
من المرتكزات الاساسية التي وضعها المفكر عبد الله أوجلان في فلسفته النظر الى أن الحقيقة بمثابة أفضل الأساليب التي توصِل المرء إلى معنى الحياة، وتساعده على إيجاد الحلول الجذرية لمشاكلها ومعالجة قضاياها العالقة بكافة أبعادها وبنحو مترابط يؤمّن تلاحم الجزء مع الكل ويسهّل معه حلول العديد من الإشكاليات الشائكة المتداخلة والمتشابكة، وبصورة غير مسبوقة من حيث التكامل الكلياتيّ.
وبمنظورها الكلياني لقضايا المجتمع ومشكلاته المتداخلة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً تبحث العلوم الانسانية؛ في توجيه النهضة الانسانية للمجتمعات والأمم، وبمقدار ما تقدمه من مخرجات فكرية وتطبيقية تتماهى مع جوهر ثقافة المجتمع وتراثه وفلسفاته وآدابه وفنونه، وبما ينعكس اثره على واقع الممارسات السلوكية على مختلف انساقها الفردية والجمعية.
وبمقارنة وظيفة العلوم الانسانية والواقع الحداثي؛ تتضح آفة المجتمعات التي تتصدر فلسفاتها الحداثية انقطاع البعد التقني عن المضمون الانساني بشمولية قيمه التي توارثها الانسان عبر متنوع تراثه وتقاطعات حضاراته التي لم تخلو من الالتقاء في حقيقة الامر، وهذه الحقيقة التي حجبتها النظم الرأسمالية في ضوء ترسيخ الانقطاع عن التراث الانساني برمته، وذلك تعزيزاً للنظريات والرؤى التشاؤمية التي يُستشهد بها في ارساء قواعد الازمات وتخليق الصراعات والشقاقات المصطنعة والحروب ونهاية التاريخ وهلم جرى.
– المسؤولية الاجتماعية:
ومن هذا المنطلق تنجلي المسؤولية الاخلاقية للعلوم الانسانية والاجتماعية بالمقام الاول، بالنظر الى علم الاجتماع والذي يتضح أنه يتمثل في دراسة الظواهر والحياة الاجتماعية المتعلقة بالمجموعات البشرية، والاهتمام بالقواعد والعمليات والسلوكيات الاجتماعية التي تربط وتفصل الناس كأعضاء جمعيات ومجموعات ومؤسسات، ولا يتوقف عند هذا الحد؛ بل يمتد الى توظيف ما يُستخلص من هذه المعارف والتخصصات العلمية المتنوعة للعلوم الاجتماعية حتى يتحقق توظيفها والاستفادة منها على مختلف العلاقات الانسانية بين مجمل انساق المجتمع، وتُعد هذه السمة الُمميزة للمسؤولية الاخلاقية للعلوم الاجتماعية، والتي تُعد عقيدة اساسية يجب أن يتحلى بها المفكرون والباحثون والدارسون والممارسون التطبيقيون وكل من له علاقة من قريب او بعد بهذه التخصصات او تلك.
ونحو الحياة الحرة المنبثقة من وحدات المجتمع الاخلاقي والسياسي– بمفهومها الأوجلاني حرية مسؤولة- تتضح مهمة علم الاجتماع بإنسانيته وشموله وتكون المهمة الرئيسية لسوسيولوجيا الحرية هي بلوغ الرؤية النظرية لهذا العمل المصيري، والنجاح في رسم تخطيطه السليم، حيث يشير أوجلان الى دور المؤسسات الفكرية العلمية في تحقيق ذلك حيث: ” يُمكِن لأكاديميات السياسة والثقافة الديمقراطية أن تَكُون مؤسسات مناسبة لهذه المَهَمَّة، إذ بمقدور هذه الأكاديميات تقديم الدعم الفكري والعلمي اللازم لتلبية احتياجات إعادة بناء وحدات المجتمع الأخلاقي والسياسي “.
بلا شك تُعد المسئولية الاجتماعية قضية انسانية تربوية واجتماعية ودينية وقيمية، يُستدعى الاهتمام بها داخل بُنى النُسق الاجتماعية عامة بما ينطوي عليها من دلالات قيمية لحياة الإنسان،حيث ترتبط المسؤولية الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً به وبفعله في سياق فرديته الاجتماعية، ولا تترتب المسئولية الاجتماعية إلا على الفعل الانساني الذي يقوم به في إطار اجتماعي منظم، والمسئولية بذلك تُعد قيمة اجتماعية ترتكز على الاعتماد المتبادل والمتكامل بين البشر وبعضهم البعض وهى تعنى الأخوة، أي مسئولية كل فرد تجاه أخيه الإنسان ورعايته الاجتماعية.
ولا تقتصر المسئولية الاجتماعية على الفرد أو الجماعة فقط، بل هي ضرورة لصلاح المجتمع ككل، والمجتمع بحاجة ماسة إلى الفرد المسئول اجتماعياً ومهنياً وقانونياً, فالمسئولية الاجتماعية تجعل الفرد فعالاً في المجتمع بعيداً عن كل الجوانب السلبية واللامبالاة مهتماً بمشكلات غيره من الناس اهتماماً يحفزه للمساهمة الفعلية لحلها، بل تتجاوز المسؤولية الاجتماعية العلاقات البشرية بل تحتوى نظمه الايكولوجية بكل مكوناتها فهي جزء اصيل في تحقيق سيرورة البقاء الانساني السليم في ظل علاقة شديدة التبادل فيما بينهما، وبذلك المسئولية الاجتماعية تتحدد هنا ضمن الأطر التي يُشكلها المجتمع حيث يظهر النهج العلمي في الإطار العام لسلوك الفرد والجماعة التي ينتمى إليها.
هذه المضامين المتعلقة بماهية المسؤولية الاجتماعية قد جرَفتها الطبائع الاخلاقية والسياسية الحداثية وَنحتها لتحل محلها طبيعة اجتماعية تتشكل بأدوات تتنافى مع الغاية الانسانية، ويشير أوجلان الى توصيف هذه الحالة: “بأنّ المجتمع الأخلاقي والسياسي الذي يُعَد حالة اعتيادية للطبيعة الاجتماعية، يواجه التجرد من ماهياته الأساسية في عصرنا بما لا يمكن مقارنته بأية مرحلة تاريخية أخرى، فالمجتمع الأخلاقي والسياسي بات في عهد الحداثة الرأسماليِ مُرغَماً على ترك مكانه لحُكم الدولة وبُنود القانون الوضعي المتكاثرة بلا حدود، أي أنّ الطبائع الأخلاقية والسياسية للمجتمع قد تَنَحّت عن مكانها في ظل الحداثة، ليَحُل مَحلَّها حشد الرعية وأعضاؤُه من المواطنين المُتَنَمِّلين الذين لا يُمَثِّلون أيَّ شيء على الإطلاق “.
ويتضح علاقة التأثير والتأثر بين كل من المنهج العلمي والاسلوب الاجتماعي بمختلف ادواره وتكتيكاته في تشكيل السلوك العام للمجتمع في كافة مؤسساته التعليمية والتربوية، حيث تتحدد سماته في تجليات الانعكاسات السلوكية والعادات الاجتماعية والتعاملات بين متنوع أنساقه ونظمه الموجهة علمياً وسياسياً بمختلف علاقاتها الوطنية والاممية.
وعلى اثر هذه العلاقة تتضح فيما اطلق عليه أوجلان ” أزمةِ الشخصية ” والتي تتضخم في سياقات الهيمنة المتقاطعة في العديد من المجالات، والتي وضح علاقتها أوجلان المتناقضة مع المزاعم الاجتماعية والتربوية والسياسية فيما تناوله: ” وعلى النقيضِ مما يُقال، فإنّ المواطن الذي يُزعَمُ أنه عصري، والذي لا يتسم بروح المسؤولية أخلاقياً أو سياسياً؛ يُمَثِّلُ أضعف أنواع الفرد خلال العصور، ومن خلال الهيمنة الفيزيائية والأيديولوجية وتطبيقاتها التقنية والمعلوماتية، لم يَقتَصر المواطن على الاستسلام للنظام الاحتكاري وحسب؛ بل وغدا عضواً فاشياً طوعياً لهذا النظام دون قيد أو شرط “.
وينكر أوجلان هذه النتيجة المُتَشكلة من السيطرة الذهنية الايديولوجية صنيعة الثقافة المُشّيئَة: ” إذ لا يمكن للطبيعة الاجتماعية أنْ تتكَوَّنَ من نوعٍ هذ الشخصيات، لأنّ نسيجها الأساسي ذو نوعية أخلاقية وسياسية، إنّ الدول قادرة على السير بهذه الشخصيات، ولكن؛ ما من مجتمع يمكنه الاستمرار بهذه الشخصية. أو بالأصح؛ فهذه الشخصيةُ تَعبير عن تفنيد وإقصاء المجتمع “.
– الانحراف باسم العلم:
بلا ريب تضمنت الرؤية الاوجلانية في هذا المرتكز – النظر الى أن الحقيقة بأنها أفضل الأساليب التي توصِل المرء إلى معنى الحياة، وتساعده على إيجاد الحلول الجذرية لمشاكلها ومعالجة قضاياها العالقة بكافة أبعادها وبنحو مترابط يؤمّن تلاحم الجزء مع الكل – ضمنت بذلك البحث في حقيقة العلم ومفاهيمه، واكدت على اهمية تناولها لمفهوم علم الاجتماع، هذا التناول الذي يتمخض عنه فكر إنساني اجتماعي منقى من الشوائب التي علقت به على مر التاريخ البشري حصيلة عمليات التحريف والتزوير والتشويش التي طالته، وكذلك ازالة الغبار عن المضمون الأصلي الذي كانت تشير إليه العديد من المفاهيم المتعلقة بالمجالات العلمية والمعرفية الاخرى في بداية ظهورها أو اصطلاحها، وركزت الاوجلانية في هذا السياق ايضاً على اضفاء أبعاداً جديدة تجعله أكثر مواكبة للعصر، وأكثر تلبية لمتطلبات البشرية، وأكثر تناغماً مع حلول مشاكلها.
وفي هذا الصدد يرى أوجلان: ” إنّ كافة البنى العلمية التي تُنيطُ التمييز بين الذات والموضوع بدور أساسي، هي أسيرة استقلالياتها، لدرجة أنها تزعم تفوقها على ضروبِ القيم والمُثُل المجتمعية كافة، ربما أنّ الانحراف الأكبر باسم العلم مخفيٌّ في هذه المزاعم، وربما لَم يشهد التاريخ التحام العلم مع النظام المهيمن في أيِّ عصر، مثلما هو عليه في العصر الرأسمالي “.
وبالرجوع الى ماهية علم الاجتماع يتضح أنه يتمثل في علم دراسة الظواهر والحياة الاجتماعية المتعلقة بالمجموعات البشرية، والاهتمام بالقواعد والعمليات والسلوكيات الاجتماعية التي تربط وتفصل مجمل مكونات المجتمعات البشرية، وعليه يُعزي اوجلان في ضوء الماهية الشمولية العطب الذي اصاب علم الاجتماع جراء التوجه الرأسمالي مؤداه عدم استيعاب قضية الاسلوب العلمي، وذلك متمثلاً في رؤيته: ” لا يمكن إيضاح أسباب عُطب وإفلاس وشلل علم الاجتماع في راهننا، ما لم نستوعب أنّ “الأسلوب العلمي” بحدِّ ذاته يعد وسيلة لأكبر تقسيم طبقي “، مضيفاً اسباب افلاس الكثير من الفلسفات والتوجهات التي عاصرها وشهدها وعُدت خلال فترات بعينها انها تحمل الحلول الاجتماعية الانسانية حتى اتضحت سوءاتها جراء المتغيرات العالمية في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية مشيراً في ذلك الى: ” أن الأسلوب العلمي الموضوعي له دور معيِّن وحاسم في إفلاس “الاشتراكية العلمية”، التي زُعِم أنها علم الاجتماع النموذجي “، ويُصرح بشجاعته اوجلان انه نظر اليها بهذه الرؤية مشيراً: ” والتي اعتَبَرتُها أنا أيضاً كذلك في فترةٍ من الفترات “.
وثمة نتيجة يستخلصها أوجلان لا يمكن تجاهلها جراء سيطرة المركزية الغربية، حال الوقوف على منهجية ناقدة تستوعب العطب الذي اصاب علم الاجتماع، وتتمثل هذه النتيجة والحقيقة في:” إنّ علم الاجتماع ذا البنية المعرفية الأوروبية المركز، لَم يذهب أبعد من المزاعم التي تقول بإمكانية إيضاح المجتمع بنفس مقاربات المهووسين بالعلوم الوضعية، والذين يَعتَبِرون المجتمع ظاهرة مماثلة للظواهر السائدة في الحقول الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية في العلوم الوضعية “.
وفي توضيح العلاقة بين اصطناع الاساليب العلموية يوضح أوجلان: ” إنَّ الأسلوب العلمي للعصر الرأسمالي، وبالتالي؛ كافة العلوم الناشئة ضمنه بناءً على هذه الخلفية، تُشكِّل القوة الأساسية التي تُؤَمِّن وتؤدي إلى تعزيز آلية الربح في النظام من جهة، وإلى تكريس الحروب والأزمات والآلام والمجاعة والبطالة ودمار البيئة والانفجار السكاني من جهة ثانية؛ بحيث شَمَلَت كافة قطاعات المجتمع وحلقاته الداخلية والخارجية “.
ويشدد اوجلان على أهمية وجدية الاخذ بالتركيز على منطق النقد الموضوعي لهذه النظريات او تلك والتي مثلت في الرؤية الاشتراكية شرخاً بيناً في جسد الرأسمالية والعكس، فظلتا الرؤيتين لا ترمم نفسها سوى في حضور الاخرى، واتضحت في هاتين الرؤيتين كل اعطاب علم الاجتماع الشاملة، وهنا يرى اوجلان: “أهمية توجيه النقد إلى الأسلوب الذي يشكل الدعامةَ الركن للنظام، وإلى الضوابط العلمية المطروحة “.
وتمثلت الهوة الاساسية والبنية المنهجية الهشة التي حصرت الفكر الانساني وضيقت على منابع الابتكار الانساني في سياق الاشتراكية المنصهرة في الذات الرأسمالية وإماطتها من طريقها كل المنتجات التي تتماس مع الحقيقة الانسانية الحرة، حيث تتضح هذه الهوة في ضوء الرؤية الأوجلانية للأسلوب: ” أن نقطةَ الضعف الأساسيةَ في الانتقادات الموجَّهةِ إلى كافة الأنظمة، بما فيها انتقاداتُ الاشتراكية – لا يستثنى من ذلك الرأسمالية ايضاً – تكمن في لجوئها إلى نفسِ الأسلوبِ الذي ترتكز إليه تلك الأنظمةُ في تحقيقِ وجودها، مع أنَّ الحقيقةَ تشير إلى أنّ انتقاد الواقع الاجتماعي الناشئ اعتماداً على نفسِ الأسلوب الذي يستند إليه هذا الواقع، لا يُنقِذ النُّقّاد من الوقوع في نتيجة مشابهة”.
ويُعد اوجلان ذلك احد صور التجرؤ الرأسمالي والذي أدى بدوره الى التعمية على جوهر الانسانية وحقيقتها، ومن منظوره لمنافاة التنوير الانساني اوضح اوجلان هذه الحقيقة: ” أن التجرؤُ على تشييء المجتمعِ البشريّ ذي الطبيعة المختلفة جداً، لَم يؤد إلى التنوير كما يُعتَقَد، بل أفضى إلى وثنية أكثر عُقماً، وقد أَبرزت النقاشات الراهنة حول العلم بما فيه الكفاية، أنّ الانفتاحات الفلسفية للمُنَظِّرين الألمان، وعلم الاقتصاد السياسي للمُنَظِّرين الإنكليز، وعلم الاجتماع للفلاسفة الفرنسيين، والذين انكَبّوا جميعاً على تقديم البنى المعرفية لدُولهم القومية؛ ليست سوى أدوات لشرعنة أجهزة السلطة وتكديس رأس المال لديهم “.
ويُعد هذا التجرؤ على تزييف الحقائق وادعاء التنوير الانساني تلاعب بالحقائق بل هو بمثابة احد ادوات السطوة وتخليق حالة من عدم اليقين المتولدة باستمرار في سياق متغيرات عالمية مصطنعة، وفي ذلك نجد مصطلح ” ما بعد الحقيقة ” لا يعني مجرد التلاعب بالحقائق وإنكار الواقع على ما هو شائع ومتداول، وانما يعني استحالة الوصول الى حقائق الاشياء.
ويتجلى السبب الرئيس في اوجه استحالة الوقوف على طبيعة الحقائق لأن العالم لا ينفك يحدث ويتحول على نحو مفاجئ وغير متوقع، ولذا ليست المسألة مسألة ” وقائع موضوعية ” ثابتة ينبغي الاقرار بها، ولا هي بالطبع مسألة ” وقائع بديلة ” يجري اختلاقها زوراً وكذباً، وانما هي مسألة خلق ” وقائع مضافة ” على سجل الحقيقة، تغير الوقائع المضافة علاقتنا بالوقائع بقدر ما تشكل اضافة قيّمة على رصيد المعرفة، بذلك يتغير الرهان وتنقلب قواعد اللعب، بحيث تحل استراتيجية القراءة محل المطابقة، وشبكة العلاقات محل قوقعة الماهية، ولغة الخلق محل منطق القبض، الامر الذي يُدخلنا في عالم فكري تتغير معه طريقة التفكير بقدر ما تتسع مساحة الممكن وتتغير الرؤية الى الاشياء والى انظمة المعنى، بقدر ما تتحدد لغة الفهم وصيغ العقلنة أو اشكال التواصل والمداولة.
وفي سياقات التزييف ومواصلة تبديل المناهج واختلاق الاطر المغايرة التي لا تصب في صالح المنهج الانساني السليم يرى اوجلان في تحليله: ” لا العلومُ الفيزيائية (بما فيها الكيمياء والبيولوجيا) مرتبطة فقط بالطبيعةِ الفيزيائية مثلما زُعِم، ولا علوم الآداب والتاريخ والفلسفة والاقتصاد السياسي والسوسيولوجيا المسماة بالعلوم الإنسانية معنية فقط بطبيعة المجتمع، بالمقدور تَقَبُّل اصطلاح “علم الاجتماع” إيجاباً بمعناه الواسع، باعتباره نقطة تقاطع بين كلا الحقلَين العلمِيَّين، ذلك أنّ كل عِلم ينبغي أن يكون اجتماعياً”.
– العلم بين الربح الرأسمالي واكتشاف المعاني الاصيلة للحياة:
الأوجلانية على الصعيد الفكري والفلسفي لا تقف عند حدود التحليل النقدي المعمق للتيارات الفكرية الكبرى: الدينية والقومية الدولتية والليبرالية والعلمانية والوضعية والرأسمالية والماركسية وتفرعاتها والفوضوية والصناعوية ووو، لكنها تذهب أبعد من ذلك بكثير، حيث تتناول كل التيارات الفكرية والفلسفات الأساسية، وتعالج حسناتها ومساوئها، وتسلط الضوء على أماكن العطب فيها، وتعيد تعريفها وصياغتها بمنظور جديد قويم وبأسلوبٍ صحيح صائب، إضافة إلى أنها تعالج قضية الأسلوب بحد ذاته – كم اوضحنا – كقضية محورية ومصيرية من حيث الوصول إلى الأهداف المنشودة أو مخالفتها أو الشذوذ عنها أو حتى الوصول إلى نقيضها.
وبالنظر الى حالة الحداثة الرأسمالية في راهننا تُنذِر باستحالة الاستمرار في كافة مجالاتها الأساسية، فلـلأسلوب العلمي الذي ترتكز إليه النصيب الأكبر في ذلك، فبتحليل “الضوابط العلمية” التي صدرتها تجاه العلم ومنهاجه يتضح سيطرتها المفرطة تحت دعاوى الثوابت والمرتكزات، ولكن حقيقة الامر عكس ذلك على الاطلاق، فبالإفراط في فرض الضوابط على العلم، حقَّقَت الحداثة الرأسمالية تشتتَه وانقسام تكامُلِه الداخلي وقوة معانيه، حيث يرى اوجلان أنها – الحداثة ومناهجها – تقوم بشرح الفيل بوَبَرِه، والغابة بشجرة منها.
وفي سياقات ربط العلم بالربح والمال والسلطة شٌتِت صحيح العلوم وزُيفت حقيقته وتم تغييب جوهره، ويرى اوجلان: “العلمُ المشتَّت إرباً إرباً يَسْهُل ربطه بالسلطة، وتحويله إلى ميدان تقني يَدرّ الربح الوافر، هكذا غدت الغاية الأولية من العلم والمعرفة كسب الربح الأكبر، لا اكتشاف المعاني الأصيلة للحياة، وتم الانتقال من منهاج (العلم– الحكمة) إلى منهاج (العلم– القوة– المال) أي أنَّ تحالف (العلم– السلطة– رأس المال) هو التحالف المقدَّس الجديد للحداثة”.
إنّ طرح العلاقة بين الإنسان والمجتمع بأفضل الأشكال تُعَد المسألة الأساسية في الأسلوب، فكل مَن ادّعى أنه علمي جداً من أمثال بيكون وديكارت، قد تناول مسائل الأسلوب ومشاكله وكأنه لا علم ولا رابط له بالمجتمع الذي ينشأ فيه ويتحرك ضمنه، في حين أننا نعلم عِلمَ اليقين أن المجتمع الذي تأثر به بيكون وديكارت ليس سوى ذاك المجتمع الذي أنشأ الرأسمالية كنظام عالمي، أي أنه مجتمع البلدين اللذين نسميهما اليوم إنكلترا وهولندا، بالتالي، فالأساليب التي كوناها ليست سوى أفكار ذات علاقةٍ وثيقة بالمجتمع الذي يُشهِر الباب على مصراعيه أمام الرأسمالية.
وقد صنف اوجلان اوجه اعتماد الحداثة الرأسمالية على بعض التوجهات بعد التشتيت والانقسام لمعاني ومضامين العلم وربطة بالسطلة وتحويل مناهجه الى وسائل لفرض السيطرة الذهنية وتحقيق الربح الرأسمالي وذلك من خلال:
- وضع اللّبنة الأساسية لفرضية (العلم– السلطة) انطلاقاً من عبارتها “العلم قوة”، وحوَّلَت الاتحاد المبكِّر بين العلم والسلطة إلى سلاح أساسي بيَد النظام الحاكم.
- جعل الخرافات والعقائد الثبوتية المنحرفة البارزة كفاية في الدين، والميتافيزيقيا وسيلة لتحويل العلوم إلى دين جديد على غرار العلم الوضعي، وأسَّست دينها هي، وبسطَت نفوذها باسم الصراع مع الدين والميتافيزيقيا.
- جعلت الحداثة الرأسمالية من الليبرالية أيديولوجية رسمية لها، وحوَّلَتها إلى أداة مثالية في الوفاق من جهة، واستخدمَتها كسلاح فتاكٍ في إلحاق كافة الأيديولوجيات المعارِضة بذاتها، وصهرها في بوتقتها من جهة ثانية، وأصبحت كـ”اليد الخفية، العقل الخفي” لتَبسط نفوذ أقوى هيمنة أيديولوجية.
- وبينما أَضفَت الحداثة الرأسمالية الطابع الرسمي على الليبرالية والوضعية، فقد حطَّت من أهمية التيارات الأيديولوجية والمدارس الفكرية الأخرى، وثابرَت في جهودها تلك حيال المعارضين لها بصورة خاصة، إلى أنْ ألحقتهم بذاتها.
- حطَّت من شأن الفلسفة والأخلاق، وقلَّلَت من فرص المناهضين للنظام القائم في تقديم الإرشادات أو رسم المنظور أو اتخاذ المواقف اللازمة (الاختيار الحر=الأخلاق).
– من هيمنة الادخار الى الهيمنة في ميادين العلم:
في اشارة منه لتطاول الهيمنة على كل الميادين يلقي اوجلان الضوء علي مظاهرها بانها: ” لا تتموقع الهيمنة في ميادين الادخار والإنتاج والسلطة فقط، بل لطالما تُشاهَد صراعات هيمنة محتدمة في ميدان المعرفة أيضاً، ذلك أنه لا يُمكِن لأية بنية للإنتاج والادخار والسلطة تكريس وجودها مدة طويلة، ما لم تُحَقِّق شرعيتها في ميدان المعرفة “.
فقد طالت بذلك الهيمنة ثقافة المجتمعات والامم، والتي تعني في اضيق نطاق – الثقافة – في رؤية أوجلان: ” العالَم الذهني للمجتمعات، وتتألف أساساً من ثالوث الفكر والاصطفاء والأخلاق “، حيث تأتي مظاهر الهيمنة الثقافية في هذا الصددمن خلال: ” تصنيع الثقافة وإنتاجُها السلعي المتفشي – حيث تُصنف هذه الهيمنة في المرتبة الثانية – من بين أدوات الاستعباد والتحكم والسيطرة المؤثرة، فبجانب أهمية مكانة العنف السياسي والعسكري ضمن هيمنةِ النظم الرأسمالية، إلا أنّ ما يُؤَمِّن ثَبات الهيمنة ورسوخها؛ هو فرض الاستسلام على المجتمع، بل شَلُّ إرادته عن طريق تصنيع الثقافة “.
ويتميز دور الثقافة بأهمية حياتية في المدنية الرأسمالية، باعتبارها الحصيلة الذهنية لكافة الميادين الاجتماعية، حيث تَعمَل أولاً على صهر الثقافة (تكييفها مع السلطة الاقتصادية والسياسية)، ومن ثَمَّ تُصَيِّرُها صناعة في سبيل نقلها على أوسع النطاقات وبكثافة مرتفعة إلى جميع المجموعات (الأمم، الشعوب، الدول القومية، المجتمع المدني، والشركات)، وتشيئ الميادين الأساسية، وعلى رأسها الآداب، العلوم، الفلسفات، الحقول الفنية الأخرى، التاريخ، الدين والقانون؛ تَكُون بذلك قد بَضَّعَتها.
وتتجلى أحدى خصائص المشهد الايديولوجي المعاصر في قبول فكرة الهيمنة الايديولوجية واضفاء الطابع الرسمي عليها، بما شكلته الليبرالية من أيديولوجية رسمية للرأسمالية الحداثية وحطها أهمية التيارات والمدارس الفكرية الاخرى، بكونها أداة التوفيق لدى وجهاتها، وكسلاح يفتك ويصهر كافة الأيديولوجيات المعارِضة في بوتقتها، ومثلت بذلك ثنائية (اليد الخفية، العقل الخفي) لتَبسط نفوذ أقوى هيمنة أيديولوجية.
فقد انتشرت الليبرالية بوصفها ايديولوجيا تقوم على سيادة المستهلك وخياراته، وفي ثنايا الليبرالية الفجة هذه يكون لأفكار الاختيار الحر في السوق وقوة السوق غير المقيدة قصب السبق، وقد يبدو التركيز على اللذات الفردية والمصالح الشخصية، مما يؤدي الى اهمال المجال العام وصولاً الى تنامي ” الاستبداد الناعم ” في مجتمع غير سياسي.
وعليه يكون قد فقدت الليبرالية جانبها النقدي كذلك، وتخلت عن رؤيتها لمجتمع مكون من افراد لديهم القدرة بصورة كاملة على تقرير مصيرهم، فقد تخلت الليبرالية عن وظيفتها الناقدة لأجل قالب غير سياسي بدرجة لأكبر بكثير من أي وقت مضى، مما تتضح هنا تقليص السياسة الابداعية عن طريق فرض المخططات الايديولوجية والصيغ الفجة بدلاً من التفكير المفتوح، في حين عدم وجود رؤية أو هدف عام أو مشروع ملهم.
ستظل هذه العلاقة بين تواتر التخلي عن الوظيفة الناقدة للرؤى والمعارف العلموية وتضخم القوالب غير السياسية ما دامت التحليلات العلمية الاجتماعية تغض الطرف عن تنامي واستمرارية النظم العالمية الحالية، وفي تفنيد الايضاحات والتحليلات التاريخية العلمية والفلسفية وضرورة انتهاجها يرى اوجلان: “فبينما تقتضي الطبيعة الأولى إيضاحات تاريخية متكاملة، فإن الطبيعة الاجتماعية الماضية قُدُماً على شكل حلقات أساسية متداخلة ومتسلسلة، وتحليلها على الصُّعُد التاريخية والفلسفية– العلمية ضمن تكامُل أكثر ترابُطاً، إنما يُعَد ضرورة ذات أهمية ممنهجة لا بد منها”.
– السوسيولوجيا والأمة الديموقراطية:
يُعد نبذ السوسيولوجيا الاوروبية للحقائق التاريخية وفصلها عن الفلسفة والعلم خَدَمَت بالمقام الاول الهيمنة المدنية من خلال نَبذها لهذه الحقيقة ، وأَفسَحَت الطريق أمام تشويش كبير داخل علم الاجتماع أيضاً، ويشير اوجلان الى انها مسؤولية تقع على عاتق الكثيرين القائمين على تلك الصياغات والتحليلات التي توارى وتظهر حسبما يكون في صالح الهيمنة: ” والمسؤوليةُ الكبرى في هذا الشأن تقع على كاهل القائمين بصياغة التحليلات المعنية برأس المال أيضاً، حيث تشيرُ كومة القضايا المتفاقمة العالقة بجلاء واضح إلى أنّ القِسم الأكبر من تلك التحليلات قد خَدَمَت إسدال الستار على رأس المال والنظام الرأسمالي، بدلاً من تنويره “.
ولا يكمن الحل هنا في الاجماع على اعادة صياغة المفاهيم والاصطلاحات المرتبطة بالعلوم الانسانية والاجتماعية بالخصوص واعادة صياغة القضايا المفاهيمية فقط، بل صياغة وضع النماذج التطبيقية وتشكيل الأطر للممارسات العملية لتحقيق بُنية اجتماعية في واقع المجتمعات الحي، حيث يقترح اوجلان: ” أنه لن تُحَلَّ المشكلة بمجرد الإجماع على تعريف علم الاجتماع، فالأهم من ذلك هو نوعية ما سيَكون نموذجاً أساسياً “.
ولا تتأتى اعادة صياغة هذه الاطر واضفاء هذه المعاني وتجاوز مساوئها وترميم شروخها بسهولة ويسر، حيث يرى اوجلان لتحقيق هذه البُنية الاجتماعية حاجة ماسة إلى كل من: ثورة علمية وانطلاقة أسلوبية جذريتَين في هذا الشأن، بغرض وضع اصطلاحاً ” إعادة تماهي وتناغم الطبيعة الاجتماعية بتشكيل تركيبة جديدة مع الطبيعة الأولى في مستواها الأعلى، مما يقتضي إنجاز ثورة عملية جذرية، بقدر ثورة براديغما النظرية الثورية “، وذلك من خلال:
- مقاربة نظرية عميقة وجديدة في البحوث والدراسات المعنية بالمجتمع البشري.
- ينبغي الاستيعاب بكل أهمية أنّ الأساليب السوسيولوجية الغارقة في صَخَب الأعداد تَطمسُ الحقيقة بدلاً من إيضاحها.
- استيعاب أنّ علوم الاجتماع السائدة تُواري الحقيقة أكثر من الميثولوجيات – ليس مغالاة – بل حتى إنّ المعنى المبلوغ في الميثولوجيا على خلفية الإحساس بالحقيقة، أكثر إنسانية وأقرب إلى الحقيقة، مقارنة مع المعنى السائد في سوسيولوجيات الحداثة الرأسمالية.
حيث يمثل وضع الشخص العديم الشخصية الذي بَلَغَته نزعة الفرديةِ الرأسمالية، مجرد ظِلّ للأزمة التي تعانيها الدولة والمجتمع على السواء، وواضح جلياً أنه لا احتكارات رأس المال ولا احتكارات السلطة ولا حُكم الدولة القومية التي هي صياغة الدولة المُوَحَّدَة أمور ممكنة، دون الإيقاع بالمجتمع والفرد في هذه الحالة، وتُعَبِّر الأزمة الاجتماعية عن وضع أبعد من الأزمة البنيوية، فقد تُنشَأ بنية مكان بنية أخرى، أما فُقدان الماهيات الأساسية لكَينونة المجتمع، فليس وضعاً يمكن التغلب عليه بسهولة بإعادة الهيكلة، بل يَقتَضي إعادة إنشاء وهيكلة المجتمع الأخلاقي والسياسي، وهنا تكمن المشقة.
………
المراجع:
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الرابع، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك المتسترين “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الأول، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية الرأسمالية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك الغزاة “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” سوسيولوجيا الحرية “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- دراسته حسني، تحقيق إعادة هيكلة الحضارة الديمقراطية ولو بالحد الأدنى؛ إلى جانب تمكين التَطَوّر في طابعِ المجتمعِ الأيكولوجي والفاميني، وتفعيل فن السياسة الديمقراطية، وإعادة هيكلة المجتمع المدني الديمقراطي كأمور مميِّزة وملموسة أكثر.
- ليلة، علي (2009): المسئولية الاجتماعية، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، مؤتمر المسئولية الاجتماعية والمواطنة, القاهرة، 16-19 مايو.
- بن شحادة، محمد عبد الفتاح (2007): المسئولية الاجتماعية وعلاقتها ببعض السمات الشخصية، بحث منشور، كلية التربية قسم علم النفس، جامعة أم القرى.
- شولرتسمانتل، جون (2021): الهيمنة والمقاومة في مجتمع ما بعد الايديولوجيا، ترجمة: بدر الدين مصطفى، اركان للدراسات والابحاث والنشر.
- حرب، على (2018): ما بعد الحقيقة من تزييف الحقائق الى خلق الوقائع، الدار العربية للعلوم ناشرون.
- خليل، مروة (2020): مفهوم الهيمنة في نظريات العلاقات الدولية، كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة الاسكندرية، الاسكندرية.