
شهد مفهوم الأمن القومي في تركيا تحولًا بنيويًا خلال العقدين الأخيرين، حيث أعادت أنقرة إنتاج هذا المفهوم ليشمل طيفًا واسعًا من التهديدات غير التقليدية، متجاوزًا بذلك البُعد العسكري الكلاسيكي إلى مجالات مدنية واجتماعية واقتصادية. هذا التوسيع المفاهيمي لم يأتِ من فراغ، بل كان نتاجًا لرؤية أيديولوجية تتبناها السلطة السياسية، تقوم على المزج بين النزعة القومية المحافظة ومرجعيات عثمانية جديدة، تعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة، وبين الداخل والخارج من جهة أخرى.
لم يعد الأمن القومي مقتصرًا على حماية الحدود أو مواجهة الجماعات المسلحة، بل امتد الأمر ليشمل الإعلام، التعليم، الاقتصاد، الهجرة، الثقافة، والأنشطة المجتمعية والدينية أيضًا، فقد أصبحت هذه القطاعات تُقرأ من منظور أمني صارم. بهذا الشكل، تحوّل كل اختلاف فكري أو سياسي، وكل شكل من أشكال التعدد الثقافي أو الاجتماعي، إلى “خطر محتمل” يبرّر التدخل والضبط والمراقبة، بحجة حماية الأمن القومي.
ويبرز ضمن هذا السياق بشكل خاص توظيف رئاسة الشؤون الدينية والأئمة كجزء من البنية الأمنية الناعمة. إذ لم تَعُد هذه المؤسسة تعمل فقط على إدارة الشأن الديني، بل أصبحت أداة سياسية تُستخدم في تصدير خطاب ديني يتماهى مع سردية السلطة، ويعيد إنتاج القيم الداعمة لها، داخل تركيا وخارجها، خاصة في أوساط الجاليات التركية في أوروبا. فالدين هنا لم يعد مجالًا مستقلًا عن السياسة، بل تم إدخاله ضمن جهاز الدولة الأمني، بحيث يُستخدم لتأطير الولاء السياسي، وتحجيم التعددية المذهبية، وإقصاء التيارات أو الجماعات التي لا تتوافق مع الخط الرسمي.
التحول من الحماية إلى الهيمنة:
إن هذا التمدد في مفهوم الأمن الوطني، ورغم أنه يمنح السلطة قدرة أوسع على التحكم وإحكام السيطرة، إلا أنه يراكم التوترات بدلًا من حلها، ويقود إلى بيئة مضطربة يتداخل فيها الأمني بالسياسي، والديني بالاستراتيجي، ما يُنتج أمنًا شكليًا هشًا وقائمًا على القمع أكثر منه على الاستقرار الحقيقي. فحين تتحول كل مظاهر التنوع والاختلاف إلى “تهديد”، يصبح الأمن نفسه أداة للصراع بدل أن يكون غاية لحماية المواطنين.
عمليات توسيع مفهوم الأمن بهذا الشكل تفتح المجال أمام عسكرة السياسة، وتجريم المعارضة، وملاحقة المجتمع المدني، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض أسس الديمقراطية ذاتها. إذ لم تعد الدولة تتعامل مع مواطنيها باعتبارهم شركاء في الأمن، بل كمصادر محتملة للتهديد، ينبغي مراقبتهم وضبطهم باستمرار، من خلال أدوات القانون، والدين، والإعلام، والأمن المباشر.
من هنا، تبدو الحاجة ملحة لإعادة ضبط مفهوم الأمن القومي التركي على أسس متوازنة، تُدمج فيها الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية، لكن دون أن تكون على حساب الحقوق والحريات. فالأمن لا يُبنى على الخوف، بل على التعددية السياسية والتوافق المجتمعي، ولا يمكن تصوره دون إعادة النظر في القضايا الجوهرية التي تقف خلف هشاشة الداخل التركي، وفي مقدمتها القضية الكردية، التي لا تزال تعاني من التجاهل أو المقاربات القمعية بدل الحلول السياسية التوافقية.
يجب أن تنبع المبادرة الحقيقية لإعادة تشكيل الأمن التركي من الداخل، من خلال رؤية تشاركية وتعاونية لا تستبعد أحدًا، ولا توظف الدين أو القانون أو الإعلام كسلاح للهيمنة. بل تتأسس على احترام التعددية الثقافية والدينية والقومية، وعلى بناء توافق وطني جامع يعيد تعريف الأمن بوصفه حماية للناس، لا حماية من الناس. فالأمن والاستقرار لا ينفصلان عن الحرية والديمقراطية، ولا يمكن تحقيق تنمية مستدامة في ظل تغييب الحقوق، وقمع التعبير، وتجاهل المطالب المشروعة لمكونات رئيسية في المجتمع التركي. وحين يُعاد بناء مفهوم الأمن على أسس عادلة، يصبح أداة لتحقيق السلام، لا تكريسًا للسيطرة.
وفي هذا الإطار، فإن الاستمرار في توسيع مفهوم الأمن القومي ليشمل قطاعات ومجالات حياتية ومدنية، دون ضوابط واضحة، يُهدد ليس فقط حرية التعبير والتعدد السياسي، بل يُعيد تعريف الدولة ذاتها ككيان أمني شمولي، لا كمنظومة ديمقراطية تقوم على التوازن بين السلطة والمجتمع. ذلك لأن استخدام أدوات الدولة – بما فيها الدين، والقانون، والتعليم، والإعلام – كسلاح سياسي، يُقوض شرعية هذه المؤسسات، ويُفقدها ثقة المواطنين، ويحولها إلى أذرع رقابية بدلًا من كونها أدوات خدمية.
كما أن تغوّل المنطق الأمني على الفضاء العام يُنتج ما يمكن وصفه بـ “المجتمع المراقَب”، الذي يخاف التعبير، ويخشى التنظيم، ويتردد في الانخراط السياسي. ومع الوقت، يصبح الخوف هو القاعدة، والثقة هي الاستثناء. وهو وضع لا يُمكن أن ينتج عنه استقرار طويل الأمد، بل يُغذي دورات من العنف الرمزي والمادي، سواء في المركز أو في الأطراف.
ولذلك، فإن بناء مفهوم بديل للأمن القومي التركي، يُفترض أن يقوم على إدماج كافة مكونات المجتمع، ومعالجة جذور القضايا العالقة – وعلى رأسها المسألة الكردية – في إطار حوار وطني جامع. ذلك وحده ما يضمن أمنًا مستدامًا، لا أمنًا عابرًا قائمًا على القمع والمؤقتات.
الجذور الفكرية والاستراتيجية:
لم يكن هذا التحوّل نحو توسيع مفهوم الأمن القومي التركي مجرّد تطور ظرفي فرضته التحديات، بل هو نتاج رؤية فكرية واستراتيجية أعمق، تشكلت في ظل التحولات السياسية التي عرفتها البلاد منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وقد رسّخت هذه الرؤية تصورًا مغايرًا لمفهوم “الدولة الآمنة”، لا يقوم على الحياد المؤسسي أو التوازن المجتمعي، بل على مركزية السلطة وتوسيع صلاحياتها تحت مبررات أمنية. بما جاء في سياق إعادة صياغة أولويات الدولة ووظيفتها تجاه المجتمع.
فقد بات الأمن أداة لإدارة المجال السياسي والاجتماعي، لا مجرد وسيلة للحماية. ويُلاحظ أن هذا التحوّل ترافق مع صعود خطاب جديد يُعيد تعريف مفاهيم مثل: (المواطنة، الانتماء، والهوية) من منظور سلطوي مركزي، يُضيق المجال العام، ويُعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والفرد على أساس المراقبة والانضباط. هذا التحوّل لا يُمكن فهمه دون التوقف عند الخلفيات الفكرية التي غذّته، والتي منحت التوسيع الأمني غطاءً أيديولوجيًا يشرعنه ويُعيد إنتاجه. ويستند هذا التوسع إلى خليط أيديولوجي مركّب، يجمع بين ثلاثة عناصر رئيسية:
- النزعة العثمانية الجديدة: تُستعاد كمرجعية رمزية واستراتيجية لتبرير الانخراط التركي في ملفات إقليمية متعددة. ففكرة “العمق الاستراتيجي” كما طرحها أحمد داوود أوغلو، كانت تؤسس لتصور جيوسياسي ترى فيه تركيا نفسها وصية على مناطق ما بعد العثمانية، وبالتالي، فإن أمنها لا يُختزل ضمن حدودها الجغرافية بل يمتد إلى حيث توجد مصالحها التاريخية أو الثقافية.
- القومية المحافظة: وهي توجّه يرتكز على مركزية الهوية التركية، ويرى في أي تعبير سياسي أو ثقافي مغاير تهديدًا للوحدة الوطنية. لذلك تُقابل المطالب الكردية، أو حتى التعددية الدينية والمذهبية، بمقاربات أمنية تُقصي بدل أن تحتوي.
- القراءة السلطوية للإسلام السياسي: حيث يُوظف الدين ليس فقط لتعزيز شرعية الحكم، بل لإنتاج خطاب تعبوي يربط بين الطاعة السياسية والواجب الديني. وهذا ما يفسر تقاطع الدور الأمني مع مؤسسة الشؤون الدينية، وتحويل المساجد إلى منابر تروّج لرؤية الدولة الرسمية، وتُدين المعارضة بصيغ رمزية ودينية.
وإلى جانب هذه الجذور الفكرية، هناك اعتبارات استراتيجية لعبت دورًا محوريًا في إعادة تعريف الأمن القومي، أهمها:
- التحديات الإقليمية المتصاعدة: خاصة بعد تفكك عدد من الدول المجاورة بفعل الحروب (سوريا، العراق، ليبيا)، ما دفع تركيا إلى تبرير تدخلاتها على أساس “منع التهديد قبل أن يصل إلى الداخل”.
- صعود قوى دولية وإقليمية منافسة: مثل إيران، وروسيا، والإمارات، والسعودية، ما جعل أنقرة تتبنى استراتيجية هجومية لتأمين مناطق نفوذها، وإفشال أي تحالفات قد تُقصيها من الترتيبات الإقليمية الجديدة.
- الانكفاء الغربي النسبي عن الشرق الأوسط: ما فتح المجال أمام تركيا لملء الفراغ الاستراتيجي، خاصة في ظل تصدّع المظلة الأمريكية التقليدية، وهو ما استُغل داخليًا لتعزيز سردية “الاعتماد على الذات” وتغذية الحشد القومي.
- التحولات الداخلية خاصًة بعد محاولة الانقلاب 2016: والتي شكّلت نقطة تحوّل في علاقة الدولة بالمجتمع، حيث اتسع نطاق “الأعداء المحتملين”، وتحوّلت الدولة من نموذج انتخابي تعددي -ولو نسبيًا- إلى منظومة مغلقة تُضفي طابعًا أمنيًا على السياسة.
كل هذه العوامل دفعت الدولة التركية إلى توظيف مفاهيم مثل “مكافحة الإرهاب” و”حماية الهوية الوطنية” و”مواجهة الحملات الخارجية” كأدوات تبريرية توسع من نطاق التدخلات الأمنية داخل وخارج البلاد. فتحت هذه العناوين، يجري تجريم الأصوات المعارضة، ومحاصرة العمل المدني، وتسييس القضاء والتعليم والإعلام، ما يعيد تشكيل الدولة على قاعدة الولاء الأمني، لا على قاعدة التعدد والتنافس المشروع.
بذلك، يصبح الأمن في تركيا ليس مجرد وسيلة لحماية المجتمع، بل إطارًا شاملاً يُعاد من خلاله هندسة المجتمع نفسه في إطار تحديد ماهية “المواطن المقبول” وماهية “الأعداء” وحدود المسموح في التعبير، والمشاركة، والانتماء.
التداعيات الإقليمية والدولية لتوسيع مفهوم الأمن التركي:
إن توسيع تركيا لمفهوم أمنها القومي لم ينعكس داخليًا فقط، بل حمل آثاره إلى المجالين الإقليمي والدولي، حيث أصبحت السياسة الخارجية التركية تتحرك وفق مقاربة أمنية مفرطة، تُقدّم التهديد على التعاون، وتُغلّب منطق السيطرة على منطق الشراكة. هذا النهج عزّز من التوترات مع عدد من الدول المجاورة، وأسهم في خلق بيئة إقليمية مضطربة، اتسمت بالشك المتبادل وتراجع مستويات التنسيق والتفاهم.
فعلى الصعيد الإقليمي، أدى الانخراط التركي في عدد من الملفات، مثل شمال سوريا، ليبيا، شرق المتوسط، ومنطقة القوقاز، إلى تغذية مناخ من التنافس الحاد، وتوسيع دوائر الاحتكاك الاستراتيجي مع أطراف متعددة. وعلى المستوى الدولي، تسببت هذه المقاربة الأمنية في توتير علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين في الغرب، وخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وسط اتهامات باستخدام أدوات القوة الصلبة والناعمة لفرض النفوذ والتدخل في شؤون الجاليات بالخارج. ويمكن حصر أبرز هذه التداعيات في أربع مستويات رئيسية:
- تصعيد التوترات الإقليمية: تسببت المقاربة الأمنية التركية في خلق اصطفافات إقليمية حادة، خاصة مع بعض الدول العربية، حيث أدى التدخل التركي في ملفات مثل ليبيا والعراق وسوريا وشرق المتوسط إلى تعقيد الصراعات بدل تهدئتها، وتعميق فجوات الثقة بين أنقرة وجوارها.
- تدهور العلاقات مع القوى الكبرى: شهدت العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة توترات متكررة بسبب السياسات الأمنية التوسعية، والاتهامات بالتدخل في شؤون الجاليات بالخارج، فضلًا عن التناقضات مع حلف الناتو. هذا التدهور قلّص من قدرة أنقرة على المناورة الاستراتيجية وأضعف موقعها التفاوضي.
- إضعاف المؤسسات الدولية والتعددية: ساهمت السياسة التركية، خاصة حين تتحرك خارج مظلة الشرعية الدولية، في تقويض أدوار المنظمات الإقليمية والدولية، سواء عبر تجاهل قراراتها أو عبر اتخاذ خطوات أحادية، ما يعكس تراجعًا في الالتزام بمنظومة القانون الدولي والتعاون المتعدد الأطراف.
- التأثير على الدول النامية وشركاء الجنوب: تحوّلت بعض الدول النامية، خاصة في إفريقيا وآسيا الوسطى، إلى ساحات اختبار للنفوذ التركي، من خلال أدوات دينية واقتصادية وتعليمية. إلا أن هذا الحضور غالبًا ما ارتبط بمصالح أنقرة أكثر منه بمشاريع تنموية حقيقية، مما خلق تبعية مشروطة، وأضعف استقلالية القرار الوطني في هذه الدول.
إن مقاربة تقوم على تضخيم المخاوف الأمنية، واختزال العلاقات الدولية في أبعاد تهديدية، تُنتج نظامًا هشًا وغير مستقر، سواء على مستوى الداخل التركي أو خارجه. فالدولة التي تُحوّل كل ما هو ثقافي أو سياسي أو ديني إلى “خطر أمني”، هي دولة تعيد تعريف محيطها وعلاقاتها من منطق الاشتباه، لا من منطق المصالح المتبادلة.
ويمكن القول أن مستقبل الأمن التركي لا يجدر به أن يُبنى على القلق الدائم والتوسع الأمني غير المنضبط، بل على مراجعة جذرية تُعيد الاعتبار للبعد الديمقراطي والتنموي في الاستراتيجية الوطنية. لا أمن حقيقي دون توافق سياسي داخلي، ولا استقرار مستدام دون حلّ عادل وشامل للقضايا الجوهرية التي تمزق النسيج التركي، وفي مقدمتها القضية الكردية التي لا تزال تُدار بمنطق أمني صارم، بدلًا من المقاربات السياسية الحوارية. ونعتقد أن تجاوب تركيا مع مرحلة السلام والمجتمع الديمقراطي وتحقيق بنية قانونية وسياسية وإطلاق سراح الزعيم “عبدالله أوجلان” سيكون مفيدًا لجهة الذهاب نحو تحقيق الاستقرار والأمن والتخلص من الصراع المرير المستمر منذ حوالي 40 عام، وبالتالي لن تكون تركيا بحاجة إلى كثير من التدخلات التي تجريها بغرض كسب أوراق ضد الأطراف الكردية.
ختامًا، لا يمكن فصل الأمن عن الحريات، ولا الاستقرار عن الديمقراطية. إن بناء نموذج أمني متوازن في تركيا يتطلب التحرر من مركزية “الخطر”، والانفتاح على مقاربة شاملة تنطلق من الداخل، تؤمن بأن أمن المجتمع يبدأ من احترام تنوعه، وتمكين مواطنيه، وحماية حقوقهم، لا من مراقبتهم أو قمعهم. فالتنمية لا تُزهر في بيئة مُطوّقة بالخوف، وإنما في مناخ يضمن الكرامة، ويؤسس للعدالة، ويعيد الاعتبار للسياسة كوسيلة تفاهم، لا كأداة ضبط.