ثقافةدراسات

التحديات في الشرق الأوسط وتأثيرها على سوريا ولبنان

تحليل: د.رائد المصري/أستاذ الفكر السياسي والعلاقات الدولية

تعيش منطقة الشرق الأوسط وخاصة لبنان وسوريا، تطوُّرات وتحولاَّت كبيرة وخطيرة في الإقليم، وهو ما يمكن أن يؤثر على مستقبل البلدين ومكونات الشعوب فيهما برمتها، والتفاعل الحضاري والتلاقح الفكري والثقافي بين الأبناء والأجيال المقبلة، وذلك نتيجة الأحداث الزلزالية التي شهدها عام 2023 و 2024 ،فمن الأهمية بمكان، إدراك حجم هذه التحولات وخطورتها، لناحية تأثيراتها الإستراتيجية والتاريخية، وهي التي كان لها سيولة كبيرة في مدة زمنية قصيرة لا تتعدى عدة أشهر، في حين أن من طبيعة مثل هذه التحوُّلات، عادة، أن تتراكم في فترات زمنية طويلة نسبياً.
إن قواعد اللعبة والتوازنات تتغير وتتطور في الإقليم، أقله منذ سقوط النظام السوري البعثي السابق، وقبلها الحرب الإسرائيلية على لبنان وشعب غزة، فباتت تُطرح الكثير من الأسئلة حول مستقبل الأوضاع لدى دول المنطقة، مع بروز العديد من المخاطر التي تصبُّ في مصلحة التقسيم والتجزيء، من منطلق موقف مجموعة واسعة من المكونات الطائفية والعرقية من السلطة الجديدة في سوريا، ومن التحوُّلات والخناق المحكم على نظام الحكم في لبنان، في ظلِّ بقاء الاحتلال الإسرائيلي في نقاط خمس جنوباً كاحتلال رسمي، وقيامه بتهديدات واغتيالات يومية، وتوغُّل تل أبيب في عمق الجنوب السوري، وإحداث قلاقل وحالات انقسام عامودية بين المكونات الشعبية لكلا البلدين، فكان لا بدَّ من التفهم لهذا الواقع الجديد، ومحاولة طرح الحلول وتوضيح الرؤية، وإظهار حجم المخاطر الكبيرة التي تحوم حول البلدين في لبنان وسوريا، وسُبل العلاج والولوج الى حلول مستدامة تحفظ سيادة الدولة، وتعزز من الكرامة الوطنية لأبناء الشعبين وكل مكوناته في لبنان وسوريا وفي فلسطين والعراق والأردن، وباقي مكونات شعوب المنطقة.
إسرائيل والعزلة
واليوم، يخشى نتنياهو أن يفقِد ما عمل عليه، في تحالف الراغبين بتشكيل ائتلاف أو تحالف إقليمي لمواجهة إيران، وكان مصيره الفشل أيضاً في التطبيع مع المملكة العربية السعودية، من دون أيّ ثمن سياسي يؤدّي إلى حلّ الدولتين في فلسطين، واصطدمت محاولته توسيع نفوذه من البوّابة السورية بالجدار التركي، مع موقف سعودي وعربي حاسم، في مساندة الحكم الجديد في دمشق والحفاظ على وحدة سوريا، فتراجعت المكانة الإسرائيلية لدى واشنطن وتبدى ذلك من زيارة الرئيس ترامب الى المنطقة واستثنائه تل أبيب منها، وبدأ يزداد حجم القلق من الدور الكبير الذي تقوم به السعودية وتركيا، على الصعيدين الإقليمي والدولي، خاصة أن انطلاق المفاوضات الأميركية الإيرانية، قد عزَّز من الخلافات بين ترامب ونتنياهو، ليعاد رسم المشهد الذي بات يسيطر على النقاش بين النُّخب الإسرائيلية، التي تحذر من فقدان تل أبيب لموقعها المؤثّر في سياسات البيت الأبيض والمنطقة…
فمن الواضح أن عملية التنافس على سوريا الجريحة بين تركيا وإسرائيل، هي للتحكم بموقعها الجيوسياسي، وهي عملية بدأت تأخذ أبعاداً في الصراع الإقليمي، حوَّلته تل أبيب ورسمت أطره بالنار، بعد مسارعة تركيا لحسم الإستيلاء على سوريا، بواسطة المعارضة المسلحة وبرضى غربي وقبول عربي، على اعتبار أن ذلك يُرضي إسرائيل عند حلول المعارضة المسلحة في دمشق محلَّ النظام السابق، وطرد إيران وميليشياتها من الأراضي السورية، فسكوتها عن قصف تل أبيب مواقع عسكرية سورية، برَّرها الحكم الجديد في سوريا على أساس أنها أسلحة تعود للنظام البائد، وليست ضمن قدرة وقوة سوريا، في حين عملت إسرائيل على احتلال مواقع إستراتيجية جنوب غربي سوريا، ولم تقف متفرِّجة على توسع نفوذ أنقرة، بل سارعت الى عرض مشروعها لسوريا الجديدة من بوابة نزع السلاح، والعمل على تقسيمها الى دويلات طائفية وعرقية، مستغلّة حصول المجازر في الساحل السوري، على يد فصائل النظام الجديد والقريبة من تركيا، لتعبِّر عن وُجهة نظرها في الوضع القائم، ومستندة الى صمت الدول العربية والغربية، التي آثرت لمْلمة الموضوع بعد إدانات شكلية، وكانت الدول العربية النافذة قد رحَّبت بالحكم الجديد في سوريا، ووجود الشرع والمعارضة المسلحة، التي حلَّت مكان النظام وتخلَّصت من الوجود الإيراني.
التفوق التركي
في سوريا هناك تفوق تركي على إسرائيل، نتيجة تميُّز العلاقة مع أحمد الشرع رئيس سوريا الجديد، عندما كان ينضوي تحت إطار جبهة النصرة، فعملت أنقرة منذ بداية سقوط النظام، على عقد إتفاقيات وحصلت على امتيازات من النظام الجديد في دمشق، لكن سعيها للحصول على إتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع سوريا، تمَّت مواجهته بمعارضة ورفض دولي وأوروبي، فعملت على التغلغل في مفاصل الدولة السورية الجديدة، التي صارت تعتبرها جزءاً من أمنها القومي، ليبقى هاجسها الأساسي في تأسيس الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، والشراكة القائمة بين قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، التي لا زالت تتمسّك بهذه القوات وبمشروعها في تحقيق كيانها الذاتي، وبديهي أن تركيا تعتبر المناطق الشمالية من سوريا جزءاً من أراضيها، إضافة الى مدينة حلب، وكانت تطالب بمنطقة عازلة تقدر ب30 كلم قبل سقوط النظام .
أما إسرائيل، التي بدأت بتثبيت قواعد عسكرية في الجنوب السوري، فهي اعترضت على إقامة قواعد عسكرية تركية، على اعتبار أنه تهديد لأمنها القومي، وسَعَت للضغط على الولايات المتحدة لعدم السماح بذلك، في حين تسعى تركيا للحصول على قاعدة عسكرية في تدمر، تماشياً مع مطالب الحكومة الجديدة، وإمكانية إنشاء قاعدة لأغراض التدريب، في إطار تعزيز قدرات الجيش السوري، وهي تريد إقامة قاعدة جوية في مطار منِّغ العسكري بمحافظة حلب، ونسَّقت وأعلنت رغبتها، الحفاظ على وحدة أراضي سوريا، في بسط الحكومة الجديدة سلطتها على كامل أراضيها، وإرساء الاستقرار والأمن، الذي يُعتبر أمر بالغ الأهمية بالنسبة لأنقرة ، ولذلك تخشى إسرائيل من العلاقة القوية التي تربط تركيا بالشرع، والفصائل الإسلامية المسلحة في إدلب، وهذا ما يدفعها لتشجيع بعض الدول العربية للتمدّد في سوريا، بغية إضعاف النفوذ التركي في سوريا، إلّا أنّ قرب سوريا من تركيا يمنحها الأفضلية بالتمدّد، فيما تبقى إسرائيل تمانع بعدم السماح ببناء قواعد عسكرية في العمق السوري، ولا بإدخال أسلحة إستراتيجية كمنصّات الدفاع الجوي، أو صواريخ باليستية إلى سوريا، ولا بتمدّد أي طرف إقليمي، قد يشكّل تهديداً لها في المستقبل، لذلك تشهد الساحة السورية تنافساً تركياً إسرائيليا، وقصفاً إسرائيلياً مستمراً لقواعد عسكرية ومنشآت ومطارات عسكرية.
في هذا السياق من التحوُّلات السريعة، يكْمن الخطر الأكبر في الدور الإسرائيلي، حيث تسعى تل أبيب إلى تقديم نفسها حامية لكل المكونات في الإقليم، هذه المكونات التي تشعر بالقلق من توجُّهات السلطة الجديدة في سوريا، وما ستؤول إليه السلطة ونظام الحكم في لبنان، وكيفية تعاطيه مع قضية سلاح حزب الله والأسلحة الفلسطينية داخل المخيمات، في ظل الإصلاحات المعقدة التي يعمل عليها، وفي ظلِّ التفلُّت الحدودي جنوباً وشرقاً وشمالاً، بالرغم من أن الجميع يدرك أن ما تبحث عنه تل أبيب، هو حماية مصالحها الأمنية، وتحقيق مصالحها التوسُّعية في المنطقة.
العقل الإسرائيلي
وقد أثبتت مجريات الأمور وسرعة التطورات في المنطقة، منذ ما قبل طوفان الأقصى وحتى اليوم، أن هناك تقصيراً عربياً كبيراً متعمَّداً أو غير متعمَّد، في فهم العقل الإسرائيلي، فمعرفته بأبناء المنطقة هي أكبر بكثير من معرفتهم به، والتمكُّن من تحليل منظومتهم الفكرية وعقلهم، فالإسرائيليون يعرفون تاريخ المنطقة عن ظهر قلب، ويعرفون المزاج النفسي والتركيبة الاجتماعية والثقافية والأنثروبولوجي والاقتصادية، ويعرفون نقاط الضعف ويعمدون الى توسيعها والاشتغال عليها، ويدركون نقاط القوة ويعمدون الى تفريغها من مضمونها وتطويقها وتفكيكها، فقوة المجتمعات في إقليم الشرق الأوسط، هي في تنوُّعها وانصهارها في بوتقة وطنية أو سياسية واحدة، لتبدو إسرائيل أنها نجحت في تفريق هذا المجتمع، وتحويله الى فرق ومذاهب، تتقاتل في ما بينها، وتدمِّر أوطانها وتقيم الحدود والفواصل بين مجتمعاتها، وبدل الاستفادة من القواسم المشتركة لمواجهتها، أشعلوا معركة الهويات الطائفية والمذهبية والدينية في المنطقة، لتفتيت الشعوب وإغراقها في صراعات لا تنتهي.
جاء اقتراح ترامب تملُّك غزة وتطويرها على شكل مشروع عقاري كبير، كحالة ونتيجة لإستعمار إستيطاني لكن بحلة جديدة، لا يقتصر على التوسُّع الإقليمي، بل صار مشروع عقاري بحت، لإعادة تدوير الفوائض الرأسمالية، لخلق فضاءات جديدة تجذب المطوِّرين العقاريين والمستثمرين الى أراض أجنبية، لا تحكمها قوانين كما حصل في هاواي وبورتوريكو وغوا، بل استباحة استثمارية عابر ، فخطط إعادة الإعمار تبدو في ظاهرها عملية إنسانية هدفها مساعدة المنكوبين، لكنها في الواقع وسيلة لإعادة فرض النفوذ السياسي والاقتصادي، فالمحتل والقوى المتحالفة معه، يسمحون أو يشاركون في إعادة الإعمار فقط، ليحتفظوا بالقدرة على التحكم في البنية التحتية والاقتصاد والتوجُّه السياسي للسكان، أو السلطة الحاكمة وفق أجندتهم ومخططاتهم، وإعادة صياغة الوجود الفلسطيني والهندسة الديموغرافية، وهذا شهدناه ونشهده بوضوح في الجنوب اللُّبناني المدمر، والتحفظ عن إعادة إعماره، لكن أخطر ما يحدث الآن هو تلاشي الحدود، سقوطها بين الكيان ودول الطوق، فقبل الحرب، كان ثمة حدود بين إسرائيل ولبنان وبين إسرائيل وسوريا، وكان هناك شكل من أشكال الردع في لبنان وسوريا وغزة، أما الآن، فقد سقطت الحدود اللبنانية ومعها الحدود السورية، ودمرت بالكامل كل الحواجز تجاه غزة، فالأرض والسماء والمياه اللبنانية والسورية والفلسطينية، صارت مستباحة لإسرائيل بالكامل، فلا الجيش اللبناني قادر على الصدِّ أو الردّ، ولا القوات الجديدة المسيطرة في سوريا الجديدة قادرة على ذلك، وبات في استطاعة إسرائيل، استباحة أراضي الدولتين كما تشاء، فلا عوائق الآن أمام أي تهجير قسري جديد للفلسطينيين.
نزع السلاح
إن الدول غير القادرة على حماية حدودها ليست دولاً، فلا قيمة عسكرية لاحتلال التلال الخمس في لبنان، وقمة جبل الشيخ وأجزاء واسعة من الأراضي السورية، لكن إصرار إسرائيل على البقاء فيها، يُعدُّ كسراً لكرامة الدول والشعوب، وسبباً لزرع الفِتن الداخلية وإحداث انقسام عامودي دائم، وعدم السماح بتأمين الاستقرار، فــ تل أبيب تعمل بوضوح على تفكيك بقايا الدولة في لبنان وسوريا، بعدما أطاحت بالسلطة الفلسطينية، وهي قالتها بوضوح وتمارسها بواقعية، لبنان وسوريا دولتان منزوعتان من السلاح، وبذريعة حماية الأقليات، يجب أن تكون سوريا مفتَّتة وممزَّقة طائفياً ومذهبياً، ولن يكون الأردن بأفضل حال، فيما مصر وأمنها القومي، لم يعرف في تاريخه تطويقاً محكماً بهذا الشكل كما يحصل اليوم، فهي محاصرة من كل الجهات، إن تفتيت الدول الى دويلات طائفية قزمة أو مقزَّمة، يعني أن إسرائيل الدولة اليهودية الخالصة، المدجَّجة بالسلاح وأحدث أنواع التكنولوجيا الحربية، هي الأقوى وسيِّدة الشرق الأوسط.
في هذا السياق، ورغم النتائج الصعبة في فلسطين ولبنان، إلاَّ أن الأساس، الذي سيكون له تداعياته على مستوى المنطقة برمتها في المستقبل، يكْمن بالساحة السوريّة، التي لم تتضح حتى الآن وُجهة الأحداث فيها، بسبب الصعوبات التي تعترض طريق السلطة الجديدة، والذي لا يُبشِّر سلوكها العملي بالخير لحدِّ اليوم، بالرغم من أنها مضطرة لتقديم أكبر التنازلات للقوى الخارجية الفاعلة، بسبب حاجتها إلى الشرعية الدولية، والطابع الطائفي الذي يطغى عليها،على الرغم من التحوُّل الكبير في خطاب السلطة الجديدة، بعد وصولها للسلطة، إلاَّ أن ذلك لا يمكن أن يلغي المخاوف منها، سواء كان ذلك على المستوى الداخلي أو الخارجي.
غياب الديمقراطية وتحلل الدولة
سوريا ولبنان، الذي جمعتهما الجغرافيا ووحده المصير، يدفعان اليوم كلفة فادحة لتصدُّعات الداخل وضغوط الخارج، ليس فقط بسبب تدخلات القوى الإقليمية والدولية، بل أيضا نتيجة لأداء السلطات في كلا البلدين، والتي كرست في لبنان نهجاً طائفياً هشاً يُقصي الآخر ولا يدمج مكونات الشعب، ويقوِّي الزعامات على حساب الدولة، ففي سوريا، ساد لعقود نهج مركزي مغلق، غابت فيه الديمقراطية الحقيقية، وتراجعت فيه المشاركة الشعبية لصالح القبضة الأمنية والتفرُّد بالقرار، وسوريا ما تزال في نفق طويل، تنوء تحت أعباء حرب استنزفت عمرانها ووجدانها ووحدة شعبها المعذب، حرب لم تكن فقط صراعاً على الأرض، بل أيضا نتيجة تراكمات داخلية، وغياب مسارات الإصلاح والمشاركة الحقيقية، تتجاذبها وتتنازعها التدخلات الإقليمية والدولية، وتخنقها العقوبات التي تمسُّ لقمة العيش للمواطن وكرامة الإنسان، بينما يتراجع الأمل بحل سياسي شامل، يُعيد للدولة تماسكها وللمجتمع توازنه.
أما لبنان، فقد سقط نموذجه التعدُّدي إلى قاع الانهيار البنيوي، نتيجة منظومة طائفية بالية، كرَّست الزعامات وغيَّبت دولة المواطنة، حتى صار الشعب اللبناني يتقاسم الخبز بالحسرة نتيجة الانهيارات المالية والاقتصادية، ويتحسَّر على الكهرباء المفقودة، وينشد الاستقرار بالانتظار الذي لم يأتي بعد، لكن الأخطر من مشاهد الانهيارات المتعددة، هو التحلُّل البطيء والمستمر لفكرة الدولة الوطنية، كجهاز إداري وعقد اجتماعي، كان يربط بين المواطن والدولة، على أساس من الحقوق والمسؤوليات، فلقد تآكلت قدرة الدولة على جمع مواطنيها تحت سقف واحد، حين عجزت عن تمثيلهم جميعاً مع كل مكوناتهم الطائفية والمذهبية والجهوية، وأخْفقت في توفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والسياسية، ومع غياب مشروع عربي جامع، تركت الساحات لمشاريع تفكيكية متصارعة، تلبس أقنعة الحداثة مرة، وثياب الطائفية أو الإثنية مرات عديدة، وكلُّها تتغذى من فشل الداخل واستباحة الخارج.
تحديات ومخارج
غير أن التحدي الأعمق والأكبر، هو ذاك المرتبط بالصراعات الكامنة بين المكونات الإثنية والعرقية والدينية، فقد بُنيت دول ما بعد الاستقلال في المشرق العربي، على نماذج سلطوية لم تعترف بتعدديتها، بل قمعتها أو استغلتها ضمن توازنات فوقية هشَّة، فعمَّقت الشرخ بدل أن تحتويه، وما لم تعالج هذه القضايا معالجة عادلة وجذرية، فإنها ستبقى قنابل موقوتة، تهدِّد وحدة المجتمعات من الداخل، وتسهِّل اختراقها من الخارج تحت شعارات الحماية أو التمثيل أو التوازن، وهنا تبرز الحاجة الماسة إلى رؤية فكرية جديدة، تُعيد تعريف الدولة ليس كمركز للسلطة، بل كحاضنة للعيش المشترك، تتعدَّى ثنائيات المركز والهامش والأليات والأقليات، والحاكم والمحكوم، فدول المنطقة صارت بحاجة إلى تصوُّرٍ يُعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومكوِّناتها، على قاعدة الشراكة العادلة، وليس بالسيطرة الفوقيةر المحكمة والمغلقة، وعلى أساس المواطنة الحقيقية، وليس بالإمتيازات الطائفية أو العرقية، فالرؤية في لبنان لبناء دولة، تكمن بالتنوُّع في قوة البناء لا بالتهديد، وبالسعي إلى بناء عقد إجتماعي جديد، لا مجرد إدارة توازنات وتوافقات هشة.
