مقالات

تأثيرات الذكاء الاصطناعي على منظومة العلاقات الدولية

تحليل: د. أحمد فتحي

تعد الدبلوماسية “عملية ينخرط فيها فاعلون يعيشون ضمن منظومة العلاقات الدولية، ويشاركون في تواصل علني وسري لتحقيق أهدافهم بوسائل سلمية تقليدية”، ولا يزال الدبلوماسيون العاملون في السفارات والقنصليات يسعون لأداء مجموعة من المهام، مثل إيجاد أرضية مشتركة لتحسين العلاقات الثنائية عبر الحوار، وجمع المعلومات الاستراتيجية وإيصالها إلى حكوماتهم، بالإضافة إلى ممارسة “الدبلوماسية العامة” من خلال الترويج لثقافة وتراث بلدانهم بهدف تكوين صورة إيجابية لدى شعوب الدول المضيفة، كما يستخدم الدبلوماسيون في المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف استراتيجيات مشابهة عند التفاوض حول مصالح مشتركة، قبل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كانت الدول تتفاعل فيما بينها عبر الدبلوماسية التقليدية، التي أصبحت اليوم تشهد تحوّلًا متزايدًا نحو الذكاء الاصطناعي.

وتشير “الدبلوماسية الرقمية” إلى استخدام الإنترنت والتقنيات المتقدمة لتعزيز الأساليب التقليدية في إدارة العلاقات الدبلوماسية بين الدول. في بداياتها، ارتبطت الدبلوماسية الرقمية باستراتيجية اتبعها الدبلوماسيون للتواصل المباشر والمفتوح مع الجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل “X تويتر سابقًا” و”فيسبوك”، وقد اكتسب هذا المفهوم اهتمامًا متزايدًا من الحكومات والباحثين على حد سواء، لا سيما مع تطور الذكاء الاصطناعي والقدرات السيبرانية المرتبطة به، ويعتبر أول مثال معروف على الدبلوماسية الرقمية هو استخدام الحزب النازي لموجات الراديو لنقل خطب هتلر إلى دول بعيدة مثل الأوروغواي، في محاولة لنشر الدعاية النازية خارج ألمانيا.

ولكن ما يميز الدبلوماسية الرقمية الحديثة عن نظيرتها في عهد هتلر هو تطور التكنولوجيا الذي جعلها تعزز الحوار بدلًا من فرض خطاب أحادي الاتجاه، ويعود استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في العمل الدبلوماسي إلى فترة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، خلال إدارة الرئيس أوباما، والتي وصفت هذه المنصات بأنها أدوات “الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين”، لما توفره من قدرة على “التواصل المباشر مع الشعوب حول العالم، متجاوزة العلاقات الحكومية التقليدية”.

وقد أدى نجاح هذه التجربة إلى ظهور مصطلح “تويبلوماسية” (Twiplomacy)، وهو مزيج من كلمتي “تويتر” و”دبلوماسية”، والذي سرعان ما ألهم قادة ومسؤولي الشؤون الخارجية حول العالم لاستخدام المنصات الرقمية لإدارة المبادرات الدبلوماسية، وكان الربط بين الرقمنة والدبلوماسية العامة خطوة محورية في كسر الحواجز بين البيروقراطية النخبوية والجمهور العام، ومن أبرز الأمثلة على هذا التوجه، حملة “قابل وزير الخارجية” التي أطلقها ويليام هيغ، وزير الخارجية البريطاني، والتي أُتاح فيها الفرصة للمواطنين لطرح آرائهم بشأن قضايا دولية مقابل احتمال الفوز بعشاء مع الوزير ومجموعة من الأشخاص المختارين.

وساهمت “تويبلوماسية” في تخفيف بعض المواقف المتصلبة تاريخيًا، كما ساعدت على كسر بعض القيود المفروضة على العلاقات الدولية، ومن الأمثلة على ذلك، قيام وزارة الخارجية الأميركية بمتابعة نظيرتها الكوبية على تويتر، والتي بادلتها بالمثل، في خطوة رمزية عكست تحوّلًا في لغة العلاقات بين البلدين.

إعادة تشكيل النفوذ

تحافظ الولايات المتحدة على مكانتها كقوة عظمى في العالم بفضل عاملين رئيسيين: تفوقها العسكري ونفوذها الاقتصادي، إلا أن جولة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الشرق الأوسط هذا الشهر والتي شملت السعودية، الأمارات، قطر، تكشف عن بروز أداة جديدة من أدوات الدبلوماسية الجيوسياسية، وهي الذكاء الاصطناعي، في ظل تصاعد حدة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال.

تركز الولايات المتحدة بشكل متزايد على دبلوماسية الذكاء الاصطناعي مع الدول الحليفة، من خلال تصدير أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويمكن تفسير الاستقبال الحافل الذي حظي به ترامب من قادة دول الخليج جزئيًا من خلال تحول كبير في السياسات، فقد أعلنت وزارة التجارة الأمريكية، تزمنًا مع زيارته الخليجية، عن خطط لإلغاء “قاعدة نشر الذكاء الاصطناعي” التي أقرتها إدارة بايدن، والتي كانت تقيد تصدير أقوى شرائح الذكاء الاصطناعي إلى دول عدة، من بينها دول الشرق الأوسط، ويفتح إلغاء هذه القيود آفاقًا واسعة أمام شركات الشرائح الأمريكية، وعلى رأسها “نيفيديا”، التي ارتفعت أسهمها بنسبة 6% خلال زيارة ترامب لدول الخليج، كما يتوقع أن يؤدي هذا التغيير إلى زيادة الاستثمارات العالمية في إنشاء مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي في السعودية والأمارات.

وأعلن ترامب عن سلسلة من اتفاقيات الاستثمار بين الولايات المتحدة والسعودية، من بينها شراكة بين شركة “نيفيديا” وشركة “هيومن”، وهي شركة سعودية ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي مدعومة من صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وتهدف هذه الشراكة إلى بناء مراكز بيانات تعتمد على مئات الآلاف من وحدات المعالجة الرسومية المتقدمة من نيفيديا.

ويظهر هذا التحول مدى التغيير في النهج الأمريكي، فخلال فترة رئاسة بايدن، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة أكثر تحفظًا تجاه الذكاء الاصطناعي، واعتبرت ضوابط تصدير الشرائح حينها خطوة ضرورية لحماية الأمن القومي والحفاظ على التفوق الأمريكي في سباق الذكاء الاصطناعي، وقد أيد العديد من العاملين في قطاع التكنولوجيا هذه السياسات، خاصة تلك المتعلقة بالعتاد المتطور، باعتبار أن “حرمان المنافسين من أفضل الشرائح هو أحد الأوراق التي يمكن للولايات المتحدة استخدامها للحفاظ على تفوقها”، كما قال أحد المصادر. ونتيجة لذلك، حافظت شركات أمريكية مثل “أوبن إيه آي” و”أنثروبيك” على أفضليتها في الوصول إلى شرائح متقدمة، بينما اضطرت الشركات الصينية مثل “ديب سيك” إلى البحث عن بدائل.

لكن المشهد تغيّر منذ مغادرة بايدن للبيت الأبيض، فالولايات المتحدة لم تعد الوحيدة القادرة على إنتاج شرائح قادرة على تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطورًا، فقد بدأت شركة “هواوي” الصينية بشحن شريحة “Ascend 910C” التي تضاهي شرائح نيفيديا، إلى جانب نظام الخوادم المتقدم “CloudMatrix 384″، المنافس لـ”GB200 NVL72” من نيفيديا. وتستخدم هذه الأنظمة في مراكز الأبحاث الصينية، كما بدأت الصين تسوّقها عالميًا.

وقد أثار هذا التطور قلقًا في واشنطن، حيث حذرت وزارة التجارة الأمريكية من أن استخدام شرائح “Ascend” من هواوي قد يشكل انتهاكًا لقوانين التصدير الأمريكية، نظرًا لاحتمال تصنيعها باستخدام تكنولوجيا منشأها الولايات المتحدة، لكن تنفيذ هذه القيود سيكون أمرًا صعبًا في ظل سعي العديد من الدول إلى إيجاد بدائل أو موازنة علاقاتها بين واشنطن وبكين.

وباتت نماذج الذكاء الاصطناعي وشرائحه تمثل وسيلة دبلوماسية للدول لبسط نفوذها على الساحة الدولية، وهذا ما نشهده حاليًا في الشرق الأوسط، فإدارة ترامب لا تسعى فقط لفتح أسواق جديدة أمام “نيفيديا”، بل تهدف أيضًا إلى ترسيخ الهيمنة الأمريكية في مجال الذكاء الاصطناعي وجعله المعيار العالمي المعتمد، ومع ذلك، فإن غياب معايير ونظم تنظيمية عالمية متفق عليها يثير تساؤلات أخلاقية تتطلب معالجة عاجلة لضمان الشفافية والمساءلة في الممارسات الدبلوماسية ومع استمرار تأثير الذكاء الاصطناعي على موازين القوى العالمية، تبرز الحاجة الملحة لوضع أطر قانونية دولية تعالج هذه التحديات الأخلاقية، وتدعم نهجًا مسؤولًا وتعاونيًا عالميًا في استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل الدبلوماسي.

الذكاء الاصطناعي والدبلوماسية

في ظل تنامي الاهتمام العالمي بالذكاء الاصطناعي (AI) في مجالي العلاقات الدولية ودراسات الأمن، بدأت تبرز نقاشات متزايدة حول دور الذكاء الاصطناعي في العمل الدبلوماسي، وإن كانت وتيرة النقاشات الأكاديمية لا تزال بطيئة وتفتقر إلى إطار تحليلي واضح، والسؤال الرئيسي الذي يشغل صانعي السياسات في الوقت الراهن هو ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا بالفعل على الوفاء بوعوده بإعادة تشكيل مستقبل العلاقات الدولية، أم أنه سيتجه نحو مرحلة جديدة من الشكوك والركود.

