
هي كلمة السر التي يهرع نحوها الأغلبية من مجتمعات العالم عامة والشرق الأوسط خاصة، بحثاً عن ملاذ آمن يحميهم من براثن الاستبداد و الرأسمالية، ولكن ترى هل تحققت على أرض الواقع أم لا زالت مجرد نظريات قابعة على الأرفف بين طيات الكتب …
الديمقراطية كمفهوم، له معان عدة، فبقدر انتشار مصطلح الديمقراطية بقدر تنوع مقاصده، فهناك ديمقراطية مباشرة بمعنى أن يشارك أفراد الشعب في الحكم بشكل مباشر دون أن يمثلهم أحد، وهناك ديمقراطية أثينية _ وقد أطلق عليها أثينية نسبة إلي أثينا اليونانية والتي ولدت في إدارتها الديمقراطية _ وهي ما نراه في عدد من الدول من استفتاءات للشعوب في شؤون إدارة الدولة، وهناك ديمقراطية صناعية، وتلك تخص شؤون العمال وتقاسم السلطة والمسؤولية في مقر العمل، وديمقراطية شمولية ، وأخري طائفية ,غيرها موجهه ، والمزيد من الديمقراطيات التي تختلف باختلاف السياق السياسي لكل دولة على حده، غير أننا معنيين هنا بالسياسة الديمقراطية تحديدا .
- السياسة الديمقراطية
في نمط فكري مختلف ربط أوجلان السياسة بالأخلاق، حيث خسرت السياسة في حرب الرأسمالية الضروس، حين بدأت الأخلاق تتلاشى شيئ فشيئ ، وبالتالي السياسة أيضا، لذا وإن كان يرنو العالم للحرية فلا خيار سوى إعادة إنهاض الأخلاق أولا ومن ثم السياسة ، وهذا الربط ربما يكون أكثر ما قد ترجوه للمجتمعات، في المرحلة الحالية، فمتى استيقظ الضمير الإنساني باتت كل الأمور دونه يسيره .
عرٌف أوجلان السياسة الديمقراطية بأنها فن التحرر الحقيقي، وأنها مدارس حقة لتعلم الديمقراطية، فبقدر ما تصنع الأعمال السياسية أشخاصا ديمقراطيين ، بقدر ما تسيس السياسة الديمقراطية المجتمع، وبالتالي تحرره، وأنه بدون ممارسة السياسة الديمقراطية، لن تسطيع المجتمعات أن تتحرر عبر الدرب السياسي، ولا ضير من وجود العديد من الميادين الاجتماعية المغذية للحرية والسياسية، وعلى رأسها السياسة الاجتماعية والحرية.
الحرية أم الديمقراطية، ربما يختلف المفكرون أيهما تكون أولا غير أن الأكيد أنهما متممتان لبعضهما، فبقدر التفكير بأواصر السياسة الاجتماعية مع الحرية، بمستطاعنا عقد الروابط بينها وبين الديمقراطية أيضا، وإذا ما أجمعنا على أن التسيس هو الشكل الأولي للتحرر، فعلينا الإدراك أنه بقدر تسييس كل المجتمع بقدر تحرره، والعكس صحيح أيضا، فبقدر تحرر المجتمع بقدر تسييسه .
الأخلاق المسيسة و الإبداع
وضع أوجلان شريطة السياسة الإبداع أولا، فالسياسي لابد أن يكون ذو فكر مبدع خلاٌق، وعليه أيضا إدراك حقيقة أن المجتمعات لن تقبل إنتاج الفكر السياسي أو ممارسة السياسة متفردة بذاتها بعيدا عن الأخلاق، فنستطيع قول أن الأخلاق هي القاعدة الأساسية للأفكار وتراكمها، بالإضافة إلى أن إجراء النقاش واتخاذ القرارات _حتى في حالات ظهور أفكار مغايرة أو شاذة _ شرط لازم لتحقيق السياسة الديمقراطية، إذا لا فرق بين القطعان وبين تلك المجتمعات الخالية من السياسة .
يؤكد أوجلان أنه طالما المجتمع موجود فبالضرورة ستتواجدان الأخلاق والسياسة، غير أنهما تعجزان عن أداء أدوارهما وكفاءاتهما الإبداعية والوظيفية، بسبب تهميشهما من قبل السلطة والدولة، يحدث ذلك عن طريق أشياء عدة، ومنها على سبيل المثال الإعلام، الذي يتم توجيهه لأدلجة المتلقيين وجعلهم عاجزين عن خوض أبسط نقاش سياسي أو صياغة القرارات، لاسيما وأن البطالة والمجاعة والفقر مثلاً تكتسحان سهول بلاد ما بين نهري دجلة والفرات، التي شهد لها التاريخ أنها كانت مصدر لتأمين الغذاء لملايين البشر حول العالم، وربما كان بالإمكان إعادة التاريخ مرة أخرى في حالة التخطيط لحملة إنتاجية لا تهدف إلي الربح، وهو ما يتناقض مع الرأسمالية المتفشية، والتي تعتبر السبب الوحيد للبطالة والجوع والحرمان .
ويمكن الاتفاق مع أوجلان في هذه النقطة حتى وإن لم نتفق حول أسباب الوصول إليها فبالنظر إلى ما آلت إليه المجتمعات عامة والكثير من أفرادها خاصة، نجد هذا التحول المتعمد من قبل بعض الأنظمة الحالية والسلطات قد أتى ثماره بالفعل ، حيث تم صناعة فرد أجوف الفكر رغم امتلاكه عقل معقد ميزه به الله على مخلوقات الكون ، قد يزج بمبادئه للحصول على مستهلكاته، لا يتمكن من الرؤية والتحليل ولا يفقه أبعد من احتياجاته للعيش، وبالضرورة انعكس هذا على معدل الأمان في المجتمعات .
الإدارة الذاتية للمجتمع بين السلطة والسياسة
قد يكون مصطلح السياسة مشوش بالنسبة للمجتمعات، فالسياسة كلمة ذات أصل أغريقي وتعني إدارة المدينة، ولكن عندما يتم الحديث عنها كظاهرة اجتماعية، فيمكن أن تعرف باعتبارها تحقيق تطور المجتمع من خلال إدارة شؤونه بحرية، لذا فالنظر إلى السياسة باعتبارها مساحة حرية للمجتمع، ليتطور معنى وإراده، وربما هذا الوصف هو الأقرب لحقيقة المصطلح، وبالتالي يكون المجتمع مدرك لذاته وهويته فكراً وممارسة، ومدرك أيضا لكيفية تطويرهما، والدفاع عنهما، ربما هذا يقودنا إلى أن السياسة تكتسب هوية السياسة الديمقراطية في حال اكتسابها القدرة على الإدارة الذاتية، وأحيانا يتم تحريفها عن حقيقتها الجوهرية باعتبارها السلطة، وذلك يخلق إشكالية التناقض، فحكم الدولة بعيدا كل البعد عن مفهوم السياسة، ذلك لأن ساحة السلطة هي ذاتها التي تنكر فيها السياسة، وربما هذا المزج المشوش بين السلطة والإدارة والسياسة، والذي يرعاه علم الاجتماع و كانت له اليد الطولى في تشويش العقول بلا حدود في هذا المضمار، حيث أطلق مصطلح سياسة على كافة ممارسات الأنظمة التسلطية بصورة خاصة.
العصرانية الديمقراطية والقضية الكردية
لدى القضية الكردية تحديات، حتى تسطيع السباحة في محيط الهويات شأنها شأن البقية، ومن تلك التحديات عدم القدرة على التحليل الصحيح للأمة الكردية كظاهرة داخلية، وعلاقته بالقومية والدولتية، والعجز عن وعي ماهية الوجود القومي الكردي إزاء ظاهرة الدولة القومية كظاهرة خارجية، وأيضا الإصرار على الحل الدولتي والقوموي ليس هو الحل حقيقاً، ذلك لأن الاستقلال الذاتي أو الإدارات المحلية الذاتية الذي تواجدت عليه أمثلة عديدة في التاريخ العباسي والعثماني على سبيل المثال، وممارسات الفيدرالية الديمقراطية المطورة في أوروبا، تقدم للقضية الكردية أمثلة وحلول غنية .
وجاء هذا الرفض للدولتية والقومية لعدم جدواه في القضية الفلسطينية، ذلك لأن هذا الأسلوب المعتمد على التقسيمات بين دول المنطقة والشعوب والمكونات، وتفرد كل منها بذاتها، إنما هو إسلوب يتماهى مع مصالح القوى المهيمنة الرأسمالية ، وأنه باستمرار هذا الفكر في القرن الحادي والعشرين ، مع عدم إدراج وسائل السياسة الديمقراطية في الخطة، فإن القضية الكردية بمفردها كافية للإبقاء على منطقة الشرق الأوسط برمتها ساحة لمنافع واستغلال القوى المهيمنة التقليدية قرنا آخر من الزمن ، والعكس صحيح ومثال على ذلك تجربة الحل الديمقراطي في كردستان بشأن كافة قضاياه الاجتماعية والتي هي ضمن الشرق الأوسط ، وأن الوضع الراهن في كردستان ، والذي هو جنبا إلي جنب مع القوميات التركية والعربية والفارسية والتي تعد قوميات أساسية متجاورة في المنطقة، فإن وحدة المصير التاريخي التي شهدها الكرد بمعية الأرمن والسريان والتركمان والذين يعتبرون عناصر داخلية، تبرهن على انتشار الحل الديمقراطي المتوطد في كردستان، ليتضح نهايةً أن الحل الكردستاني الديمقراطي سوف يتمخض بالضرورة عن الحل الديمقراطي الشرق أوسطي .
إن التعددية الثقافية داخل الوطن الواحد من شأنها دفعه نحو التقدم، ولدينا خير مثال لذلك أوروبا، التي عانت من الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية ، التي جعلت إعادة النظر في مشروع المجتمع النمطي أمر ضروري، ثم استفاقت على ضرورة الاتحاد وتقبل التعددية والأنماط المختلفة، غير أنها لازالت قابعة في نفق الرأسمالية المعتم، أما جميع الثقافات التي تحيا خارج إطار الهوية الثقافية الرسمية، فيفرض عليها في النهاية التهميش والتصفية والاضمحلال تلقائيا أو من خلال الإبادة والتطهير بطرق غير مباشرة، من خلال أساليب القمع والاستغلال الرأسمالي، أو من خلال سياسات الدولة القومية ، وتكمن مواجهة ذلك في تبني مفهوم الهوية الثقافية منفتحة الأطراف، وتوحيدها مع الثقافات الأخرى في تركيبة جديدة، وصياغة مشاريع حياة مشتركة ذات مستوى إنساني أكثر رقيا ووعياً ، وتكون وسائل تطبيق تلك المشاريع من خلال السياسات الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني وشبه الاستقلال الديمقراطي، وبذلك تكون الحاجة إلي تحقيق العصرانية الديمقراطية حاجة ماسة ومصيرية ، سواء للحفاظ على الثقافات التقليدية وتأمين حريتها ، أو في سبيل اندماجها وتعايشها في شكل تركيبة جديدة مع الثقافات العصرية .
ربما تكمن فطنة وشمولية أوجلان في توجيه الكرد نحو الهوية الشرق أوسطية إن جاز التعبير، للخروج من الفردانية نحو الإنسانية ، بدلا عن الالتفاف حول الكرد بمفردهم مد ذراعية نحو جميع دول المنطقة، لاسيما وأن خطاباته موجهة في الأغلب نحو الشرق الأوسط عامة، والكرد وفلسطين خاصة، وتكمن فطنته هنا في محاولة جمع شمل الشرق الأوسط برمته، وتقديم حلول واقعيه لتحقيق السياسة الديمقراطية، ومن ثم إقصاء الرأسمالية والذي سيتبعهم بالضرورة تحقيق السلام والتعايش مع جميع الفصائل ، فصناعة السلام لا تأتي فرادي، بل يلزمها إعداد دقيق للأذهان، ولكل فصائل المجتمع، ومحاولات عده للرجوع لأصل السياسة وممارستها والتذكير بالقاعدة الرئيسة في ذلك المضمار ، وهو أن السياسة لا بد أن تكون صناعة الشعب والأفراد، وأن شواذ القاعدة هو ما يمارس الآن من خلال احتكار وحصر الممارسات السياسية على فئة قليلة لتحديد مصير الأمم التي تفننوا في جعلهم أتباع ، وزرع هذه المسؤولية الشرق أوسطية فى نفوس الكرد من شأنها أن تجعل من شعوب المنطقة الاهتمام بالقضية وأن تعني بها بصورة أكثر خصوصية، لخروجها من أطار الفردية، ولشمولية أفكار قائدها، وربما بحثاً عن تحقيق الديمقراطية والسلام لهم أيضاً، بعدما قد أدرك العديد أن لا سلام حقيقي في المنطقة إلا بحل قضيتي الكرد وفلسطين .
وبالنظر إلي مصر كمثال على تعددية الأطياف والأنماط والأديان بل والمذاهب كذلك، فمصر تلك الدولة المتماسكة التي ربما تكون الوحيدة في المنطقة، التي لم تنال منها أيادي المؤامرات بتقسيمها أو بإشعال فتائل الفتن الطائفية فيها، فعلى مر التاريخ عاش على أرض مصر المسلم والمسيحي واليهودي وأصحاب البشرة البيضاء والسوداء منها، والأرمني والكردي وحتى اليوناني والإيطالي، هذا بخلاف التعايش بين سكان ربوعها على اختلاف انماطهم ومظاهرهم التي تبدو مختلفة كليا، فأهل النوبة في مصر يتحدثون اللغة النوبية التي لا يتقنها غيرهم، والتي تضرب مثال قويا أن في الاختلاف تكمن القوة، حين تم استخدامها كشفرة لنقل المعلومات أثناء حرب أكتوبر 1973، ولم يتمكن العدو من حلها، فأمسى الاختلاف أحد أهم عناصر الانتصار في الحروب، وكذلك سكان واحة سيوة المصرية، اللذين ينتمون إلي الحضارة الأمازيغية ، و لا زالوا حتى الآن يتحدثون الأمازيغية، ويمارسون عادتهم وتقاليدهم كما هي، ويحتفظون بتراثهم، ويشاركون بهذا التراث في مهرجانات دولية، وهذا أيضا يعد قوة، وجميعهم يصطفون تحت لواء الوطن دون تفرقة .
وأخيرا وليس آخراً فإن التواجد الكردي والتقبل للعنصر الكردي، لدى أقرانهم وجيرانهم من أصحاب الحضارات، لا يشكل تحدي بين الشعوب والأفراد، وإنما لدى سياسات بعض الحكام الذين ينفذون أجندات غربية للإبقاء على شرق دوما مشتعل، على عكس الوجه الآخر، فبين الشعوب تستقر حالة اندماج وانسجام بين جميع العرقيات، والثقافات، وأصحاب التراث المتنوع، داخل منطقة الشرق الأوسط، لا يمكن إغفالها، ذلك لأنه بالنظر للتاريخ فإن الحدود الجغرافية بينهم صنيعة الأمس القريب، بأياد استعمارية غاشمة، ولطالما احتضن الشرق الأوسط شعوبه وحضاراته على اختلاف أنماطهم وأديانهم وألوانهم، ولا يخفى على أحد أن العنصرية، والعرقية، وتجارة الرق المترتبة عليهما، من صنيعة الغرب، ودول نعتت نفسها بالعظمى، وكانت تحلم بإمبراطوريات واهية على حساب دول المنطقة، ولطالما أدرك أصحاب الحضارات والجذور الممتدة في المنطقة، أن القوة تكمن في التنوع والاختلاف اللذان يصمدا شامخان على أرض التقبل . وعليه تبقى السياسية الديمقراطية سبيلاً اساسياً لتحقيق نهضة المجتمعات وجعل أدوارها اساسياً في تحقيق الحرية والديمقراطية وبالتالي تحقيق الاستقرار والتنمية.
وأخيراً وليس آخراً إن كانت الديمقراطية حق يرنوا إلية الجميع، فعلى المرء أن يبدأ بنفسه أولاً محققاً ذاك الذي يشدو إليه، فليس من المنطقي مطالبة الأنظمة العالمية بالديمقراطية بيما يعجز عن تحقيقها الفرد في بيئته الصغرى، فصاحب الشركة وجب عليه فرضها بين موظفيه، والأم والأب بات لزاماً عليهم أن يحققا الديمقراطية بين أبنائهما، وكذا المعلم عليه أن يفعل بين تلامذته، فإن تمت ممارسة الديمقراطية التامة غير المنقوصة بين الأفراد وبعضهم، فربما تتسع الدوائر حتى الوصول إلي نظم الدول .