
لعب النسيج والزي الكردي وإيقاعاته اللونية دورا في البناء المتجدد لهوية كردية ترنو أن تكون موحدة وموسومة بالمقاومة لتيمات القومية الغالبة لكل تمايز إثني أو نوعي. فحول النسيج خيال جمعي، وبه ومنه مقاومة للصهر العام، وبالألوان حضور لتيمات تراثية تعضد سردية كردية ترنو أن تكون عابرة للحدود والفواصل السياسية والزمنية. إذ، لطالما كانت الملابس الكردية رمزًا للهوية والتقاليد العريقة لقرون. ويتجذر الفخر اللوني والمقاومة بالنسيج في المناطق الجبلية في كردستان، الممتدة عبر عدة دول، منها العراق وإيران وسوريا وتركيا، وتُجسّد الملابس الكردية مزيجًا فريدًا من التقاليد والفخر الثقافي والحرفية الفنية. ولكل منطقة ولهجة داخل المجتمع الكردي أسلوبها الخاص، مما يجعل الملابس الكردية متنوعةً بتنوع من يرتديها. تشتهر الملابس الكردية بألوانها النابضة بالحياة وأنماطها المعقدة وزخارفها المصنوعة يدويًا. سواء كانت للرجال أو النساء، وهذه الملابس ليست جميلة فحسب، بل تحمل أيضًا أهمية تاريخية. كل قطعة لها قصة تعكس التاريخ الغني للكرد.
من السهل أن ننسى أن للملابس التي نرتديها تاريخًا. فجميع المجتمعات، بدرجات متفاوتة من الصرامة، تفرض قواعد معيّنة تتعلّق بكيفية ارتداء الرجال والنساء والأطفال لملابسهم، أو بكيفية تَقدُّم الفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة في مظهرها. وتُسهم هذه القواعد في تشكيل هوية الأفراد، وطريقة رؤيتهم لذواتهم، والطريقة التي يرغبون أن يراهم بها الآخرون. وهي تحدد مفاهيمنا حول الرشاقة والجمال، كما تشكّل تصوراتنا عن الحياء والخجل. ومع تغيّر الزمن وتحوّل المجتمعات، تتغيّر أيضًا هذه المفاهيم. وتصبح التعديلات التي تطرأ على اللباس انعكاسًا لهذه التحولات. ولقد ارتبط ظهور العالم الحديث بتحولات جذرية في الأزياء. وفي هذا الفصل، سنستعرض بعض الجوانب التاريخية لتطور الملابس خلال الحقبة الحديثة، أي في القرنين التاسع عشر والعشرين.
قبل زمن الثورات الديمقراطية وتشكّل الأسواق الرأسمالية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، كان أغلب الناس يرتدون أزياء تقليدية مرتبطة بمنطقتهم، ومقيّدة بأنواع الأقمشة المتوفرة وتكاليفها. كما كانت أنماط الملابس خاضعة لتنظيم صارم حسب الطبقة الاجتماعية، أو الجنس، أو المكانة داخل السلم الاجتماعي. لكن بعد القرن الثامن عشر، غيّر الاستعمار الأوروبي لمعظم أنحاء العالم، وانتشار الأفكار الديمقراطية، ونمو المجتمع الصناعي، الطريقة التي يفكر بها الناس حول اللباس ومعانيه. أصبح بإمكان الناس ارتداء أنماط وخامات مستوحاة من ثقافات ومناطق أخرى، وسرعان ما انتشرت أنماط اللباس الغربية للرجال في مختلف أنحاء العالم. غيّرت الثورة الفرنسية العديد من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك إلغاء قوانين اللباس المعروفة باسم “قوانين الترف الفخمة” (sumptuary laws) .
نسيج التمايز عن العثمانية
لطالما اعتُبرت الملابس مؤشرًا على تكوين الهوية القومية وتحولاتها في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. ومع أن الأدبيات البحثية حول هذا الموضوع تركز غالبًا على التجارب التركية والعربية والإيرانية، فإن فحصًا دقيقًا لصور ووثائق الشخصيات الكردية البارزة خلال الفترة العثمانية وما بعدها يكشف عن الأهمية الرمزية للباس في بلورة الوعي القومي الكردي. فقد مثلت خيارات اللباس لدى النخب الكردية رؤيتهم للقضايا الأوسع المتعلقة بالهوية، بدءًا من ارتباطهم بالدولة العثمانية في مواجهة الحركات القومية الانفصالية، وصولًا إلى تصورهم لأنفسهم كجماعة متميزة ضمن الإمبراطورية متعددة الأعراق، وانتهاءً بكفاحهم من أجل الاستقلال ومقاومة الحكم التركي والعربي بعد الحرب العالمية الأولى. كما أن مواقف “الرجال الكرد” من اللباس يفتح نافذة لفهم جدالات أوسع حول اللباس في سياقَي نهاية الدولة العثمانية وبداية الدول القومية الجديدة التي نشأت بعدها. ومن ثم، يبرز التساؤل، كيف شكّل اللباس، بأنواعه المختلفة، الهويات المتعددة والمتراكبة لرجال النخبة الكردية العثمانية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. عكست مواقفهم من اللباس علاقتهم بالدولة العثمانية التي كانت تواجه تهديد الحركات القومية الانفصالية والتدخل الإمبريالي الغربي؛ كما عكس تصوّرهم لأنفسهم ككرد ضمن مجتمع متعدد الأعراق داخل الإمبراطورية؛ وفي نهاية المطاف، نضالهم من أجل الاستقلال الكردي ومقاومة الحكمين التركي والعربي بعد الحرب العالمية الأولى.
كان اندماج العائلات الكردية النبيلة مثل عائلة بدرخان جزءًا من مشروع التحديث العثماني الذي بدأ في أوائل القرن التاسع عشر. فقد سعت السلطنة خلال فترة التنظيمات (1839-1876) إلى دمج رعاياها المتنوعين دينيًا وإثنيًا ضمن هوية عثمانية موحدة، وهو ما انعكس على إصلاحات اللباس. فحتى ذلك الوقت، كانت الملابس تعكس التمايزات العرقية والدينية والاجتماعية، لكن السلطان محمود الثاني (1808-1839) فرض زيًا موحدًا جديدًا، حيث أُجبر الجنود والموظفون المدنيون على ارتداء البدلات الأوروبية والطربوش الأحمر، الذي أصبح رمزًا رسميًا للهوية العثمانية بموجب قانون اللباس لعام 1829. ومع مرور الوقت، أصبح الطربوش والبدلة الأوروبية دلالة على الحداثة والهوية العثمانية في أوساط الرجال في المدن، بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية. وعلى الرغم من أن الإصلاحات العثمانية شجعت على تبني الملابس الأوروبية، إلا أن الأزياء التقليدية ظلت راسخة في المناطق الريفية، كما يتضح في ألبوم صور يعود لعام 1873 يوثق الملابس الشعبية عبر أنحاء الدولة العثمانية. حرص المحرران، عثمان حمدي بك وفيكتور ماري دي لوناي، على إبراز التنوع الثقافي في الإمبراطورية في الألبوم الذي أعد لعرضه في المعرض العالمي في فيينا عام 1873. هذه النزعة نحو توثيق التقاليد المحلية، رغم التوجه العام نحو التحديث، تعكس ما أسماه بعض الباحثين بـ”الاستشراق الذاتي العثماني”، حيث كان العثمانيون يفخرون بحداثتهم، لكنهم في الوقت ذاته حرصوا على تقديم أنفسهم للعالم الغربي كحماة للتراث الشرقي الأصيل.
من بين الصور التي تضمنها الألبوم، تظهر ثلاث شخصيات ترتدي الزي الكردي التقليدي في ديار بكر، جَزْرة، وماردين، وكل منهم يمثل نمطًا محليًا مميزًا. كان لباس الشخصية القادمة من جزرة ذا أهمية خاصة، حيث كانت هذه المدينة مركزًا رئيسيًا لإمارة بدرخان في بوطان. عثمان حمدي بك، أحد محرري الألبوم، أبدى إعجابه بهذه الأزياء، حتى أنه اختار ارتداء الزي الكردي في معرض فيينا بدلاً من البدلة الأوروبية والطربوش العثماني، ربما لجذب انتباه الجمهور. لم يكن هذا الانتقال بين الأزياء مقتصرًا على العثمانيين الأتراك فقط، بل شمل النخبة الكردية العثمانية أيضًا، كما يتضح من صور آل بدرخان في أرشيف قصر دولما بهجة. في إحدى الصور، يظهر سريّا بدرخان مرتديًا بدلة أوروبية مع ربطة عنق وطربوش، بينما يظهر في صورة أخرى مرتديًا العباءة الكردية مع عمامة، ممسكًا ببندقية وسيف، في تعبير عن هويته الكردية العثمانية المتداخلة.
