي حوله، ناهيك عن كثير من الأحرار حول العالم الذين يرون في أوجلان وفلسفته بريق أمل في ظل العصر الرأسمالي.

كما أعلن قادة حزب العمال الكردستاني(PKK) استعدادهم للتجاوب مع توجيهات النداء، وأضافوا أن نجاح العملية يتوقف على حرية أوجلان وقيامه بقيادة العملية وأن نجاح النداء يتطلب مساهمة حاسمة وخطوات وقرارات مهمة من الجانب التركي. وأعلن الحزب وقف إطلاق النار في بداية شهر مارس/آذار تلبية لمتطلبات النداء.

وعقد حزب PKK مؤتمره 12 في الفترة مابين 5 و7  مايو/أيار الجاري في مناطق الدفاع المشروع في إقليم كردستان العراق بمكانيين وفق ما تم البيان حوله وبمشاركة عبر أدوات تقنية من زعيم الحزب، وتم اتخاذ قرارات تاريخية في المؤتمر لم يُعلن عنها بعد حتى إعداد هذا المقال، في ظل ترقب كبير لمخرجات المؤتمر الذي وصف بالتاريخي.

الموقف التركي

أما الجانب التركي ، فرغم اللقاءات بين وفد إمرالي والرئيس التركي وقيادات الأحزاب والحديث الإيجابي من قيادات الدول لكنها تعاملت أحياناً مع الموضوع وفق رؤيتها كفرصة “للتخلص من الإرهاب” دون الاعتراف بوجود مشكلة كردية، وإن تم الحديث عن الاستيعاب والديمقراطية كما ذكر أردوغان وبهجلي في بعض التصريحات، مع تشديد الأخير على “الأخوة التركية-الكردية التي عمرها ألف عام” .

لم تصدر الحكومة التركية أي رد رسمي مفصّل على مبادرة أوجلان، وإن كان هناك تصريحات ينتظر تحويلها لأفعال، بل واصلت حملاتها العسكرية ضد مواقع الحزب في شمال العراق. كما ازدادت في الأشهر السابقة عمليات عزل رؤساء بلديات من حزب الشعوب الديمقراطي وملاحقة شخصيات كردية، في إجراءات وصفت بالاندفاع نحو مزيد من السلطوية، وربما يكون ضمن الدولة التركية، أطراف عديدة بعضها يدفع نحو الحل وبعضها الأخر يدفع نحو استمرار المقاربة العسكرية ورفض عملية السلام.

الموقف الدولى

لقي نداء السلام صدىً كبيراً على المستوى العالمي، حيث رحبت به الأمم المتحدة على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيرس الذي أعتبر النداء بارقة أمل  والعديد من دول المنطقة ومنظمات حقوق الإنسان والقوى الديمقراطية الدولية باعتباره خطوة جادة نحو إنهاء النزاعات وتحقيق التعايش السلمي في منطقة الشرق الأوسط. وقد أسهم في تعزيز الحوار بين المكونات العرقية والسياسية، خاصة في الدول المجاورة مثل سوريا، حيث أسهم في تقوية فكرة الإدارة الذاتية الديمقراطية كنموذج بديل للاستبداد والانقسام، مما أوجد مناخًا أكثر استقرارًا في بعض مناطق شمال سوريا.

المجتمع الديمقراطي

إنّ الركيزة الأهم في فكرة “المجتمع الديمقراطي” هي إتاحة المجال أمام المكونات والثقافات كلها، دون قيود أو اقصاء لأيّ منها في الظهور والنظيم والتعبير عن نفسها، الأمر الذي يتيح المجال أمام التعايش المشترك ومزاولة الحياة الطبيعية في ظروف توفر الأمن والأمان، ووفق بنى سياسية واقتصادية مميزة لها محدداتها الخاصة التشاركية وريادة المرأة ودور الشباب المهم وفق توافق دستوري بين المجتمع والدولة.

يهدف النداء لفتح آفاق التحول الديمقراطي الحقيقي وبناء دستور ديمقراطي. ويُصبح الكرد قوة دافعة ومحرك للتغيير الديمقراطي في عموم تركيا والمنطقة.

نعتقد أن متطلبات تحقيق نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، يمكن أن تتمثل فى وقف التصعيد العسكري من الجانبين مع تشكيل لجنة تركية-كردية برلمانية لمراقبة تنفيذ السلام وإجراء التغيرات القانونية البرلمانية اللازمة للاعتراف بالكيانية الكردية المجتمعية والسياسية. واستعادة حقوق أوجلان للتواصل مع الخارج، والإفراج عنه، حيث ثبت للعالم أن القوة والقمع الممارس من قبل الدول لم يكن أبدًا حلًا للقضايا القومية والحقوقية العادلة. و لعل إجراء تحول دستوري ديمقراطي يضمن التعددية واحترام الهويات وحقوق المرأة، واستخدام اللغة الكردية إلى جانب اللغة التركية.

التسوية الكردية:

هناك بعض العوامل التى تدفع تركيا إلى ضرورة التسوية الكردية لعل على رأسها المشهد السياسي فى المنطقة والتغيرات الإقليمية، والدور الذى تلعبه إسرائيل فى المنطقة، مزاحماً بذلك الدور التركي الذي بدأ يحجم والخوف التركي من أن يكون قطار التغيير الحقيقي وصل لباب تركيا، وعليها أما أن تتغير أو يتم تغيرها كباقي دول المنطقة والشرق الأوسط.

  • التغيرات الإقليمية: بعد سقوط نظام الأسد في سوريا (ديسمبر 2024م) وتغير موازين القوى الإقليمية، شعرت تركيا بضرورة مراجعة حساباتها الداخلية 
  • الدور الإسرائيلي:  رد الفعل على هجوم حماس (7 أكتوبر 2023م) وكشفه عن القوة العسكرية المتفوقة المدعومة غربياً، جعل تركيا تدرك حدود قوتها الإقليمية.
  • السياسة الداخلية: رغبة السلطة الحالية التركية في تعديل الدستور للترشح لولاية جديدة، مما يتطلب دعم الكرد وأرضائهم.
  • إرهاق الحرب:  بعد أربعة عقود من الصراع المسلح (أكثر من 50 ألف قتيل) وإخفاق المحاولات السابقة للسلام منذ 1993 وأخرها عام 2013.

آفاق المستقبل

 إن نداء أوجلان للسلام والمجتمع الديمقراطي لم يكن فقط بيان أو مجرد وثيقة سياسية، بل كان صرخة من عمق التاريخ الكردي، تُعبّر عن إرادة شعب أنهكه الصراع، لكنه لم يفقد بوصلته نحو الحرية والكرامة والعدالة. لقد تحوّل النضال الكردي، الذي طالما ارتبط بالبندقية والجبال، إلى مشروع فكري وفلسفي يسعى إلى إعادة تشكيل المجتمع على أسس الحرية والمساواة والتعددية. وما بين حلم الاستقلال وضغط الجغرافيا، ولد خطاب جديد يُراهن على التغيير من الداخل، لا عبر الانفصال أو التبعية للخارج، بل عبر بناء مجتمع ديمقراطي يضم الجميع. وهكذا، أصبح هذا النداء بمثابة جسر يربط بين الهوية الكردية الخاصة والمجال الإنساني الأوسع، ليؤكد أن السلام ليس غياب الحرب فحسب، بل حضور للتشاركية والاخوة والعدالة واعتراف متبادل في وطن يتّسع للجميع.

في النهاية، قد يكون نداء أوجلان فرصة حقيقية لتحقيق “المجتمع الديمقراطي” لكن الطريق لا يزال طويلاً وشائكاً، وسيتطلب شجاعة سياسية من جميع الأطراف والقوى المجتمعية لتحويل هذه الرؤية إلى أرض الواقع.

بجانب ذلك، لم يعد بالإمكان المُضي في الخطاب السياسي والإعلامي القومي المتشدد من قِبَل النخبة التركية سواءً تجاه أوجلان ومن خلفه حزب العمال الكردستاني أو الشعب الكردي، بل عليها تنفيذ الخطوات العملية وعدم ضياع هذه الفرصة التاريخية للسلام، ونعتقد أن النداء يمثل مرة أخرى خلاص للشعبين الكردي والتركي في ظل ظروف إقليمية ودولية وقوى تستفاد من الحرب وتريد أن يمتد الحرب قرناً أخر بين الشعبين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى