
منصة وجمع من رجال شيب البياض رؤوسهم، يبدو أنهم بصدد قرار يبدو من خلال الأعين التي تتابع أنه سيكون حاسما في مسيرة سياسية طويلة. تماثيل تسقط لرمز الأبد الأسدي وآلاف من رصاصات تطلق في الهواء في شوارع وأرياف المدن السورية ابتهاجا وإيذانا بمرحلة جديدة. مشهدان بينهما مصافحة واتفاق بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، ودعوة أوجلان من محبسه لإلقاء السلاح، في لحظة مفصلية تعيد رسم الخريطة السياسية للكرد في المنطقة. في المشهدين المتكررين ثمة رابط متصل يمكن إيجازه بالقول، إن الخريطة الجيوسياسية يعاد هندستها وفق توازنات مصالحيه جديدة، وإدراكات مفاهيمية مبتكرة تأسست على طبقات من التطور الايديولوجي عبر العقود الأخيرة. شهد العقدان الأخيران من القرن الحالي تحوّلات جذرية في المفاهيم السياسية التقليدية، وعلى رأسها مفهوم السيادة الذي ظل طويلاً مرتبطاً بالدولة القومية وبالسلطة المركزية. غير أن صعود حركات لا-دولتية ذات مشاريع سياسية بديلة – كحزب العمال الكردستاني – دفع باتجاه مساءلة هذا المفهوم، وإعادة التفكير فيه من منظور قاعدي وجماهيري. في هذا السياق، تشكّل التجربة الكردية، لاسيما بعد التحولات التي أعلن عنها في المؤتمر الثاني عشر للحزب، مثالاً صارخاً على إعادة إنتاج المعنى السياسي للسيادة، لا كاحتكار مركزي للعنف، بل كعملية بناء مجتمعي ديمقراطي تعددي.
في مطلع الألفية الثالثة، بدا أن التاريخ يعيد إنتاج نفسه ضمن مشهد كردي مأزوم، حيث تهاوت أنظمة استبدادية كانت تدّعي الأبدية، وتشققت حدود رسمتها القوى الاستعمارية، في حين استعادت الشعوب المقموعة صوتها عبر موجات احتجاج وانتفاض. وسط هذا الزخم الإقليمي، برزت محاولة حزب العمال الكردستاني لإعادة تعريف موقعه في خريطة القوى السياسية والاجتماعية، لا بوصفه مجرد حركة تحرر وطني، بل كفاعل مركزي في صوغ أفق بديل للسيادة والنظام السياسي. لم تكن هذه المحاولة تكرارًا لسرديات التحرر القومي الكلاسيكية، بل كانت انزياحًا جذريًا عن النموذج الدولتي نحو رؤى ديمقراطية تعددية تعيد توزيع السلطة على المستوى المحلي وتفتح المجال لـ”الجموع” بصفتها فاعلًا سياسيًا مركزيًا، وفقًا لمفهوم هارت ونيغري كما سنرى بعد قليل. وقد تجسّد هذا التحوّل في قرار مفصلي اتخذه الحزب، تمثّل في التخلي التدريجي عن الكفاح المسلح بوصفه الأداة المركزية لتحقيق الأهداف القومية، والانخراط بدلًا من ذلك في مشروع سياسي مدني يقوم على بناء مؤسسات ديمقراطية قاعدية وتفعيل المجتمعات المحلية. هذا القرار لم يكن وليد لحظة تكتيكية عابرة، بل جاء ثمرة لتحوّل أيديولوجي عميق بدأ يتبلور منذ اعتقال عبد الله أوجلان عام 1999، حيث تحوّلت نصوصه الدفاعية إلى بيان سياسي يؤسس لمرحلة جديدة من التفكير في الحرية، الهوية، والديمقراطية.
من هنا، لم يعد الحزب يعرّف ذاته ضمن منطق العدو والسيادة، بل ضمن أفق “الوفرة” السياسية التي تقترحها الديمقراطية الجذرية، والتي ترى في تعدد الذوات والفضاءات السياسية شرطًا لإنتاج نظام أكثر عدالة ومرونة واستدامة. وهكذا، انفتحت سردية الحزب على أفق يتجاوز الدولة القومية والسيادة الأحادية، ويسعى لبناء كونفدرالية ديمقراطية تتخطى الحدود الإثنية والجغرافية، وتُعيد تعريف العلاقة بين الأرض، السلطة، والمجتمع على نحو أفقي وشامل.
من البندقية إلى المفهوم – تحولات حزب العمال
إن القرار الذي اتُخذ في المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني، كما عبّر عنه دوران كالكان، لا يمكن فهمه بمعزل عن التحول الأيديولوجي العميق الذي طرأ على بنية الحزب منذ مطلع الألفية. فالتحول من الكفاح المسلح إلى ما وصفه كالكان بـ”نضال تحرري كردستاني من أجل ديمقراطية الشرق الأوسط”، لم يكن خطوة تكتيكية بقدر ما كان تحولاً استراتيجياً في البنية المفاهيمية للحزب، وتعبيراً عن نضج ما يمكن تسميته بـ”وعي سيادي بديل”. يتمثل هذا الوعي في إدراك أن السيادة لا تُنتَزع فقط عبر فوهة البندقية، بل تُبنى عبر تشكيل نماذج حكم محلية، ومجالس جماهيرية، واقتصاد مجتمعي، وشبكات تضامن نسوية وبيئية عابرة للحدود. إن السلاح هنا يُلقى لا من باب الهزيمة، بل كعتبة للانتقال إلى نمط جديد من الفعل السياسي. فقد جاء هذا القرار—وإن اتّخذ شكل سلسلة من المبادرات الأحادية والمتقطعة أكثر من كونه لحظة انفصال درامي—كتتويج لمسار طويل من إعادة التفكير في مفهوم السلطة، والسيادة، والعدالة. ولم يكن “التخلي عن السلاح” مجرّد تكتيك تفاوضي، بل خطوة تأسيسية لإعادة تعريف الفعل السياسي ذاته، وفق تصور يتجاوز ثنائية الدولة/المقاومة إلى تصور يتأسس على إعادة إنتاج السياسة من خارج منطق السيادة الدولتية.
يدعم هذا التحول ما طرحه مايكل هارت وأنطونيو نيغري في كتابهما الشهير Multitude: War and Democracy in the Age of Empire (2004)، حيث يقدّمان نقداً جذرياً لمفهوم السيادة التقليدي، المرتكز على “الحكم من قبل الواحد”، سواء كان هذا الواحد هو الملك أو الدولة أو الأمة أو حتى الحزب الواحد. في المقابل، يدعوان إلى نموذج بديل: “الجمع المتعدد” (Multitude) – أي تفردات متعددة تعمل دون تمركز أو قيادة أحادية، وتشكل مركباً ثورياً قادراً على إنتاج أنماط جديدة من التمثيل. إن ما تشهده الحركة الكردية – وفق هذا الإطار – هو لحظة انتقال من منطق الحزب المركزي القائد، إلى نموذج من الديمقراطية القاعدية التي تطعن في كل أشكال السيادة المفروضة، وتعيد إنتاج الفعل السياسي كفعل جماعي أفقي. في جميع هذه النقاشات، يقرّ هارت ونيغري بأن المشروع الثوري المنشود لا يمكن أن يكون عفوياً أو بلا أدوات تنظيمية، بل يتطلب أنماطاً جديدة من الحكم تتجاوز نموذج الدولة التقليدية. هذه الأشكال البديلة من التنظيم ينبغي أن تجسّد ديمقراطية حقيقية—ليست تلك التي تروَّج يوميًا في الخطاب السياسي والإعلامي باسم “التمثيل”، بل ديمقراطية تُمارَس من خلال الحكم الذاتي للجمع المتعدد، بوصفه كياناً سياسياً متنوعاً وفاعلاً.
ضمن هذا الإطار، يمكن النظر إلى المشروع السياسي لحزب العمال الكردستاني بوصفه تجسيداً حياً لهذا التصور. فقد استوعب الحزب، عبر تحوّله الأيديولوجي في مطلع الألفية الثالثة، المهمات الثلاث التي يناقشها هارت ونيغري في سياق سياسات الهوية: الاعتراف بالاختلاف، وإعادة تعريف الذات، وإعادة تشكيل البنى السياسية والاجتماعية. في هذا المشروع، تصبح “المقاومة” موقعاً تأسيسياً للذات السياسية، ومن خلال الصراع—لا العنف وحده—تتشكّل الجماعة وتعيد بناء علاقتها بالسيادة. يمكن القول إذن، إن المسيرة السياسة لحزب العمال تجسد مثالا مهما وجليا على التغيرات العميقة التي لحقت بمفهوم السيادة وارتباطاته بمنطوقات جماهيرية فكيف ذلك. بررت تصريحات دوران كالكان، في إطار فاعليات المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني قرار الحل وإلقاء السلاح بالقول: “خلال هذه الأيام الثلاثة الماضية أجرينا نقاشاً مهماً واتخذنا قرارات تاريخية في إطار أطروحات ومطالب القائد آبو، وبالتأكيد، إذا تم تنفيذ هذا القرار على أعلى مستوى، فإنَّه سيبدأ عملية جديدة، عملية خطوة بخطوة تعتمد على النضال التحرري الكردستاني من أجل ديمقراطية الشرق الأوسط وتقدم الحياة الديمقراطية للإنسانية، ونحن نؤمن بهذا بكل إخلاص”.
لقد أعاد الحزب، تحت تأثير قراءات أوجلان للفكر التحرري والفلسفة الأناركية، صياغة العلاقة بين الوسيلة والغاية. فلم يعد العنف المسلح أداة مركزية للتغيير، بل بات يُنظر إليه كأحد أعراض العلاقة السيادية التي يسعى الحزب ذاته لتفكيكها. إن هذه القطيعة مع العنف ليست انكفاءً، بل لحظة انبثاق لـ”السلطة التأسيسية” كما يسميها هارت ونيغري—سلطة لا تشتق شرعيتها من مؤسسات الدولة، ولا من أيديولوجيا قومية مغلقة، بل من الفعل الجماعي المنظّم للجموع، في حركتها المادية والمعنوية. وقد تَرافَقت عملية الهيكلة الأيدلوجية مع إعادة هيكلة التنظيم ذاته: انتقل من نموذج مركزي هرمي يقوده “القائد”، إلى نموذج أفقي يفتح المجال أمام المجالس، الكومونات، والمؤتمرات الشعبية. أي أن قرار التخلي عن الكفاح المسلح لم يكن خطوة سياسية فقط، بل كان فعلًا تنظيميًا وفلسفيًا، يعكس تحوّل الحزب من كونه “جيشًا ثوريًا” إلى كونه “بنية تأسيسية” لـ”مجتمع ديمقراطي”، كما يصفه أدبياته الجديدة. وهنا تتحول المقاومة من فعل عنفي موجّه ضد الدولة إلى فعل تأسيسي يُنتج سلطة بديلة داخل نسيج الحياة اليومية. فكما يشير هارت ونيغري، فإن الجموع لا تنتزع السلطة من الدولة لتُعيد إنتاجها على شاكلتها، بل تؤسس سلطة نوعية جديدة، لا تُمركز، ولا تتجسّد في مؤسسة واحدة، بل تتوزع في ممارسات الحياة اليومية، والتعليم، والعمل، والثقافة، والجندر.
وهكذا، يصبح قرار إلقاء السلاح نقطة انعطاف حاسمة، لأنه يفتح أفقًا لما يمكن تسميته بـ”السياسة ما بعد السيادة”. لا يعود السلاح هو المعادل الوحيد للفعل الثوري، بل تتحول المجتمعات ذاتها إلى موضوع الثورة وغايتها في آن. تصبح السياسة فعلًا تربويًا وثقافيًا، لا ينشد السيطرة على الدولة، بل يسعى إلى زعزعة افتراضاتها الأساسية حول الحكم، السلطة، والتاريخ. وفق هذا المنظور يعيد حزب العمال الكردستاني قراءة التاريخ السياسي من زاوية الديمقراطية الجذرية، مستحضراً الإرث الاشتراكي الأول الذي لم يكن فقط يسعى إلى العدالة الطبقية، بل أيضاً إلى بناء ديمقراطية تنبع من القاعدة وتحتضن التعدد. ويرى عبد الله أوجلان في هذا التراث نقطة انطلاق لتجاوز إخفاقات الحداثة القومية، والعودة إلى صيغة ديمقراطية تقوم على الفاعلية الشعبية لا على التمثيل النيابي وحده. إن التجربة الكردية، في هذا السياق، لا تمثل مجرّد تمرد على الهيمنة القومية، بل مشروعاً لإعادة تخيّل السيادة نفسها، بوصفها علاقة اجتماعية أفقية، تتأسس على التنوع والاعتراف والمشاركة. تأسس الحزب على أنساق نظرية “الديمقراطية الجذرية” في الفلسفة السياسية. أسس مفهومية لمشروع ديمقراطي جديد.
فحسب بعض القراءات ظلت الديمقراطية مشروعاً غير مكتمل عبر التاريخ الحديث، وربما يأتي تطورها واكتمالها عبر مفهوم السيادة الشعبية (وهي مشتقة لغوياً من الكلمة اللاتينية supremitas أو suprema potestas، أي “السلطة العليا”)، والتي تُعرَّف كسلطة تعود للشعب ولا تعلوها سلطة. يحددان عدداً من النقاشات المرتبطة بمفهوم الديمقراطية المعاصر، إلا أن الأهم ربما يتمثل في نقاشين محوريين: الطابع التحتاني للديمقراطية، وجدلية التمثيل السياسي. يرتبط الطابع التحتاني للديمقراطية بحقيقة أنها مشروع غير مكتمل. ويجادل هارت ونيغري بأن الديمقراطية بدأت، فقط عبر الصراع الاجتماعي، في ضمّ الفئات المستبعَدة تاريخياً مثل “النساء، والمحرومين من الملكية، وغير البيض”. وبالطريقة ذاتها، بدأت الديمقراطية تُناقش داخل المجال الاقتصادي، على الرغم من أن النظرية الليبرالية تفصل عادة بين الديمقراطية والسوق، إذ تُدار السوق وفق منطق منفصل عن التصويت أو الإرادة الشعبية. هذا التوسّع في مجال الديمقراطية يمكن وصفه بـ”الطابع التحتاني للديمقراطية”، حيث يسمح بامتدادها إلى جميع مناحي الحياة الاجتماعية.. النقاش الثاني يرتبط بمسألة التمثيل السياسي، أو ما يُعرف بفصل السلطة السيادية عن المجتمع، وهو ما يترسّخ في مفهوم التمثيل ذاته: “حينما تُنقل السلطة إلى مجموعة من الحكام، فإننا لم نعد نحن من يحكم، بل أصبحنا مفصولين عن السلطة وعن الحكومة”. منذ القرن الثامن عشر، أصبح هذا المفهوم للتمثيل يحتكر ميدان الفكر السياسي إلى درجة أن أي مشروع ديمقراطي معاصر لا يمكنه إلا أن يبدأ بنقد للأشكال السائدة من التمثيل.. وفي هذا السياق، يناقش هارت ونيغري، مستلهمَين من ماكس فيبر، مختلف أشكال التمثيل السياسي التي ظهرت عبر التاريخ. وفيما يخص التمثيل السياسي الاشتراكي، القائم أساساً على تجربة كومونة باريس عام 1871، يشيران إلى أنه فشل بطريقة مشابهة للنموذج الليبرالي والدستوري. وبناءً عليه، يشرعان في البحث عن أشكال جديدة للتمثيل تقلّص المسافة بين الممثِّل والممثَّل، وتشكّل في الوقت ذاته بدائل محتملة للدولة من خلال فصل السلطة السيادية عن المجتمع. في هذا السياق، يؤكدان أن “الجمع المتعدد” Multitude، بوصفه “الموضوع الثوري” للفترة الراهنة، ومشروعه السياسي (الثروة المشتركة) يمكن أن يفتح إمكانيات جديدة لابتكار “أشكال مختلفة من التمثيل أو أشكال جديدة من الديمقراطية تتجاوز التمثيل”.
من زاوية أخرى، ارتكز التحوّل الأيديولوجي لحزب العمال الكردستاني نحو الديمقراطية الجذرية على سلسلة من نصوص الدفاع التي صاغها عبد الله أوجلان خلال فترة اعتقاله، ووجّهها إلى المحاكم التركية والأوروبية. وقد شكّلت هذه النصوص، التي نُشرت بلغات متعددة (الكردية والتركية بالأساس)، المرجعية الأيديولوجية التي تبنّتها مؤتمرات الحزب المتعاقبة. ورغم أن هذه النصوص تسببت في بداية الأمر بحالة من التوتر داخل أوساط الحزب، فإنها شكّلت منذ عام 2005 نقطة انعطاف مفهومية أُعيد فيها بناء التوازن بين البنية التنظيمية والمنظومة الفكرية للحركة. في الدفوع الأولى المقدّمة أمام القضاء التركي، وخاصة في إطار قضية إمرالي ومحكمة الاستئناف في أنقرة، قدّم أوجلان موقفًا بدا متعارضًا بشكل جذري مع التصورات السابقة للحزب. إذ تخلّى عن مطلب الدولة المستقلة، الذي كان محوريًا في الخطاب الكردي التقليدي، لصالح تصور جديد لـ”جمهورية ديمقراطية” لا تتأسس على منطق السيادة القومية بل على تجاوزها. لم تكن هذه الوثائق تنظيرات نظرية مجردة، بل قراءات تاريخية للصراع التركي-الكردي، اتخذت من التاريخ الجمهوري التركي إطارًا لإعادة صياغة الفاعلية السياسية الكردية. فبحسب أوجلان، لم يكن مشروع الجمهورية التركية بحد ذاته إشكاليًا، بل الانحراف عن ديمقراطيتها الأصلية تحت ضغط القوى الدولية. هذا الموقف فُسّر من بعض المراقبين، لا سيما داخل قواعد الحزب، بوصفه تخليًا عن السردية القومية الكردية، لكنّه كان في الواقع بداية لتحوّل مفاهيمي أعمق: من المطالبة بالسيادة إلى مساءلتها.
في المرحلة التالية، وفي دفاعاته المقدمة إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وسّع أوجلان من طموحه النظري، مقدمًا قراءة نقدية لتاريخ الحضارة البشرية من منظور يُعلي من مركزية الشرق الأوسط في نشأة الدولة. ركّز بشكل خاص على الحضارة السومرية بوصفها نقطة الانطلاق لما وصفه بـ”الخطيئة الأصلية” للبشرية: تأسيس الدولة كمؤسسة للسيطرة والاستعباد. وقد بدت هذه المقاربة صادمة لجمهور كردي طالما ارتكز نضاله على مطلب الدولة، ما خلق حالة من النفور والتغريب داخل القواعد الاجتماعية للحزب. غير أن أوجلان واصل تفكيك نموذج الدولة، وضمّ إلى نقده حتى تجارب الاشتراكية التقليدية، مؤكّدًا أن التحرّر لا يُبنى عبر سلطة الدولة بل عبر تعميق الديمقراطية من القاعدة. في هذا السياق، قدّم الحزب بوصفه ليس تجسيدًا لحلم الدولة، بل كحركة مقاومة لمأسسة الدولة الحديثة ولآثارها المدمّرة على المجتمعات الطبيعية، وفي مقدمتها المجتمع الكردي الذي صوّره كامتداد لثقافة نيوليتية مناهضة للتقسيم الطبقي. هذا التحليل أتاح لأوجلان إعادة تموضع حزب العمال الكردستاني داخل التاريخ السياسي للمنطقة، ليس فقط بوصفه حركة تحرر وطني، بل بوصفه ذاتًا سياسية في مأزق تاريخي، أُجبرت على العمل ضمن حدود أيديولوجيات الحرب الباردة، رغم زوالها. وقد شكّلت نصوص الدفاع هذه محاولة جذرية لإعادة تقييم تجربة الحزب وتفكيك بنيته النظرية من الداخل.
في الدفاعات المقدّمة إلى محكمة أثينا وغرفة المحكمة الأوروبية الكبرى، تحوّل التأمل النظري إلى مشروع مفهومي متكامل تحت اسم “الديمقراطية الجذرية”، تجسّد في ثلاث مكونات استراتيجية مترابطة: الجمهورية الديمقراطية، الحكم الذاتي الديمقراطي، والكونفدرالية الديمقراطية. هذه العناصر تشكّل ما يمكن تسميته “جهازًا استراتيجيًا” ، يعيد من خلاله الحزب تعريف وتوزيع المطالب السياسية الكردية بعيدًا عن النموذج الدولتي. تمثّل “الجمهورية الديمقراطية” في هذا التصور إعادة صياغة لجمهورية تركيا، عبر فصل الديمقراطية عن القومية، وإعادة وصلها بجذورها الحداثية الأولى القائمة على حكم الجميع للجميع، لا على هوية ثقافية متجانسة. في نقده للدولة القومية، يذهب أوجلان بعيدًا، مستندًا إلى أطروحات منظّرين مثل جلنر، ليثبت أن الحداثة لم تكن سوى مشروع إقصائي يرتكز على فرض التجانس وإقصاء “الآخرين” – بالاستيعاب أو الإبادة. الكمالية التركية تجسيد حادّ لهذا المنطق، حيث تحوّلت الديمقراطية إلى أداة استيعابية تستخدم الدولة لفرض “مواطنة” موحّدة ومُفرغة من التعدد. في المقابل، يتقدّم مفهوم “الكونفدرالية الديمقراطية”، المستوحى من أعمال موراي بوكشين، كمقترح تنظيمي يعيد بناء العلاقة بين المجتمع والسياسة خارج مركزية الدولة. فالديمقراطية، في هذا الطرح، ليست نمط حكم، بل نمط حياة قائم على التنظيم الذاتي من القاعدة إلى القمة، على شكل مجالس وقوى مجتمعية قاعدية. وقد أعيد تشكيل الحزب وهيكلته منذ 2005 على أساس هذا المفهوم تحت مظلة “اتحاد مجتمعات كردستان” (KCK)، بوصفه بديلاً جذريًا للدولة القومية. في أحد بياناته، يؤكد الحزب أن الـKCK “لا يستند إلى الدول القومية القائمة ولا يعتبرها شرطًا”، بل يعمل على بناء ديمقراطية مجتمعية مستقلة عنها. ويؤسّس “عقد KCK” لعلاقات اجتماعية جديدة تتجاوز الذهنية الدولتية، وتكرّس السيادة بوصفها ناتجًا جماعيًا، لا مركزًا احتكاريًا للعنف والقرار.
سؤال التوقيت – لماذا الآن؟
لقد سبب قرار حزب العمال حل نفسه دوي هائل، بين مرحب وحذر ورافض. في حين أن ثمة رؤية مغايرة تماما قد ترى في الإجراء السياسي الحاسم، رأس جيل الجليد. سبقه طبقات من التطور السياسي والأيدولوجي أنتجت في النهاية هذا القرار الذي قد يراه البعض تاريخيا . حقيقة لقد أثار قرار حزب العمال الكردستاني، تساؤلات سياسية واستراتيجية عميقة: لماذا الآن؟ وهل يُعد هذا القرار نكوصًا عن تاريخه الثوري، أم خطوة تأسيسية في سياق تحوّله الجذري؟ في واقع الأمر، يمكن النظر إلى هذا القرار بوصفه رأس جبل الجليد الذي يعلو فوق طبقات كثيفة من التطور النظري، والتحوّل الأيديولوجي، وإعادة التموقع السياسي، والذي بدأ مع مطلع الألفية الثالثة، لا سيما مع اعتقال أوجلان عام 1999، وما تبعه من مراجعات فكرية عميقة قادت إلى إعادة بناء الحزب على أسس مغايرة لمنطق الدولة القومية وحروب الاستنزاف. وبناء على ذلك، فربما يبدو هذا توقيت مناسب لإعادة النظر في السياقات التي ولد فيها الحزب وارتباطاته الاجتماعية والتزامه السياسي والنضالي ومدى تمثيله للكتلة الكردية في صيغتها الخام. وكل هذا في ضوء ما حدث في الأيام الماضية. وتكشف قراءة السياقات أن هذا “القرار المفصلي” لا يمكن فهمه إلا بربطه بمسار التحول البنيوي الذي أصاب الحزب خلال العقدين الأخيرين، حيث لم يعد الهدف هو “الاستيلاء على الدولة”، بل تأسيس فضاء سياسي بديل خارج منطق السيادة.
وهكذا يتحوّل حزب العمال الكردستاني من فاعل يسعى إلى الدولة، إلى فاعل يُسائل منطق الدولة نفسه، متبنّيًا ما يسميه هارت ونيغري “سيادة الجمع المتعدد”، حيث تُمارَس السياسة بوصفها اشتباكًا جماعيًا مفتوحًا، لا سلطة مفروضة من الأعلى. ومن ثم، اعتبر الخطاب الذي ساد المؤتمر الثاني عشر أن ثمة وعي ونضج سيادي ولد ونال قدرا لا بأس من النضوج، لذا فإن إلقاء السلاح وفق هذا الخطاب هو عتبة في بناء سياسي عمل عليه الحزب منذ بداية الألفية.. لقد اعتبر دوران أن التغيير الكيفي والأيدلوجي الذى يبدأ بإلقاء السلاح، يمثل ” الحلقة التي من خلالها سوف تتحقق تغيير النظام والمجتمع، إنَّهم كوادر ومنظمات اجتماعية ديمقراطية، ومنظماتنا السياسية الديمقراطية في كل الساحات، الكوادر الديمقراطية الثورية هم الوسطاء.. نحن الطليعة والوسطاء لهذه العملية، إذا تم تحقيق ذلك في شخصنا، فسوف ينجح في الممارسة لقد بدأت عملية وطنية يجب علينا أن نكون أكثر نشاطاً، وأن نلعب دوراً فعالاً”. ويضيف: “الآن نستطيع أن نقول بكل سهولة، انتهى عصر حزب العمال الكردستاني وبدأ عصر جديد. على هذا الأساس سيكون المرحلة التي أمامنا وسيلة لتطورات جديدة وسيفتح الطريق أمام خطوات نحو الحرية والديمقراطية والاشتراكية، طبعاً هذا يتحقق من خلال النضال والجهود، ولذلك فقد دخلنا عصر جديد من النضال”..
ضمن هذا الإطار، يمكن إدراج تجربة الحزب في جدل الموجتين التاريخيتين للحركات النضالية في الجنوب العالمي: الموجة الأولى ذات الطابع “التحرري الوطني” التي سعت للاستيلاء على السلطة وتغيير النظام من الداخل، والموجة الثانية التي ظهرت مع صعود النضالات المجتمعية المناهضة للنيوليبرالية، والتي تمركزت في الأطراف والمجتمعات الأصلانية، وأعادت تعريف الفعل السياسي من منظور قاعدي وثقافي، لا من منظور سلطوي تقليدي. ويمثّل حزب العمال الكردستاني، منذ عام 2005، تقاطعًا فريدًا بين هذين النموذجين. فمن جهة، احتفظ بعناصر من الرؤية الثورية الراديكالية، ومن جهة أخرى، أعاد تعريف أهدافه في ضوء مفاهيم جديدة مثل “الحداثة الديمقراطية”، و”الكونفدرالية الديمقراطية”، و”الديمقراطية البيئية”. ومع أنه لم يفكك بنيته العسكرية كليًا، إلا أن دوره العسكري تراجع لصالح تمكين المجتمعات المحلية وتنظيمها، خصوصًا في روج آفا وجنوب شرق تركيا. لقد أوجد الحزب في هذه المرحلة ما يمكن تسميته بـ”السلطة التأسيسية المضادة”—سلطة لا تهدف إلى استبدال الدولة، بل إلى تقويض الحاجة إليها أصلًا، عبر تفعيل أدوات التنظيم الذاتي. وبذلك يصبح قرار إلقاء السلاح ليس إعلانًا عن نهاية، بل تأسيسًا لبداية نوعية، حيث يغدو النضال عملية بنائية طويلة، تشتبك مع الدولة لا من موقع العداء المباشر بل من موقع خلق الممكنات خارجها. ضمن هذه الرؤية، يبدو أن حزب العمال الكردستاني قد اختار أن يكتب تاريخه من جديد، لا بوصفه حزبًا مسلحًا، بل بوصفه مدرسة سياسية تأسّس داخلها نمط جديد من “العقل السياسي”، عقل لا يرى في الدولة غاية بل مشكلة، ولا يرى في السلاح وسيلة بل علامة على انسداد سياسي. فكما أشار تقرير المؤتمر الأخير: “لقد أصبحت أفقًا للشعوب، وميلادًا للشعب الكردي، ووضعه على طريق الحرية… لقد خلق فهماً جديداً للتاريخ، وخلق عصراً جديداً في إدارة الحياة الحرة والديمقراطية”. هنا يتحقق ما وصفه هارت ونيغري بـ”لحظة السلطة التأسيسية”، حين تتمكن الجماعات المنظّمة من خلق سردياتها، وهياكلها، وأدواتها، خارج الدولة، ومن دون حاجة إلى احتكار العنف.
لماذا وكيف حدثت الهجرة من الرصاص إلى نهج حداثي بديل
شكّل التحوّل الأيديولوجي الذي عرفه حزب العمال الكردستاني منذ مطلع التسعينيات منعطفًا جذريًا في مسيرته السياسية والتنظيمية، يمكن تأطيره ضمن ديناميات محلية وإقليمية ودولية متشابكة، أسهمت مجتمعة في “هجرة الحزب” من نموذج الكفاح المسلح الماركسي-اللينيني إلى نهج حداثي بديل يستند إلى الديمقراطية الجذرية والكونفدرالية الديمقراطية.
في بداياته، قدّم الحزب نفسه كحركة تحرر وطني ماركسية-لينينية تسعى إلى تفكيك “الاستعمار التركي” والإقطاع الكردي عبر تعبئة العمال والفلاحين، مستلهِمًا تجارب حركات التحرر في الصين، الجزائر، فيتنام وكوبا. وانسجامًا مع الطابع الطبقي لتلك الحركات، استند حزب العمال إلى الفئات الريفية الفقيرة كمخزون اجتماعي-ثوري، وشكّلت هذه الفئات عماد قوات الكريلا حتى أواخر القرن العشرين. غير أن هذه الصيغة بدأت بالتآكل تدريجياً نتيجة لتغيّرات بنيوية عميقة في المجال الكردي التركي، أهمها سياسات التهجير القسري التي عمّقت من وتيرة التمدّن الكردي وأعادت تشكيل الطبقات، ما أدى إلى انحسار دور الريف كمجال تعبوي ثوري.
تضافرت عدة عوامل أخرى لتغذية هذا التحول. من جهة، أدى انهيار الكتلة الاشتراكية إلى تقويض البنية المرجعية الإيديولوجية التي استند إليها الحزب. ومن جهة أخرى، انخرطت أغلب دول الأطراف في منظومة الاقتصاد الليبرالي الجديد، ما أنتج ديناميات نقيضة للثورة الاشتراكية. داخليًا، واجه الحزب استنزافًا عسكريًا وتراجعًا في الدعم الشعبي، في وقت كانت فيه النخب السياسية التركية، وعلى رأسها تورغوت أوزال، تبدي مرونة نسبية تجاه “الواقع الكردي”، الأمر الذي خلق هامشًا سياسياً جديداً. أما الاعتقال التاريخي لعبد الله أوجلان عام 1999، فقد كان لحظة فاصلة ساهمت في ترسيخ القطيعة مع الأفق الثوري التقليدي، ودفعته نحو مراجعة جذرية لأطروحاته.
أيديولوجياً، تخلّى الحزب تدريجياً عن النهج الماركسي-اللينيني الصارم، مستبدلًا إياه بمفاهيم الديمقراطية التشاركية والبيئية والتحرر من الدولة القومية. لم يعد بناء “الدولة الكردية المستقلة” هو الهدف المركزي، بل حلّ محله نموذج “الكونفدرالية الديمقراطية”، بوصفه تصورًا لما بعد الدولة، يتجاوز ثنائية السيادة والمعارضة. ويمكن النظر إلى هذا التحول بوصفه استجابة مزدوجة: من جهة، محاولة لإعادة موضعة الحزب في السياق الدولي الجديد ما بعد الحرب الباردة؛ ومن جهة أخرى، سعيًا لتجاوز مأزق الاستراتيجيات الثورية المسلحة التي لم تعد قابلة للتحقق ضمن المعادلات الواقعية الراهنة.
هكذا، لم تكن الهجرة من “الرصاص” إلى “الحداثة البديلة” قطيعة فجائية، بل كانت تحولًا تراكميًا فرضته تحولات في الحوامل الاجتماعية، وتغيرات في البنية الإقليمية والدولية، وإعادة صياغة للإيديولوجيا الثورية الكلاسيكية ضمن أفق راديكالي جديد يتجاوز نموذج الدولة القومية الحديثة نفسها.
استفاد أوجلان، رغم أسره، من موقعه كزعيم رمزي مركزي، ليؤسس من سجنه مشروعًا أيديولوجيًا بديلًا للنموذج القومي والدولتي. وقد استند في ذلك إلى تراث فكري عالمي متعدد، شمل قراءات نقدية للماركسية من قبل والراشتاين، وتحليلات فوكو للسلطة، ونقد الحداثة لأدورنو، وأهم من ذلك، مشروع موراي بوكتشين حول البلدية الحرة والمجتمع الإيكولوجي. تحت تأثير هذه القراءات، صاغ أوجلان مفهوم “الحداثة الديمقراطية” كنموذج مضاد للحداثة الرأسمالية، يرتكز على لا-مركزية السلطة، والعدالة البيئية، وتحرر المرأة، والكونفدرالية الديمقراطية. يؤسس هذا المشروع لرؤية لا-دولتية تحاول إزاحة الدولة من كونها مركزًا سياديًا للنظام الاجتماعي، لصالح مجال عمومي جماعي تُمارس فيه السيادة من خلال الكومونات والمجالس المحلية. وقد صيغت هذه الرؤية ضمن سردية نقدية تنقض كلًا من الحداثة القومية والدولة الاشتراكية المركزية، وتقترح بديلًا يدمج بين الوعي البيئي، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية التشاركية. وفي هذا السياق، يعاد تعريف “الاستقلال الكردي” لا ككيان سيادي-قطري، بل كمجال اجتماعي وثقافي وتنظيمي مستقل عن المنظومة الدولتية، قادر على مقاومة اختراقات الرأسمالية العالمية.
لكن هذا التحول لم يكن نتاج وعي أيديولوجي صرف فحسب، بل جاء استجابة ملموسة لقيود بنيوية فرضها النظام الدولي. فكما أشار والراشتاين، لا تملك الدولة الحديثة سيادة مطلقة داخل نظام عالمي تهيمن عليه قوى ما فوق-قومية، وحقوق ملكية عابرة للدول، وتدخلات عسكرية واقتصادية مباشرة. وبهذا، لم تعد الدولة القومية إطارًا ممكنًا للتحرر، بل أضحت، في نظر أوجلان، جزءًا من المشكلة. وهكذا، باتت مقاومة الرأسمالية العالمية تمر عبر إنشاء بنى اجتماعية بديلة، لا عبر السيطرة على أدوات الدولة، بل عبر “تآكلها” من الأسفل. ضمن هذا التصور، تتغير وظيفة النضال: لم يعد الهدف إسقاط الدولة التركية أو بناء دولة كردية تقليدية، بل إنشاء فضاء اجتماعي جديد يدمج بين الهوية والثقافة والتنظيم السياسي ضمن منطق كونفدرالي ديمقراطي، قائم على الكومونات، والمجالس الشعبية، والتشاركية الاقتصادية. ويتضح في بيانات الحزب بعد 2005 أن هذا التحوّل الأيديولوجي ليس تنازلاً عن طموحات التحرر الكردي، بل هو إعادة تعريف راديكالية لها، تقطع مع تصوّر “الدولة كأفق نهائي”، وتعوّضه بتصوّر المجتمع كحقل دائم لإعادة التأسيس. وهكذا، فإن “مشروع الحداثة الديمقراطية” لا يمثل فقط تأقلمًا مع محدوديات الوضع السياسي، بل يشكل محاولة طموحة لإعادة اختراع السياسة خارج إطار السيادة، ولطرح تصور مغاير للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي، في زمن فقدت فيه الاشتراكية الكلاسيكية مشروعيتها، وتحوّلت الدولة القومية إلى أداة ضبط لا تحرر.
من حمل السلاح إلى عبء الشرعية.. تحولات الهوية
إذا كانت الشرعية شرطًا أساسيًا لصمود وفعالية الجماعات الثورية، فإن واحدة من أكثر المفارقات السياسية إلحاحًا تتمثل في قدرة بعض الحركات التي يُنظر إليها ــ رسميًا أو شعبيًا ــ بوصفها “غير شرعية” على الصمود، بل وحتى النجاح، على مدى عقود. ولعل حالة حزب العمال الكردستاني في تركيا تقدم نموذجًا حاسمًا لفهم هذه المفارقة. فالحزب الذي تأسس عام 1978 بخطاب ماركسي-لينيني صارم، متبنيًا الكفاح المسلح لإنشاء دولة كردية مستقلة في جنوب شرق تركيا، وجد نفسه في العقود اللاحقة أمام ضرورات وجودية وسياسية دفعته لإعادة إنتاج شرعيته، لا من خلال التراجع عن مشروعه السياسي فحسب، بل عبر تفكيك النموذج الدولتي نفسه، والدفع نحو نموذج راديكالي بديل للديمقراطية. لقد أسس الحزب شرعيته ومصادر نفوذه، في نظر قطاعات واسعة من قاعدته الكردية، على “نَفَسٍ نضالي” طويل، مرتبط بالكفاح ضد التهميش والعنف الدولتي. غير أن هذا النفس النضالي، وعلى الرغم من عمقه الرمزي والاجتماعي، تعرض لضربات شديدة نتيجة ممارسات الحزب نفسه. إذ انخرط الحزب في عمليات عنف عميقة. مثلت هذه الأفعال، التي وُصمت بالإرهاب من قبل الدولة التركية وعدد كبير من الفواعل الدوليين، تهديدًا حقيقيًا لشرعية الحزب، وأفقدته على مر السنين جزءًا من تأييده الشعبي، كما قلصت من قدرته على تأمين مصادر الدعم المادي والاجتماعي.
لكن المفارقة اللافتة أن الحزب لم يتلاشَ، بل أظهر قدرة نادرة على الصمود والتحول. منذ اعتقال أوجلان عام 1999، دخل الحزب في مراجعات أيديولوجية جذرية، قادته نحو تبني مفهوم “الكونفدرالية الديمقراطية” بوصفه بديلاً للنموذج الدولتي. لم يُلغِ هذا التحول الجوهر النضالي للحزب، بل أعاد تشكيله عبر طبعات جديدة أكثر تنوعًا، تجاوزت البارود والسلاح، لتصوغ مشروعًا ديمقراطيًا ذا طابع اشتراكي-تحرري مستند إلى مفاهيم أوجلانية تعيد تعريف الحرية والسيادة والمجتمع خارج منطق الدولة القومية المركزية. بهذا المعنى، أعاد الحزب إنتاج نفسه لا فقط كقوة مقاومة مسلحة، بل كفاعل سياسي ومجتمعي يطرح بديلًا جذريًا للنموذج الديمقراطي الليبرالي الأتاتوركي. أصبح “النَفَس النضالي” لا مجرد سجلٍ قتالي، بل بنية سردية وأيديولوجية مفتوحة أعادت تأويل العنف والهوية والمجتمع. وهنا، لا يبدو النجاح بالضرورة مرهونًا بتحقيق هدفه الأصلي (تأسيس دولة كردية)، بل في قدرته على أن يتحول إلى قوة رمزية تمثل الكرد في تركيا، وتعيد التفاوض على موقعهم في الدولة والمجتمع.
وقد تعززت هذه الشرعية الجديدة رمزيًا بعد الدور الحاسم الذي لعبه الحزب، لا سيما عبر وحدات حماية الشعب (YPG)، في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، ما أدى إلى إعادة نظر جزئية في الخطاب الدولي تجاهه. فعلى سبيل المثال، وصفت بعض وسائل الإعلام الغربية هذا الدور بأنه مؤشر على تحوّل الحزب من “حركة إرهابية” إلى فاعل إقليمي بنّاء، يتعامل مع التحديات الأمنية والإنسانية. إن هذا التناقض الظاهري ــ بين ممارسات قد تُفقد الحزب شرعيته، وبين صموده ونجاحه السياسي والرمزي ــ يسلط الضوء على إمكانيات إعادة بناء الشرعية خارج القنوات التقليدية، وعلى الطابع التفاوضي المتواصل للشرعية الثورية، خاصة حين يُعاد تأويل “النضال” لا كفعل عسكري فحسب، بل كمشروع اجتماعي وفكري يعيد تخيل السياسة من أسسها.
ومن جهة أخرى، تكشف عمليات تتبّع تحوّلات الهويات التي تبنّاها حزب العمال الكردستاني، من “ثورة الشعب” إلى “دعاة السلام والديمقراطية” و”المدافعون عن الحقوق الكردية”، عن مسار معقد تتداخل فيه ضرورات التكيّف مع السياقين المحلي والدولي مع حاجات البقاء والاستمرارية السياسية والتنظيمية. وقد عبّر هذا التبدل الهوياتي عن محاولة الحزب المستمرة لإعادة إنتاج شرعيته في ظل تحولات داخلية وخارجية، خصوصًا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وانفتاح تركيا النسبي، واشتداد الضغوط الدولية على الحركات المسلحة. لكن هذا التحول لم يكن نابعًا فقط من خيار استراتيجي، بل من إدراك حاد بأن الهوية القائمة على العنف المسلح لم تعد تؤمّن نفس الزخم الرمزي ولا القبول الاجتماعي الذي تمتعت به في العقود الأولى من النضال. لقد كشفت تجربة الحزب أن القدرة على إعادة تشكيل الهوية ليست فقط أداة للتفاوض مع الدولة، بل كذلك وسيلة لحفظ قاعدته الاجتماعية وضمان موقعه في المشهد السياسي الكردي.
بذلك، لم يكن إلقاء السلاح مجرد تنازل تكتيكي، بل لحظة انعطافية عميقة أعادت تعريف المشروع الكردي الذي يحمله الحزب. لقد انتقل من مشروع تحرري ذي طابع عسكري، إلى مشروع سياسي-اجتماعي يُراهن على بناء شرعية طويلة الأمد من خلال مؤسسات مدنية، وممارسات ديمقراطية، وأفُق كونفدرالي يتجاوز نموذج الدولة القومية الكلاسيكي. غير أن هذه “الشرعية الجديدة” لم تخلُ من تناقضات، فالتخلّي عن السلاح لا يعني بالضرورة تجاوز كل آثار الماضي، ولا يعني أن القبول السياسي مضمون من قبل الدولة التركية أو المجتمع الدولي. بل إن هذا التحوّل كشف أيضًا عن هشاشة بعض روافع الشرعية السابقة، وأعاد طرح سؤال: إلى أي مدى يمكن لهوية سياسية جديدة أن تُعوض رمزية الكفاح المسلح دون أن تفقد الجماعة موقعها الرمزي والفعلي داخل الحقل الكردي؟ بهذا المعنى، فإن التحول في خطاب وهوية حزب العمال الكردستاني يُعدّ نموذجًا تحليليًا غنيًا لفهم كيف تعيد الحركات المسلحة إنتاج ذاتها في أزمنة ما بعد الثورة، وما بعد الحرب، ضمن شروط سياسية واقتصادية وأخلاقية جديدة. وهو ما يجعل دراسة هذه الهويات، بما تحمله من وعود ومفارقات، مدخلًا أساسيًا لفهم ليس فقط حزبًا بعينه، بل الديناميكيات الأوسع لشرعية الحركات الثورية في عصر التحولات الكبرى.
ولهذا كله، يمكن القول في الختام: لا يمكن بحال، عزل التحول الذي يشهده حزب العمال الكردستاني عن السياق الجيوسياسي الأوسع؛ حيث تتغير التحالفات، وتتغير تركيبة وبنية السلطة المركزية في دول مثل سوريا والعراق وربما تركيا، وتصبح الفرصة سانحة أمام فواعل دون-دولتية لتقديم نماذج سياسية بديلة. يدرك الكرد اليوم، ربما أكثر من أي وقت مضى، أن الجمع بين النضال السياسي، والثورة الثقافية، والبناء الذاتي للمجتمع هو المسار الوحيد الممكن لتجاوز منطق السيادة الأحادية. إن ما تطرحه التجربة الكردية ليس مجرد رد فعل على قمع تاريخي أو تهميش قومي، بل هو محاولة لتقديم أطروحة سياسية جديدة تعيد تعريف السيادة من الأساس. في قلب هذه الأطروحة يقف مفهوم “ديمقراطية القواعد” كبديل جذري عن كل أشكال الحكم الأحادية. وبذلك، فإن الدعوة إلى إلقاء السلاح ليست تنازلاً، بل هي إعلان عن ميلاد نمط سيادي جديد – لا مركزي، جماعي، أفقي – يتجاوز الدولة والحزب، ويعيد السياسة إلى الناس. ويتقاطع هذا التحوّل مع وعي متنامٍ في الفضاء السياسي الكردي بأن اللحظة الراهنة تمثّل فرصة نوعية لإحداث تغيير كيفي يجمع بين الحراك السياسي، والنضال الفكري، والثورة الثقافية، والبناء السيادي القاعدي. وهكذا، لا ينبغي النظر إلى قرار إلقاء السلاح كاستجابة لضغوط جيوسياسية فحسب، بل بوصفه نتيجة لتحوّلات أيديولوجية وبنيوية عميقة يشهدها الحزب منذ سنوات. وقد جعلت المتغيرات الإقليمية والدولية من هذا القرار أحد أكثر الخيارات عقلانية لجماعة دون-دولتية تتحرك ضمن فضاء سياسي شديد الاضطراب.
إن ما يقدمه حزب العمال الكردستاني في صيغته الراهنة ليس مجرد تحول تنظيمي أو مراجعة تكتيكية، بل هو مشروع لإعادة التفكير في السياسة ذاتها. إنه يقترح أن السيادة ليست قدراً، وأن الدولة ليست نهاية التاريخ، وأن الديمقراطية يمكن أن تُعاد اختراعها من جديد، من الحقول، والمجالس، والأجساد المقاومة. هذا المشروع، وإن لم يكتمل بعد، إلا أنه يفتح أفقاً جديداً للفكر السياسي المعاصر، يتجاوز التكرارات العقيمة بين العنف والمهادنة، ويطرح سؤالاً جوهرياً: كيف نبني مجتمعاً ديمقراطياً حقيقياً من دون أن نعيد إنتاج الهياكل السلطوية التي ندّعي مناهضتها؟
للمزيد يمكن الرجوع إلى :
Ahmet Hamdi Akkaya and Joost Jongerden: Reassembling the Political: The PKK and the project of Radical Democracy, European Journal of Turkish Studies [Online], 14 | 2012, Online since 18 January 2013, connection on 15 May 2025. https://journals.openedition.org/ejts/4615#citedby
Eric W. Schoon: The Paradox of Legitimacy: Resilience, Successes, and the Multiple Identities of the Kurdistan Workers’ Party in Turkey, Social Problems, Vol. 62, No. 2 (May 2015), pp. 266-285. https://www.jstor.org/stable/pdf/26370847.pdf?refreqid=fastly-default%3A5dcedec8592059fd49d7dec19fc6d8e7&ab_segments=&initiator=&acceptTC=1
Hanifi Baris: Radical Democracy and Self-Governance in Kurdistan, https://www.e-ir.info/2020/12/15/radical-democracy-and-self-governance-in-kurdistan/
Güllistan Yarkın: The Ideological Transformation of the PKK regarding the Political Economy of the Kurdish Region in Turkey, kurdish studies archive 3 (2015) pp 30–54. https://brill.com/edcollchap-oa/book/9789004706576/BP000008.xml?body=fullhtml-60832