الأدبُ الكُرْدَّيُ: الملَاحِمُ

تحليل: د. عزة محمود علي

الملحمة الكُردية كخطاب فلسفي ( قراءة في دورها الثقافي والأنطولوجي) :

تتناول هذه المقالة الدور الفلسفي العميق الذي تلعبه الملحمة الكُردية في تشكيل الوعي الجمْعي والثقافة الكُردية من خلال تحليل بعض الملاحم البارزة مثل ملحمة ” مم وزين ” ، ” كاوى الحداد ” ، ” درويش عبدي ” ، : جلجامش ” ، ” رستمي إزار ” كما تسلط الضوء على كيفية توضيح وتوظيف بعض مفاهيم فلسفية مثل الوجود ، الحرية ، الهوية ، الزمن ، الرمز؛ لتبرز أن هذه الملاحم ليست مجرد تراث أدبي؛ بل خطاب فلسفي نابض ينبع من معاناة شعب في سعي دائم نحو الاعتراف بالحرية .

مقدمة :

الملحمة، بوصفها أحد أقدم أشكال التعبير الفني، لم تكن يومًا مجرد قصة تُروى؛ بل نافذة يُطل منها الإنسان على أعماق وجوده وتاريخه.

في السياق الكُردي، تحتل الملحمة موقعًا مركزيًا في تشكيل الهُوية الجمْعية وتوثيق النضال الثقافي والسياسي، وفي هذا المقال نقرأ الملحمة الكردية من زاوية فلسفية تتجاوز الأدب إلى تحليل مضامينها الوجودية والرمزية.

تعد الملاحم الكُردية من أبرز تجليات الهُوية الثقافية والتاريخية والفكرية للشعب الكُردي ، وهي ليست مجرد قصص بطولية، بل مرآة عميقة للصراعات التاريخية والخيال الجمْعي ، والرؤية الفلسفية للوجود والبطولة والمصير.

والملاحم هي نوع من الأدب، يجسد صراعات الشعوب، ويعبر عن قيمهم، ومعتقداتهم، وأحلامهم ويمكننا النظر إلى معنى الملاحم من ثلاث زوايا :

أولاً: المعنى التاريخي:

الملاحم التاريخية توثق أحداثاً عظيمة أو فترات مفصلية في تاريخ شعب معين، وغالبًا ما تدور حول الحروب، البطولات ، تأسيس الدول أو مقاومة الغزاة وهي تمزج بين الواقع والأسطورة مثل ملحمة الإلياذة التي تدور حول حرب طروادة، أو شاهنامة الفارسية، ووظيفتها هنا حفظ التاريخ بذاكرة جماعية ولكن بطابع قصصي .

ومن هذا المنطلق فإن الملاحم الكُردية تؤرخ لصراعات الشعب الكُردي مع القُوى الغازية أو الظالمة (كالفُرس والعثمانيين وغيرهم)، وتستخدم رموزاً وأبطالاً مثل: “كاوى الحداد” الذي قاد ثورة ضد الطاغية “الضّحاك” كرمز للثورة والتحرر، وهذه الملحمة التي يقال عنها أنها شبه أسطورية؛ إلا أنها تحمل بعدًا تاريخيًا مقاومًا، وتمثل لحظة فاصلة في الخيال الكُردي عن الخلاص من الظلم؛ حيث تعد الملحمة هنا أداة لحفظ التاريخ الكُردي غير المدون، وخاصة مع غياب المؤسسات الثقافية التي توثق التاريخ في تلك الحقبة. وقد ارتبطت هذه الملحمة بعيد النيروز (رأس السنة الكُردية) كرمز للثورة والحرية .

ثانياً : المعنى التراثي/الفلكلوري :

في هذا السياق الملحمة تعد جزءًا من التراث الشعبي وتنقل شفهيًا جيلًا بعد جيل ؛ حيث تسرد بطولات الأجداد ، الصراعات بين الخير والشر ، مواقف الشرف والتضحية، ومثالاً على ذلك الملحمة الكُردية “مم وزين ” أو ” دملة وخاز ” التي تحمل طابعًا أسطوريًا ولكنه يعكس أيضًا قيم المجتمع الكُردي ووظيفتها هنا ترسيخ الهوية الثقافية ، وبناء نموذج للبطل الشعبي الكًردي .

وقد تناقلت الملاحم الكُردية التراثية ( الفلكلورية ) شفاهةً على لسان الرواة الشعبيين، وكانت تغنى على هيئة سرد غنائي؛ تنوعت موضوعاته بين الحب، والشرف، والفروسية، والكرامة، والثأر، والتضحية وقد عبرت الملحمة الكُردية التراثية عن القيم الاجتماعية والعشائرية وعكست البيئة الجبلية التي كان يقطنها الكُرد ومعاناتهم اليومية بسبب تدخل السلطة القبلية والقيود الاجتماعية في الحب والزواج .

ثالثاً : المعنى الفلسفي :

تعكس الملاحم رؤية الإنسان للصراع مع القدر، والموت، والخلود، وتسلط الضوء على البطل الذي يواجه مصيرًا محتومًا ومع ذلك اختار المواجهة ، وهذا موقف فلسفي عن الحرية والإرادة والمعنى ومثالاً على ذلك ” ملحمة جلجامش ” التي تُظهر سعي الإنسان وراء الخلود وفهمه للموت ووظيفتها هنا تتمثل في التعبير عن أسئلة الوجود الكُبرى .

فالبطل الكُردي غالبًا ما يعرف أن مصيره الموت أو الهزيمة، لكنه يُقاتل من أجل القيم والمبادئ والأخلاق، وهذا يعكس فهمًا وجوديًا للبطولة؛ فهناك اهتمام بالحرية كقيمة مطلقة حتى لو كانت نتيجتها الفناء .

نظرة تشطيرية للملحمة الكُردية وتقاطعها مع تاريخ القهر والمقاومة :

الملحمة الكُردية ليست مجرد سرد بطولي لأحداث الماضي؛ بل هي مرآة تعكس الوعي الجمْعي للأمة الكُردية ، وتجسيد حي لتفاعل الإنسان الكُردي مع وجوده ، وصراعه مع الطبيعة والتاريخ والسلطة .

إن قراءة الملاحم الكُردية مثل” مم وزين ” أو ” درويش عبدي ” لا تعني فقط التعرف على حكايات البطولة والعشق ؛ بل هي ولوج إلى فلسفة شعب يعيش بين الجبال ، ويؤمن أن الصمود بحد ذاته فعل وجودي .

تاريخ الملحمة الكُردية يتقاطع مع تاريخ القهر والمقاومة ، إذ ولدت هذه الملاحم من رحم الألم ، وانتقلت شفوياً من جيل إلى جيل كوسيلة لحفظ الهوية ، وإعادة تشكيل الذات الكُردية في مواجهة محاولات الطمس والتزوير . ففي كل ملحمة ، تتجلى مفاهيم القدر ، الحرية ، والبحث عن المعنى ؛ حيث لا يكون البطل مجرد محارب بل حامل رسالة ، وصوت جماعة تنشد الخلاص .

وهكذا ، يمكن النظر إلى الملاحم الكُردية كفلسفة شعب ، تتمسرح فيها الأفكار الكُبرى: من الحب والموت ، إلى الحرية والانتماء ، بأسلوب شعري رمزي ، يجعل من كل ملحمة وثيقة فلسفية بقدر ما هي عمل أدبي .

من الملاحم الكُردية ملحمة ” مم وزين ” من منظور فلسفي :

ملحمة ” مم وزين ” ، التي كتبها الشاعر الكُردي أحمد خاني في القرن السابع عشر ، تتجاوز كونها قصة حب تراجيدية ، لتغدو تأملاً فلسفيًا عميقًا في قضايا الوجود ، المصير ، والحرية ، ضمن سياق كُردي مشبع بالحرمان والبحث عن العدالة .

من منظور فلسفي ، يمكن قراءة هذه الملحمة كتشخيص رمزي للصراع الأبدي بين الجوهر والمظهر ، بين الروح والحتمية ، وبين العشق كقيمة سامية والقُوى التي تكبله . فمم وزين ، في عشقهما الطاهر ، يمثلان الذات الكُردية التي تسعى نحو اكتمالها ، بينما يقف “بيكو” ، رمز الخيانة والدسائس ، كصورة للسلطة القمعية التي تمنع التحقق الفردي والجماعي .

العشق هنا ليس مجرد انفعال شعوري ، بل هو موقف وجودي ، ثورة على الانقسام ، وسعي نحو وحدة الكينونة . ومن هذا المنطلق ، فإن الفراق المأساوي بين الحبيبين لا يقرأ كفشل العاطفة ، بل كإدانة لواقع ينهار أمام قوة الحب ، ويثبت أن ” الحب ” لا ينتصر دائمًا في عالم تهيمن عليه القوة الظالمة .

كما تطرح في الملحمة إشكالية القدر  ؛ حيث يواجه الأبطال حدود اختياراتهم في عالم مشروط ، مما يفتح باباً للتأمل في مفهوم الحرية . هل كان بوسع مم وزين تغيير مصيرهما؟ أم أنهما مجرد أدوات في يد تاريخ يتكرر قهره ؟

في النهاية ، ” مم وزين ” ليست فقط ملحمة حب ، بل نص فلسفي يتأمل في معنى الإنسان ، ويعبر عن حنين دائم نحو العدالة ، الوحدة ، والتحقق في عالم منقسم . إنها صرخة شاعر أراد أن يجعل من الحكاية أداة مقاومة ، ومن الجمال أفقًا للحرية .

ملحمة  ” درويش عبدي ” الكُردية :

تعد ملحمة ” درويش عبدي ” الكُردية من أبرز الملاحم الشفوية في الفلكلور الكُردي، وقد انتشرت في مناطق كُردستان خاصة في شمالها و غربها عبر الغناء والرواية الشفوية، وهي ملحمة مزجت فيها البطولة بالفداء ، والولاء بالهوية وتعكس بوضوح صراع الإنسان الكُردي مع الظلم والخذلان في قالب ملحمي شديد الرمزية، و”درويش عبدي” هو فارس كُردي نبيل ، يجسد القيم الكُردية التقليدية كالشجاعة والكرامة والوفاء وتدور أحداث الملحمة الدرويشية حول مقاومته لظلم واستبداد الحكام والخيانات الداخلية ، وتنتهي غالبًا بنهايات مأساوية تؤكد على خيانة القريب قبل عداوة الغريب، وتمثل واقعيًا صورًا للتراجيديا التي يعيشها الإنسان الكُردي حين يخذل من أهله .

البعد الفلسفي في الملحمة الكُردية ” درويش عبدي ” :

  1. الحرية كقيمة وجودية :

إن درويش عبدي ليس مقاتلاً ضد الظلم فقط بل هو حامل لواء الحرية يرفض الانحناء والرجوع مهما كلفه الأمر، وهو في هذا الأمر تجسيدًا لإرادة حرة؛ حيث يصنع معناه الخاص في عالم فاسد، ويقف وحيدًا كفرد تراجيدي ضد القوى الغاصبة الغاشمة .

من أعظم الآلام التي ظهرت في الملحمة وتجلت بوضوح ليست فقط ما نتجت عن ظلم خارجي؛ بل هي تلك الطعنة التي تأتي من الداخل ؛ من الأقرباء ، من العشيرة ، ممن ظنهم حلفاء. هذا يعكس قراءة وجودية للعالم؛ لأن المعاناة الحقيقية لا تأتي فقط من النظام؛ بل هي نتاج تفكك الأخلاق الداخلي .

إن موت “درويش عبدي” سواء في الروايات التي يقتل فيها، أو التي يُغدر به فيها، ليس نهاية عبثية؛ بل هي لحظة كشف تشبه ما تحدث عنه “هايدغر” ؛ وهي مواجهة الفرد لفناءه، وهو ما يمنحه الوعي الكامل للوجود؛ حيث يصبح موته شهادة على فساد الزمان وعلى نقاء الروح المقاومة .

إن “درويش عبدي” هو صورة مكثفة ورمزية مجسدة للكُردي الذي يقاتل من أجل العدالة؛ لكنه يتعرض للخذلان مرارًا وتكرارًا ، ويترك وحيدًا في الساحة ، وهذه التكرارية تعكس رؤية تشاؤمية للتاريخ الكُردي؛ حيث البطولة لا تُكافأ بل تُستنزف، ومن هنا نلمس أن ملحمة “درويش عبدي” ليست مجرد قصة بطولية؛ بل هي نص فلسفي شعبي يختزن الوعي الكُردي بالوجود ، ويعيد صياغة المفاهيم مثل الكرامة، الخيانة، الحرية، العدالة وذلك في سياق محلي وطني ينفتح على تأملات كونية؛ حيث لا يموت “درويش عبدي” كفرد بل كرمز، وكمرآة تعكس المأساة والبطولة معًا في إطار الكيان الكُردي .

ملحمة جلجامش :

من منظور فلسفي؛ تعد ملحمة جلجامش؛ التي كُتبت قبل أكثر من أربعة آلاف عام من أقدم النصوص الأدبية التي وصلتنا من حضارات وادي الرافدين ، لكنها ليست مجرد سرد أسطوري بل نص فلسفي عميق يتناول أسئلة الوجود الإنساني الكُبرى (ما معنى الحياة؟ ما حدود القوة؟ وهل يمكن للإنسان أن يهزم الموت؟) من خلال هذه الأسئلة تتأتى الرؤية الفلسفية في ملحمة جلجامش .

الإنسان بين الألوهية والفناء :

جلجامش ، الملك نصف الإله ونصف الإنسان ، يبدأ رحلته مغرورًا بقوته باحثًا عن المجد والخلود لكنه بعد موت صديقه الحميم “أنكيدو” يصطدم بحقيقة الموت بوصفه نهاية حتمية لا يمكن تجاوزها

هذه اللحظة هي محور الانقلاب الفلسفي في الملحمة حيث تتحول القوة من غاية إلى عبء يتحول البطل من محارب إلى متأمل، من خارج الصراع إلى داخله .

الوعي بالزمن والبحث عن الخلود:

إن الموت لا يُقدَم في الملحمة كحدث فسيولوجي فحسب ؛ بل كحقيقة ميتافيزيقية تضع الإنسان في موضع التساؤل والقلق ، حيث نجد أن “جلجامش” بعد فقدان صديقه “أنكيدو ” لا يعود للبحث عن الانتصار على الآخرين ، بل عن الانتصار على الموت نفسه ، فرحلته إلى أوتنابشتم “الناجي من الطوفان” هي تجلِ رمزي لسعي الإنسان نحو المعرفة المطلقة ، والحياة الأبدية .

لكن الفلسفة السومرية البابلية كما تظهر في النص ، لا تمنح الأمل في الخلود الجسدي بل تدعو إلى الخلود الرمزي من خلال الإنجاز المتمثل في بناء المدن والحكمة في النهاية أن يعود جلجامش بالوعي الجديد وليس بزهرة الخلود مدركًا أن معنى الحياة لا يكمن في الهروب من الموت بل في مواجهة فناء الإنسان بصناعة ما يبقى .

الصداقة والآخر :

يتضح من تلك الملحمة أن العلاقة بين جلجامش وأنكيدو  لا تُبنى فقط على الرفقة ؛ بل على التكامل الوجودي؛ حيث يمثل أنكيدو القادم من البرية البعد الطبيعي والعفوي للإنسان، بينما يمثل جلجامش النظام والحضارة ، من خلال هذه العلاقة يُظهر النص كيف أن “الآخر” ضروري لاكتشاف الذات ، فبموت “أنكيدو” يولد جلجامش الآخر في داخله ــــــ الإنسان المتأمل .

الملحمة كمرآة للقلق الوجودي :

من منظور فلسفي ؛ يمكن قراءة ملحمة جلجامش كأول محاولة أدبية لتأسيس الفلسفة الوجودية ؛ فيها سؤال المصير ، قلق الموت ، نداء الخلاص والعودة إلى الذات وهي تقدم تصورًا قديمًا لكن بالغ العمق بأن البطولة ليست في قهر الموت بل في قبول محدودية الإنسان والبحث عن معنى في ظل هذه المحدودية .

مما سبق يتضح أن ملحمة “جلجامش” ليست فقط أثرًا من الماضي ؛ بل وثيقة إنسانية خالدة إنها نداء فلسفي من الأعماق الأولى للوعي البشري يخبرنا أن الإنسان مهما بلغت قوته يبقى هشًا أمام الزمن ، لكنه قادر على صناعة الخلود من خلال الحكمة والمحبة والعمل .

الملحمة الكُردية ” رستمي إزار ” :

هي من الملاحم الكُردية الشعبية التي انتشرت شفويًا في الأوساط الريفية والقبلية وتناقلتها الأجيال عبر الأغاني والمرويات، وتحمل هذه القصة وغيرها من الملاحم الكُردية أبعادًا رمزية عميقة تتجاوز الحد السردي لتلامس قضايا وجودية أخلاقية وسياسية؛ مما يفتح الباب أمام قراءة فلسفية متعددة الأبعاد

 هوية “رستم” والبطولة كفعل وجودي :

رستُم في هذه الملحمة ، لا يُقدَم كبطل خارق بالمعنى الأسطوري فقط؛ بل ككائن يبحث عن ذاته وسط عالم مفكك فعبارة ” إزار ” أي “النطاق أو الحزام” في اسمه قد يُفسَر رمزيًا كعلامة على القوة ، لكن أيضًا كقيد يربطه بدوره ومصيره، رستم هنا ليس حرًا تمامًا بل هو مشدود بين واجباته كفارس ، وكفرد ينشد تحقيق ذاته في عالم مليئ بالتناقضات .

وهنا تظهر أولى القضايا الفلسفية :

هل البطل صانع مصيره ؟ ، أم عبد لدوره ؟ ، رستم في صراعه يجسد الإنسان الذي يواجه ثوابته التاريخية ، إنه كُردي في أرض مضطربة تخضع للخيانات الداخلية والأعداء الخارجيين، ويحاول رغم ذلك أن يمارس البطولة بشكل من أشكال الوجود الأصيل .

الوفاء والخيانة :

تمزق الأخلاق في عالم مأزوم ، أحد التيمات الجوهرية في “الملحمة الرستمية” هو الخيانة ــــــ ليس فقط خيانة الأعداء بل خيانة الأقرباء ، كما نجد في كثير من الفلكلور الكُردي وهذه الخيانة تعيدنا إلى سؤال فلسفي عميق : هل الأخلاق ثابتة ؟ أم نسبية ؟ وهل يمكن للخير أن ينتصر في عالم يتآكل من الداخل؟.

رستم غالبًا ما يُخذَل، ليس لأنه ضعيف بل لأن القيم التي يحملها لا تجد صدى في عالم الفوضى وكأن الملحمة تقول ” أن تكون نبيلًا في عالم منحط فذلك مأساة في حد ذاتها ” .

الحرية والمصير في “الملحمة الرستمية “:

الملحمة بطابعها المأساوي تذكرنا بالجدل الفلسفي بين القدرية والإرادة الحرة، فرغم كل ما يفعله رستم يبدو أن النهاية المأساوية أو الخسارة تلاحقه وهذا ما يُعيدنا إلى سؤال سابق : هل الحرية ممكنة في سياق محكوم بالتاريخ والجغرافيا والسياسة ؟ .

من منظورنا نرى أن “رستم” يقاتل ليس لأنه متأكد من النصر ، بل لأنه يرفض الاستسلام وهنا تكمن فلسفة الملحمة؛ أن البطولة ليست في النتيجة ولكن في الفعل ذاته وفي هذا المعنى يشبه رستم اسطورة “سيزيف” في الفكر الوجودي؛ حيث يرفع الصخرة كل مرة رغم عبثية المآل .

ومن هنا تتضح صلة الإنسان الكُردي بالمرآة الرمزية فرستمي إزار ليس مجرد بطل شعبي؛ بل رمز للإنسان الكُردي الذي يحمل عبء الهوية ويتصارع مع الظلم ويقف وحيدًا في وجه القدر المعتم ، لكنه يختار الكرامة رغم كل شئ . ومن هذا المنظور ، فإن الملحمة تقدم تأملًا فلسفيًا في معنى الإنسان ، والبطولة ، والحرية في سياق قومي مهمش .

إنها ليست فقط حكاية ماضية بل صوت مستمر يقول ” حتى لو كنا محكومين بالمأساة فإن الكرامة خيار والمقاومة موقف وجودي لا حدث تاريخي فقط ” .

الملحمة الكُردية بين الماضي والحاضر وتأثيرها في الأحداث السياسية : قراءة فلسفية :

الملحمة الكُردية ، بوصفها نتاجًا شعبيًا وجماليًا وفكريًا ، لاتقف عند حدود الأدب أو الفلكلور ،  بل تمتد لتؤدي دورًا وجوديًا وسياسيًا في حياة الشعب الكُردي . فهي ليست فقط سجلًا لما كان ، بل أداة فاعلة في صياغة الوعي ، وبناء الهُوية ، وتحريك التاريخ . ومن منظور فلسفي ، فإن الملحمة الكُردية تجسد التوتر الدائم بين الرمز والواقع ، الماضي والحاضر ، الحلم والمعاناة .

الملحمة بوصفها ذاكرة جماعية : الماضي الذي لا يموت :

في ظل غياب دولة قومية مستقرة للكُرد ، أصبحت الملاحم بمثابة ” وطن رمزي ” يحتضن الهُوية واللغة والتاريخ . ملحمة ” مم وزين ” ، ” درويش عبدي ” ، و ” رستمي إزار ” وغيرها ليست فقط سرديات عن الحب أو البطولة ، بل مستودعات للوعي الجمْعي ، تعيد صياغة التاريخ من زاوية من لم يُكتب تاربخهم رسميًا .

فلسفيًا ، يمكن القول إن الملحمة الكُردية تعمل كـــ ** مُذكِر أنطولوجي ** ، تعيد للذات الكُردية حضورها ، وتعيد بناء الزمن من خلال الحكي ، وكأنها تقول : ” نحن لم نغب ، نحن هنا ، في الكلمة ، في اللحن ، في الدم ” .

الملحمة كفعل مقاومة رمزي :

كل ملحمة كُردية تنطوي ، في عمقها ، على موقف من السلطة ، من الظلم ، ومن القدر . إنها لا تحكي فقط عن أبطال يقاتلون ، بل عن شعب يرفض أن يُمحى . في هذا السياق ، تصبح الملاحم شكلًا من أشكال المقاومة الرمزية ، تشكل الوعي السياسي ، وتغذي مشاعر الصمود والثورة .

الفكر الفلسفي هنا يرى أن الرمز يسبق الفعل ، فقبل أن يثور الكُردي بالسلاح ، هو يثور بالقصيدة ، بالحكاية ، بالملاحم . الملاحم الكُردية تضع القيم الكبرى ـــــــــــ العدالة ، الحرية ، الشرف ــــــــــ كقواعد الوجود ، لا كمجرد شعارات سياسية .

من الماضي إلى الحاضر : كيف تتحرك الملحمة في الزمن ؟ :

رغم أن الملاحم تعود لقرون ، إلا أنها لا تزال تُروى في القرى والمدن ، وتُنشد في الجنائز والأفراح ، وتُستحضر في ساحات الاحتجاج . هذا يعكس ما يسميه الفلاسفة ” الزمان الدائري ” ــــــــــــ حيث الماضي لا ينقضي ، بل يعود في أشكال جديدة ، ليُلهم الحاضر ويعيد تشكيله .

هكذا نجد أثر الملحمة في كل لحظة سياسية كُردية معاصرة ، من انتفاضات ” رؤڑئاڤا ” إلى كفاح البيشمركة ، مرورًا بالثقافة الفنية التي توظف رموز الملاحم لإحياء الشعور القومي ، فهي ليست مجرد مرآة للتاريخ ، بل محرك لتكراره بمعنى جديد .

السياسة كتجسيد للرمز  : التأثير الفعلي للملاحم :

الملحمة ، من خلال رمزيتها ، تُسهم في تشكيل الخطاب السياسي الكُردي ، فالقادة والمثقفون كثيرًا ما يستندون إلى رموزها لاستنهاض الجماهير ، وإضفاء بُعد أخلاقي وأسطوري على نضالهم، هذا ما يجعل من الملحمة فعلًا سياسيًا مؤججًا للخيال الجمعي .

من منظور فلسفي : هذا يُعيدنا إلى سؤال قديم : هل يصنع الواقع الرمز ؟ ، أو أن الرمز هو من يخلق الواقع ؟ في الحالة الكُردية يبدو أن الملحمة تسبق الفعل، وتوفر له الشرعية والخيال، وتبني ” حقيقة معنوية ” ، تستمر حتى في غياب الانتصار السياسي المباشر .

الملحمة كصوت للكينونة الكُردية :

الملحمة الكُردية ليست مجرد ماضٍ يُستذكر ، بل فلسفة حياة تترجم القلق الكُردي ، حلمه ، نكبته ، ثورته ، طموحه ، تطلعاته ، إنها تنتمي إلى الزمن المفتوح لا تحيا في الكتب فقط بل في قلوب الناس ، أمانيهم ، رغباتهم ، احتجاجاتهم ، ثوراتهم ، وفي أناشيدهم .

فلسفيًا، يمكن النظر إلى الملحمة الكُردية كأداة لخلق المعنى في عالم ضبابي متشظ ، وكمحاولة لتأسيس وجود حُر  في مواجهة اللاوجود المفروض . إنها في جوهرها ليست فقط قصة شعب بل حكمة أمة تبحث عن الخلاص بين السيف والكلمة ، بين الأرض والرمز ، بين الموت والخلود .

المرأة في الملحمة الكُردية :

لعبت المرأة في الملحمة الكُردية دورًا مهمًا وبارزًا؛ حيث تُصور على أنها شخصية قوية ومستقلة في العديد من القصص والأساطير  الكُردية ، فهي شخصية محورية، تُسهم في توجيه مسار القصة الملحمية ؛ حيث تُظهر دائمًا الملاحم سمات المرأة مثل الشجاعة ، الذكاء ، القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة ، والتي تلعب أدوارًا مهمة في دعم الأبطال وتحقيق النصر ، ولها تأثير كبير على مُجريات الأحداث؛ فالمرأة في الملاحم الكُردية ليست مجرد تابع؛ بل كثيرًا ما تكون مركز الأحداث ومُحركها ، فالمرأة هي المحبوبة الطاهرة التي تلهم الأبطال وتمنحهم القوة والعزيمة مثلما تمثل ملحمة ” مم وزين ” حيث تمثل المرأة هنا رمزًا للحب الطاهر الذي يتجاوز الحدود الاجتماعية والدينية والسياسية، ويشكل محور الصراع في الملحمة.

 وتعد المرأة الكُردية ناقلة للتراث، ونجد أن العديد من الروايات الشفوية للملاحم تناقلتها النساء، وأن حضور المرأة القوي في السرد الملحمي يعد شهادة على مكانتها في الوجدان الكُردي، وركيزة في فهم الهُوية الثقافية للأمة الكُردية .

وبينما كانت المرأة سابقًا تُصور كرمز ؛ فإن بعض الملاحم والأعمال الأدبية المعاصرة تسعى لتقديمها كذات فاعلة تُمنح صوتًا واختيارًا ، وتصبح جزءًا من الصراع ، وليس فقط محور الصراع ، هذا التحول يعكس تغييرًا في البنية الثقافية والفكرية الكُردية، نحو نظرة أكثر توازنًا وشمولًا لدور المرأة، ومن هنا أصبحت المرأة مفهومًا رمزيًا كثيف الدلالات، ومن خلال هذا الحضور متعدد الأبعاد تكتسب الملحمة الكُردية بوجود المرأة عمقًا وجوديًا يجعل من الملحمة مرآة لفكر شعب ونبض أمة .

من كل ما سبق نستخلص أن تاريخ الملحمة الكُردية ليس مجرد تراث أدبي يُروى ؛ بل هو سجل حي لفلسفة شعب ظل يحيا على حواف التاريخ ، ويخلق من صمته صوتًا ، ومن قهره معنى ، في عمق كل ملحمة كُردية تنبض الأسئلة الوجودية دائمًا : من نحن ؟ ، ما جدوى الصمود ؟ ، كيف نصوغ حريتنا في عالم لا يعترف بنا ؟ ، إن هذه الملاحم بما تحمله من رموز وأبطال لا تُنهي سردها عند حدود الزمان والمكان ، بل تظل مفتوحة كما هو قدر الكُردي نفسه، دائم السعي نحو  وطن داخلي يتحقق في القصيدة، والرواية، والحلم، وفي الحكاية التي لا تموت .

الملحمة الكُردية في جوهرها ليست فقط انعكاسًا للواقع بل مقاومة فلسفية له ؛ حيث يتحول الحكي إلى فعل وجودي، والخيال إلى ملاذ للهوية، إنها دعوة لفهم التاريخ ليس بوصفه سردًا لما جرى بل كإمكانية لما يمكن أن يكون .

في الختام نستخلص أن الملحمة الكُردية تشكل إحدى الركائز الأساسية لفهم البنية الثقافية والتاريخية للشعب الكُردي؛ حيث تبرز بوصفها وسيلة تعبير مقاومة ، حافظة للهوية، وناقلة للذاكرة الجمعية عبر الأجيال . إن قراءة هذه الملاحم في ضوء الحاضر  لاتعني اجترار  الماضي فحسب ، بل تمثل سعيًا لإعادة تموضع الثقافة الكُردية في سياقها المعاصر ، ومواجهة محاولات التهميش والتذويب، ومن هنا فإن استمرارية البحث الأكاديمي في هذا المجال تعد ضرورة مُلحة لفهم أعمق لتاريخ المنطقة الكُردية، وتعزيز حضور الثقافة الكُردية في الخطاب الإنساني العام .

وهكذا، تبقى الملحمة الكُردية بين الماضي والحاضر أكثر من مجرد قصص تُروى ، او أبيات تُتلى ، إنها مرآة تعكس عمق الروح الكُردية، وتجسد صراع الإنسان مع الزمن وتطلعه الدائم إلى الحرية والكرامة.

فما بين أنين الماضي ونبض الحاضر تظل الملحمة الكُردية حية لا تموت، تنتقل من جيل إلى جيل ، حاملة راية الهوية ، موقظةً للضمير، وملهمةً طريق المستقبل، فحين تُروى الملحمة لا تُروى فقط حكاية شعب؛ بل يُبعث تاريخهم من الرماد ، وتُعلن الحياة من جديد على أنقاض النسيان .

Exit mobile version
التخطي إلى شريط الأدوات