شهد مجال الدبلوماسية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي نشاطًا ملحوظًا خلال العامين الماضيين، فقد أسفر “مسار هيروشيما حول الذكاء الاصطناعي” عن إصدار “المبادئ التوجيهية الدولية ومدونة السلوك الفاعلين في مجال الذكاء الاصطناعي” عن مجموعة السبع G7 في 2023، في حين ساهم الاتحاد الأوروبي في قواعد موحدة للمنظمات دخلت حيز التنفيذ بموجب “قانون الذكاء الاصطناعي” في 2024.

وفي الوقت ذاته، جاء “الاتفاق الإطاري لمجلس أوروبا بشأن الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان” كأول اتفاقية دولية ملزمة قانونًا على الإطلاق تهدف إلى ضمان احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والمعايير القانونية للديمقراطية عند استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث تتضمن المعاهدة، التي تتيح الانضمام للدول غير الأوروبية أيضاً، إطاراً قانونياً يشمل دورة حياة أنظمة هذا الذكاء بأكملها ويعالج المخاطر التي قد تشكلها، مع تعزيز الابتكار المسؤول، وإلى جانب ذلك، برزت “الهيئة الاستشارية رفيعة المستوى للذكاء الاصطناعي”، والتي ينتظر أن تلعب دوراً محورياً في صياغة التشريعات الدولية الخاصة بالذكاء الاصطناعي تحت مظلة الأمم المتحدة.

لتظهر دبلوماسية الذكاء الاصطناعي (AI Dipسlomacy) هي مفهوم متعدد الأبعاد يستند إلى التفاعل بين تقنيات الذكاء الاصطناعي وممارسات العلاقات الدولية، ويمكن تلخيص التعريف الأكاديمي ضمن ثلاثة محاور رئيسية:

  1. دبلوماسية الذكاء الاصطناعي في سياق القانون الدولي

تعرف بعض الدراسات دبلوماسية الذكاء الاصطناعي على أنها العملية التي تساهم بها الدول في صياغة الأطر القانونية والتنظيمية لاستخدام وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي على المستوى الدولي، بمعنى آخر، هي نوع من التعاون بين الدول من أجل وضع معايير ملزمة أو توجيهية تحكم حوكمة الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الضوابط الخاصة بالأنظمة ذات المخاطر العالية أو المستخدمة في الأنشطة العسكرية، ويتعين هنا اعتبار دبلوماسية الذكاء الاصطناعي كعملية تؤثر في الجمهور الأجنبي وشكل الصورة الدولية للدولة عبر زيادة استخدام تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تطورها شركاتها، وذلك في سياق الدبلوماسية العامة والقانونية على حد سواء.

  • دبلوماسية الذكاء الاصطناعي في سياق الدبلوماسية العامة (Public Diplomacy)

يربط هذا البعد بين الذكاء الاصطناعي ومفهوم “القوة الناعمة” للدولة، حيث تسعى الدول إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز صورتها الإيجابية في الخارج، فعندما تقدم دولة خدمات أو منتجات قائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل روبوتات الدردشة التفاعلية أو منصات الترجمة الآلية، فإن ذلك يساهم في إظهار تقدمها التقني ويعزز مكانتها وعلاقاتها مع الشعوب الأجنبية، ويدخل الذكاء الاصطناعي كأداة في الدبلوماسية العامة من خلال تعزيز صور الدول عند الشعوب الأجنبية، بحيث يعمل التقدم التقني على تكوين انطباع إيجابي عن الدولة ومكانتها الدولية.

  • دبلوماسية الذكاء الاصطناعي كأداة للدبلوماسية التقليدية

في هذا السياق، ينظر إلى الذكاء الاصطناعي كوسيلة تقنية تمكن الدبلوماسيين من أداء مهامهم بكفاءة أكبر، مثل تحليل البيانات الضخمة لاستخلاص توجهات الرأي العام أو صياغة المفاوضات الدولية بناء على تنبؤات مدعومة بالخوارزميات، كما يشمل هذا البعد تطوير أدوات رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتسهيل التواصل بين البعثات الدبلوماسية ومتابعة الأخبار العالمية أو مراقبة المخاطر الأمنية، وتشمل دبلوماسية الذكاء الاصطناعي الأدوات والتقنيات المبنية على الذكاء الاصطناعي التي يستخدمها الدبلوماسيون لتوقع التطورات، وصياغة الوثائق، وتحليل البيانات، ما يترجم إلى تحول ملموس في ممارسات الدبلوماسية الرسمية”.

ويشهد المجال الدبلوماسي تحولًا كبيرًا مع إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث تسعى وزارات الخارجية حول العالم إلى تحديث أدواتها وتحقيق قدر أكبر من الكفاءة، وقد أدى ذلك إلى ظهور دبلوماسية أكثر تطورًا تقنيًا، تعزز من قدرات الدبلوماسيين وتسمح لهم بالتركيز على الجوانب الاستراتيجية والأخلاقية، بدلًا من الانشغال بالمهام الإدارية الروتينية، وبفضل قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة ودقة، بات يشكل أداة ذات قيمة كبيرة، رغم استمرار الجدل حول مدى ملاءمته للسياقات الدبلوماسية الحساسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى