دراسات

من العمل العسكري إلى الحراك المدني: قراءة في إعلان حزب العمال الكردستاني

تحليل: د. طه علي أحمد

مقدمة

منذ تأسيسه في عام 1978 على يد مجموعةٍ صغيرة من الطلبة اليساريين بقيادة عبد الله أوجالان، واجه حزب العمال الكردستاني (PKK) واحدة من أعقد البيئات السياسية والأمنية في الشرق الأوسط. لقد كان ظهوره استثنائيًا، لا فقط في تحدّيه لسلطة الدولة التركية، بل في محاولته إعادة تشكيل الوعي القومي الكردي، بعيدًا عن المنظومة العشائرية والولاءات التقليدية. ورغم الحملات العسكرية الشرسة التي تعرض لها، واعتقال قائده، وتصنيفه كمنظمةٍ إرهابيةٍ من قبل عددٍ من الدول، إلا أن الحزب استطاع أن يضمن بقاءه واستمراريته لأكثر من أربعة عقود، بل ويتحول إلى فاعل إقليمي واسع النفوذ في تركيا وسوريا والعراق. غير أن الآونة الأخيرة تشهد واحدة من أهم المحطات في تاريخ الحزب الذي أعلنت قياداته أخيرا عن حل بنيته التنظيمية وإنهاء الكفاح المسلح، الأمر الذي يثير التساؤل حول مستقبل حزب العمال الكردستاني ومنظومة السياسية التي كان يمثلها لعقود. هذا القرار، الذي جاء استجابة لدعوة مؤسسه وقائده المعتقل عبد الله أوجلان في 27 فبراير من العام الجاري. وللإجابة على هذا التساؤل يتعين بنا الوقوف أمام العوامل التي مكّنت الحزب من البقاء متماسكًا في بيئةٍ تفكك فيها معظم الحركات المسلحة لأكثر من أربعين عاماً؟، حيث تسهم هذه العوامل – بلا شك – في ثبات وضعية الحزب مستقبلا في ظل التحولات الإقليمية والقرارات الأخيرة بتفكيك بنيته التنظيمية؟

أولا. تنظيم محكم وبنية مركزية منضبطة

منذ بدايته،  أسّس الحزب نموذجًا صارمًا في البناء التنظيمي يقوم على تسلسل هرمي واضح، مع رقابة أيديولوجية شديدة على الكوادر، وتمارين فكرية وعسكرية مستمرة، وذلك بالمقارنة مع غيره من الحركات الكردية التقليدية التي اعتمدت على الزعامات العشائرية أو الولاءات المناطقية، وقد أسهم ذلك في تمكين الحزب من الاستمرارية رغم الضربات العسكرية الموجهة التي تلقاها منذ التسعينات واعتقال أوجالان سنة 1999. وقد تميز البناء التنظيمي للحزب بعددٍ من السمات منها الاعتماد على بنية تنظيمية “خلوية” تسمح بالتحرك السري وتجنب الضربات الأمنية القاضية، والطابع اللامركزي في اتخاذ القرار بما أسهم في توسع الحزب دون تفكك، فضلا عن محورية دور المرأة في بنية الحزب وقد ظهر ذلك في إنشاء وحدات وحدات نسائية مستقلة مثل YJA Star.

ثانيا. تحوّلات أيديولوجية مدروسة

لم يتجمد حزب العمال الكردستاني عند أطروحته الأولى ذات الطابع الماركسي-اللينيني، بل أظهر مرونةً فكريةً لافتة. ففي أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وبِدء المراجعات الفكرية داخل التنظيم، تبنّى الحزب أطروحة “الأمة الديمقراطية التي طرحها أوجالان من سجنه، وهي رؤية تبتعد عن النزعة القومية الصلبة، وتتبنى مشروعًا كونفدراليًا ديمقراطيًا لا مركزيًا، يدمج بين حقوق الكرد ومفاهيم العدالة الاجتماعية، والبيئة، والمساواة الجندرية. ويلاحظ على هذا التحول أنه لم يكن تجميليًا، بل مكّن الحزب من الانفتاح على قضايا عابرة للهويات القومية، وأعاد بناء شرعيته الفكرية والسياسية في الداخل والخارج. فضلا عن ذلك فقد حمل هذا التحول عدد من المؤشرات على دعم استمرارية الحزب وبقاءه مثل:

  • شرعية فكرية جديدة: فبعد عقود من الصدام المسلح، وجد الحزب في “الأمة الديمقراطية” فرصة لتقديم نفسه كقوة فكرية لديها مشروع إنقاذ ليس فقط للأكراد، بل أيضًا لمجتمعات الشرق الأوسط الغارقة في الاستبداد والطائفية.
  • التحرر من الإطار القومي الضيق: فقد ابتعد الحزب عن السرديات القومية الصلبة التي قد تؤدي إلى عزلته، وانتقل إلى خطاب شامل يجذب حلفاء من خارج الهويات الكردية، مثل الأرمن، والعرب، والسريان، والعلويين.
  • بناء نموذج تطبيقي في شمال شرق سوريا: تمثّلت تجربة “الإدارة الذاتية الديمقراطية” في شمال وشرق سوريا (روجآفا) في أوضح تطبيقات “الأمة الديمقراطية”، حيث جرى إنشاء مجالس محلية، وتنظيم مدني غير هرمي، ومشاركة واسعة للنساء.

كل ذلك أكسب الحزب قدرة على التكيف الاستراتيجي وفتح أمامه أفقًا دوليًا تجلى في التواصل مع الحركات الأممية مثل الحركات البيئية والنسوية في أوروبا، وإعادة تعريف المقاومة من عمل عسكري فقط إلى مشروع مجتمعي طويل الأمد، كما أعان ذلك الحزب على تفادي التصنيف الدولي المتشدد عبر إبراز الطابع الديمقراطي للحزب.

ثالثا. الجبال كملاذ استراتيجي

منذ الثمانينيات، أسس الحزب قواعد له في جبال قنديل الواقعة شمال العراق، ووجد في الجغرافيا الوعرة ملاذًا طبيعيًا من هجمات الجيوش النظامية. وقد أسهمت هذه البيئة الجبلية في الحفاظ على البنية القتالية للحزب، ووفرت له عُمقًا استراتيجيًا جعل من ضربه بشكلٍ نهائي أمرًا شبه مستحيل، فقد أكسبت هذه البيئة الحزب ميزة استراتيجية مزدوجة مثل:

  • الحماية من الحملات العسكرية التي تشنها تركيا أو العراق، إذ أسهمت التجربة أن استخدام الطائرات والمدفعية لا يحقق حسما في مناطق ذات طبيعة جغرافية متقلبة ومتعددة الطبقات.
  • مرونة الحركة والاختفاء، مما سمح للوحدات المسلحة التابعة للحزب (قوات الدفاع الشعبي – HPG) بالحفاظ على نشاطها وتجنب الإبادة التنظيمية رغم التتبع والملاحقة المستمرة

لذلك، فقد تحولت جبال قنديل لكونها أكثر من مجرد موقع جغرافي، بل أصبحت رمزًا لهوية الحزب المقاومة، ومركزا لتأهيل الكوادر الأيديولوجية والعسكرية، بل إن قنديل تحوّلت إلى ما يشبه “المركز السياسي البديل” بعد اعتقال أوجالان، حيث تصدر عنها البيانات، وتُدار من خلالها العلاقات الخارجية، وتُراقب التنظيمات المنضوية في إطار منظومة المجتمع الكردستاني (KCK).

كما ساعد ذلك الحزب في الحفاظ على استقلالية نسبية عن التدخلات الإقليمية المباشرة، بعكس الأحزاب الكردية الأخرى التي غالبًا ما ارتبطت بحسابات القوى المحلية. وعلى هذا، فرغم مئات الغارات الجوية والعمليات البرية المحدودة، لم تستطع أي جهة أن تحسم وجود الحزب في قنديل، والسبب يعود إلى:

  • الطوبوغرافيا المعقدة التي لا تسمح بالانتشار العسكري الواسع.
  • الحاضنة المحلية في بعض القرى الحدودية التي تقدم الدعم اللوجستي.
  • النظام التنظيمي الخلوي الذي لا يعتمد على مقر واحد يمكن تدميره.
  • إعادة الانتشار السريع وتبديل المواقع والأنفاق التي لا تُكشف بسهولة.

وعلى هذا، فقد مثّلت جبال قنديل بنية تحتية استراتيجية لحزب العمال الكردستاني، ليس فقط كقاعدة قتالية بل كفضاء رمزي وتنظيمي وفكري، ساعد الحزب على البقاء والتحول والتوسع. وإن كان الصراع مع تركيا لا يزال مفتوحًا، فإن قنديل تبقى أحد مفاتيح القوة والتماسك التي استعصى على خصوم الحزب تفكيكها حتى اليوم.

شبكة اجتماعية واسعة وجذور عميقة

بخلاف الحركات التقليدية التي أبقت على طابعها النخبوي وانخرطت في صراعاتها الداخلية، تمكن حزب العمال الكردستاني من الانتشار اجتماعيا في المناطق الكردية المهمّشة، لا سيما في جنوب شرق تركيا، عبر تبنّيه لقضايا الفلاحين والفقراء والنساء. كما أن الحزب أعطى أدوارًا قيادية للنساء، بشكل غير مسبوق في مجتمعات تقليدية، ما جعله رمزًا للتحرر الاجتماعي بالنسبة لقطاعات واسعة من الشباب. هذه الشبكات الاجتماعية شكّلت قاعدة حيوية للدفاع عنه والاستمرار في دعمه، رغم القمع والاعتقالات. ومن هنا بدأ الحزب في بناء شبكات بناء شبكات دعم لا تستند فقط إلى الانتماء القومي، بل أيضًا إلى تجربة معيشية من الظلم والقمع المشترك.

بجانب ذلك، حظيت المرأة في البناء التنظيمي للحزب بدور مركزي، ليس كمجرد عنصر داعم، بل كجزء قيادي داخل المؤسسة التنظيمية والفكرية، وقد أسهم ذلك في خلق بيئة ثورية جعلت الشابات من القرى والمدن يرين في الحزب أداة للتحرر الشخصي والاجتماعي في المجتمعات التي يهيمن عليها النظام الأبوي. وقدمثّل هذا الخطاب كسرًا جذريًا للبنية التقليدية، وخلق ولاءً مضاعفًا من قبل شريحة واسعة من النساء. كما أن الحزب لم يكتف الحزب بخطاب المقاومة، بل أنتج شبكات مجتمعية قاعدية. وقد ساهمت هذه الشبكات في تحصين المجتمع ضد حملات القمع والاعتقالات، مما خلق ما يمكن تسميته بـ “المجتمع المقاوم” داخل القرى والمدن، فأفرز ذلك أجيالًا مؤمنة بمشروع الحزب دون الحاجة للتجنيد التقليدي.

ما سبق يعني أن حزب العمال الكردستاني قد استطاع أن يتجاوز الطابع النخبوي الذي لازم كثيرًا من الحركات السياسية، عبر بناء شبكات اجتماعية عميقة الجذور، تُعبّر عن الواقع وتعيد تشكيله. فلم يكن التنظيم السياسي وحده كافيًا لبقائه، بل كانت هذه الحواضن المجتمعية – خاصة من النساء والشباب – هي التي منحته القدرة على الاستمرار في أحلك الظروف، وتحويله إلى ظاهرة سياسية-اجتماعية طويلة الأمد في التاريخ الكردي الحديث.

التكيّف مع التحولات الإقليمية والدولية:

في منطقة تُملي فيها الجغرافيا السياسية على الحركات الفاعلة إمّا التلاشي أو التشظّي، تميّز حزب العمال الكردستاني بقدرته على تحويل الأزمات إلى فرص، وتجاوز حالات الحصار عبر إعادة التموضع الذكي، سواء على مستوى الخرائط أو الخطاب أو التحالفات. فمنذ أن اشتد الخناق عليه داخل تركيا في التسعينيات، سارع الحزب إلى التمدد جغرافيًا نحو الحدود العراقية، ومنها إلى شمال سوريا لاحقًا، محوِّلاً تحركه من ردّ فعل عسكري إلى بناء مشروع سياسي متكامل يتجاوز الحدود الوطنية.

لقد أظهر الحزب قدرةً كبيرةً على المرونة في خطابه السياسي؛ ففي تركيا حافظ على خطاب المقاومة وحقوق الأكراد ضمن الدولة، وفي سوريا تبنّى خطابًا محليًا متعدد القوميات والأديان. ولم يكن هذا التنويع الخطابي انفصامًا، بل تعبيرًا عن قدرة تأطير الأيديولوجيا الأصلية ضمن قوالب تلائم السياقات المختلفة. ولذلك، رغم محاولات تركيا عزل الحزب وتدميره عسكريًا وسياسيًا، فإن قدرته على التمدد الجغرافي والفكري جعلت منه تنظيمًا غير محصور في فضاء واحد. وبهذا المعنى، تحوّل الحزب إلى بنية سياسية-اجتماعية مرنة، عابرة للحدود، قادرة على العيش داخل الأزمات.

وبشكل عام، يمكن القول إن تكيّف حزب العمال الكردستاني مع التحولات الإقليمية والدولية لا يُعد تكتيكًا ظرفيًا، بل هو سمة هيكلية في تكوينه، جعلته لاعبًا دائمًا في الجغرافيا السياسية الكردية والشرق أوسطية. ومن خلال التحول من حركة محلية إلى فاعل إقليمي ذي أذرع متعددة، استطاع الحزب أن يُحافظ على فعاليته، رغم الحصار، والتصنيف الأمني، والتهديد المستمر، وهو ما يُفسر استمرار حضوره وتأثيره في المشهد السياسي إلى اليوم.

كاريزما القائد ومرجعية أوجالان

منذ لحظة اعتقال عبد الله أوجالان في 15 فبراير 1999 ونقله إلى سجن إيمرالي المعزول، ظن كثيرون أن الحزب سيدخل في طور الانهيار أو على الأقل التشظي، كما جرى مع حركات أخرى فقدت قادتها الكاريزميين. غير أن الواقع خالف كل التوقعات، إذ لم تُنتج القيادة الجديدة أي شخصية منافسة رمزيًا أو سياسيًا لأوجالان، بل حافظت على موقعه كـ”مرجعية فكرية وروحية مطلقة”.

إن ما يجعل كاريزما أوجالان مختلفة عن معظم زعماء الحركات الثورية في المنطقة هو أنها لم تُبْنَ على مجرد نجاحات عسكرية أو لحظات صدامية مع السلطة، بل على:

  • بناء سردية أيديولوجية متماسكة منذ التأسيس، تشمل تصورات حول الدولة، والمجتمع، والهوية.
  • حضوره الشخصي المؤثر في تدريب وتأهيل الكوادر، وإرساء نموذج “الثوري الملتزم”، وهو ما جعله في نظر الأعضاء ليس فقط قائدًا، بل “صانعًا للمعنى”.

ومن ثم، فإن غيابه الجسدي لم يُضعف حضوره الرمزي، بل عزّزه، إذ تحوّل السجن إلى “محراب نظري” يُنتج فيه الكتب، والرؤى، والتكتيكات، ما أعاد ربط الحزب به بوصفه “مفكر الثورة”، لا مجرد قائدها. كما أن أحد أبرز عناصر قوة مرجعية أوجالان قد تمثل في تبنيه خطابًا إصلاحيًا دون المساس بجوهر المشروع الثوري. ففي حين دخلت حركات مشابهة في تخبط بين الواقعية السياسية والانكفاء الأيديولوجي، استطاع أوجالان من داخل محبسه أن:

  • ينقل الحزب من الماركسية اللينينية إلى أطروحة “الأمة الديمقراطية” دون أن يفقد قاعدته الأيديولوجية.
  • يُقنع التنظيم بتبني العمل السياسي والمدني في بعض المراحل، إلى جانب المسلح، كجزء من “الحداثة الديمقراطية”.
  • يحافظ على تماسك البنية التنظيمية رغم كثرة الانقسامات في البيئة الكردية عمومًا.

ولهذا ففي حين فقدت كثير من الحركات المسلحة بوصلتها بعد غياب الزعيم (مثل منظمة مجاهدي خلق بعد تهميش مسعود رجوي، أو فصائل المقاومة الفلسطينية التي تشتتت بين اتجاهات)، فإن حزب العمال الكردستاني قد حافظ على نظام ولاء أيديولوجي مركزي، كما أنه لم ينحدر إلى “صراع أجنحة”. بعبارة أخرى فإن الحزب قد استثمر في غياب الزعيم لا لتحويله إلى ماضٍ مُقدَّس، بل كمصدر إنتاج فكري حيّ.

خلاصة ما سبق، فإن حزب العمال الكردستاني قد أثبت أنه ليس مجرد تنظيم مسلح، بل مشروع طويل النفس يعيد إنتاج ذاته باستمرار. لقد واجه واحدة من أقسى حملات الإبادة السياسية والأمنية، ومع ذلك استطاع أن يتحوّل إلى حركة سياسية-اجتماعية ذات بُعد إقليمي. وبالتالي، فإن بقائه لأكثر من 40 عامًا لا يعود فقط إلى عوامل القوة العسكرية أو الجغرافيا، بل إلى مزيج معقد من الانضباط التنظيمي، التحولات الأيديولوجية، شبكات الدعم الشعبي، والقدرة على التكيف مع المعادلات الدولية. وقد لا يكون الحزب قد حقق “الدولة الكردية”، لكنه نجح في بناء هوية كردية حديثة تتجاوز العشيرة والحدود، وتُعيد تشكيل القضية الكردية من منطق الولاء إلى منطق الفعل السياسي المنظم.

من العمل المسلح إلى النضال السياسي

ننتقل الأن إلى التطورات الأخيرة التي تزامنت مع إعلان الحزب انتقاله من دائرة العمل المسلح إلى حل بنيته التنظيمية وتبني خيار “النضال المسلح” تلبية لدعوة مؤسسه وقائده عبد الله أوجالان من معتقلة بسجن إمرالي في 27 فبراير الماضي. فقد أعلن الحزب في مؤتمره الثاني عشر، الذي عُقد بين 5 و7 مايو في شمال العراق، عن “إنهاء الكفاح المسلح” و”حلّ البنية التنظيمية”، معتبرًا أن نضاله “أوصل القضية الكردية إلى مرحلة قابلة للحلّ عبر السياسة الديمقراطية . هذا الأمر الذي يعني الانتقال من العمل العسكري إلى العمل السياسي، مما يفتح المجال للمشاركة في الحياة السياسية التركية بطرق سلمية.

الفرص المتاحة للدفع نحو هذا التوجه

رغم ردود الفعل الإقليمية والدولية التي تعاطت بشكلٍ إيجابي مع التوجهات الأخيرة لحزب العمال الكردستاني، إلا أن فرص المضي نحو المستقبل في ظل هذا التوجه تظل مرهونة بمدى التزام الدولة التركية بخط سياسي منفتح يقابل “دعوة السلام” التي أطلقها عبد الله أوجالان في 27 فبراير الماضي، ولذلك فإن التفاعل الإيجابي بين الطرفين – الحزب والدولة التركية – من شأنه تخفيف بعض القيود التي يعاني منها الكرد في الداخل التركي مثل إلغاء الحظر عن بعض التنظيمات السياسية التي تظن السلطات التركية أنها مُقربة من حزب العمال الكردستاني، وتحسين ظروف اعتقال أجوجالان كجزء من عملية مصالحة أوسع وربما يصل الأمر لإطلاق سراحه، تمهيدا لفتح حوار سياسي وطني حول الحقوق الكردية، يتجاوز المقاربة الأمنية التقليدية. لكن هذا المسار سيظل هشًّا، ما لم تتوفر ضمانات سياسية ودستورية تسمح بالفعل بممارسة العمل الديمقراطي دون وصم أو تقييد.

التحديات أمام هذا التواجه

رغم الفرص السابقة، إلا أن الانتقال من العمل المسلح إلى العمل المدني يطرح تحديات وجودية:

  • كيف سيُعاد تشكيل القيادة؟ فالحزب قائم على هيكل شبه عسكري، وحلّه يتطلب بناء بنية سياسية مدنية جديدة.
  • هل ستندمج قواه المسلحة السابقة في الحياة المدنية، أم ستبقى كيانات مستقلة؟
  • كيف ستتفاعل تركيا مع هذا الإعلان؟ هل ستفتح قنوات تفاوض أم تواصل المسار الأمني؟

لكن بشكل عام فإن استجابة الدولة التركية لهذا التوجه تظل رهونة بعدة عوامل داخلية وإقليمية، ويمكن النظر إلى هذا السؤال من زاويتين: الواقعية السياسية، والتجربة التاريخية.

التجربة السابقة: مؤشرات على التردد وعدم الثقة

فقد سبق لتركيا أن خاضت مسارًا للحوار مع الحزب في ما عُرف بـ”مسار السلام” بين عامي 2013 و2015، والذي تضمن رسائل مباشرة من عبد الله أوجالان، وتوقف العمليات العسكرية مؤقتًا. غير أن المسار انهار بعد تصاعد التوترات السياسية والعمليات العسكرية، خاصة بعد انتخابات 2015.

وهذا ما يُظهر أن الثقة المتبادلة بين الطرفين تبدو ضعيفة (إن لم تكن معدومة)، وأن أي استجابة تركية تحتاج إلى تغيّر في المعادلة السياسية الداخلية.

الوضع السياسي الداخلي التركي

الدولة التركية تشهد حاليا تحولات وتحديات دقيقة منها سيطرة قومية متزايدة في الخطاب الرسمي، خاصة في ظل التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، المعروف بموقفه المتشدد من القضية الكردية. كما أن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية قد تجعل من أي خطوة نحو التهدئة السياسية محل توظيف انتخابي أو تلاعب. ومن جهة أخرى، هناك قوى سياسية تركية معارضة(مثل حزب الشعب الجمهوري)  بدأت تتحدث عن ضرورة إنهاء المقاربة الأمنية والتوجّه لحل سياسي شامل، خصوصًا بعد صعود رموز كردية معتدلة مثل صلاح الدين دميرطاش.

الحسابات الإقليمية

فتركيا تعتبر أن حزب العمال الكردستاني ليس فقط تهديدًا داخليًا، بل أيضًا جزء من شبكة إقليمية تمتد في سوريا والعراق. وبالتالي فإن تجاوبها مع التحول المعلن سيتوقف أيضًا على قدرة الحزب على فصل نشاطه داخل تركيا عن امتداداته الإقليمية، ومدى وجود ضمانات بعدم استغلال التحول السياسي لبناء كيان موازٍ على حدودها، فضلا عن مدى رضا القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، عن هذا التحول وتأثيره على توازنات الملف السوري، وفي هذا الإطار يمكن القول بأن الحزب قد أبدى عدداً من المؤشرات الإيجابية التي تعزز هذا التوجه مثل سرعة الاستجابة لدعوة أوجالان وعقد مؤتمره العام ثم إقرار حل الحزب، وإن كانت هذه الاستجابة مشروطة بالإفراج عن أوجالان كما تضمن بيان الحزب في أول مارس الماضي.

السيناريوهات المستقبلية

بناء على ما سبق، نكون بصدد سيناريوهات محتملة يمكن الإشارة إليها فيما يلي:

  • سيناريو إيجابي: إذا قررت الدولة التركية إعادة فتح قنوات الحوار ضمن شروط محددة (نزع السلاح بالكامل، فصل التنظيمات الإقليمية عن الداخل التركي)، كما حصل في 2013 لكن دون إعلان رسمي، غير أن هذا السيناريو يبقى مرهونا بتغيرات سياسية أو ضغوط دولية ما يعني أنه سيناريو ضعيف في الوقت الحالي.
  • سيناريو واقعي: وهو يتوافق مع رد فعل الدولة التركية على التطورات الأخيرة، حيث تتجاهلالإعلان، وتستمر في نهجها الأمني، معتبرة أن الخطوة مجرد مناورة، خصوصًا إذا لم تترافق بخطوات فعلية على الأرض، وهو ما يجعل هذا السيناريو واقعية حتى اللحظة لاسيما مع عدم توقف العمليات وأن العمليات العسكرية التركية شمالي العراق، فضلا عن عدم وجود أية مؤشرات على انسحاب الوجود العسكري التركي (يوجد نحو 80 قاعدة بما يتجاوز 5 آلاف جندي بأسلحة مختلف) من المنطقة او حتى تخفيفه رغم الإعلان عن حل الحزب.
  • سيناريو سلبي: استخدام الإعلان كذريعة لمزيد من الضغط السياسي على الأحزاب الكردية المدنية، واتهامها بالارتباط بحزب العمال الكردستاني، مما قد يُعقّد الوضع أكثر.

في ضوء ما سبق، يبقى التغيير ضرورة تفرض نفسها على عقل النخبة التركية التركي فيما يتصل بمستقبل الدولة بما ينطوي من تحديات مصيرية، الأمر الذي يفرض على الجميع المرونة وإبداء التنازلات المتبادلة لإثبات الجدية في التعامل مع معطيات استثنائية في بيئة إقليمية تجتاحها رياح التغيير الجذري حتى وإن تطلب ذلك عقدًا اجتماعيًا جديدًا ينظم العلاقة بين كافة مكونات المجتمع في تركيا وذلك إطار مدني ديمقراطي يقوم على التشاركية بعيدًا عن الأحادية المميزة للنهج القومي الضيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى