
يهدف تعزيز الحوار بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية إلى تمكين حل سوري- سوري يحقق وحدة البلاد ويحول دون التقسيم، حيث تُعد هذه الخطوة حجر زاوية في إطار بناء استقرار طويل الأمد يستند إلى تفاهمات سياسية وأمنية، مما يمهد إلى بناء سوريا جديدة يتشارك فيها جميع السوريين مصيرهم ومستقبلهم.
فقد عادت المحادثات بين الطرفين مع تطبيق الاتفاق التاريخي بينهما، بعدما دخلت العلاقات حالة من الجمود المعقد، بما شكل منطلقًا هامًا نحو وحدة الدولة السورية بعد سنوات من الصراع والتدخلات الإقليمية والدولية. لذلك، يمثل هذا الحوار سعيًا لتجاوز النموذج المركزي، وتحقيق وفاق وطني يمكن من إعادة هيكلة العلاقة بين المكونات السورية، مع إقرار الإدارة الذاتية كطرف شرعي ضمن الدولة السورية. حيث أكد أحد أعضاء الوفد الكردي وعضو هيئة الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي “آلدار خليل” أنه لا يمكن قبول منهج الدولة القومية والإدارة المركزية التي كانت مفروضة حتى الآن.[[1]]
وتأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى قراءة مسارات التفاوض بين الحكومة السورية والإدارة الذاتية، وتحليل التوازن وأهميته وضرورته، وذلك لبلورة رؤية نقدية لفرص إعادة بناء الدولة السورية وتحديات تحقيق ذلك في ظل هذه المرحلة الانتقالية.
مسارات وأبعاد التفاوض:
في 10 مارس 2025، بدأ المسار التفاوضي مع الإعلان عن الاتفاق التاريخي بين الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية “أحمد الشرع” وقائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي”، والذي تضمن الاندماج الرسمي لمؤسسات الإدارة الذاتية ضمن هيكل الدولة السورية وإدماج “قسد” ضمن المؤسسة العسكرية، ومن جهة أخرى ضمان الاعتراف بالمكون الكردي دستوريًا.[[2]] تلا هذا الاتفاق جولات تفاوضية متعددة خلال مايو ويونيو في دمشق، وقد شهدت تشكيل لجان فرعية لمناقشة ملفات معقدة تشمل النفط والمعابر والنازحين والمعتقلين، كآليات تنفيذية للمسار السياسي الشامل. وعلى الرغم من الحوارات المفتوحة، لايزال هناك ثغرات عميقة بشأن التنفيذ الواقعي على الأرض قائمة، إذ أحجمت الحكومة السورية عن نشر اللامركزية، بينما من جهتها أكدت “قسد” تمسكها بحقوقها.[[3]]
وقد تزامن ذلك التفاوض مع مصالحة إقليمية شملت إعادة العلاقات بين دمشق وعدد من الدول العربية والغربية، مما يعزز فرص التأييد السياسي للحل السوري الموحد. إضافًة إلى ذلك، أنعش القرار الأوروبي والأمريكي برفع العقوبات عن دمشق الفرصة في جدية القرار الحاسم في بناء سوريا. لكن ما يهدد الحوار هو التلويح بالاستعداد للجوء الدولة إلى الحل العسكري في حالة فشل الحوار في ظل الضغوط والتدخلات التركية، بما يشير للتمسك بإعادة الهيمنة المركزية. ما نتج عنه عدم توافق في ملفات الأمن، وخصوصًا مصير الأسلحة والكتائب المحلية، فأصبحت جوهر النزاع الغير معلن، في ظل الضغط السياسي المكثف من تركيا على دمشق الذي أوقف التقدم، وعلى سبيل المثال إشارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى أن المطالب الكردية باللامركزية في سوريا “ليست أكثر من حلم خام”.[[4]]
في سياق متصل، ترفض تركيا أي تقارب بين دمشق و”قسد”، باعتبار أن الوجود الكردي الأيديولوجي امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وقد كرر وزير الدفاع التركي “يشار جولر” تأكيده أن أنقرة “لن تنسحب قبل ضمانات أمنية تشمل فك أي تشكيلات كردية مسلحة”. لكن التفاوض نجح في بعض الخطوات، التي من أبرزها صفقة تبادل السجناء وإسهامها في بناء الثقة، حيث شملت إطلاق سراح أكثر من 400 سجين بين دمشق و”قسد” خلال جولة أولى في يونيو الجاري.[[5]] وبالتالي، يعكس المسار التفاوضي معادلة معقدة للغاية بين ضرورات التوافق السياسي وإرث الصراع والضغوط الإقليمية، حيث تسعى الأطراف إلى إنتاج صيغة اندماج مرنة تحفظ وحدة الدولة دون سحق الهويات المحلية.
ومن جهة أخرى، فإن التوترات الأمنية، والتدخلات الإقليمية وبالأخص التركية، تبقي مآلات الاتفاق رهينة للتوازنات لا الإرادات وحدها. فبين اندفاع كردي نحو ضمانات دائمة، وتوجس مركزي من تفكك السيطرة، تتجلى مفارقة التحول الحقيقية بأنه لا سلام دون شراكة حقيقية، ولا وحدة دون اعتراف متبادل. وعلى الرغم من نجاح الحوار مرحليًا، يبقى تحوله لهندسة دائمة مرهونًا بالإرادة، والرقابة الدولية، وشجاعة القرار الداخلي الحر المستقل عن التدخلات الخارجية.
أهمية وضرورة التوافق:
الاتفاق بين دمشق والإدارة الذاتية أمرًا ضروريًا لضمان وحدة الأراضي السورية وتحقيق استقرار سياسي دائم، مع الإدارة العادلة للموارد والحفاظ على التنوع المجتمعي في ظل توافر إطار قانوني يدعم التغيير السياسي الجذري. وفي هذا السياق، يمكن توضيح أهم الضرورات التي تبرز أهمية التوصل إلى توافق تام بين الطرفين على النحو التالي:
- وحدة السيادة الوطنية: يحفظ التفاوض السيادة السورية على كامل أراضي البلاد، عبر منع التقسيم وتهديد وحدة المؤسسات، وقد أكد القيادي البارز عضو الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي “آلدار خليل” أن الحوار هو أساس حل الأزمة السورية، وأنه لا بد من اعتراف الحكومة بالإدارة الذاتية.[[6]]
- إدارة الثروات والطاقة: تتيح الإدارة المشتركة للنفط والمعابر تحقق إيرادات متوازنة، وتقليل الفجوة في التنمية بين المناطق، ويرى “آلدار خليل” أن ملف النفط هو أحد الملفات الأساسية التي تحتاج لتفاوض نهائي بعد التوافق السياسي، فشمال وشرق سوريا يحتضن ثروات، وأكد أن “قسد” ليس لديها نية في احتكار قمحها أو نفطها ومستعدة للتعاون فالموارد ملك لجميع السوريين.[[7]]
- مواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية: تأتي المفاوضات في ظل ضغط تركي مستمر على مناطق “قسد”، ما يدفعها نحو تسريع خطوات التقارب مع دمشق سياسيًا لتحقيق حصانة سياسية، وفي هذا الإطار يشير “خليل” إلى دور تركيا في تعطيل التوافق رغم إعلانها الرغبة في الانتهاء من تنفيذ الاتفاق، عبر التهديد والتأكيد على أن لا يتم إعطاء المكون الكردي حقوقه المطلوبة. ويعزز هذا التقدير ما أعلنته القيادية الكردية “فوزة يوسف”، التي أكدت أن التدخل التركي يمثل العقبة أمام الاستقرار.[[8]]
- تعزيز التعددية المجتمعية: ضمان حقوق الأقليات والنظام اللامركزي، وتقليل الممارسات التهميشية والأزمات الطائفية، عبر التوصل لآلية مشتركة وتوافق دائم حول حقوق الأقليات والاعتراف بها دستوريًا. وتعطي المفاوضات واللقاءات فرصة فريدة لاختبار النوايا في مسار التوصل إلى الحل التوافقي.
- مخاوف دمشق من التقسيم: أوضحت الحكومة السورية أن أي جزء خارج سيطرة دمشق لا يُقبل، وأن الشمال السوري يجب أن يدمج بالكامل ضمن الدولة السورية. ومن جهته أكد “آلدار خليل” أن الإدارة لا ترغب في التقسيم، مؤكدًا على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا من خلال ربط جميع المكونات بمشروع متكامل وبأسلوب مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، دون الانفصال عن المشروع السوري الكلي وخدمة المصلحة السورية العامة.[[9]]
السيناريوهات المحتملة:
نجح الحوار التمهيدي في كسر حالة الجمود، وأثبت إمكان استمرار الاتصال بين دمشق و”قسد” في المرحلة الانتقالية. ولكن، يبقى التحدي الأكبر أمام التوصل لاتفاق شامل قائمًا على قضايا الأمن، التي ترتبط بالبرامج التركية، وإدماج المؤسسات، وإدارة الموارد، ويمكن تقسيم السيناريوهات المتوقعة لمسار التفاوض على النحو التالي:
- دمج تدريجي داخل الدولة السورية: دمج مؤسسات الإدارة الذاتية في الجهاز الحكومي، وتأهيل قوات الأمن المحلية ضمن الجيش المركزي، مع الحفاظ على الهيكل المركزي للدولة السورية وإنهاء النموذج الإداري الديمقراطي، وهو ما ترفضه “قسد” وترغب في الحفاظ على النموذج الإداري الذي حققته وترى أنه أدى لنجاح كبير.
- حوكمة لا مركزية في إطار دستوري: اعتماد دستور جديد يقر توزيع صلاحيات محلية، وحقوق للأقليات، والحفاظ على الوحدة الإدارية والسياسية للمناطق الكردية ضمن سوريا ديمقراطية، وذلك مع آليات رقابة في محكمة دستورية لتوازن التوزيع دون المساس بوحدة الدولة، لكن تركيا ترفض تحقق هذا السيناريو.
- فشل الحوار وتصعيد محتمل: في حال عجز الحوار وتصاعد الضغوط التركية، من المحتمل أن يظهر تصعيد أمني في سوريا، فقد نشطت التحركات التركية منذ بداية العام الجاري مع إبقاء أنقرة أكثر من 20,000 من جنودها داخل الأراضي السورية، وتأكيد وزير الدفاع التركي “يشار جولر” أن تركيا لن تنسحب دون ضمانات أمنية تتعلق بتفكيك التشكيلات الكردية.[[10]]
ختامًا، يمكن القول أن نجاح الحوار شرط أساسي لمنع التصعيد العسكري، وضمان مشاركة عملية في إعادة إعمار سوريا، وللحفاظ على ذلك يجب أن تضمن الأمم المتحدة وواشنطن والغرب آليات مراقبة عملية لحفظ السلام، والعمل على ضبط النفوذ التركي لوقف العمليات العسكرية نهائيًا بشروط ترضي جميع الأطراف، ولا تمس الإرادة السورية والقرار المستقل للدولة.
وفي النهاية، تبدو سوريا على مفترق طرق لا يكتفي بإعادة توحيد الأرض بقدر ما يتطلب توافقًا يحقق التماسك الوطني في أبسط صيغة له. فالقدرة على إرساء نظام لا مركزي ضمن دولة مركزية، توفر نموذجًا للديمقراطية والعدل بين المكونات، بما يكسر الجمود الذي استمر لسنوات. ومن الممكن أن يتحول هذا التفاوض إلى حجر أساس لإصلاح حقيقي، يدفع سوريا نحو التعافي السياسي والاقتصادي، لكنه يتطلب التزامًا واضحًا من كافة الأطراف على حد سواء، بالتحول من منطق الصراع إلى منطق التشارك الوطني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
- منصور ادالي، آلدار خليل: نريد سوريا لا مركزية، وكالة فرات للأنباء، 7 يونيو 2025. متاح على: https://linksshortcut.com/kmgTV
- الرئيس السوري يوقع اتفاقاً مع قائد “قسد” لدمجها في مؤسسات الدولة، الشرق، 10 مارس 2025. متاح على: https://linksshortcut.com/XFniM
- Hogir Abdo, Syria’s government and Kurds reach agreement on returning families from notorious camp, AP, may 27, 2025. Available at: https://linksshortcut.com/wyUnu
- Reuters, Turkey stresses opposition to decentralisation in Syria,Reuters, may 1, 2025. Available at: https://linksshortcut.com/hpkbB
- Omar Albam, Syrian government and Kurdish-led force exchange prisoners in a step toward easing tensions, AP, June 2, 2025. Available at: https://linksshortcut.com/kvjUY
- دمشق وشمال شرق سوريا تناقشان صياغة دستور سوريا الموحدة، أخبار الشرق، 27 مايو 2025. متاح على: https://linksshortcut.com/JIjpH
- آلدار خليل: التفاوض حول النفط شمال شرقي سوريا ممكن بعد التفاهم السياسي مع النظام، تليفزيون سوريا، 4 نوفمبر 2024. متاح على: https://linksshortcut.com/IXwxB
- فوزة يوسف: لو استمرت هيئة تحرير الشام على هذا النحو فسيكون مصيرها كمصير نظام البعث، وكالة فرات للأنباء، 16 أبريل 2025. متاح على: https://linksshortcut.com/rdCJx
- آلدار خليل : الاتفاق السوري ضمان تحقيق سوريا ديمقراطية، لقاء عبر قناة اليوم، 11 مارس 2025. متاح على: https://linksshortcut.com/SHuyM
- Tuvan Gumrukcu, Exclusive: Turkey backing Syria’s military and has no immediate withdrawal plans, defence minister says, Reuters, June 4, 2025. Available at: https://linksshortcut.com/YRyDw
[1] منصور ادالي، آلدار خليل: نريد سوريا لا مركزية، وكالة فرات للأنباء، 7 يونيو 2025.
[2] الرئيس السوري يوقع اتفاقاً مع قائد “قسد” لدمجها في مؤسسات الدولة، الشرق، 10 مارس 2025.
[3] Hogir Abdo, Syria’s government and Kurds reach agreement on returning families from notorious camp, AP, may 27, 2025.
[4] Reuters, Turkey stresses opposition to decentralisation in Syria,Reuters, may 1, 2025.
[5] ِ Omar Albam, Syrian government and Kurdish-led force exchange prisoners in a step toward easing tensions, AP, June 2, 2025.
[6] دمشق وشمال شرق سوريا تناقشان صياغة دستور سوريا الموحدة، أخبار الشرق، 27 مايو 2025.
[7] آلدار خليل: التفاوض حول النفط شمال شرقي سوريا ممكن بعد التفاهم السياسي مع النظام، تليفزيون سوريا، 4 نوفمبر 2024.
[8] فوزة يوسف: لو استمرت هيئة تحرير الشام على هذا النحو فسيكون مصيرها كمصير نظام البعث، وكالة فرات للأنباء، 16 أبريل 2025.
[9] آلدار خليل : الاتفاق السوري ضمان تحقيق سوريا ديمقراطية، لقاء عبر قناة اليوم، 11 مارس 2025.
[10] Tuvan Gumrukcu, Exclusive: Turkey backing Syria’s military and has no immediate withdrawal plans, defence minister says, Reuters, June 4, 2025.