في صورة من أرشيف قصر دولماباهتشي، يظهر أحد أبناء بدر خان بك، أمين علي بدرخان (1851-1926) إلى جانب أبنائه الثلاثة: سرية (1883-1938)، جلادت (1893-1951)، وكاميران (1895-1978). جميعهم يرتدون بدلات أوروبية مع فيزاتهم. في التسمية المكتوبة على الصورة، تم تقديم أمين علي بوصفه “مفتش في مدينة أنقرة”. رغم أن أمين علي وأولاده الثلاثة سيصبحون من طليعة قادة حركة الاستقلال الكردية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى عام 1918، فإن الصورة المأخوذة في الحقبة الحميدية (1876–1909) تُظهرهم وهم يرتدون الزي العثماني بوصفهم مواطنين عثمانيين ينحدرون من عائلة أمراء كرد. لم تؤدِّ إصلاحات الملابس العثمانية والترويج للزي الأوروبي الطابع إلى اختفاء الأزياء التقليدية بالكامل. فالألبوم المصور الذي أُعد عام 1873 لأزياء الشعوب في أرجاء الإمبراطورية يوضح بجلاء أن هذه الإصلاحات لم تتجاوز المراكز الحضرية. إن استمرار التنوع في الأزياء الإقليمية يمكن اعتباره نكسة لمشروع التحديث العثماني، لكنه كان أيضًا مصدر فخر للنخبة العثمانية المتغربة عند تقديم صورتها أمام العالم. وكان عثمان حمدي بك، وفيكتور ماري دو لوناي، محررا الألبوم، مثالين على هؤلاء السادة العثمانيين. أما الألبوم الذي حرراه بعنوان الأزياء الشعبية في تركيا عام 1873، فقد كان مشروعًا رسميًا يهدف إلى عرض التنوع الإقليمي في الأزياء العثمانية في المعرض العالمي لعام 1873 في فيينا.
من جهة، أقر المحرران بأهمية توحيد الأزياء على النمط الأوروبي لجميع العثمانيين، مشيرين إلى أن ذلك قد تحقق في مراكز مثل إسطنبول وإزمير. ومن جهة أخرى، كان هدفهما الأساسي من إعداد الألبوم هو عرض تنوع وغنى الأزياء التقليدية، والتي أطلقوا عليها مصطلح “أزياء”، التي يرتديها الناس العاديون في مختلف أنحاء الإمبراطورية. وأوضحا أن هذه الأزياء المحلية تعكس الظروف الفيزيائية والاجتماعية لمناطقها. كما تُظهر دراسات جوليا فيليبس كوهين وأسامة مقدسي أن انشغال هذين الرجلين العثمانيين المتغربين بتوثيق الأزياء الإقليمية الأصيلة يمكن اعتباره شكلاً من “الاستشراق الذاتي” أو “الاستشراق العثماني”. أي أنهما، مع اعتزازهما بتغريب المظهر العثماني، سعيا في الوقت ذاته إلى توثيق وعرض التنوع التقليدي في الأزياء البعيدة عن المراكز الحضرية الحديثة، لإبراز أصالة الإمبراطورية أمام الغرب.
ومن بين اللوحات الـ74 في ألبوم الأزياء الشعبية في تركيا، هناك لوحة واحدة، معنونة بالتركية العثمانية ومشروحة بالفرنسية، تُظهر ثلاثة نماذج حية ترتدي أزياء كردية من ولاية دياربكر، كل واحد منها يمثل نمطًا محليًا من أطراف دياربكر وجزيرة وماردين. ويُعد النموذج من جزيرة مهمًا بشكل خاص، لأن جزيرة كانت مركزًا رئيسيًا في إمارة بدرخان في بوطان. ويظهر النموذج وهو يرتدي غطاء الرأس التقليدي الملفوف حول الرأس، ومعطفًا، وقميصًا، وسروالًا فضفاضًا، وحزامًا مصنوعًا من نسيج موهير خاص، بالإضافة إلى جوارب صوفية وصنادل جلدية. وقد تأثر عثمان حمدي بك، أحد محرري الألبوم، بالأزياء الكردية التقليدية؛ إذ اختار في معرض فيينا عام 1873 أن يظهر بزي كردي بدلًا من زيه العثماني المعتاد، أي البدلة الأوروبية والطربوش، ربما لجذب اهتمام الجمهور.
حتى النخب الكردية العثمانية المتغربة في إسطنبول كانت تتنقل بين زيها العثماني الحديث والأزياء الكردية، كما تُظهر صور عائلة بدرخان في أرشيف قصر دولماباهتشي. فكونهم سادة عثمانيين حضريين، كانوا يرتدون عادةً الطربوش مع البدلة الأوروبية. لكنهم أيضًا كانوا يدركون ماضي عائلتهم المجيد في كردستان العثمانية. في إحدى الصور، يظهر شُريَّة بدرخان، مثل والده وأخويه، مرتديًا بدلة أوروبية وربطة عنق وطربوش. وفي صورة أخرى، يظهر وهو يرتدي عباءة كردية وغطاء رأس ويحمل بندقية وسيفًا، وقد وُصف في تعليق بخط اليد بأنه “شُريَّة، طالب في المدرسة السلطانية” (التي أصبحت لاحقًا ثانوية غلطة سراي). وتعكس طريقتا اللباس في هاتين الصورتين وعيًا إثنيًا ناشئًا لدى النخب الكردية العثمانية، وعيًا لم يكن بالضرورة يتعارض مع ولائهم للدولة العثمانية. وتُسمي كوهين هذا الانتقال بين الأسلوبين الغربي والشرقي خارج البلاد بـ”تبديل الأزياء”، وهي وسيلة أتاحت للنخب العثمانية التعبير عن تجذرهم في التقاليد الإمبراطورية، وفي الوقت ذاته، عن دورهم كمواطنين عصريين في عالم حديث. وفي حالة النخب الكردية العثمانية في إسطنبول، خدم “تبديل الأزياء” غرضًا إضافيًا؛ إذ كان زيهم العثماني، أي البدلات الغربية والطربوش، بمثابة مؤشر على هويتهم العليا كعثمانيين، في حين أن زيهم الكردي عكس هويتهم الفرعية وتجذرهم في وطنهم الأسلاف في كردستان العثمانية.
أما السلطات الإمبراطورية العثمانية فكان لديها بدورها سببٌ للاعتراف بالأزياء التقليدية في الإمبراطورية. فرغم أن فكرة العثمانية – التي وعدت بالمساواة بين المسلمين وغير المسلمين – لم توقف خسائر الأراضي، فإن طموحات المجتمعات المسيحية القومية في البلقان والقوقاز استمرت في تهديد وحدة الأراضي العثمانية. وبدا أن “العثمانية” كانت أكثر فاعلية في تحفيز المسلمين. لذا، عدّل السلطان عبد الحميد الثاني السياسة الرسمية قليلًا عبر الدعوة إلى “عثمانية ذات صبغة إسلامية”، إذ كان الاعتراف الرسمي بالتنوع العرقي والثقافي للمسلمين داخل الإمبراطورية وسيلة لتعزيز ولائهم. كما أن هذا التعريف الجديد للعُثمانية، مع التركيز على التضامن الإسلامي، استهدف أيضًا منع بروز النزعات القومية لدى المجتمعات المسلمة غير التركية، مثل العرب والكرد.
كما تشير جانيت كلاين، فإن مشروع التحديث العثماني كان يسعى إلى النفاذ إلى أطراف الإمبراطورية ودمج المواطنين المسلمين غير الأتراك في الأيديولوجيا الرسمية. وكان من الضروري ترسيخ ولاء النخب المسلمة غير التركية من أجل إنقاذ الدولة من التحديات الداخلية والخارجية. في هذا السياق، أنشأ السلطان عبد الحميد الثاني قوة “سلاح الفرسان الحميدية” من العشائر الكردية كجزء من استراتيجيته لتعزيز السيطرة على المناطق الحدودية. كما افتتح “المدرسة العشائرية الإمبراطورية” في إسطنبول عام 1892، لتعليم أبناء زعماء العشائر المسلمة. وقد ظهر طلاب هذه المدرسة، بمن فيهم الكرد والعرب، في ألبوم صور رسمي أعدّه السلطان بين عامي 1880 و1893، حيث ارتدوا ملابسهم التقليدية، ما يعكس السياسة الحميدية التي كانت توازن بين التحديث والحفاظ على الهويات المحلية لتعزيز الولاء للإمبراطورية. على الرغم من أن النخب المسلمة العثمانية تبنت القومية الإمبراطورية الرسمية أو العثمانية، إلا أنها لم تبقَ غير مبالية بدعوات القومية العرقية. كان اكتشاف الهوية العرقية أمرًا شائعًا بين النخب المسلمة المتعلمة، خاصة في المراكز الحضرية الكبرى للإمبراطورية، وخصوصًا في العاصمة إسطنبول، حيث تلقى المسلمون العثمانيون من أصول عرقية مختلفة تعليمهم. نشأت الحركات الثقافية القومية المبكرة مثل العروبة والكردية والطورانية جنبًا إلى جنب مع القومية الرسمية السائدة، العثمانية. اعتمد السادة الكرد، مثل نظرائهم العرب والألبان والأتراك، هذا المنظور الجديد وأعادوا النظر في تقاليدهم العرقية وثقافتهم ولغتهم. كما كانوا قلقين بشأن مصير إمبراطوريتهم، حيث عارض بعضهم حكم السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادي من أجل مصلحة الدولة. وشملت المعارضة للسلطان شخصيات عثمانية من أصول ألبانية وعربية وكردية وتركية، وعُرفت جميعها باسم “الاتحاد والترقي”.
نشر مقداد مدحت وعبد الرحمن بدرخان صحيفة “كردستان”، وهي جريدة ثنائية اللغة بالتركية العثمانية والكردية، في القاهرة عام 1898، ثم في أوروبا لاحقًا في هذا السياق. وكغيرهم من معارضي عبد الحميد في المنفى، كان آل بدرخان يتطلعون إلى استعادة النظام الدستوري الذي أوقفه السلطان عقب اندلاع الحرب الروسية-العثمانية (1877-1878). عكست صحيفة “كردستان” رغبة النخب الكردية في إقامة حكومة عثمانية أكثر تمثيلًا، وإجراء إصلاحات لصالح الكرد العثمانيين. في النهاية، فقدت عائلة بدرخان نفوذها بعد اغتيال رضوان باشا، رئيس بلدية إسطنبول، عام 1906 بسبب خلاف بينه وبين أحد أفراد العائلة البارزين. تم اعتقال العديد من أفراد آل بدرخان ونُفوا، ولم يعودوا إلى إسطنبول إلا بعد ثورة تركيا الفتاة عام 1908، التي أنهت حكم عبد الحميد الاستبدادي وأطاحت به في عام 1909. أطلقت ثورة تركيا الفتاة، بقيادة “لجنة الاتحاد والترقي”، الفترة الدستورية الثانية (1908-1918) وأعادت البرلمان والحياة السياسية. جلبت الأجواء الليبرالية القصيرة بعد الثورة حرية التجمع والصحافة، مما أدى إلى انتشار الجمعيات والصحف والمجلات. أسس الكرد في إسطنبول جمعية “التعاون والتقدم الكردية” (Kürdistan Teavün ve Terakki Cemiyeti) التي ضمت أفرادًا من عائلات كردية بارزة مثل بدرخان وشمدينان وبابان. كما أسس الطلاب الكرد في إسطنبول “جمعية أمل الطلاب الكرد” (Kürt Talebe Hêvî Cemiyeti) عام 1912.
أعيد نشر صحيفة “كردستان”، التي كانت تصدر في المنفى منذ عام 1898، في إسطنبول عام 1908 على يد سريّة بدرخان. وانضمت إليها دوريات كردية جديدة مثل “جريدة التعاون والتقدم الكردية” (Kürd Teâvun ve Terakki Gazetesi) و”روجي كرد” (Rojî Kurd – يوم الكرد). كما دخل الوعي القومي الكردي، مثل نظيره العربي والتركي، مرحلة جديدة خلال الفترة الدستورية الثانية. واصلت النخب الكردية العثمانية التفكير في المشكلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تواجه الكرد وكردستان، مع الاهتمام بمصلحة الإمبراطورية العثمانية بشكل عام. ومع ظهور الجمعيات والمنشورات الكردية الجديدة، بدأوا في تصور الكرد كشعب متميز ولكنه لا يزال جزءًا أساسيًا من المجتمع العثماني الأوسع.
الدفاع عن الطربوش
خلقت ثورة تركيا الفتاة الظروف لزيادة الوعي العرقي بين النخب الكردية العثمانية. ومع ذلك، تزامن تأسيس المنظمات الكردية ونشر الصحف الكردية مع أزمات كبرى هددت وجود الدولة العثمانية. في الواقع، عززت هذه الأوقات الصعبة ارتباط الكرد بالإمبراطورية العثمانية. على سبيل المثال، أدت ضم الإمبراطورية النمساوية-المجرية للبوسنة والهرسك عام 1908 إلى غضب شعبي ومقاطعة المنتجات النمساوية، بما في ذلك الطرابيش المصنوعة هناك. وكرد فعل، ظهرت دعوات لاستبدال الطربوش العثماني الوطني. وبرزت بدائل مثل “الكالپاك”، وهو قبعة آسيوية مصنوعة من صوف الحمل الأسود. وبسبب ارتباط الطربوش بنظام عبد الحميد الثاني، أصبح هدفًا أسهل للهجوم.
في هذا السياق، دافعت “جريدة التعاون والتقدم الكردية” عن الطربوش باعتباره غطاء الرأس الوطني الشرعي للدولة العثمانية. نشر محمود معين، أحد كتاب الصحيفة، مقالة من جزأين بعنوان “غطاء رأسنا الوطني والطربوش” عام 1909. أشار فيها إلى أن بعض المؤسسات العثمانية، مثل الشرطة، تخلت بالفعل عن الطربوش وأجبرت ضباطها على ارتداء “الكالپاك” أو القبعات المصنوعة من اللباد. وذكر أن الهجوم على الطربوش بدأ منذ ثورة 1908 عندما أصبح رمزًا لنظام عبد الحميد. وحث محمود معين العثمانيين على التفكير جيدًا قبل استبدال الطربوش الذي وصفه بأنه “غطاء الرأس الذي اتفقنا عليه منذ ثمانين عامًا”. وأوضح أنه على الرغم من أن الدولة العثمانية كانت قائمة منذ ستة قرون، فإن رموزها الوطنية مثل العلم، واللغة الرسمية، والزي، بدأت تتشكل فقط مع بداية عصر الإصلاحات (التنظيمات). كما أكد أن الأوروبيين اعترفوا بالدولة العثمانية بهذه الرموز، كما حدث في معاهدة باريس عام 1856. وذكر أن الطربوش هو غطاء الرأس المثالي مقارنةً بالخيارات الأخرى المتاحة آنذاك، مشيرًا إلى مزاياه المادية والسياسية والصحية والاقتصادية. ووفقًا له، فإن الطربوش أفضل من الكالپاك لعدة أسباب، منها أنه أكثر صحة ونظافة وأقل تكلفة. وأشار إلى أن بعض المسلمين في الهند والقوقاز تبنوا الطربوش تعبيرًا عن ارتباطهم بالمركز العثماني للخلافة، لذا فإنه من غير المنطقي أن يتخلى العثمانيون عنه لصالح الكالپاك، الذي قد يجعلهم يبدون مثل القوقازيين أو الإيرانيين أو الروس أو اليونانيين. وفي الختام، أكد محمود معين أن الطربوش يمثل هوية العثمانيين الوطنية، لذا يجب عدم استبداله. واقترح إنشاء مصانع جديدة للطربوش لتعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات النمساوية.
الهوية الكردية واللباس كعامل قومي
غير أن الهزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى غيّرت المشهد في الشرق الأوسط، ودَفعت النخب الكردية إلى إعادة النظر في ولاءاتهم السياسية. استند بعضهم إلى مبدأ “تقرير المصير” الذي طرحه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، لكن لم يكن لديهم سلطة تمثيل كل الكرد. فبعض الزعماء الكرد في إسطنبول وكردستان العثمانية فضّلوا الحكم الذاتي الكردي ضمن الدولة العثمانية. أما الفريق الآخر، الذي شمل أمين علي بدرخان وأبنائه، فكان يدفع نحو الاستقلال التام. كان أمين علي يضغط على الدبلوماسيين الأوروبيين في إسطنبول، فيما كان ابنه سريّا على تواصل مع البريطانيين في القاهرة. ورافق كاميران وجلالت الضابط البريطاني نُويل في جولته الاستكشافية بكردستان عام 1919. وثّق نُويل رحلته في مذكرات نُشرت عام 1920، مرفقة بصور لكرد محليين بملابسهم القومية، ومن ضمنها صورة لجلادت وكاميران وهما بملابس أوروبية دون طربوش. صحيح أن بعض الصور تظهر كاميران يرتدي الطربوش في السنوات التالية، إلا أن ظهورهما بدونه أثناء رحلة تهدف لاستكشاف فكرة استقلال الكرد يحمل دلالات رمزية.
منذ أواخر العهد العثماني، بدأت النخب الكردية بتقديم الكرد كقومية ذات سمات وطنية خاصة، لكن بعد الحرب، أصبح كل ما هو “كردي” دليلًا على أهليتهم لبناء أمة. فظهر في الصحافة الكردية نقدٌ للنخب التي ترتدي الطربوش. وفي إحدى القصص الواقعية المنشورة في مجلة جين، وُصف أحد الأعيان الكرد بارتدائه طربوشًا ملفوفًا بالشاش الحريري. وعلّقت المجلة في الهامش: “غطاء الرأس القومي بين الكرد هو القلنسوة اللبادية، وتوجد منها أنواع عدة”. تنوّعت الأزياء الكردية حسب المناطق الجغرافية، المعروفة بالكلمة الكردية “ولات”، مثل روجكان، موتكان، گرزان، وبوطان. وفي قصيدة بعنوان “إلى أبناء المدن” كتبها الشاعر زاخويي، وُجه اللوم إلى النخب الحضرية التي ترتدي الطرابيش الحمراء وتعيش حياة رفاهية، متجاهلة معاناة عامة الشعب. غير أن هذا النقد لا يعني أن الكرد انفصلوا فجأة عن الدولة العثمانية بعد الحرب، إذ ظل الكثير منهم يعتبرون أنفسهم عثمانيين ما دامت الدولة قائمة. حتى أولئك الذين راودتهم فكرة الاستقلال، كانوا من أبناء الدولة العثمانية وثقافتها. فممدوح سليم (1880–1976)، أحد المثقفين الكرد البارزين، تناول في مقالة بمجلة جين مسألة الإصلاحات الاجتماعية من منظور الإصلاحات في الزي. ودعا إلى التعلم من التاريخ العثماني، مشيرًا إلى أن الإصلاحات كانت دائمًا محل مقاومة، لكنها تُقبل مع الزمن، كما حصل مع الطربوش والياقة وربطة العنق والبنطال الضيق، التي أصبحت لاحقًا مقبولة حتى بين علماء الدين، رغم أنها كانت تُعد من علامات “الردة” في بداياتها.
بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت النخبة الكردية باستخدام عناصر ثقافية مميزة كأدلة على الهوية القومية الكردية. وفي الصحافة الكردية، ظهر انتقاد واضح لارتداء الكرد للطربوش باعتباره رمزًا للهوية العثمانية، بينما أصبح اللباس الكردي التقليدي علامة على الهوية القومية. في مجلة “جين”، تم وصف أحد الأعيان الكرد بأنه كان يرتدي طربوشًا مغطى بشاش حريري، لكن في تعليق توضيحي، أُشير إلى أن “غطاء الرأس الوطني بين الكرد هو القبعة اللبادية بأنواعها المختلفة”. لم يكن الطربوش مجرد رمز عثماني، بل أصبح رمزًا للطبقة الحاكمة من الأعيان الكرد الذين انفصلوا عن الشعب الكردي العادي. في إحدى القصائد المنشورة في مجلة “جين”، يخاطب شاعر كردي يُدعى زاخوي الأعيان الكرد في المدن قائلاً: “يا أهل المدن، يا من تلبسون الطرابيش الحمراء”، منتقدًا حياتهم الفاخرة التي تخالف واقع الشعب الكردي العامل.
على الرغم من التحولات السياسية، لم يكن التحول عن الهوية العثمانية مفاجئًا أو شاملاً بين الكرد. فقد استمر العديد منهم في التماهي مع الدولة العثمانية طالما كانت موجودة. حتى القادة الذين بدأوا في التفكير بالاستقلال الكردي كانوا نتاج البيئة العثمانية، وأفكارهم تأثرت بالنقاشات الفكرية السائدة في الدولة العثمانية. كان أحد هؤلاء المثقفين ممدوح سليم (1880–1976)، وهو مفكر كردي عثماني أصبح لاحقًا أحد دعاة القومية الكردية. في مقالاته في مجلة “جين”، ناقش سليم قضية الإصلاح الاجتماعي من خلال إصلاحات اللباس في الدولة العثمانية. فقد أشار إلى أن الإصلاحات ضرورية للتقدم، رغم أنها تواجه مقاومة محافظة. وضرب مثالًا بمقاومة الإصلاحات التي نفذها السلطانان سليم الثالث ومحمود الثاني، حيث أوضح كيف كان الطربوش، وربطة العنق، والسراويل الضيقة تُعتبر في البداية علامات على الردة، لكنها مع الوقت أصبحت مقبولة حتى بين رجال الدين.
أدرك مثقفون كرد آخرون أهمية اللباس الكردي في إيقاظ الوعي القومي. فقد عاش أكرم (1891–1974) وقادري (1891–1973) جميل باشا تجربة الرمزية التي ينطوي عليها اللباس في مدينتهما ديار بكر قبل وبعد الحرب العالمية الأولى. ينحدر الأخوان من عائلة جميل باشا، وهي من العائلات البارزة الكردية المدينية في ديار بكر إبان العهد العثماني. درسا أولًا في إسطنبول حيث أسسا جمعية للطلبة الكرد، ثم توجها إلى أوروبا لإكمال دراستهما، قبل أن يُستدعيا للخدمة في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. وخلال تلك الحرب، كان مصطفى كمال ضابطًا عثمانيًا متمركزًا في ديار بكر، حيث تولى قيادة الفيلق السادس عشر في الجيش الثاني. يروي قادري جميل باشا في مذكراته التي نُشرت في بيروت عام 1969، أن مصطفى كمال شكّل كتيبة من الجنود الكرد كحرس شخصي له أثناء وجوده في ديار بكر، وكان هؤلاء الجنود يرتدون الزي الكردي التقليدي مثل “كولوس” و”دستمال” (قبعة ومنديل تقليديان) لكسب تعاطف السكان الكرد المحليين.
شارك أكرم وقادري أيضًا في القتال ضمن الجيش العثماني خلال الحرب، لكنهما انضما لاحقًا إلى صفوف القوميين الكرد بعد هزيمة الدولة العثمانية. وبصفتهما عضوين شابين في نادي كردستان في ديار بكر، كانا عازمين على تعبئة الشعب الكردي لصالح الاستقلال. وقد تلاقى طريقاهما مجددًا مع مصطفى كمال، الذي كان في الأناضول حينها يحاول بدوره تعبئة الكرد من أجل حرب الاستقلال. يكتب أكرم أنه حين تصاعد نشاطهما القومي في ديار بكر عامي 1918 و1919، واجها “خصمًا غير متوقع، ماكرًا ومخادعًا وخائنًا”، ألا وهو مصطفى كمال. ويشرح كيف خدع الأخير الأعيان الكرد، بمن فيهم بعض أفراد أسرته، من خلال تأكيده على الأخوّة الدينية بين الكرد والأتراك بهدف الدفاع عن الخلافة والسلطان العثماني، ووعده بمنح الكرد حقوقًا ثقافية وسياسية. يشير أكرم إلى أنهما كقوميين كرد لجأ إلى وسيلة عملية لرفع الوعي الشعبي بقضية الاستقلال الكردي في دياربكر: ارتداء الزي التقليدي الكردي (شال وشابك) والتجول به في شوارع المدينة. ومثلهم في ذلك مثل سائر المثقفين الكرد الذين تلقوا تعليمهم في إسطنبول أو أوروبا، كانوا عادة يرتدون الزي الغربي، لكنهم استخدموا اللباس الكردي التقليدي كأداة رمزية فعّالة لإيقاظ الشعور القومي ومواجهة الدعاية الدينية التي كان مصطفى كمال يروّج لها في المنطقة.
وقد نصّت معاهدة سيفر، الموقعة في 10 آب/أغسطس 1920 بين الحلفاء والدولة العثمانية، على منح الكرد حكمًا ذاتيًا تمهيدًا للاستقلال في مناطق ذات غالبية كردية، وإن كانت هذه المناطق أصغر مما كان القوميون الكرد يطمحون إليه. ومع ذلك، فإن مساعي النخبة الكردية لتعبئة الجماهير الكردية بهدف التعبير عن رغبة الأمة الكردية في تقرير مصيرها لم تنجح؛ إذ انحاز العديد من الأعيان القبليين والدينيين ذوي النفوذ الجماهيري إلى جانب مصطفى كمال في حرب الاستقلال. وساهم دعم الكرد في هذا الانتصار في التوصل إلى معاهدة لوزان (24 تموز/يوليو 1923)، التي أبطلت معاهدة سيفر وبددت آمال القوميين الكرد في نيل حق تقرير المصير.
وبُعيد إعلان الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923، كشف الكماليون عن وجههم الحقيقي، المتسم بالعلمانية الفجة والنزعة القومية التركية المتطرفة. وكانوا قد ألغوا السلطنة في تشرين الثاني/نوفمبر 1922، ثم ألغوا الخلافة في آذار/مارس 1924، وهو ما شكّل ضربة قوية لرابطة دينية كانت تربط الكرد بالأتراك. وقد أدت هذه “الإصلاحات” الغربية المزعومة، إلى جانب إنكار الدولة الكمالية لهوية كردية مستقلة، إلى نفور الكرد من النظام الجديد. وقد انعكست خيبة الأمل هذه في ثورتين كبيرتين هما ثورة الشيخ سعيد (1925) وثورة أرارات (1928–1930)، واللتان هزّتا أركان الدولة الجديدة، لكنها فشلتا في تحقيق أهدافهما، إذ لم تعد الظروف الدولية والإقليمية مواتية لاستقلال كردي.
بعد فشل ثورتي الشيخ سعيد وآرارات، انتقل مركز الحركة القومية الكردية في تركيا إلى سوريا ولبنان الخاضعتين للانتداب الفرنسي. وقد فر الكرد من مختلف الشرائح الاجتماعية، بما في ذلك النخب المتعلمة في الغرب، والقادة القبليون والدينيون، وكذلك الكرد العاديون، إلى سوريا. واستضافت المناطق الكردية في شمال سوريا، إلى جانب المدن الكبرى مثل دمشق وبيروت، أعدادًا كبيرة من اللاجئين الكرد من تركيا، بالإضافة إلى السكان الكرد الموجودين أصلًا في سوريا. وأدى فشل التمرد المسلح إلى تحول القوميين الكرد إلى نهج ثقافي لإحياء هويتهم القومية في المنفى. سعى المثقفون الكرد في المهجر إلى توعية الجماهير الكردية، وتوثيق اللغة الكردية، والأدب، والتاريخ، والفلكلور، بالإضافة إلى مواجهة الدعاية الكمالية التي هدفت إلى إذابة الهوية الكردية في تركيا. لعبت الدوريات الكردية التي حررها جلادت وكميران بدرخان دورًا محوريًا في هذا الإحياء الثقافي الكردي في بلاد الشام تحت الانتداب الفرنسي. ومن بين هذه الدوريات، كانت مجلة “هاوار” (1932–1935 و1941–1943) وملحقها المصور “روناهي” (1942–1945) تُنشر في دمشق، بينما صدرت مجلتا “روجا نو” (Le Jour Nouveau) وملحقها “ستير” في بيروت بين عامي 1943 و1946.
كان للحركة الثقافية الكردية في تركيا امتداد في المنفى بسوريا ولبنان، حيث ظل الطربوش، عنصرًا أساسيًا في ملابس رجال الطبقة الوسطى. وتُظهر الصور الملتقطة في سوريا ولبنان بين أواخر العشرينيات والخمسينيات أن بعض الشخصيات الكردية البارزة احتفظت بارتداء الطربوش. في الواقع، يمكن ملاحظة التنوع في أنماط ملابس الرجال الكرد في تلك الفترة. على سبيل المثال، في صورة التُقطت بدمشق في أواخر العشرينيات أو أوائل الثلاثينيات، يظهر فيها عدد من الشخصيات الكردية البارزة، منهم من كان يقيم في سوريا سابقًا، وآخرون منفيون من تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي. بعض هؤلاء الرجال، مثل جلال بدرخان، كانوا بلا غطاء رأس ويرتدون البذلات الأوروبية، بينما كان آخرون يرتدون الطربوش مع الملابس الأوروبية. كما يظهر في الصورة بعض الرجال المتدينين بجلابيبهم وطرابيشهم الملفوفة بعمائم بيضاء، في حين ارتدى عدد قليل من الرجال الملابس الكردية التقليدية.
وفي صورة أخرى التُقطت في نفس الفترة داخل استوديو تصوير، يظهر فيها مجموعة أصغر من القوميين الكرد، معظمهم من المنفيين من تركيا، مثل الأخوين جلادت وكاميران بدرخان، وأكرم وقادري جميل باشا، وممدوح سليم. في هذه الصورة، لم يكن أي منهم يرتدي الطربوش، ما يعكس وعيًا متزايدًا بضرورة التماهي مع رموز الهوية القومية الكردية بدلًا من الرموز العثمانية. رغم أن الطربوش ظل شائعًا في سوريا ولبنان وبقية العالم العربي حتى الخمسينيات، إلا أن ذلك لم يمنع بعض القوميين الكرد البارزين من التخلي عنه في وقت مبكر. تشير الصور المتاحة إلى أن جلال بدرخان لم يكن يرتدي الطربوش منذ أواخر العشرينيات، بينما استمر شقيقه الأصغر، كاميران، في ارتدائه لبعض الوقت، حيث يظهر في بعض الصور مرتديًا الطربوش خلال العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وتشهد ابنته سينمخان، المولودة في دمشق عام 1938، بأنها لم ترَ والدها جلادت أو عمها كاميران يرتديان الطربوش أبدًا في حياتها.
أما المنشورات الكردية التي صدرت في سوريا ولبنان فتقدم أدلة على التغير في نظرة القوميين الكرد للطربوش. ففي بعض الأحيان، كان يُشار إليه ببساطة على أنه “القبعة الحمراء”، ويظهر كرمز للنظام العثماني التركي الفاسد والقمعي. كما تحتوي الأغاني الشعبية والقصص المنشورة في هذه الدوريات على إشارات للطربوش، مثل القصة الطريفة التي يرويها جلادت بدرخان عن لقاء بين مسؤول عثماني كردي الأصل يرتدي الطربوش وقروي كردي مسن يبلغ من العمر 115 عامًا. رفض الرجل المسن لقاء الضابط إلا إذا خلع طربوشه، موضحًا أنه لا يهرب من الضابط نفسه، بل من غطاء رأسه، إذ يرى أن أصحاب الطرابيش كانوا معروفين بالكذب، بينما كان هو يتقن الكذب لدرجة أن أحدًا لم يكن يكتشف أكاذيبه إلا بعد عشرة أو خمسة عشر يومًا، على عكس أصحاب الطرابيش الذين كانت أكاذيبهم مكشوفة لكن الناس تظاهروا بتصديقها.
الملابس الكردية كوسيلة للمقاومة
كان لدى القوميين الكرد في المنفى سببٌ آخر لمعارضة النظام الكمالي. فعندما أعتبر النظام الكمالي الملابس التقليدية – بما في ذلك الأزياء الكردية – “غير متحضّرة” أو “متخلفة”، رأى القوميون الكرد أن هذا يشكّل تهديدًا لأسلوب الحياة الكردي. وبعبارة أخرى، كان القوميون الكرد يعارضون سياسة التتريك أو استيعاب الكرد باسم “التمدن” في تركيا. وكما توضح هاله يلماز، مستندة إلى تقرير رسمي من مدينة وان الكردية عام 1926، فإن الدولة الكمالية اعتمدت على إصلاح اللباس من أجل “جعل الأمم الأخرى [في تركيا] ترتدي نفس الملابس الحديثة التي يرتديها الأتراك”، ومن أجل “تتريكهم تدريجيًا”. وهكذا، لم تكن الملابس الكردية تُعدّ حديثة بالنسبة للكماليين، بل اعتُبرت عائقًا بصريًا أمام تحقيق الانسجام القومي في تركيا.
أما بالنسبة للقوميين الكرد في المنفى، فقد أصبحت هذه الملابس الكردية نفسها أداة مقاومة ضد النظام الكمالي. ففي مقالة نُشرت عام 1932، عدّ جلادت بدرخان اللباس، إلى جانب اللغة والتاريخ والهدف المشترك، من سمات المجتمع القومي. وفي قصة قصيرة كتبها الناشط الكردي الشاب نور الدين ظاظا (1919–1988)، تنقلب الموازين في النهاية لصالح الكرد، إذ ينجح الفرسان الكرد في تحرير بلدة كردية من القوات التركية، ويظهرون بملابسهم القومية التي تشمل “كوم” و”دستمال” (قبعة ومنديل كرديان تقليديان)، و”شال” و”شابك” (سروال وجاكيت كرديان تقليديان). ومع ذلك، لم يتمكن القوميون الكرد – أو لم يسعوا – إلى تقديم شكل موحّد للباس القومي الكردي. فقد كانوا مدركين للاختلافات الإقليمية والقبلية في الأزياء الكردية، كما هو الحال مع اللهجات الكردية. لكن رغم هذا التنوّع، أصر القوميون الكرد على توثيق الملابس الكردية والحفاظ عليها كدليل على التميّز القومي الكردي.
لم يكن القوميون الكرد المنفيون وحدهم في جهودهم لتوثيق وتقديم الأزياء الكردية؛ فقد قام الكولونيل بيير روندو (1904–2000)، وهو موظف في الانتداب الفرنسي وأحد المتخصصين الفرنسيين في الشؤون الكردية، بملاحظة وتسجيل جوانب من الثقافة المادية الكردية بدقة في منطقة الجزيرة شمالي سوريا خلال فترة الانتداب الفرنسي. وتُعدّ الجزيرة امتدادًا طبيعيًا للأراضي الكردية الواقعة على الجانب التركي من الحدود السورية-التركية الجديدة، وقد استضافت اللاجئين الكرد القادمين من تركيا بالإضافة إلى سكانها الكرد الأصليين. يشير روندو إلى أن السكان الكرد في المدن السورية ومناطق التجمّع الكردي في شمال سوريا حافظوا على العديد من السمات القومية، مثل التحدث باللغة الكردية. لكنهم في الوقت ذاته تبنوا أنماطًا من اللباس العربي والغربي. أما الكرد القادمون من تركيا، وخاصة من المناطق الجبلية التي كانت قليلة الاتصال بالأجانب، فقد حافظوا على ملابسهم القومية. في المقابل، فإن الكرد الذين عاشوا في الأراضي المنخفضة شمالي سوريا لم يتمكنوا من الحفاظ الكامل على لباسهم القومي.
في مقال سابق، استخدم روندو صورتين التُقطتا عامي 1933 و1935 في منطقة الجزيرة لدعم حجّته. تُظهر كل صورة زعيمين عشائريين من قبيلتين كرديتين تنحدران من منطقة بوطان. يذكر روندو أن رسول وابن عمّه عكيد، وهما من أغوات عشيرة جليان، كانا من منطقة جبلية على الجانب التركي من الحدود، ولكنهما استوطنا حديثًا في منطقة الجزيرة السورية. وقد حافظا على ملابسهما الكردية التقليدية، التي تشمل سروالًا وجاكيتًا من شعر الماعز (شال وشابك)، وصدرية (إيليك)، وحزام خصر (بشت، بشتك) يحمل خنجرًا (خنجر)، وغطاء رأس مخروطي من اللباد الأبيض (كومه) يُلفّ حوله عمامة (جمداني). أما نايف وابنه عبد العزيز، وهما من أغوات عشيرة ميران، واللذان يعيشان في سفوح جبل قره جُوخ في منطقة الجزيرة، فقد بديا أقرب إلى البدو العرب في مظهرهم، مرتدين الكوفية والعقال. وقد سجّل جلادت بدرخان ملاحظات مشابهة عام 1941، حيث أشار إلى أن الرجال الكرد الذين يعيشون في الأراضي المنخفضة من سوريا قد اندمجوا ثقافيًا من خلال اعتماد ملابس أجنبية كالعقال والكوفية الطويلة. لكنه، في المقابل، امتدح النساء الكرديات في سوريا، اللواتي – خلافًا للرجال – حافظن على صفاتهن القومية بسبب محدودية اختلاطهن بالغرباء. ويضيف أن النساء الكرديات لطالما احتفظن بلباسهن القومي، مثل غطاء الرأس الملون المعروف بـ”كوف”.
ويُلاحظ أن جلادت بدرخان نفسه يظهر أحيانًا في صور من سوريا مرتديًا “دستمال” كردي (غطاء رأس)، بينما يظهر في صور أخرى حاسر الرأس مرتديًا الزي الأوروبي. ولم يكن غافلًا عن كون ملابس النخبة القومية الكردية الأوروبية ليست كردية. في مسرحية بعنوان ( Hevindالأمل)، نُشرت في مجلة Hawar عام 1933، تظهر شخصيات من خلفيات اجتماعية مختلفة: سَرور بك من عائلة نبيلة، آغا عشائري، طبيب وهو ابن الآغا، خادم شخصي، جنود، ونساء ورجال من عامة الناس، جميعهم يقاتلون على جبل ضد أعداء الكرد. وربما تمثل شخصية سرور بك صورة لجلادت بدرخان نفسه، وتصفه الشخصيات الأخرى لا بتعليمه الأوروبي فحسب، بل أيضًا بملابسه الأوروبية الضيقة. ورغم كونه شابًا وطنيًا يقاتل من أجل بلاده ويندمج مع الآخرين، إلا أن ملابسه الأوروبية تظلّ علامة فارقة تدل على اختلافه عنهم.
في كتابها Fezzes in the River الطرابيش في النهر، تُظهر سارة شيلدز كيف تحوّلت أغطية الرأس إلى رموز سياسية بصرية في قضاء الإسكندرونة، الواقع في شمال غرب سوريا، وهي منطقة متنازع عليها بين سوريا وتركيا. فقد أصبح ارتداء الطربوش أو القبعة ذات الحافة رمزًا لدعم المطالبات السياسية، إما السورية العربية أو التركية الكمالية، على هذه المنطقة، إلى أن ضمّتها تركيا نهائيًا في عام 1939. وقد اكتسبت قطع الملابس دلالات رمزية مماثلة في منطقة أخرى مقسّمة سياسيًا في سوريا، وهي محافظة الجزيرة الواقعة في الشمال الشرقي. بين عامي 1936 و1939، انقسمت الجزيرة إلى معسكرين سياسيين حول زعيمين عشائريين مؤثرين. كان حاجو آغا زعيم اتحاد عشائر الهَويرَكّان وداعمًا متحمسًا للحركة القومية الكردية، وتعاون مع قادة مسيحيين في المنطقة للمطالبة بحكم ذاتي للجزيرة ضمن الدولة السورية. أما المعسكر الآخر فكان بقيادة الشيخ دهام الهادي، زعيم عشائر شمّر العربية، الذي مثّل القوميين العرب السوريين الذين اعتبروا الجزيرة جزءًا لا يتجزأ من سوريا.
على الرغم من أن بروز الوعي الإثني والثقافي الكردي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن القومية الكردية لم تصبح قوة سياسية حقيقية إلا بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وكما تشير الأدلة النصية والصور الفوتوغرافية التي تم تحليلها أعلاه، فقد ارتدى النخب الكردية العثمانية الطربوش ودافعوا عنه كرمز مميز للعثمانية خلال أواخر العهد العثماني. غير أن القوميين الكرد في المنفى تخلّوا تدريجيًا عن الطربوش بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وصعود النظام الكمالي في تركيا. بدأ هؤلاء القوميون في التأكيد على أهمية الزي الكردي التقليدي، وإن لم يرتدوه دائمًا، وانتقدوا الدولة التركية الكمالية لفرضها نمطًا معينًا من اللباس على الكرد في تركيا، ما اعتبروه تآكلًا لطريقة الحياة القومية الكردية. وفي الوقت نفسه، وجّهوا انتقادات إلى الكرد في سوريا الذين اندمجوا ثقافيًا من خلال تبني لباس عربي. وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة، فإن خطاب القوميين الكرد حول اللباس، على الرغم من تناقضاته الظاهرة، يمثّل نموذجًا حيًا للأنماط الثلاثة التي أشار إليها أنطوني سميث بشأن توجهات النخب القومية: الرغبة في العودة إلى التقاليد، والسعي للاندماج في الحضارة الغربية، مع الحفاظ في الوقت ذاته على بعض جوانب الثقافة التقليدية. ومن المهم أيضًا تذكّر أن القوميين الكرد كانوا في المنفى، وكانوا يتخيّلون أمةً في سوريا ولبنان، حيث لم يكن الانفصال عن الماضي العثماني في اللباس حادًا كما كان عليه الحال في تركيا. فعلى سبيل المثال، ظل الطربوش رمزًا للهوية الذكورية الحضرية في سوريا خلال حياة جلادت بدرخان، على الرغم من أنه نفسه تخلّى عن ارتدائه. وتُظهر صورة موكب جنازته في دمشق عام 1951 أن نعشه كان يحمل طربوشًا، وهو تقليد يعود إلى الحقبة العثمانية في سوريا، حيث عاش جلادت آخر عقود حياته. وقد شوهد بعض الرجال الذين حملوا النعش وهم يرتدون الطرابيش ملفوفة بعمائم في أسلوب ديني، بينما ظهر العديد من المشيّعين دون أغطية رأس وهم يرتدون بدلات غربية.وفي المقابل، تُظهر صور جنازة مصطفى كمال أتاتورك في قصر دولما بهجة في إسطنبول عام 1938 واقعًا مختلفًا تمامًا: فقد كان نعشه ملفوفًا بالعلم التركي دون أن يوضع عليه طربوش، وظهر الزوار الذكور الباكون وهم يرتدون قبعات أوروبية ذات حواف. لم يعد من الممكن رؤية الطرابيش في إسطنبول، المدينة التي كانت، في أواخر العهد العثماني، تعجّ بالرجال المرتدين لها أمثال عائلة بدرخان.
وقد لاحظ نوردين زازا (1919–1988)، وهو قومي كردي شاب منفي من تركيا، هذا التحول عن قرب. ففي مذكراته يذكر أنه عندما غادر لبنان إلى لوزان بسويسرا في خريف عام 1947، كان معظم رجال الطبقة الوسطى في المدن الكبرى لا يزالون يتجولون في الشوارع وهم يرتدون الطربوش، باستثناء الشباب. ولكن عندما عاد إلى سوريا في صيف عام 1956، أصبح من يرتدي الطربوش يشار إليه بالأصابع، وأصبح الخروج سافر الرأس عادة.
ملابس النساء الكرديات
ترد إشارات عديدة في تقارير الرحّالة إلى تنوع تكوينات ملابس النساء الكرديات. ونظرًا لما تتمتع به هذه الملابس من تأثير بصري خاص، فقد انعكست أوصافها بشكل لافت في مدونات الرحّالة، حيث لم تغب عن أعينهم تفاصيل مثل أهمية الألوان وطريقة ربط قطع القماش معًا وغيرها من العناصر المميزة. فعلى سبيل المثال، يرسم الرحالة غاسبر دارويل صورة حية في ذهنه عن ملابس النساء الكرديات اللواتي يعشن في الخيام كبدوٍ متنقلين، فيقول: “يرتدين فساتين طويلة مشقوقة من الأعلى، ويشدونها بحزام أبيض يتدلى طرفاه على الخصر. أما أوشحة الرأس، فهي مصنوعة من قماش الكتان الأبيض، تتدلى من جانبي الوجه حتى منتصف الحزام، وتُثبت بواسطة شريط حريري بني رقيق يُلفّ حول الجبهة.”
تكشف أوصاف دارويل عن نمط ملابس النساء في الخيام من خلال نقطتين أساسيتين: أولًا، وجود نمط لباس خاص يتناسب مع البيئة ونمط الحياة؛ وثانيًا، أن بساطة الحياة في الخيام لم تمنع التعقيد الجمالي في تصميم الملابس، فبرغم بساطتها الظاهرية إلا أن تصميمها معقّد بحسب ما يذكر دارويل. ويضيف في موضع آخر: “ملابس النساء الكرديات أكثر جمالًا وتفصيلًا من ملابس الإيرانيات. يرتدين صديريًا قصير الجذع يغطي جزءًا من الفستان الطويل، وفوقه حزام ثمين يبرز شكل الجسد ويزيد من جاذبيتهن. ومثل الرجال، ترتدي النساء الكرديات كذلك السروال التقليدي (پانتول) وغطاء الرأس (سروان)، لكن هذه القطع تكون أخف وزنًا وأكثر أناقة من نظيراتها الرجالية.”
ولا شك أن التأثير البصري المميز لملابس النساء الكرديات هو ما دفع دارويل إلى هذا النوع من المقارنة، حيث يتناول كل قطعة بالتفصيل، ويذكر أسماءها المحلية باللغة الكردية: فالصديري القصير يُدعى “كاوا”، والحزام “پشتوێن”، ووشاح الرأس “شادە”، والسروال النسائي “دارپە”. أما أرشيبالد روزفلت، فقد انعكست جمالية ملابس النساء الكرديات في انطباعاته أيضًا، إذ يقول: “النساء، اللواتي لا تقل ملابسهن جمالًا عن الرجال، يمشين وهن يملؤهن الفرح والكبرياء، يحملن جرار الماء على رؤوسهن وأجسادهن منتصبة، وأوشحتهن زرقاء.” ويشير ديوانبيگي عند حديثه عن ملابس نساء نودشه (في منطقة پاوه) إلى ما يلي: “ملابسهن تشبه الجلابيب الطويلة التي كانت ترتديها الأجيال السابقة، وهي فساتين طويلة جدًا يُلبَس تحتها تنورة ضيقة تضيف حجمًا وقوامًا للثوب، ويُطوى جزء منها ليصبح أنحف. وتشُد النساء خصورهن بأحزمة، فالأغنياء يرتدين أحزمة فضية، والفقراء أحزمة حريرية.”
لقد حُفظ الهيكل العام لملابس النساء الكرديات على هذا النحو، وإن كانت الأشكال والأنماط قد تغيرت إلى حد ما. فعلى سبيل المثال، يصف “زياپُور” حجم الحزام بقوله: “كان طوله يزيد عن مترين، وعرضه أكثر من متر، وغالبًا ما كان مصنوعًا من أقمشة مزخرفة وملونة، وأحيانًا يُطوى من المنتصف ليصبح عرضه نصف حجمه الأصلي.” ومع مرور الزمن، تقلص طول وعرض قماش الحزام، كما قلّ استخدام وشاح الرأس النسائي، وأصبح مقتصرًا غالبًا على حفلات الزفاف. ويقدم الرحالة كلوديوس جيمس ريتش في مذكراته وصفًا تفصيليًا لملابس النساء الكرديات على النحو الآتي:سروال واسع، فستان ملون، حزام عليه زينة كبيرة من الذهب أو الفضة، صديري قصير الجذع بأزرار زخرفية مصنوع من أقمشة مخططة أو حريرية، أو قماش “شيت”، أو “غوجراتي”، أو “إسطنبولي أصفر”، وتختلف هذه الأقمشة حسب المناخ والوضع المادي، معطف قصير يُعرف بـ”كلنجە” أو “سالتە”، مصنوع من الساتان، يشبه الصديري لكنه بأكمام تصل إلى المرفقين، معطف طويل للشتاء وأحيانًا يُلبَس صديريان أو معطفان قصيران فوق بعض، عباءة تُعرف بـ”چاروكا”، صديري قصير آخر يُعرف بـ”سوخما”، غطاء الرأس المعروف بـ”سربند” أو “سروەنە” أو “عمامة”، قطعة قماش أخرى تُلف تحت وشاح الرأس.
يصف والتر هاريس السترات القصيرة المزررة التي أشار إليها ريتش قائلاً: “فوق سراويلهن الزرقاء أو الحمراء، كانت النساء يرتدين كاوا مصنوع من القماش نفسه ومزينًا بأزرار فضية”. كما تحدث سون عن نوع من القمصان القصيرة غير المزرة، وكتب أن النساء كنّ يرتدين قميصًا قصيرًا وسروالًا منتفخًا مصنوعًا من الكتان الأبيض، بينما كانت أطرافه السفلى مخططة. وفوق ذلك، كنّ يرتدين ثوبًا طويلًا يصل حتى الكاحلين، بأكمام قطنية قصيرة بيضاء ومفتوحًا من عند الرقبة. وفوق هذا الثوب، كنّ يرتدين قميصًا آخر طويلًا غير مزرر يُدعى كاوا. يمتد أيضًا حتى الكاحلين، مصنوعًا من أقمشة ثمينة ضيقة الأكمام، مع وجود شقوق صغيرة في الأكمام على بعد بضع إنشات من المعصمين. وبحسب معلومات الدكتور ووم، فإن ملابس النساء في قرية “هومارمل” (أو “عُمرمل”) توصف على النحو التالي: “ترتدي النساء قميصًا يصل حتى الخصر، بالإضافة إلى فستان طويل يشبه الفساتين المصرية. أما الرأس، فيُلفّ بقطعة قماش كبيرة تُعدّ جزءًا من غطاء الرأس وتُسدل على الكتفين مثل الشال”. من المحتمل أن يكون ووم يشير إلى الفستان الطويل الذي ترتديه النساء الكرديات عند حديثه عن الفستان المصري. وعلى الرغم من اعتقاد ريتش بأن وصف أوشحة الرأس الكردية بالتفصيل أمرٌ صعب، إلا أنه يقدم وصفًا دقيقًا لها، إذ يقول: “هذا الوشاح مصنوع من الحرير أو من قماش شال ملوّن، يُربط بعناية وجمال على الجبين، ويُثبّت بدبوس يبدو كالتاج، وفوقه يُرتدى وشاح أكبر يُعرف بـ دشمال، يُلف حول الكتفين والرقبة، ويُربط على الصدر، ويمتد حتى الخصر من الخلف. وبحسب معرفتي، فإن النساء المتزوجات هنّ فقط من يرتدين هذا الدشمال. لا يظهرن شعرهن بسهولة، لكن لديهن غرة على الجبين”.
أما ملابس النساء الكرديات في المناسبات التي تتضمّن الرقص، فلم تغب عن ملاحظات الرحّالة، الذين رأوا فيها ملابس مميّزة. يصف يوجين أوبن ملابس نساء مهاباد قائلاً: “ترتدي النساء تنانير ملوّنة مع قمصان مخملية أو لامعة، بالإضافة إلى أوشحة بيضاء مزهّرة تُربط على الرأس. أما حول الرقبة، فيُلف شال حريري أسود يبدو كأنه على شكل صليب”. ولا تزال النساء الكرديات حتى اليوم يرتدين الملابس التقليدية في الأعراس ومناسبات الرقص، وما زلن يحافظن على هذا التقليد، رغم التغييرات التي طرأت على بعض تفاصيل الأزياء، إلا أن الفروقات العامة مقارنة بالماضي تبقى غير كبيرة. الأوشحة البيضاء المزهّرة التي ذُكرت سابقًا لم تعد تُستخدم اليوم. وربما كان المقصود بالشال المربوط على شكل صليب هو چاروكة، وهي جزء من الثوب يتدلى من الأكمام، ويُعرف أيضًا باسم سۆرانی، وهو قماش يُخاط على الأكمام من المعصم إلى الأسفل. كانت النساء يربطن أطراف هذه الأكمام حول الرقبة، ما يُشكّل شكلًا مشابهًا للصليب، أو يلففنها حول الأيدي – وهذا يُرى نادرًا اليوم.
ومن المهم القول إن استخدام التنانير بين النساء الكرديات قليل جدًا، باستثناء نساء خراسان. ويُحتمل أن الرحّالة ظنوا أنهنّ يرتدين تنانير بسبب كثرة الثنيات في الفساتين، أو لأن الحزام الذي ترتديه النساء يعطي الانطباع بأن الفستان مكوّن من جزئين، الجزء السفلي منه تنورة”.
في أذربيجان الغربية، تُعد مدينة مهاباد المركز الحضري الرئيسي للكرد. ترتدي النساء هناك سروالًا منتفخًا يُعرف بـ دارپه، يتراوح عرضه بين 4 إلى 6 أمتار، ويضيق عند الكاحلين. وفوقه، يُرتدى فستان طويل ذو طيات يُدعى كراس، عرضه ما بين 4 إلى 5 أمتار، ذو ياقة دائرية وأكمام طويلة تنتهي بزوائد مثلثة تُعرف بـ سوراني، لا يقل طولها عن متر، وتُلفّ حول المعصمين. فوق الفستان، ترتدي النساء سترة قصيرة تُسمى كاوا، بالإضافة إلى وشاح قطني پشتند يتراوح طوله بين 3 إلى 6 أمتار، يُلفّ بشكل فضفاض حول الوركين. أما غطاء الرأس، فهو قبعة أسطوانية من الكرتون تُعرف بـ تاس كلاو، مغطاة بالمخمل، وتُلفّ عليها منديل طويل مثلث الشكل دسمل، غالبًا ما يكون من قماش مطبوع أو مزخرف من الجانبين بالتطريز الذهبي والترتر. في جنوب هذه المنطقة، وتحديدًا في كردستان، حيث مدينة سنندج هي المركز الرئيس، يختلف اللباس النسائي قليلًا. فالسروال هناك يبلغ عرضه حوالي 3 أمتار فقط، ويُرتدى تحت فستان طويل يشبه الجرس، عرضه بين 3 إلى 4 أمتار، بياقة دائرية وأكمام تنتهي بزينة السوراني. السترة مشابهة، إلا أنها تُكمل بعباءة طويلة سايا مفتوحة من الأمام. غطاء الرأس التقليدي في هذه المنطقة هو كلاغي، قبعة مزينة بالترتر تُلفّ بوشاح أو وشاحين. مؤخرًا، بدأت الفتيات في المدن بالتخلي عن هذا الغطاء أو الاكتفاء بالقبعة فقط. في منطقة كرمنشاه جنوبًا، ترتدي النساء السروال أسفل فستان طويل وواسع، مقطوع بشكل مستقيم، ذو ياقة مفتوحة، ولا يحتوي على سوراني. فوق الفستان، يُرتدى صديري يصل إلى الخصر أو سترة بلا أكمام، بالإضافة إلى عباءة طويلة تُعرف بـ قبا، مغلقة عند الصدر ومفتوحة من الخصر حتى الكاحلين. ويُلفّ غطاء الرأس المزين بالترتر بعدة أوشحة.
نوروز .. هوية متجددة باللون والزي
دوما كانت الأزياء الكردية تعد رمزًا مميزًا للتراث والهوية، حيث أصبحت شعارًا وطنيًا عزيزًا. علاوة على ذلك، فقد شهدت جودة الأقمشة وفن صناعة الملابس تقدمًا مستمرًا، مما ساعد في الحفاظ على جوهرها التقليدي مع التكيف مع الأساليب العصرية. بينما يختلف أسلوب ارتداء الملابس الكردية بين المناطق المختلفة في كردستان، إلا أنها تظهر بوضوح خلال المناسبات المهمة والاحتفالات والأعياد. ويعد احتفال عيد نوروز الكردي، أو رأس السنة الكردية، من المناسبات ذات الأهمية الخاصة بين الكرد، حيث يختار غالبية الكرد في داخل وخارج منطقة كردستان ارتداء الملابس الكردية في هذه المناسبة. خلال نوروز 2024 (في 21 مارس)، كان سوق الملابس الكردية يعج بالنشاط من الزبائن والبائعين على حد سواء. ولاحظ بشكل خاص أن الحرفيات المتخصصات في الأزياء الكردية النسائية شهدن زيادة كبيرة في الطلب على ملابس نوروز مقارنة بالسنوات السابقة. هذا العام، كان الطلب أعلى بنسبة تقارب 75% عن السنوات الماضية، مما أدى إلى إحياء الاهتمام بتصاميم الملابس الكردية التقليدية.
ويتميز زي “نوروز” بألوان زاهية حيوية ونقية للدلالة على مشاعر الفرح، والحالة الاحتفالية التي ترافقه. ويحتفل الكرد سنويًا، في سوريا وكل أنحاء العالم بعيد “نوروز” الذي يعتبر بداية السنة الكردية، ويوقدون مشعل “نوروز”، ويخرجون إلى الأماكن الطبيعية، ويرافق ذلك طقوس من الرقص الفلكلوري الكردي، وقراءة الشعر والغناء. كما تحتفي الأمم المتحدة في 21 من آذار، سنويًا، بـ “اليوم الدولي للنوروز”، لمشاركة هذا العيد مع بلدان العالم وشعوبه، بعدما أقرت الأمم المتحدة هذه المناسبة يومًا دوليًا عام 2010، بمبادرة من عدة دول، منها أذربيجان، وأفغانستان، وألبانيا، وإيران، وتركيا، ومقدونيا، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان، والهند. وتعني كلمة “نوروز” يومًا جديدًا، وهو يوم الاعتدال الربيعي باعتباره بداية العام الجديد، وهو احتفال قائم منذ أكثر من 3000 سنة في آسيا الوسطى، والبلقان، وحوض البحر الأسود، والشرق الأوسط، والقوقاز، ومناطق أخرى. وشهدت هذه الاحتفالات الكردية ما قبل الثورة السورية حالة منع وتضييق أمني من قبل النظام السوري، لتتحول فيما بعد إلى الاحتفالات العلنية بصورة مهرجانية نسبيًا، إثر توجس وخوف طويل من إقلاق السلطة الأمنية المهيمنة والحاضرة في تفاصيل الحياة الاجتماعية للشعب، ما قبل 2011. عميد جكر، من أهالي ناحية عامودا، يشير إلى أن اللباس التقليدي للرجال في المنطقة يتكون من “البشم والبركيز”، وهما “جاكيت” وسروال من نفس اللون، بمقاسات واسعة فضفاضة.
كما يرتدي الرجل قماشًا يجري لفه حول الخصر، ويعرف باسم “شوتك”، بالإضافة إلى تغطية الرأس بما يسمى “جمداني”، وهو من أغطية الرأس القماشية المرقطة. الزي الكردي للرجل كان يصنع من صوف الخراف وجلد الماعز تحديدًا، قبل التحول نحو أقمشة معاصرة كالكتان والجوج، بما ينسجم مع حالة الطقس، وفصول السنة. ياشنا كتو، خياطة من مدينة القامشلي، تشير إلى روعة زي المرأة الكردية، وتصفه بـ” اللوحة الفنية” التي تسر الناظرين بفضل ألوانه الزاهية وأقمشته البراقة، سيما فيما يتعلق بملابس النساء، والتي تتألف عادة من “دشداشة طويلة” (فستان)، طويلة تغطي أخمص القدمين، مع كمين طويلين يرتبطان بذيلين مخروطيين. وتصنع “الدشداشة” من قماش شفاف إلى حد ما، مع خيوط حريرية ناعمة وتصاميم مختلفة من المنمنمات والزينة المعدنية البراقة.
وترتدي المرأة قميصًا داخليًا رقيقًا وحريريًا أسفل “الدشداشة”، بلون داكن يشكل أرضية لـ”الدشداشة”. ويتميز الجزء العلوي من الزي بسترة قصيرة جدًا بدون أكمام، مصنوعة من أقمشة مغطاة بالزخارف والزينة المعدنية لإضفاء مزيد من الألق والجاذبية على الزي، بينما تستبدل السترة القصيرة بأخرى طويلة الأكمام في الشتاء. ياشنا أشارت إلى أن الأقمشة تنوعت في السنوات الأخيرة، وكذلك التصاميم في ملابس المرأة، ما جعل الشابات مثلًا يلجأن إلى تفصيل فساتين خطوبتهن بطرق مختلفة عن المألوف، وأقمشة عالية الجودة والقيمة أكثر، تتنوع بين الحرير و”الدانتيل”، وأنواع أخرى، إلى جانب الزركشة اليدوية على الفستان والتي تتركز عادة على منطقة الصدر والأكمام والأكتاف، وبذلك تصل كلفة الفستان إلى نحو 100 دولار أمريكي، وقد تتخطى هذا المبلغ أيضًا.
للمزيد يمكن الرجوع إلى :
Ahmet S. Aktürk
ahmet serdar akturk: Fez, Brimmed Hat, and Kum û Destmal: Evolution of Kurdish National Identity from the Late Ottoman Empire to Modern Turkey and Syria, Journal of the Ottoman and Turkish Studies Association, Vol. 4.1, pp 157 – 187
chia azizi: Kurdish clothes in the eyes of tourists from 1501 to 1979, https://kurdshop.net/en/culture/4680
Fatima Qassem: threads of identity tridiagonal Kurdish attire, https://kurdistanchronicle.com/babat/3203
Ahmet S. Aktürk
Shirin Mohseni and Peter Andrews, “CLOTHING xvi. Kurdish clothing in Persia,” Encyclopædia Iranica, V/8, pp. 822-825, available online at https://www.iranicaonline.org/articles/clothing-xvi/
Ahmet S. Aktürk
ريتا أحمد: الزي الكردي التاريخ والهوية والألوان الزاهية، https://www.enabbaladi.net/683264/الزي-الكردي-التاريخ-والهوية-والألوان/#