وأمام هذا الانسداد في الأفق والنماذج السياسية التقليدية، وانهيار منظومة الدولة القومية المركزية في أكثر من بلد، تبرز رؤية المفكر الكردي المناضل “عبد الله أوجلان” كما وردت في مرجعه الأساسي “مانيفستو الأمة الديمقراطية”، كإحدى الطروحات الحقيقية التي تستوجب النظر إليها والتمعُّن بمحتوياتها، فــ”أوجالان” لا يتهرَّب من الاعتراف بالواقع التعدُّدي، بل ينطلق منه ليؤسس نموذجاً بديلاً للدولة القومية، التي قامت على الإنكار والصَّهر والإقصاء والاستبداد الدائم تحت حجج واهية، ورؤيته تكمن بأن الأمة ليست وحدة قومية صلبة أو إثنية نقيَّة، بل فضاء مفتوح دائم للتنوُّع، تتأسس على قاعدة التعايش والمشاركة والتنظيم الذاتي، ضمن وحدة سياسية لا مركزية، فهو لا يدعو إلى التقسيم أو الإنفصال، بل إلى إعادة تعريف الدولة، بوصفها منسق مسؤول بين مكونات المجتمع، لا سلطة متعالية عليه، بل سلطة تُنشأ من القاعدة، لا تفرض من القمة، ودولة تُبْنى من الناس لا تُفرض عليهم، وفي هذه الرقعة الجغرافية لإقليم الشرق الأوسط المتعددة الأعراق والديانات، لا بدَّ من تطبيق نموذج تشاركي، يقوم على التمثيل المتساوي وتداول المسؤولية والسلطة، وتمكين المرأة، والاعتماد على المجالس المحلية، بما يخلق توازنا نادراً في منطقة تتنازعها أطراف مسلحة ودول كبرى، ورغم ما تتعرض له هذه الرؤية التجربة من حصار إعلامي وسياسي، ومن تهديدات أمنية مستمرة، فإنها تُثبت أمرين في غاية الأهمية: أولا، أن الاعتراف بالتنوع لا يُهدد وحدة الأوطان، بل يحميها من التصدع، وثانيا، أن بناء الدولة من القاعدة، من الناس والمجتمعات، هو أضمن وأصلب من فرضها من فوق، بسلطة المركز وخطاب الإنكار وخلق حالات من الانغلاق والانعزالية الدائمة.
هذه الرؤية ليست دعوة تهدف لتفكيك الأوطان وانفصال مكوناتها عن الوطن الأم، بل لتفكيك الاستبداد، الذي صادر الأوطان وباعها للخارج، لقاء نيل شرعية الحكم المفقودة بعد أن احتكر تمثيلها، وليست طرحاً بديلاً عن الدولة، بل فرصة لإعادة بنائها على أسس من المشاركة والمساواة والاعتراف المتبادل، فهي مرحلة انتقال من محاربة الهويات إلى مأسستها، لتحويلها إلى وحدة حية تصاغ بالحوار والمصلحة والمصير المشترك، فرؤية الأمة الديمقراطية، تفتح الآفاق لوطن يتَّسع للجميع، دون أن يلغي أحداً، وطن يُدار من القاعدة وليس من القمة، ويُبنى من الناس لا أن يُفرض عليهم، ففي زمن تتهاوى فيه الدول على رؤوس شعوبها، ويُعاد تشكيل الجغرافيا من خارج إرادة شعوبها، ربما آن الأوان، إما إعادة بناء الأوطان من الداخل، على أسس العدالة والشراكة والاعتراف، وإما الاستمرار في السقوط الحر داخل دوامة التفكُّك، حيث لا رابح سوى الفوضى، ولا صوت يعلو على ضجيج الانهيار، ولذلك، فإن الرهان الحقيقي لم يعد فقط على موازين القوى، بل على موازين الوعْي برفض الاستبداد وبرفض التفتيت، وتكريس وعْي يؤمن بأن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل يولد من الداخل ومن رحم الأزمات، من خلال مواجهة الحقيقة وليس الهروب منها، فإنتاج الوعْي صار ضرورة قبل السقوط في هاوية الخراب الجماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى