مقالات

هندسة المخيال عبر الأثير .. الراديو كفعل مقاوم

تحليل: د. أحمد محمد إنبيوه

اعتدنا أن نلجأ إلى الخيال، عندما يغدو الواقع صلبا صعب الاختراق بفعل الأيدولوجيات السلطوية، نعود إلى الخيال لنحاول تكوين واقع بديل ربما، أو إنشاؤه من الأساس. ففي بدايات القرن العشرين، ومع تنامي هيمنة الأيدولوجيات القومية المتدثرة برداء الوطنية، بزغت الدولة القومية كباترون تسير على هديه النماذج التأسيسية لل “الدولة” في الفراغ الجيوسياسي للشرق الأوسط الحديث. في هذا الوقت، أعيد تأسيس مفاهيم الهويات الجماعية المتخيلة وفق أبجديات الرأسمالية الطباعية بمفهوم أندرسون في الجماعات المتخيلة. بينما يمكن القول إن الخيال والتخييل الجمعي لم يكن كله واقعا تحت طيف السلطة التأثيري، إذ برز أحيانًا كسياق بديل وخط زمني مواز يمكن تتبعه والبناء عليه في إنتاج سردية متماسكة تعبر عمن هم على الجانب الآخر من السلطة، أو من هم في مقابلها. ومن ثم كان الخيال الأثيري؛ الممثل في الراديو في حالتنا هذه، أحد أدوات إعادة بناء الواقع أو اختراعه بنكهة جماهيرية. ففي الوقت الذي استخدمت الحكومات تقنيات البث كأداة للرقابة والدعاية، وفرت الإذاعة من الجانب الأخر أشكالًا فريدة من المقاومة. واضحت أداة قوية لبناء مخيال جمعي متماسك من قبل جماعات (مثل الكرد) التي كانت تسعى لتحدى أهداف حكامها الاستعماريين أو الدوليين. ذلك أن قدرة الصوت ومن وراءه الإذاعة يصعب التنبؤ أو التحكم فيها ([1]).

 لقد تجاوزت قيمة الراديو منذ زمن بعيد حدود الترفيه، وأصبحت أداة فاعلة في تشكيل السلوك الجماعي والقيم المشتركة لدى أفراد المجتمع—أو ما يُعرف بـ”الجماعة المتخيلة”. وفي بدايات الإذاعة، ومع تصدّع النظام العالمي إثر الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير، وجدت الأمم في الراديو وسيلة قوية لمعالجة المخاوف والانقسامات التي بدت وكأنها ستقوض النظامين الاجتماعي والسياسي. وكما تشرح المؤرخة الإعلامية كيت لايسي: “بطرق مختلفة ولغايات سياسية متعددة، تم التعامل مع الراديو كأداة يمكنها أن توحّد مختلف مكونات الأمة، أينما كانوا ومهما كانت ظروفهم.” وقد ساعدت هذه التصورات في نشر الإذاعة في المناطق المستعمَرة أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، في فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي (وهي من ممتلكات بريطانيا تحت الانتداب)، تم الترويج لـ إذاعة فلسطين باعتبارها أداة لتحديث السكان المتنوعين في البلاد، وللترويج للرؤية البريطانية في التعامل مع مشاكلها الوطنية ([2]).

احتكرت دول تركيا، إيران، العراق، وسوريا على الدوام تقريبًا البث الإذاعي. بدأ أول بث إذاعي كردي في الاتحاد السوفييتي ضمن المنطقة الكردية ذات الحكم الذاتي فيما وراء القوقاز بين عامي 1923 و1929. وجاء البث الإذاعي الكردي الثاني في العراق عام 1939. أما في إيران، فبدأ البث بالكردية عام 1946 عندما أسس الكرد والأذريون جمهورياتهم المستقلة دون موافقة الحكومة الإيرانية، ولكن بدعم من الاتحاد السوفييتي. وتوقف هذا البث بعد سقوط جمهورية مهاباد بعد 11 شهرًا من تأسيسها. واستؤنف البث الكردي من باكو في أذربيجان عام 1949. وعلى افتراض أن الغاية من البث الكردي كانت خدمة بناء الاشتراكية السوفييتية، بدأت الحكومة الإيرانية ببث برامج بالكردية في يناير 1950 بتوصية من الولايات المتحدة. وفي تركيا، وتحت ضغط الاتحاد الأوروبي، تم تقنين البث بالكردية عام 2002 بشرط أن يقتصر على الإذاعة والتلفزيون الرسميين، ولمدة لا تتجاوز ساعة يوميًا. وفي منتصف عام 2006، بدأت قناة تلفزيونية كردية خاصة تُبث أرضيًا تُدعى Gün TV، ومحطة إذاعية تُدعى Gün Radio، بثهما لساعات محدودة، ضمن قيود صارمة من حيث المحتوى والوقت. وشهد البث الكردي في تركيا تطورًا مهمًا في 1 يناير 2009، حين بدأت قناة TRT6، وهي القناة السادسة في هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية (TRT)، بثها بالكردية للمرة الأولى. أما في العراق وإيران، فقد بدأ البث التلفزيوني بالكردية على القنوات الرسمية في أوائل السبعينيات، ولا تزال الأوضاع في إيران دون تغير يُذكر ([3]).

لعبت الإذاعة دورًا محوريًا في التاريخ السياسي والثقافي الكردي الحديث، على مستويات متعددة تتراوح بين الشخصي والجماعي. وعلى مدى العقود الماضية، ساهمت الإذاعة في تشكيل هويات جماعية كردية متعددة، وساعدت على نشوء مجتمعات سياسية جديدة، كما أصبحت أداة للتحذير من تحركات القوات العسكرية للدولة، أو لمواجهة الدعاية الرسمية، أو لنقل أخبار الانتصارات والهزائم الاستراتيجية. وكل شكل من أشكال المقاومة والتجمع الجماعي يعكس خصوصيات النضال الكردي في زمانه ومكانه. فعلى سبيل المثال، في مهاباد خلال ثمانينيات القرن الماضي (في كردستان إيران)، كان عدد كبير من الكرد يُحتجزون كسجناء سياسيين بتهمة الانتماء إلى حركات مقاومة، وكانت الإذاعة هي الوسيلة التي تُبلغ المجتمع المحلي عن أسماء السجناء المفرج عنهم ([4]).

ليس من الغريب إذن أن يكون للراديو هذا المكانة شبه المقدسة في الذاكرة الفردية والجماعية الكردية، وهي مكانة تُحتفى بها حتى في مخيمات اللاجئين. وعلى صعيد الممارسة الموسيقية الكردية، وفّرت الإذاعة وسائل تقنية جديدة لبناء إجماع أوسع حول “اللغات والأساليب الموسيقية الجديرة بتمثيل الأمة وشعبها”.. في مقالتهما “طلع صباح الحرية: الأغنية الكردية الشعبية ومتطلبات البقاء الثقافي”، يرى ستيفن بلوم وأمير حسن بور أن الإذاعة كانت العامل الأساسي في تشكيل “جمهور استماع كردي عابر للحدود” في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وعلى مستوى معين، تعزز هذه الرؤية طروحات معاصرة في دراسات الإعلام والإذاعة حول قدرة الراديو على تكوين الأمة والتأثير فيها. وهذه القدرة الفريدة على خلق الجماعة كانت ظاهرة منذ بدايات البث الإذاعي التجاري. ففي الولايات المتحدة، صرّح أول مفوض لرئاسة لجنة الاتصالات الفيدرالية، أنينغ س. برال، عام 1936، بأن الإذاعة يمكن فهمها على أنها “مزيج من المدرسة، والكنيسة، والمنبر العام، والصحيفة، والمسرح، وقاعة الحفلات الموسيقية—بل جميع الوسائط المكرّسة لتعليم وتنوير وتثقيف الشعب” )[5](.

استُخدمت الإذاعة الكردية بطرق مهمة لإحباط أهداف أولئك الساعين لقمع الثقافة والهوية الكردية، ولإحياء الحركات القومية والمسلحة على حد سواء. فحتى وإن كانت البنية التحتية والموارد التي اعتمدت عليها الإذاعة الكردية متجذّرة في ذات أجهزة الدولة المصممة لمنع الحكم الذاتي الكردي، فإن الإذاعة وفّرت مع ذلك فضاءً خطابياً عمل فيه الكرد على مقاومة محاولات القمع ومحو الأشكال الثقافية الكردية، كالموسيقى واللغة. إن الإذاعة، وإن كانت مرتبطة على نحو لا ينفصم بالسلطة الاستعمارية والدولتية، فإنها وفّرت أيضًا وسيلة تمكّن الكرد من الرد على تلك السلطة، وابتداء صياغة سردية موسيقية جماعية خاصة بهم، تتحدى المنطق الاستعماري الزماني والمكاني. تُعد الإذاعة الكردية حالة دراسية مثيرة للاهتمام لهذه العمليات لأسباب عدة: أولاً، لعدم وجود دولة كردية، فقد كانت البثوث الإذاعية الكردية تصدر من محطات متعددة، غالبًا في دول مجاورة، وبالتالي كانت تعكس أهدافًا متضاربة. وعليه، فإن دراسة الإذاعة الكردية تكشف عن تعقيدات لا تكون ظاهرة عادة في الدراسات التقليدية التي تركّز على الإذاعة القومية أو تلك المدعومة من الدولة في سياق واحد (وهي غالبًا ما تقتصر على الدول الغربية).  ثانيًا، وكما أوضحت في مواضع أخرى، فإن المنطقة المعروفة باسم “كردستان” كانت عرضة للاحتلال من قبل قوى استعمارية متعددة على مرّ القرون، وهو ما يسلط الضوء على أهمية القوة الاستعمارية وآثارها المتبقية ضمن تاريخ الإذاعة والتقنيات الصوتية الأوسع. وأخيرًا، وكما سأوضح بتفصيل أكثر في القسم التالي، فإن تشكّل جمهور إذاعي كردي لم يكن ممكنًا فقط من خلال البث الإذاعي، بل كان أيضًا معتمدًا بشكل أساسي على الممارسة الموسيقية )[6](.

الراديو وتشكيل الكردية من خلال بناء جماهير الأثير

 إن جمهور المستمعين الكرد المعاصرين العابرين للحدود القومية (عابرين للحدود بالمعنى الذي يقصد به أن الكرد المقيمين في كردستان موزّعون بين عدة دول قومية، تشمل تركيا، إيران، العراق وسوريا)، يتكوّن من “أيّ شخص يعبّر عن تأييده أو رفضه للأداءات التي يقدمها الموسيقيون الكرد”. بعبارة أخرى، كان جمهور المستمعين الكرد -ولا يزال- جمهوراً متنوعاً، وقد كانت المحطات الإذاعية التي تبث لهؤلاء الجماهير تعمل من دول قومية مختلفة، وبالعديد من اللغات واللهجات الكردية، وعلى مدى عقود ممتدة بدأت من أوائل عشرينيات القرن الماضي. بعض هذه المحطات كانت تديرها الحكومات، فيما كانت أخرى تتبع جماعات مقاومة مسلحة. وقد اتسمت هذه المحطات بشكل عام بتباين واسع في القدرات التكنولوجية، وكذلك في السياسات المتعلقة بالتعبير عن القومية الكردية أو المضامين السياسية الأخرى. ورغم أن بعض المحطات أصبحت قادرة في نهاية المطاف على الوصول إلى مستمعين في مناطق واسعة من كردستان، إلا أن تشكّل جمهور كردي أوسع كان عملية تدريجية متعددة الأبعاد والمراكز الجغرافية والعوامل المؤثرة. وقد لعبت الموسيقى دوراً محورياً في هذه العملية، خاصة في الحالات التي كانت فيها المحطات المدعومة من الدولة (مثل راديو بغداد) تمنع بثّ المحتوى السياسي أو القومي. وفي مثل هذه الحالات، وفرت الممارسة الموسيقية وسيلة لتعزيز الممارسة الثقافية العابرة للحدود دون أن تدعو بشكل مباشر إلى التوحيد السياسي للأمة الكردية)[7](

وما الذي قد تكشفه عمليات تشكّل جمهور المستمعين الكرد، والأهم من ذلك، كيف يرتبط مفهوم جمهور المستمعين الكرد بمفهوم “الأمة الكردية” ككيان سياسي مخنوق بفعل السلطة الاستعمارية والدول القومية؟ يرى بندكت أندرسون أن الرواية والصحيفة على وجه الخصوص “قدّمتا الوسائل التقنية لإعادة تقديم الشكل المتخيّل للجماعة التي تُسمى أمة”. ويقترح أن السبب الأساسي في ذلك هو أن هذه الأشكال من الكتابة تعتمد على فهم معين للزمانية ينبع من تصورات أوسع لـ “الزمن المتجانس والفارغ”. وكما يشرح: “فكرة الكائن الاجتماعي الذي يتحرك تقويمياً عبر زمن متجانس وفارغ هي تماثل دقيق لفكرة الأمة، التي تُفهم أيضاً بوصفها مجتمعاً صلباً يتحرك باستقرار على (أو عبر) التاريخ. فالأمريكي لن يلتقي أبداً أو يعرف أسماء أكثر من حفنة من مواطنيه البالغ عددهم ٣٤٠ مليوناً. ولا يدري ماذا يفعلون في لحظة معينة، لكنه يثق تماماً في نشاطهم الثابت والمتزامن”. وهكذا، فإن تصوّر الزمن الذي تعززه الرواية والصحيفة، مثل تزامن البث الإذاعي، يشجع القرّاء (أو المستمعين في حالة الراديو) على تخيّل الآخرين وكأنهم يعيشون الزمن والأحداث التي تملؤه بالطريقة نفسها التي يعيشونها هم أنفسهم. وعلى المستوى السياسي، فإن هذه التجربة المتزامنة تجعل من الممكن ترتيب سرديات التاريخ الوطني، بحيث يستطيع مواطنو الأمة أن يحددوا لأنفسهم ولغيرهم موقعاً داخل هذا التاريخ. وفي حالة جمهور المستمعين الكرد، فإن البث الإذاعي للأحداث الإخبارية الكبرى قد سهّل، بلا شك، على المستمعين الكرد أن يتخيّلوا أنفسهم كجزء من أمة كردية أوسع (مع التأكيد مجدداً: ليس بالضرورة دولة قومية)، خصوصاً في ظل ما تعرضوا له من قمع سياسي وثقافي متكرر في أماكن مختلفة. وفي بثّ الأغاني، التي فضّلت غالباً الأنماط الموسيقية الأوسع انتشاراً والأسهل أداءً كـ “كوراني” (التي تكون عادة قصيرة وغير سردية)، اختبر المستمعون الكرد أيضاً نوعاً من “الزمن الموسيقي المتزامن” على مستويات متعددة: من خلال استمتاعهم بالبثّ الموسيقي في الوقت نفسه، وأيضاً من خلال الاستماع إلى عدد محدود نسبياً من المؤدين والأنماط الموسيقية، ما عزّز لديهم إحساساً بالانتماء المشترك عبر سلسلة من ممارسات الاستماع الموحدة — وهي ممارسات ستُسهم لاحقاً في تشكيل ما يمكن اعتباره “تاريخاً موسيقياً كردياً مشتركاً” ([8]).

ومع قيام القوى الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا بإعادة تشكيل الدول الحديثة في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من القرن العشرين — مصحوبة بإدخال تكنولوجيا جديدة — بدأت “الزمنية الموحدة” تصبح الزمن الرسمي المعتمد.. وإلى جانب تبرير الحضور والسيطرة العسكرية لقوى استعمارية “متقدمة”، فقد سمح هذا التصور للزمن أيضاً لتلك القوى برسم صورة الشعوب المحلية بوصفها مجرد نقيض للحداثة والتقدم. ومع ذلك، لم تُلغِ المفاهيم الاستعمارية للزمن المفاهيم المحلية أو “الأصيلة”، التي غالباً ما تُشفر باعتبارها “تقاليد”. بل، وكما يبيّن المؤرخ المتخصص في تاريخ مصر الحديثة أون باراك، فإن الحداثة المصاحبة للمشاريع الاستعمارية في القرن العشرين، رغم اعتمادها على تكنولوجيا مثل التسجيل، والبث، والتلغراف، والسفر بالقطارات، كانت تُعزز في كثير من الأحيان “التقليدي”، وتُدخل أساليب جديدة للفصل بين الطبقات المتحضرة “المعاصرة” وبين “الفلاحين المتخلفين” الذين يُنظر إليهم على أنهم عالقون في الماضي. ولذلك، ليس من المستغرب أن تُفتتح إذاعة القاهرة الرسمية عام 1934 (قبل عامين من انطلاق الراديو الوطني في العراق، وخمسة أعوام قبل بداية البث الكردي من بغداد) بمحاضرة عنوانها الراديو كما رآه بدوي من الصحراء . وقد ركّز البث على خوف الشيخ البدوي من الجهاز ذاته، حيث قيل إنه اعتبره تمثالاً أو جمجمة خشبية فيها عفريت. وقد قادت السخرية من هذا الخوف “الخرافي” بطبيعة الحال إلى تقديم تفسير عقلاني من الطبقة الوسطى لكيفية عمل الجهاز فعلاً. وبهذا، فإن تعزيز الخارق للطبيعة (في هذه الحالة، العفريت المسجون في الجمجمة الخشبية) مكّن الطبقات المتعلّمة الآخذة في التوسع من تمييز نفسها ضمن مسار زمني مختلف عن جماهير الفلاحين “المتخلفين”. وبالمثل، عندما جلب المهندس أ. م. هاميلتون، الذي كان يعمل لصالح البريطانيين لبناء طريق في جنوب كردستان، جهاز راديو إلى المنطقة في أوائل الثلاثينيات، كتب عن الكرد الذين قدموا من مناطق بعيدة وقريبة لمعاينة “الصندوق الغامض الذي يجلب الأصوات من الهواء” ([9]). Top of Form

ومن هنا، كان ثمة، أهمية للتعبير الموسيقي والتقنيات الصوتية فيما يتعلق بازدهار جمهور استماع كردي عابر للحدود. فقد مثّل وصول الفونوغرافات (الأسطوانات) في العقد الأول من القرن العشرين، رغم أن استخدامها كان محصورًا بمن يستطيع تحمل تكاليفها الباهظة، بداية عصر جديد من الاستماع الجماعي في المقاهي وبيوت الأثرياء، وهو عصر سيمتد لاحقًا إلى الراديو. كان البث الإذاعي الكردي — رغم رفضه القوي أحيانًا للسلطة الاستعمارية والدول القومية — ما كان له أن يتخذ مساره الفعلي لولا تدخل تلك القوى نفسها بطرق متعددة. ففي العقود الأولى من القرن العشرين، قبل انتشار الراديو على نطاق واسع، كانت شركات الفونوغراف تجوب العالم بحثًا عن أماكن لتسجيل أغنيات “عرقية” جديدة ومثيرة، وكانت تحالفاتها وقدراتها تعتمد إلى حد كبير على السلطة الاستعمارية وتعكسها. ومع حظر التعبير بالكردية في دول حديثة مثل تركيا، عبر فنانون أمثال مريَم خان (1904–1949) ومحمد عارف جزيري (1912–1986) الحدود إلى العراق، حيث سجلوا أسطوانات استمر تداولها لعقود (وهو ما ساعد في الحفاظ على إمكانية المقاومة من قبل كرد تركيا، حتى وإن جاء البث من محطة إذاعية حكومية في العراق. وبحلول بدء البث الإذاعي العالمي، كانت مخاوف القوى الاستعمارية قد تحولت إلى النتائج غير المتوقعة للحرب العالمية الثانية. وقد غذت هذه المخاوف إطلاق بث إذاعي كردي جديد بدءًا من عام 1941 من يافا في فلسطين، حيث أسست بريطانيا محطة لمواجهة دعاية إيطاليا والنازية، وفي بيروت، حيث بدأت الحكومة الفرنسية أيضًا البث بالكردية )[10](

وبعد الحرب، تحولت المشاركة الغربية من السيطرة الاستعمارية المباشرة إلى التدخل والنفوذ الثقيل لضمان استمرار الوصول إلى الموارد الطبيعية مثل النفط. وقد قادت التوترات الإقليمية وعدم الرضا عن هذا الوجود الغربي إلى جهود دبلوماسية استراتيجية، من بينها إطلاق مزيد من البرامج الإذاعية بالكردية. ومن أهم هذه البرامج ما جاء من “إذاعة القاهرة”، التي بدأت بث برنامج مدته 45 دقيقة باللغة الكردية عام 1957. ورغم أن العاملين في إذاعة يافا، وربما غيرها، تمكنوا من بث أغانٍ قومية كردية، فإن البث الكردي في القاهرة هاجم بشكل مباشر القوى الغربية وما اعتبره كثيرون “حكومة دُمى” في العراق. وهاجمت النشرات الإخبارية الحكومة العراقية ودعمها لحلف بغداد الموالي للغرب، وشملت الأغاني المذاعة أغانٍ قومية مثل “ئه‌ی ره‌قیب” (“يا عدو”) و”ئه‌ی كوردینه” (“يا أيها الكرد”). وكما يشير حسن‌پور، فإن كلمات هذه الأغاني وموسيقاها لم تُسمع على الأثير منذ التدمير الوحشي لجمهورية مهاباد الكردية في إيران عام 1946. تكشف هذه الأمثلة الموجزة من البث الإذاعي الكردي عدة رؤى مهمة حول العمليات التي أثّرت على تطور جمهور الاستماع الكردي. أولًا، الراديو نفسه — كجمهوره — لم يكن كيانًا موحدًا، بل كان ساحة نزاع. وكما أن تواريخ المحطات التي تديرها الدولة تشكل جزءًا من تاريخ الإذاعة العالمية الناشئ، فإن الأفراد المحليين أو الجماعات الذين جذبتهم تكلفة الراديو المنخفضة وسهولة تشغيله يشكلون جزءًا لا يتجزأ من هذا التاريخ أيضًا. وحتى بين المحطات الرسمية فقط، فإن تفاوتات السلطة الإقليمية انعكست في قدرات البث وتاريخ المحطات. فعلى سبيل المثال، في أواخر الخمسينيات، دفعت إذاعات ناصر المنتقدة للسياسات العراقية الموالية للغرب المسؤولين العراقيين لطلب المساعدة من الولايات المتحدة لتزويدهم بأجهزة إرسال أقوى لمواجهة البث المصري. هنا، يظهر الراديو كساحة تُدار فيها ديناميات القوة وتُختبَر )[11](.

وثانيًا، أن المقاومة هي ثيمة رئيسية في تاريخ الإذاعة الكردية. وعلى الرغم من أن مفهوم المقاومة لم يُعرّف بشكل دقيق هنا، إلا أن ذلك يعكس طبيعته المتعددة والمتغيرة والمتعارضة أحيانًا. ولا ينبغي افتراض أن كل من شارك في الإذاعة الكردية — سواء من المستمعين أو المذيعين أو الفنانين أو المنتجين أو الفنيين — كان هدفه الأساسي هو المقاومة، خاصة عندما كان بالإمكان جني المال أو نيل الشهرة. ومع ذلك، فقد وفّر الراديو وسائل جديدة لتحدي المنطق الاستعماري والدولتي فيما يخص المكان والزمان: من خلال أغاني تمجّد القادة القوميين أو تشجّع التضامن الكردي، من خلال نشرات إخبارية تعرض الأحداث العالمية من منظور محلي، ومن خلال استخدام أسماء كردية للأماكن والأحداث، وأحيانًا بمجرد استخدام اللغة الكردية نفسها. وعلاوة على ذلك، حتى في الحالات التي نجحت فيها الحكومات في كبح الجهود الأدبية الكردية، فقد استمر الراديو في الوصول إلى جمهور واسع من الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، المتعلمين والأميين. وكما يقول الكاتب الكردي محمود باكسي عن قدرة الموسيقى على المقاومة: “الموسيقى لا يمكن إيقافها أو سحقها أو قتلها بالرصاص”. وقد ثبت أن الموجات الإذاعية كذلك )[12](.

من الواضح أن الموسيقى عنصر محوري في تاريخ الإذاعة الكردية، كما أنها محورا مهما كذلك في أشكال المقاومة الكردية المختلفة. فعلى مقربة من الراديو المعروض في متحف “ئه‌منه‌ سووره‌كه‌” في السليمانية، نجد كلمات ونوتات سبع أغانٍ مرتبطة بقوات البيشمركة؛ من بينها “ئه‌ی كوردینه”. وتزخر الأغاني القومية مثل هذه — التي تُعرف بالكردية باسم “سيروود” (أناشيد أو تراتيل) — في الثقافة الكردية. ففي أوائل الأربعينيات، بثّت إذاعة يافا عددًا من هذه السيروود، منها “ده‌می ڕه‌به‌ڕین” (“زمن الانتفاضة”)، و”گـولی خوێناوی” (“الزهرة الدامية”، من تأليف الشاعر عبد الله گۆران، الذي عمل مع الموسيقي الشهير رفیق چالاك في المحطة)، و”گوڵه‌گه‌نیم” “زهرة القمح”. حتى الأغاني التي لم تكن كلماتها تقاوم الاستعمار مباشرة لعبت دورًا في ربط الجماهير ببعضها من خلال الأنماط والأساليب الموسيقية واللحنية المشتركة. ومع نقل الفنانين للأغاني والأنماط الموسيقية من مناطق كردستان المختلفة عبر الراديو، بدأ نوع من التبادل الموسيقي بين المناطق. وقد ساهم ذلك، على أقل تقدير، في نشر أنماط موسيقية محلية مثل “لاويك” (وهو نوع من الأغاني الطويلة التي تتناول قضايا الحب أو مواضيع تاريخية، حسب المنطقة) والتي كانت سابقًا محصورة في مناطق معينة من كردستان ([13]).

ومع استمرار الراديو في تعزيز شهرة مطربين كرد أدّوا في العديد من الإذاعات — مثل حسن زيرك، الكردي الإيراني الذي يُقال إنه سجّل ما يصل إلى ألف أغنية خلال حياته، وسجل في طهران وبغداد وغيرهما — بدأ تشكل شبكة متنامية من الموسيقيين والمثقفين الكرد الذين سيصبحون لاحقًا قادة في هذه الصناعات، وشخصيات محورية في تاريخ الموسيقى الكردية الحديث. وقد تجاوزت هذه الشبكات الثقافية الحدود الوطنية، كما فعل الفنانون والبثوث الإذاعية أنفسهم. ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن الموسيقى والتقنيات الصوتية مثل التسجيل والبث أثرتا في بعض التغيرات داخل المجتمع الكردي نفسه. وأحد الأمثلة البارزة على ذلك هو تغير النظرة العامة إلى مهنة الغناء: فقبل ظهور الفونوغراف والراديو، كان يُمنع فعليًا أفراد الطبقة الوسطى والعليا من امتهان الغناء. لكن التسجيلات والبث الموسيقي لعبت دورًا محوريًا في تغيير هذه النظرة بمرور الزمن.

التسجيلات الصوتية والأثير والراديو

انجرفت منطقة الشرق الأوسط إلى قلب الصراع الدولي على احتكار صناعة التسجيلات الصوتية بعد مطلع القرن العشرين، مع تنافس الشركات الأمريكية والأوروبية والمحلية على الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا والمغنين الإقليميين البارزين. وغالبًا ما دار هذا التنافس على خطوط تعكس التحالفات أو الغزوات الاستعمارية السابقة أو المعاصرة، خصوصًا مع سعي القوى الاستعمارية إلى توسيع نفوذها في المنطقة. وبالنسبة للمغنين الكرد – الذين ظلوا، في غالبيتهم، خاضعين للحكم العثماني حتى انهيار الإمبراطورية بعد الحرب العالمية الأولى – فقد وفّرت هذه المرحلة الجديدة فرصًا تجارية لمن استطاع السفر إلى مدن مثل بغداد. وقد سجلت عشرات الشركات، العالمية والإقليمية، تسجيلات لمغنين كرد مثل علي أصغر كردستاني (1882–1936)، ومريم خان (1904–1949)، ومحمد عارف جزيري (1912–1986). وعلى الرغم من أن الحركة القومية الكردية لم تكن قد تبلورت شعبيًا بشكل كامل في ذلك الحين (فان بروينيسن 1992: ص. 25-26)، فإن تأثير هذه التسجيلات سيزداد قوة مع ولادة البث الإذاعي في المنطقة. فإلى جانب تزويد الإذاعات المبكرة بالمحتوى الموسيقي الكردي، ساهمت هذه التسجيلات في ترسيخ البنية التحتية التجارية لشبكة متنامية من الموسيقيين الكرد الذين أصبحوا لاحقًا روادًا في هذه الصناعات. والأهم من ذلك، أن المقاومة القومية الكردية دخلت طورًا جديدًا مع انهيار الإمبراطورية العثمانية – التي كانت قد مارست أشكالًا استعمارية حديثة على الكرد لعقود – بالتزامن مع احتلال القوى الغربية للمنطقة خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، وتحوّل المناطق الكردية إلى ساحات استعمار حديث تحت سيطرة دول قومية جديدة نشأت بعد توقيع معاهدة لوزان عام 1923. وكانت النتيجة التراكمية لهذه التطورات أن الكرد وجدوا أنفسهم، بعد عام 1923، مقسمين فجأة على دول جديدة لم يساهموا في رسم حدودها )[14](.

وفي الوقت الذي لجأ فيه فنانون كرد من تركيا وإيران إلى بغداد للتسجيل كردٍّ على قمع الثقافة الكردية، كان زعماء محليون في المناطق الكردية من العراق يخططون لمقاومة التدخل الاستعماري البريطاني، الذي سيحظى لاحقًا بموافقة رسمية من لجنة الانتدابات الدائمة التابعة لعصبة الأمم عام 1920. ومن أبرز الزعماء القوميين في تلك الفترة كان الشيخ محمود، الذي أعلن نفسه زعيمًا لكردستان مستقلة في مدينة السليمانية عام 1919 بدعم من قوات عشائرية من كردستان الفارسية المجاورة. ولم تتأخر بريطانيا في الرد، إذ قمعت تمرده خلال شهر واحد فقط، ونفته إلى مستعمرة بريطانية أخرى هي الهند. إلا أن البريطانيين، لاحقًا، وبعد إدراكهم لأهمية قاعدته الشعبية الواسعة، أعادوه إلى كردستان بعد سنوات، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1922، أعلن تمرده مجددًا. هذه المرة، أظهرت الحكومة قوتها الجوية بقصف مقر الشيخ عدة مرات، إضافة إلى تنفيذ سلسلة من الاستعراضات الجوية استمرت لأشهر فوق مدينة السليمانية ([15]).

ومن ثم، تعكس الأغنية “شيخ محمود”، التي سُجلت بعد عدة سنوات من تلك الأحداث على يد كاويس آغا (1889–1936)، الأهمية السياسية والثقافية للشيخ وتمرده. كاويس آغا، الذي تُشبّه معاناته في المجال الثقافي بمعاناة الشيخ في المجال السياسي، يُذكر اليوم بلقب “بلبل كردستان”. ورغم عدم توفر معلومات حول الاستقبال الأولي لأغنية “شيخ محمود”، فإن مسيرة صعود كاويس آغا تعكس مواقف أوسع تجاه كل من صناعة التسجيل ومقاومة السلطة الاستعمارية. بحلول وفاته عام 1936، كان كاويس آغا قد سجل عشرات الأغاني التي بُثت لاحقًا عبر القسم الكردي في إذاعة بغداد. ومن بين اثنتين وخمسين أغنية أُعيد إصدارها مؤخرًا على أقراص مدمجة من قبل معهد التراث الكردي في السليمانية، هناك ست أغانٍ من نمط “بسته”، وثمانٍ من نمط “حيران”، وثمانٍ وثلاثين من نمط “لاويك”. وغالبًا ما تروي اللاويكات ملاحم أو قصصًا عن الحب أو الحرب، ولا تزال تُعد من أصعب الأنماط أداءً. ويُرجح أن هذا النمط نشأ في المناطق التركية من كردستان (المعروفة باسم باكور)، إلا أنه في العراق يُربط غالبًا بمنطقة بادينان، حيث اللهجة المحلية قريبة من الكرمانجية (السائدة في كردستان التركية) والسورانية (السائدة في كردستان العراق) ([16]).

وقد غنى كاويس آغا أغنية “شيخ محمود” باللهجة البادينية، ويبدو أن شركات التسجيل والبث، في بغداد ومدن أخرى مثل يريفان – التي كان لمحطتها الإذاعية تأثير كبير على الكرد في تركيا (يوكسل 2011) – لعبت دورًا كبيرًا في تعميم هذه الأغاني التي كانت سابقًا جزءًا من تراث محلي. ورغم أن هذه الأنماط لا تزال تُعد محلية، فإن كثيرًا من المستمعين الكرد باتوا على الأقل يتعرفون عليها، ما يعزز فكرة أن رسم الخريطة الموسيقية لكردستان بهذا الشكل هو أيضًا شكل من أشكال مقاومة المنطق الاستعماري الذي يرسم كردستان بحدود وطنية، بدلًا من فهمها كموزاييك من المناطق الثقافية واللغوية الفريدة. ومن بين اللاويكات التي سجلها كاويس آغا، تبرز تلك التي تمدح شيخ محمود، وأخرى تمدح زعماء قوميين مثل سمكو آغا، الذي قاد ثورة كردية في إيران عام 1922، والشيخ أحمد بارزاني، شقيق الزعيم القومي المعروف الملا مصطفى بارزاني. وتروي أغنية “شيخ محمود” قصة هزيمته أمام البريطانيين في حزيران/يونيو 1919 (خلال ثورته الأولى ضدهم) في معركة مضيق بازياں. وكانت هذه المعركة قد تلت هزيمة محرجة للبريطانيين، إذ قاومت قوات الشيخ محاولتهم الأولى لاستعادة السيطرة على السليمانية ومحيطها ([17]).

من بغداد أثير يكسر الصمت

ظهرت أجهزة الراديو لأول مرة في المدن الكبرى بإقليم كردستان العراق في أوائل الثلاثينيات. فقد اشترى مالك أحد المقاهي في السليمانية أول جهاز راديو في المدينة عام 1932. ويُروى أن الجهاز جذب اهتمام العديد من رجال المنطقة، الذين شرعوا في زيارة المقهى كل يوم بعد أذان المغرب لمشاهدة “الجهاز العجيب (…) الذي يتكلم بلا شخص” ولسماع القرآن الكريم. خارج جدران المقاهي المحلية، كانت أوائل الثلاثينيات فترة انتقالية، بل واضطراب في العراق، الذي نال استقلاله الرسمي عن بريطانيا عام 1932. إلا أن المؤرخ تشارلز تريب يؤكد أن الاستقلال الاسمي للعراق لم يخفف من قبضة المصالح الاستعمارية البريطانية، حيث بقيت البعثات العسكرية البريطانية، والشركات البريطانية، ومستشاروها السياسيون والاقتصاديون، حاضرين بقوة، فضلًا عن هيمنتها على القطاعات الأساسية في الاقتصاد، بما فيها الراديو. وفي أيلول/سبتمبر 1933، توفي الملك فيصل الأول أثناء تلقيه العلاج في سويسرا، وخلفه ابنه غازي. وقد شهد عهد غازي، شأنه شأن والده، تغييرات كبيرة في الحكومة. ففي عام 1935، وبعد استقالة رئيس الوزراء جميل المدفعي، عيّن الملك ياسين الهاشمي، الذي سبق له أن شغل المنصب بين 1924 و1925. وقد جاء تعيين الهاشمي في سياق تمرد قبلي متصاعد في منطقة الديوانية، بقيادة شيخين نافذين، وكان يُعتقد أن للياسين علاقات قد تساعد على تهدئة التمرد – رغم أنه لعب دورًا في تأجيجه أصلاً.
دخل الشيخان إلى بغداد مع موكب مسلح وعرائض موجهة للملك، فيما وصفه تريب بأنه “غزو قبلي مسرحي لبغداد”، يعكس إرث “العراق القديم” الذي سعت نخب العاصمة إلى محوه تحت شعار التقدّم. وبالنسبة لياسين الهاشمي، فإن “التقدّم” اقتضى تأسيس بث إذاعي خاضع لسيطرة الدولة. فرغم أن التجارب الإذاعية بدأت عام 1932، فقد وجّه الهاشمي في حزيران/يونيو 1935 رسالة إلى الوزراء يطالب فيها بإنشاء محطة إذاعية وطنية، وخصصت لجنة حكومية لذلك ميزانية قدرها 31,000 دينار ([18]).

بدأت إذاعة بغداد الرسمية أول بث منتظم لها في الأول من تموز/يوليو 1936، عندما أعلن المذيع عبد الستار فوزي باللغة العربية: “هنا محطة الحكومة العراقية اللاسلكية في بغداد”. في البداية، كانت الإذاعة تبث يومين في الأسبوع فقط عبر موجة متوسطة واحدة. ومع ذلك، أولت السلطات أهمية استراتيجية للإذاعة، ووزّعت أجهزة الراديو على مناطق مختلفة في العراق لضمان انتشار الرسالة الحكومية. كان الملك غازي مفتونًا بالإمكانات التقنية والسياسية للبث، وأنشأ بنفسه محطة ثانية كان هو مذيعها الوحيد. ونتيجة عدائه للنفوذ البريطاني، كان يقرأ أحيانًا تقارير مصدرها النازيون في ألمانيا. وفي يوم الأحد 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1939، وبعد أكثر من ثلاث سنوات على انطلاق البث العربي، خُصص للقسم الكردي من إذاعة بغداد خمس عشرة دقيقة، بدأتها عبارة عربية تقول: “ترجمة الأخبار بالكردية”، وكان المذيع هو كامل كاكمين، ابن مدينة السليمانية.
وكما هو حال الكثير من تفاصيل التاريخ الكردي، لا يبدو أن هناك وثائق باقية توثق أول بث كردي. يذكر المغني الكردي المعروف باكوري أن البث الأول تضمّن تسجيلاً أو تسجيلين لموسيقى كردية وتقريرًا إخباريًا حول الحرب العالمية الثانية. رغم غياب التفاصيل، فإن محتوى البث يُظهر مركزية الموسيقى في الإذاعة، إلى جانب حضور القضايا العالمية مثل الحرب في بدايات صناعة الإعلام العراقي. وبين عامي 1939 و1945، بقي البث الكردي محدودًا بخمس عشرة دقيقة يوميًا بسبب نقص المعدات وعدم القدرة على البث الحي. وفي عام 1945، ومع البدء في البث الحي (رغم غياب معدات التسجيل)، زادت مدة البث إلى ساعة يوميًا. وكان كامل كاكمين يسافر عبر كردستان للعثور على مغنين يُسجلون في بغداد. ونظرًا لأن قطاعًا من المسلمين الكرد كانوا ينظرون بعين الشك إلى الموسيقى، فقد استُعين في البداية بعدد من المغنين غير الكرد، منهم شقيقتان يهوديتان من منطقة بادينان هما خوخي موشي وماري موشي، واللتان عرفتا لاحقًا باسم نازدار فرهاد وإسمر فرهاد، ورافقهما إلى بغداد علي مردان، أول مغن يُعيّن رسميًا في القسم الكردي. وُلد علي مردان في كركوك عام 1904، وكان يُلقب بـ”ملك المقام”، وامتاز بإتقانه لأنماط موسيقية متنوعة تشمل المقام الكردي والفارسي والعربي. وضمن مهامه في الإذاعة، كان يُدرّب المغنين، ويشرف على العازفين، ويدير البرامج الجديدة التي بدأت منذ ١٩٥٦ ([19]).

شكل اقتناء الإذاعة لمعدات التسجيل في أوائل الستينيات نقطة تحول، إذ بدأت بدعوة الفنانين إلى بغداد، وتسجيل أدائهم، ثم بيع التسجيلات لمحطات أخرى أو في الأسواق المحلية. لكن المغنين فقط كانوا يتقاضون أجورًا، وفق نظام تقييم داخلي، بينما لم يكن يتم دفع أي مقابل للفرق الموسيقية، إلا نادرًا كوجبة طعام. ورغم التركيز على الموسيقى الكردية، لم يكن البث منعزلًا عن باقي الأنماط الموسيقية. فقد شارك علي مردان في مؤتمر القاهرة للموسيقى عام 1932، وغنى كل من حسن زيرك ومحمد ماملي على أنغام مأخوذة من أغانٍ شهيرة مثل “غني لي شوية شوية” لأم كلثوم. ووفق ما يورده باكوري، فقد تخللت جداول البث مقاطع موسيقية غير كردية مثل الموسيقى الغربية، وكونشيرتات للبيانو والفلوت، وحتى التانغو. وهذا ما يدل على أن الممارسة الموسيقية الكردية خلال القرن العشرين لم تكن منقطعة عن التجربة الحديثة، بل كانت جزءًا حيًا من السياقات الإقليمية والعالمية ([20]).

أثير كردي من القاهرة

بمبادرةٍ من الرئيس جمال عبد الناصر، افتُتح في يوم 1 يونيو 1957 القسم الكُردي في إذاعة القاهرة، التي كان مقرّها في البدايةً في شارع الشريفين وسط القاهرة. ثم في عام 1963م انتقلت إلى مبنى ماسبيرو. وكان بثّ الإذاعة الكُردية ساعةً واحدة يومياً، من الساعة الرابعة حتى الخامسة عصرًا. كانت تبثّ البرامج التالية: الأدب والشعر الكُردي، تحليل الأحداث، طلبات المستمعين، أغاني كُردية، الأخبار السياسية، رسائل المستمعين، التاريخ الكُردي، الفنّ والثقافة الكُردية، أنت وحظّك… الخ. وكانت الإذاعة تُفتتح بالقرآن الكريم، ثم النشيد القومي الكُردي (أي رقيب). وكان بثّ الإذاعة الكُردية يغطّي عموم العراق، وإيران، وسوريا، وأرمينيا، وقسم من الاتحاد السوفيتي، ولبنان، والأردن، وعموم مصر. وكانت الرسائل تصل بغزارةٍ إلى القسم الكُردي في إذاعة القاهرة من كُرد سوريا والعراق وإيران وأرمينيا و جورجيا والأردن، ولبنان، و الأيوبيين في عموم مصر. ولضخامة الرسائل التي كانت تصل يومياً إلى القسم الكُردي اضّطرت إدارة الإذاعة أن يكون هناك برنامج يومي باسم (رسائل المستمعين)، للردّ على استفسارات المستمعين والتجاوب مع مشاعرهم. وطبيعيٌ، فإنّ افتتاح القسم الكُردي في إذاعة القاهرة أحدث ضجّةً إقليمية ودولية كبيرة. ولاقى استنكارًا وغضبًا من قبل الصحافة العراقية والتركية والإيرانية. ولكنّ صمود حكومة جمهورية مصر العربية برئاسة جمال عبد الناصر بوجه احتجاجات صحافة تلك الدول اضّطر تلك الدول إلى الالتجاء إلى القنوات الرسمية والدبلوماسية للاستنكار ([21]).

وعليه، فقد زار سفراء العراق وإيران وتركيا وزارة الخارجية المصرية؛ للإعراب عن استنكارهم الشديد بخصوص فعاليات القسم الكُردي في إذاعة القاهرة. وهذا يدلّل بأنّ الإذاعة الكُردية كان لها الأثر الجيد في توعية الشعب الكُردي بالمشاعر القومية، وهذا ما أثار غضب الدول الإقليمية. وكان للإذاعة الكُردية في القاهرة (فرقة للإنشاد)، كانت تزور مقر الإذاعة بين فترة وأخرى؛ لإعداد وتهيئة وإذاعة بعض الأناشيد القومية الكُردية. وكانت الفرقة تتألّف من السادة: فاتح هموندي، عبدالحميد الإمام دهوكي، صفوت بابان (من السليمانية)، مصطفي شريف( من ماوت)، عادل صالح مختار أربيلي، كانبي أنور دزه يى أربيلى. وفي عام 1963م، انتقل القسم الكُردي مع إذاعة القاهرة إلى مقرها الحالي في (ماسبيرو)، الموجود على كورنيش النيل، بجوار وزارة الخارجية المصرية. ولايزال أرشيف القسم الكُردي كاملاً من (أشرطة وكتابات) موجود في أرشيف إذاعة القاهرة. وفي عام 1968م، وبسبب الضغوطات الهائلة من قبل حكومة شاه إيران، محمد رضا بهلوي، والرئيس العراقي عبدالسلام عارف، والرئيس التركى جودت صوناي – تمّ غلق القسم الكُردي بإذاعة القاهرة ([22]).

وقد صرّح السياسي الكردي والرئيس العراقي الأسبق فؤاد معصوم في مقابلة تلفزيونية بأن عبد الناصر أمر بإنشاء القسم الكردي ضمن سياسة مصر لبث رسائلها إلى العالم بلغات متعددة. واللافت أن هذه الإذاعة لم تكن تابعة لإذاعة “صوت العرب”، وهي أبرز محطة إذاعية مصرية عابرة للحدود في تلك الحقبة. ويجدر بالذكر أن معصوم كان من أوائل المذيعين الكرد في القسم الكردي، وعمل فيه أثناء دراسته في جامعة الأزهر، إلى جانب مذيعين آخرين من مناطق كردية متعددة، من بينهم عبد الوهاب الملا، وهو كاتب كردي من بلدة عامودا السورية ومعروف بكتابه الحب والأدب، وعاصم الحسيني أيضًا من سوريا. انتهى عمل المذيعين الكرد السوريين في المحطة بعد حل الجمهورية العربية المتحدة التي دامت من 1958 حتى 1961. ومن المذيعين البارزين الآخرين طاهر بابان، وعبد الله معروف من مدينة مريوان، وعدنان حقي وعثمان نقيراني من أربيل، ومحمد رمضان عبد الله من كركوك.

وذكر الصحفي عبد الله محمد خالد رستم أن إذاعة القاهرة الكردية كانت تضم فرقة إنشاد كانت تزور مقر الإذاعة دوريًا لأداء وبث بعض الأناشيد القومية الكردية. من أبرز أعضاء هذه الفرقة فتحي حماوندي، وعبد الحميد دوهوكي، وصفوت بابان من السليمانية، ومصطفى شريف من ماوت، وعادل صالح مختار من أربيل. كما أشار رستم إلى أن البرامج كانت تبث يوميًا من الساعة 4 إلى 5 مساءً إلى جمهور في العراق وإيران وسوريا ومصر والأردن ولبنان وأرمينيا وأجزاء من الاتحاد السوفيتي. وأضاف أن البرامج كانت متنوعة، وشملت مقتطفات من الأدب الكردي، والأغاني، والشعر، والتاريخ، بالإضافة إلى الأخبار السياسية، ورسائل المستمعين، وغيرها. كانت البثوث تبدأ بتلاوة من القرآن الكريم، تليها النشيد الوطني الكردي “أي رقيب”. وكانت الرسائل تتدفق على الإذاعة من الكرد في مختلف المناطق، وبسبب الكمية الكبيرة التي كانت تصل يوميًا، اضطرت إدارة الإذاعة إلى تخصيص برنامج يومي بعنوان رسائل المستمعين للرد عليها والتفاعل مع الجمهور.

إذاعة يريفان كمساحة بديلة للحفاظ على الثقافة الكردية

بينما كانت السلطات التركية تعمل على إسكات الأصوات الكردية وقمع اللغة والثقافة الكرديتين في الداخل، ظهرت إذاعة يريفان في أرمينيا السوفييتية كمنصة خارجية بديلة ساعدت الكرد في الحفاظ على تراثهم الثقافي والتعبير عن هويتهم. بدءًا من خمسينيات القرن العشرين، بدأت الإذاعة في بث برامج باللغة الكردية، بما في ذلك الموسيقى، والقصص، والأخبار، والمقابلات، ما جعلها واحدة من أولى المساحات العلنية التي وُجّه فيها خطاب كردي علني ومنظم إلى جمهور واسع، بل وعابر للحدود. لم تكن إذاعة يريفان مجرد وسيلة إعلامية؛ بل كانت أيضًا ملاذًا ثقافيًا وذاكرة جمعية للكرد المحرومين من وسائل التعبير داخل تركيا. ومع أن الإذاعة خضعت للسيطرة الأيديولوجية السوفييتية، فإنها قدّمت محتوى يُحتفى فيه باللغة الكردية ويُشجّع على حفظ الأغاني الشعبية، والحكايات الشفهية، والتراث الموسيقي.

تحتوي أرشيفات الإذاعة على عدد هائل من تسجيلات الدَنگبێجات، والمغنين الكرد، والبرامج الثقافية التي استُخدمت لاحقًا كمرجع في الدراسات الأكاديمية حول الهوية الكردية والفن الشعبي. وبحسب شهادات عدد من الفنانين الكرد الذين نشطوا في يريفان، كانت هذه الإذاعة بمثابة نافذة على الحرية – صوت كردي عابر للحدود يخترق جدران القمع التي فُرضت داخل تركيا. ساهمت إذاعة يريفان في حفظ ما تم تجاهله أو قمعه في الداخل، بل وشجّعت على ظهور جيل جديد من الفنانين والكتّاب الكرد الذين وجدوا فيها أفقًا لتطوير لغتهم وثقافتهم. كما أن لها دورًا محوريًا في ترسيخ الوعي القومي الكردي في المنطقة، ليس من خلال التحريض أو العمل السياسي المباشر، وإنما عبر تكريس رموز الانتماء الثقافي وصوت الذاكرة الجمعية. وإن كانت تركيا قد سعت إلى محو الكردية من المجال العام، فإن إذاعة يريفان نجحت، ولو جزئيًا، في إعادتها إلى دائرة الضوء – بل وجعلتها مسموعة عبر الأثير لعقود، في وقت لم يكن فيه الصوت الكردي مسموحًا له حتى بالهمس في بلاده.

ورغم أن جميع الدول التي بثت برامج كردية فعلت ذلك من منطلقات سياسية خاصة بها، إلا أن حسن بور يرى أن إذاعة يريفان امتلكت سمات ميّزتها عن باقي الإذاعات وجعلتها أكثر صلة وتأثيرًا على الكرد في تركيا. من هذه السمات أن إذاعة يريفان كانت تبث باللهجة الكرمانجية، على عكس إذاعة بغداد والقاهرة اللتين استخدمتا اللهجة السورانية. كما أن عدد المغنيات في إذاعة يريفان كان أعلى، إذ يقول حسن بور: “كانت إذاعة يريفان التي تبث بالكرمانجية تضم عددًا أكبر من المغنيات مقارنة بإذاعة بغداد”. وهذا ربما ساعد على إعادة إحياء دور النساء الدنبيجات، إذ يضيف حسن بور أن: “نسبة المغنيات أعلى في المناطق الناطقة بالكرمانجية مقارنة بغيرها”.

خارج حدود أرمينيا السوفيتية، كانت تُعرف باسم “راديو يريفان”، وقد أسست لمرحلة جديدة من التواصل غير الرسمي المتعزز بين أجزاء كردستان المختلفة خلال الحرب الباردة. رغم تعقيدات الجغرافيا السياسية في المنطقة، لم ينقطع التواصل بين أجزاء كردستان المختلفة، بل حافظ الكرد، بدرجات متفاوتة، على قنوات للتواصل، مهما بلغت صرامة الرقابة. فدول مثل إيران وتركيا، وبدرجة أقل سوريا والعراق، كانت ذات أنظمة مركزية صارمة وبحدود مؤمّنة ومعسكرة إلى حد كبير خلال حقبة الحرب الباردة. ومع أن الانقسام الجيوسياسي أضعف التواصل الكردي العابر للحدود، إلا أنه لم يقطعه بالكامل. تصف أوفرا بنجيو هذا الواقع بدقة حين تقول: رغم أن المجتمعات الكردية فُصلت سياسيًا عن بعضها البعض نتيجة إعادة رسم الحدود بعد الحرب العالمية الأولى، وتطورت ضمن مسارات مختلفة داخل الدول القومية الجديدة، إلا أن هذه الحدود لم تكن محكمة الإغلاق تمامًا، وظلت المجتمعات الكردية على تواصل وتفاعل متبادل مع تطورات ما وراء حدودها السياسية )[23](.

وتُعد إذاعة يريفان مثالًا بارزًا لهذا التواصل المستمر؛ إذ أصبحت وسيطًا موحِّدًا يتجاوز الحدود السياسية. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، عندما حُظر استخدام اللغة الكردية ومظاهر التعبير الثقافي الكردي في سياسات الإنكار والدمج التي مارستها الدول القومية، ظل صوت الكرد يُسمع من خلال أغانيهم وقراءاتهم وأحاديثهم في أثير إذاعة يريفان. وكانت الإذاعة، في تلك المرحلة، الوسيلة المثالية لتعبير الثقافة الكردية، التي اعتمدت تاريخيًا على الشفاهة والسرد الصوتي. سُمح ببرامج كردية في ظل الإدارة السوفيتية كجزء من استراتيجية لنشر الأجندة الشيوعية بين الكرد خارج الحدود. لكن نجاح إذاعة يريفان يُنسب بشكل أساسي إلى الكردي الإيزيدي جاسم جليل، الذي تولى إدارة القسم الكردي. ومن خلال دعم عائلته وتعاونه الوثيق مع الأرمن والكرد، استطاع جليل تحويل الإذاعة إلى منصة لإحياء اللغة والموسيقى الكردية ونشرها. ما بدأ كمبادرة سوفيتية، تحوّل إلى أداة قوية ربطت الكرد ببعضهم، وساهمت في صون ثقافتهم من الاندثار. كان جاسم جليل شاعرًا ومترجمًا ومربّيًا، وُلد عام 1908 لعائلة من الإيزيديين الكرد. هرب مع عائلته من الإبادة الجماعية للأرمن وهو في العاشرة من عمره، وقضى مراهقته في دور الأيتام. وفي شبابه، انتقل إلى يريفان للعمل والدراسة، بعد أن كانت الثورة البلشفية قد حوّلت الإمبراطورية الروسية إلى الاتحاد السوفيتي. ومع توليه رئاسة القسم الكردي في إذاعة يريفان عام 1954، باتت الإذاعة ملاذًا للتعبير الثقافي الكردي، في وقت كانت فيه اللغة والثقافة الكردية تتعرض لحملات قمع وحظر شديد في دول الشرق الأوسط. وكما كتب حسن بور: كان الاستماع إلى البث الكردي يُعد عملاً مناهضًا للدولة التركية… ورغم سياسات الإبادة اللغوية، كانت الموجات الإذاعية من يريفان وبغداد وكرمانشاه تحمل الموسيقى إلى البيوت.” ([24]).

من خلال بث المسرحيات والأغاني الفولكلورية الكردية ثلاث مرات في الأسبوع، ربطت الإذاعة الكرد بتراثهم، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الحياة الثقافية، إذ كان الناس يتجمعون دوريًا للاستماع إلى البث. كما ساهمت الإذاعة في تحديث بعض الممارسات الثقافية وتوسيع انتشارها؛ فقد قامت بتسجيل أغاني الـ”دَنبَيج”، التي كانت تُؤدى تقليديًا دون آلات موسيقية، وأدخلت عليها أدوات موسيقية كردية مثل الدف والزُرنا والناي، مانحةً إياها بُعدًا فنيًا جديدًا. تُعد إذاعة يريفان أيضًا أرشيفًا غنيًا؛ إذ يؤكد آرتور إسبيريان، رئيس قسم الأرشيف، أن هناك أكثر من 10,000 تسجيل لأغانٍ ومسرحيات كردية محفوظة في أرشيف الإذاعة. كما شكّلت الإذاعة وسيلة تعليمية فعّالة لتعلّم اللغة الكردية. فعلى سبيل المثال، قال عثمان بايدمير، رئيس بلدية ديار بكر بين 2004 و2014، خلال زيارته للقسم الكردي في يريفان، إن له “أمّين”: أمه البيولوجية، وإذاعة يريفان، التي تعلّم منها لغته الأم واستمع من خلالها للموسيقى الكردية في وقت كان ذلك ممنوعًا في تركيا. لقد كانت إذاعة يريفان أداة حيوية لربط الكرد ببعضهم البعض، والحفاظ على هويتهم الثقافية في لحظة تاريخية كانت فيها هذه الهوية في مهبّ الخطر. لم تكتفِ الإذاعة بالمساهمة في صون اللغة والفنون الكردية، بل أصبحت أيضًا رمزًا لقدرة التواصل الكردي العابر للحدود على الصمود في وجه السياسات القمعية والحدود المصطنعة. لقد أثبت الأثير، مرة أخرى، أنه أداة مقاومة ثقافية لا تعرف الحدود ([25]).

وفي الختام، فإن هذه كانت محاولة للنفاذ للراديو عبر قراءة أنثروبولوجية وثقافية تعاملت معه باعتباره أداة ساهمت في إعادة إنتاج الذات الكردية في المنفى السياسي والرمزي. فالراديو هنا لا يُختزل في تقنيته، بل يُفهم كفضاء حسي/تواصلي أعاد للغة الكردية مكانتها المغيّبة، وأعاد للكرد إحساسهم بالذات القومية المتخيلة، ليس عبر الجغرافيا بل عبر الصوت العابر لها. وبهذا، فإن هذه كانت محاولة للاشتراك في النقاشات الأوسع حول وسائل الإعلام كأدوات للهوية والمقاومة الثقافية، عبر طرح نموذج غني لدراسة دور الصوت في إنتاج الانتماء القومي في ظل غياب السيادة السياسية.

Bottom of Form


[1] Jon E. Bullock: Broadcasting the Nation The Importance of Radio in Kurdish Music History, The World of Music, 2022, Vol. 11, No. 2, New Contours in Kurdish Music Research (2022), p 73-74

[2] jon edward bullock: radio kurdistan: iraqi kurdish music, colonial power, and the

transmission of tradition, PhD, chicago, illinois, june 2022, P133

[3] Jaffer Sheyholislami: Kurdish Media: From Print to Facebook, Palgrave Macmillan, New York, 2011, p 84

[4] jon edward bullock: radio kurdistan op cit, P 130

[5] Ibid: P 131 – 133

[6] Ibid: p 134

[7] Jon E. Bullock: Broadcasting the Nation The Importance of Radio in Kurdish Music History, op cit, p 77

[8] Ibid: p 78

[9] Ibid: p 78- 79

[10] Ibid: p 80 – 81

[11] Ibid: p 82

[12] Ibid: p 82

[13] Ibid: p 83

[14] Jon E. Bullock: decolonizing the boundaries indigenous musical discourse in the history of Kurdish radio Baghdad, IASPM journal vol. 11 no.2 2021, p 23 – 24  

[15] Ibid: p 24  

[16] Ibid: p 24  

[17] Ibid: p 25

[18] Jon E. Bullock: Broadcasting the Nation The Importance of Radio in Kurdish Music History, op cit, p 83-84

[19] Ibid: p 84

[20] Ibid: p -84

[21] عبد الله محمد خالد رستم: القسم الكردي في إذاعة القاهرة نبذة مختصرة، https://ara.yekiti-media.org/القسـم-الكـُردي-في-إذاعـة-القاهرة-نب/  

[22] نفسه   

[23] Nirvana Hosheng: Radio Yerevan and Cross-border Kurdish Communication, https://nishtmansi.com/blog/radio-yerevan-and-cross-border-kurdish-communication

[24] Ibid:

[25] Ibid:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى